المحبة وسر الزواج - أوليفييه كليمانت
+قال الرب يسوع: "في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 2:14)، والرسول بولس ينبِّه على أهمية المواهب الروحية وأنها أساساً هي دعوات خاص يلهمها الروح القدس ويوزعها على الأفراد، كل بحسب استعداده الشخصي، ولكن لأجل بنيان الجسد الواحد، أي الكنيسة. والعجيب أن نرى في القول الآبائي –الذي سنورده فيما بعد- شهادة كبار الرهبان لشرعية وجود النوعيات المختلفة من الحياة المسيحية، في الوقت الذي كانت الرهبنة في أوج مجدها وكانت تُعتَبَر في نظر الكثيرين أنها الطريق الوحيد الذي يُعَبِّر عن الحياة المسيحية في كمالها. هؤلاء الرهبان الأوائل كانوا يعيشون –وهم في اتضاع تام- سَبْقَ تذوق الملكوت في قلب الكنيسة.
+في هذه الشهادات الآبائية؛ نرى إيليا النبي في العهد القديم يُمَثِّل الحياة التأملية التوحدية؛ بينما نرى أيضاً إبراهيم أبا الآباء الإنسان الغني، الشريف، السخي، المضياف؛ وداود صاحب موهبة الشعر والمناجاة مع الله، واستخدام القوة بتواضع شديد وإيمان راسخ بمعونة الرب الكلي القدرة.
+ونرى البعض يشعُّون على الآخرين من حولهم بما يحيونه من سلام داخلي في باطنهم. وآخرون يصبحون غير قادرين على العمل بسبب أمراضهم، ولكنهم يتقبلونها بشكر فيصيرون مؤهَّلين لتقبل النور الإلهي. وآخرون يخدمون إخوتهم طواعية وبأمانة تامة في كل المجالات الثقافية والإجتماعية. كل هذه الطرق تتقابل معاً في محبة الله والقريب، والقريب هو إنسان أياًّ كان. لأنه لا يمكن للمرء أن يثابر على خدمة القريب بنزاهة وبصبر كامل إلا إذا كان هو إنسان صلاة، حتى يمكنه أن يحس في الآخر بصورة الله. ولا يمكننا أيضاً أن نتعمق في حياة الصلاة التأملية دون أن يكون لنا محبة تتوسل من أجل كل الناس ومستعدة أن تكون خادمة للجميع بلا تفرقة.
من سِيَر البرية:
[سأل أخٌ (راهب) شيخاً روحياً قائلاً: "ماذا يمكنني أن أعمل من الخير لكي أرث الحياة الأبدية؟" فأجاب: "الله وحده، هو الذي يعلم ما هو خيِّر. ولكنني سمعت أن أحد الإخوة قد طرح هذا السؤال على أباَّ نستيريون الكبير من تلاميذ القديس أنطونيوس فردَّ عليه قائلاً: "كل الأعمال الصالحة ليست على مثال واحد. لأن الكتاب المقدس يروي عن إبراهيم أنه كان يضيف الغرباء وكان الله معه؛ وإيليا كان يعتزل وحده في البراري ويصلي وكان الله معه؛ وداود كان رجلاً متضعاً (رغم أنه كان ملكاً وذا سلطان) وكان الله معه. بناءٌ على ذلك، فكلُّ ما تريد نفسك أن تكلمه بحسب ما يرضي الله فاعمله وأنت ستخلص"](1)
[قال ابا بيمن: "إذا ما اتفق أن ثلاثة إخوة اختار أحدهم حياة السكون الداخلي (الرهبنة التوحدية)، والثاني أُصيب بمرض (مزمن)، فكان دائم الشكر لله، والثالث فضَّل أن يخدم الآخرين بأمانة وبغرض نزيه (حباً في الله)؛ فالثلاثة متساوون في العمل"](2).
+والقديس غريغوريوس النزينزي، في قصيدته الشعرية الشهيرة، يشيد بسمو الحب البشري ويبين كيف أنه كان مصدر إلهام لكل النواحي الإيجابية البنّاءَة في الثقافة العامة. والزواج لا يمكن أن يُبعدنا عن الله، بل إنه السر الذي من خلاله يكشف لنا الله عن حبه. إن كمال تقديس ومباركة العلاقة الزوجية يتم في الكنيسة، والشركة في حياة الله الثالوث الأقدس التي يمنحها المسيح للبشرية؛ هي التي تُقَوِّم وتشدد وتجدد هذا الحب القائم بين الرجل والمرأة.
+أما "البتولية" أو بالأحرى الحياة الرهبانية، فهي ضرورة حيوية لا غنى عنها في الحياة المسيحية، فهي وحدها التي يمكنها أن تشهد –على الوجه الأكمل- بأفضلية الحياة مع الله. هذه الشهادة الرهبانية تؤكد أيضاً من جهة أخرى على أن الزواج ليس فقط علاقة جسدية تحتمها الإلحاحات الغريزية، بل هو تآلف شخصين وتعاونهما معاً على أداء مهام الحياة، بجانب إنجاب النسل وتربيته مع تسليمه الإيمان وحب الله.
+إن اعتزال الحياة الإجتماعية والسياسية وتكريس النفس كلها لله، يشهد بتفوق نداء الروح على كل مطالب الحياة الحاضرة. المتبتل من أجل الله هو إنسان لا يموت عن العالم إلا ليحيا من أجله أيضاً.
القديس غريغوريوس النزينزي:
[إننا بتتميمنا (كبشر) هذه الشريعة واقتران المحبة إنما نتعاون معاً على مواصلة الحياة، وإخصاب الأرض، ونحن بهذا نكمل أمر الرب الذي قال: "أثمروا واكثروا واملأوا الأرض"...
نتمعن في من ألهم الناس تفضيل الزواج الرزين؟
ومن علَّمهم هذه الحكمة؟... حتى يعرفوا كل ما على الأرض
وما في البحار وما تحت قبة السماء، ومن أعطاهم السنين
والفرائض، أن يحكموا المدن حتى قبل أن تُسَنَّ القوانين؟
من جمع الناس للتداول في القضايا العامة وللإحتفال حول
الموائد في المنازل، وفي الساحات وفي الميادين؟
من دفع جوقات المرنمين أن ينشدوا في المعابد؟
من هذَّب شراسة الحياة البدائية وشجَّع على زراعة الأرض،
وعبور البحر. ومن وحَّد بين المتفرقين، إلا هذا الحب الغريزي
الذي غرسه الله في طبيعة البشر، والمتمثل بالأكثر في حفلات الزواج؟؟
وفضلاً عن هذا: بما أننا أعضاء لبعضنا البعض، فنحن نُحس أن خير وفرح أحبائنا يضاعف قوتنا...
المشاركة في الهم الواحد يخفف من وطأة التجارب، والأفراح هي أكثر عذوبة عندما تكون مشتركة بين كثيرين.
الزواج هو خاتم عطاء الحب والحنان عندما يتفانى كلٌّ من القرينين في بذل حياته من أجل الآخر، ثم كلاهما من أجل أولادهما، حيث لا يمكن لشيء ما أن يفرقهما بعد.
فمن اتحدا في الجسد يصيران أيضاً روحاً واحداً. لأن حبهما المتبادل يشد إيمانهما الواحد، وزواجهما في هذه الحالة لا يبعدهما عن الله؛ بل بالأحرى يقربهما أكثر إليه، طالما أن الله نفسه هو الذي قد وضعه.
أما عن البتولية المنذورة لله: فإنني أترك الآخرين أن يُقيِّموا هذه الحياة كيفما شاءوا، أما بالنسبة لي، فإني أراها طريقاً مُلْهَماً ليشبع الإنسان من الحب الإلهي، الذي أنطلق به من هنا نحو السماء حيث يكون الله هناك الكل في الكل سائداً بنوره وحبه].(3) – القديس غريغوريوس النيزينزي
+ولا ينبغي أني فوتنا في موضوع الزواج اقتباس شهادة كاتب مسيحي هو العلَّامة ترتليانوس (160-230م)، بالرغم من صلابة أفكاره بخصوص الزواج، فقد عاش قبل ظهور الرهبنة وكان لديه كما لدى المجتمع الكنسي حينذاك، أن الحب البشري السويِّ حب الرجل للمرأة، والذي يقود إلى قرانهما يمثل طريقاً روحياً. وكان ترتليانوس يرى أن هذا الحب ينبغي أن يكون واحداً وحيداً لا يتكرر، حتى إنه كان ينصح بالإعراض عن الزواج الثاني بعد الترمُّل (إلى يومنا هذا لا يُسمح لأرمل متزوج ثانية أن يصير كاهناً، وذلك في الكنائس الشرقية التي احتفظت منذ البدء بزواج الكهنة الذين يخدمون في وسط العلمانيين قبل الرسامة).
للعلَّامة ترتليانوس:
[ما أحلى وما أخف النير الذي يجمع بين قرينين وفيين في الرجاء الواحد، والإيمان الواحد، والعبادة الواحدة! فكلاهما ورفيقان في خدمة السيد الواحد... إنهما في الحقيقة اثنان في جسد واحد. وحيث الجسد الواحد فهناك الروح الواحد. فهما معاً يصليان...، يتعلمان معاً، يشجعان بعضهما البعض، يشددان أحدهما الآخر. إنهما متساويان في كنيسة الله، ومتساويان على مائدة الرب. إنهما متشاركان على السواء في الآلام، وفي الاضطهادات، وفي التعزيات. ليس لهما ما يخفيانه أحدهما عن الآخر، ولا يَحْذران بعضهم من بعض، ولا يُسيء أحدهما للآخر... المسيح يفرح بأن يرى مثل هذين الزوجين، إنه يمنحهما سلامه. وحيث هما هناك فهو نفسه يكون معهما](4) – العلَّامة ترتليانوس.
+إخوة الرهبان اليقينية بسمو النفس البشرية، حمَّست اللاهوتيين والقادة الروحيين في المسيحية، أن يؤكدوا، بعكس الإحساس المتوارث من الأجداد في عالم البحر الأبيض المتوسط، على المساواة الكاملة للرجل مع المرأة.
يقول العلَّامة كليمندس الإسكندري:
[المرأة لها نفس الكرامة الروحية كما للرجل، فإنه ربٌّ واحد لكليهما، ومعلمٌ واحد، وكنيسة واحدة؛ هما يتطلعان إلى نفس الغاية: يريان، ويسمعان، ويعرفان، ويرجوان، ويحبان بنفس الأسلوب. كيانان لهما نفس الحياة، ومدعوان –على حد سواء- إلى النعمة والخلاص].(5) – العلَّامة كليمندس الإسكندري.
ويقول العلَّامة أوريجانُس الإسكندري:
[الأسفار الإلهية لا تبدي أية مضادة بين الرجال والنساء. فالجنس لا يشكل أي اختلاف أمام الله].(6) – العلَّامة أوريجانُس.
ويقول القديس غريغوريوس النيصي:
[المرأة هي على صورة الله كالرجل تماماً. إنهما متساويان في الكرامة. يمارسان نفس الفضائل، ولكل منهما نفس الجهاد... بل ربما بالكاد يمكن للرجل أن يباري عزم المرأة التي تراعي حياتها الروحية بقوة وحزم].(7) – القديس غريغوريوس النيصي.
+والقديس باسيليوس –في مقدمة كتابه "النسكيات"- يشير إلى أن التمثيل الرمزي الحربي الذي يطبقه القديس بولس الرسول على الحياة المسيحية، ينطبق على المرأة تماماً كما ينطبق على الرجل. ويذكر الدور الهام الذي قامت به النساء في دائرة خدمة الرب يسوع كما يسمونهم: "رسل الرسل" (كما تسميهم الليتورجية البيزنطية: حاملات الطيب، والشهود الأوائل للقيامة).
للقديس باسيليوس الكبير:
[هذا الكلام (الذي نطق به الرسول) يصلح، ليس فقط للرجال، بل وللنساء؛ لأن النساء أيضاً هن من عداد وجيش المسيح. إذ بقوة روحهن كثيرات منهن لم يكُنَّ أقل مهارة من الرجال في الحرب الروحية (أي الجهاد ضد الخطية)؛ بل وبعضهن فقن عليهم...
فمن تبعوا الرب يسوع لم يكونوا فقط من الرجال، بل وأيضاً من النساء، وقد قَبِلَ المخلص أن يخدمنه من أموالهن كما قَبِلَ الرجال أيضاً].(8) – القديس باسيليوس الكبير.
+أما الشهيدة جوليتا فإن تضحيتها تؤكد هذه المساواة، (وكانت توجه الكلام للنساء اللاتي كُنَّ يُحِطْنَ بها ويندبن عليها):
[قد أُبدعنا –نحن النساء- من نفس الجبلة كالرجال. لقد خُلقنا جميعاً مثلهم على صورة الله... ألسنا متساوين في كل شيء معهم؟ فلكي يجبل الله المرأة، لم يأخذ فقط من لحم آدم؛ بل عظمة من بين عظامه، حتى نكون للرب كما الرجال أيضاً: "ذوي جَلَد وقوة احتمال". قالت هذا ثم وثبت إلى وسط النار المُعدة لحرقها].(9)
__________________________
(1) Apophtegmes, Nisthéros, 2 (PG 65, 305-307)
(2) Apophtegmes, Poemen, 29 (PG 65, 326)
(3) GRÉGOIRE DE NAZIANZE, Sur la Virginité (PG, 37, 537-555)
(4) TERTULIEN, À sa femme, II, 9 (PL 1, 1302)
(5) CLÉMENT D'ALEXANDRIE, Pédagogue, 1,4 (PG 8, 260)
(6) ORIGENE, Neuvième Homélie sur Josué, 9 (GCS 8, 356)
(7) RÉGOIRE DE NYSSE, Faisons l'homme à notre image et à notre resemblance, Discours 2 (PG 44,276)
(8) BASILE DE CÉSARÉS: Bréve insyruction ascétiques, 3 (PG 31, 624)
(9) BASILE DE CÉSARÉS: Homélie sur la martyr Julitta, 2 (PG 31, 240)
__________________________
مقالات مترجمة عن كتاب:
SOURCES: Les Mystiques Chrétiens des
Origines - Olivier Clément
منابع الروحانية المسيحية في أصوولها الأولى - الفيلسوف الفرنسي العاصر والعلم الأبائي أوليفييه كليمانت
ترجمة وإعداد رهبان دير القديس أنبا مقار