رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إضاءات مار غريغوريوس يوحنا الشهير بابن العبري إضاءات مار غريغوريوس يوحنا الشهير بابن العبري شغقت منذ نعومة اظافري بمحبة العلم. فتفهمت الكتاب المقدس وتفاسيره الضرورية، وادركت على يد معلم متبحر، الأسرار المكنونة في كتب القديسين. ولما بلغت العشرين من عمري، اضطرني البطريرك المعاصر إلى أن أتقلَّد رئاسة الكهنوت، حينئذ الجأتني الضرورة أن اجادل ذوي المعتقدات المخالفة من مسيحيين وغرباء، مجادلات مبنية على القياس المنطقي، والاعتراضات، وبعد دراستي هذا الموضوع مدة كافية وتأملي فيه ملياً تأكد لديّ أن خصام المسيحيين بعضهم مع بعض لا يستند إلى حقيقة. (قرن 13) بل إلى ألفاظ واصطلحات فقط، إذ أن جميعهم يؤمنون بأن سيدنا المسيح هو إله تام، وإنسان تام، بدون اختلاط الطبيعتين، ولا إمتزاجهما، ولا بلبلتهما. أما نوع الاتحاد، فهذا يدعوه طبيعة، وذاك يسميه اقنوماً، والأخر فرصوفاً (شخصاً). وإذ رأيت الشعوب المسيحية كافة رغم اختلافاتها ظاهرياً، متفقة لا يشوبه تغيير (أو شكُّ)، لذلك استأصلت البُغضة من أعماق قلبي، وأهملت الجدال العقائدي مع الناس. واجتهدت على أن ادرك فحوى حكمة اليونان، أعني المنطق، والطبيعيات، والالهيات والحساب، والأداب، وعلم الفلك، وحركات الكواكب. وإذ أن الحياة قصيرة والعلوم واسعة لذلك فقد انتقيت ما هو ضروري من كل هذه العلوم وتناولته درساً وتمحيصاً. ومثلي بدراسة هذه العلوم، مثل من كان غارقاً في البحر، وهو يمد يده إلى كل ناحية لعله ينجو. وإذ لم أجد ضالتي المنشودة بالعلوم الخاصة والعامة كافة، فقد أوشكتُ أن اهلك هلاكاً تاماً، حيث اصطادتني فخاخ هذه العلوم وكأنها قد رصدتني، وانني أمسكت عن ذكر ذلك وايضاحه لئلا يضر بكثير من الضعفاء. والخلاصة أنه لو لم يعضد الرب ضعف إيماني في الأزمنة الخطرة، ولو لم يرشدني إلى التأمل في كتب العلماء، كالأب أوغريس وغيره، من المغاربة والمشارقة، وينتشلني من هوة الهلاك والدمار، لكنت قد يئست من الحياة الروحية لا الجسدية. فقد درست تلك الكتب غضون سبع سنين، ابغضت خلالها بقية العلوم التي كنت قد درست أغلبها، لا لذاتي بل لأجل الذين كانوا يرغبون في الاستفادة مني، وفي هذه الفترة أيضاً أعيتني بل أشقتني الشكوك والعثرات العديدة. فكنت أسقط في هوة الكفر تارة، وأنادي: كفى هؤلاء النساك جعجعة! ألا ترى رحاهم خالية من القمح؟! ألا أن كلامهم مشحون بتصوات سخيفة لا حقيقة لها. وكان ضميري يؤنبني أحياناً وهو يخاطبني بقوله: لا تهذي ولا تظن أن كل ما لا تعرفه ليس بموجود. لأن ما تعرفه هو أقل بكثير مما لا تعرفه. وكنت بشكوكي هذه أعرّج على الجانبين، حتى أشرقَّت عليَّ كالبرق أشعة نور خاطف لا يوصف، فتناثر جزء من القشور التي كانت متلبدة على عينيَّ فانفتحتا، وأبصرت قليلاً، وإذ كنتُ أصلي بلا فتور، ليتداعى كلياً السياج القائم في الوسط لأرى المحبوب غير المنظور، لا بالظلام بل علناً. وهذه الأقوال المختصرة التي أسوقها الآن، ما هي إلا جزء من ذلك الشعاع البرقي الذي ظهر في ظلمة الليل: - لا تتبحر النفس الطاهرة في المعارف، لأجل المجد الذي يناله العلماء في هذا العالم، بل لكي يتزايد شوقها إلى رب الكل، فتتمكن من الدخول في السحابة الإلهية والاحتجاب بها. - ضلَّ الذين يهتمون بالتبحر بدراسة العلوم المسيحية والوثنية ولا يهتمون بتطهير ضميرهم، ويظنون أنهم قد بلغوا درجة الكمال. فما الفائدة من إتقان صنع المرآة المرصعة بالجواهر والحجارة الكريمة، إن لم تكن مجلوّة عن الصدأ؟ فالمرآة المصقولة وإن كانت بسيطة في صنعها، فإنها تفي بالحاجة التي صنعت لأجلها. - من تعلم عن طريق السماع كيفية تشييد البيت الذي بناه سليمان، كيف يماثل من دخل ذلك البيت وشاهد بأم عينيه، وأحصى طبقاته، وكواه المفتوحة والموصدة، وأروقته وجدرانه، وأجنحة كروبيه ونقوش أعتابه. - يهتم كثير من الأساقفة والآباء بجمع المال وبسائر الملذات (وهم يبررون أنفسهم) بقولهم أننا إنما نعد علفاً للبهيمة، أعني قوتاً للجسد، الذي هو مطية النفس. أنهم ليتوهمون باعتقادهم أن ذلك لا يضر أمثالهم مثلما لا يضر الأصحاء طعام المريض، وبالحقيقة قد أشتدت عليهم الحمى، وساء مزاجهم، واضطرب نبضهم، حتى غدوا بمرضهم لا يشعرون. - أخطأ الظن من حسب أن الشمس تشرق على الأجساد المظلمة فتنيرها طمعاً بنيل المجد والمدح والتعظيم والتبجيل. والحقيقة هي أن المُنار يقتني المجد والمدح والجمال والعظمة بواسطة المنير، وليس العكس. - كما أن الجائع لا يشبع بالماء، والعطشان لا يرتوي بالخبز، كذلك العابد الذي يرغب في أن يرنو إلى باطن السحابة السينائية لا يلذه خبر الكتب إلا قليلاً. - إن معرفة الله بالنسبة إلى معرفتنا كقوته بالنسبة إلى قوتنا. إن الله هو ضابط الكل فكيف يحصره العقل؟ - ما دمت تروم أن تعرف الله بواسطة الأدلة والبراهين والشهادات، فانت تضرب على حديد بارد، وليس فيك بعد من الإيمان بقدر حبة خردل. - تحصل رؤية الله باغماض الحواس، وفتح كوى القلب، وكشف الحجاب عن أعين الضمير، وهذا هو ما قيل عنه "سد النوافذ ليستنير المنزل" - الذين يدخلون السحابة، يدركون عمق الله وغناه وحكمته، بدون وساطة التصورات وعرقلتها. - كما يدرك العقل ههنا المبادئ الأولى كمعرفته أن الكل هو أكبر من الجزء، وأن الواحد هو نصف الاثنين، كذلك عندما يلج السحابة الإلهية يدرك ضرورة أحكام الله الخفية وغير المدركة. - كما إن الحواس لا تستطيع أن تدرك الصور المجردة عن المادة كذلك العقل ما لم يخلع حذاء الجسد عن رجليه لا يستطيع أن يدرك الصور المحتجبة في السحابة، ولئن استطاع ادراكها بغموض وبشكل غير واضح. - يحصل العقل، في داخل السحابة برؤية الجميل، على لذة لا توصف، وقد يحصل على هذه اللذة خارجاً عن السحابة، ولكنها تكون لذة السامع عن جمال الجميل لا الناظر إليه. - عندما تتفتح عينا العقل، بحسب قابليته، تفيض عليه النعمة، فيستضيء بالأشعة الملائكية الساطعة، ويستأنس بأهل الملكوت، وينضم إلى أجواقهم السعيدة، ويبتهج ويمجد معهم، ويصير غريباً عن العالم وكل ما فيه. - أن المولود العمى، ولئن صدّق بوجود الألوان: الأبيض، الأسود، والأخضر، والأحمر. والمولود الأصم ولئن صدّق أن الأذن تلتذ بسماع الأنغام الموسيقية والألحان المنظومة، ولكن تصديقهما هو أقرب إلى عدم الإيمان منه إلى الإيمان. - إن كنت لا تملك أيها الأخ، الإيمان بالوحي، فلا تعط لعينيك نعاساً ولا لجفنتيك نوماً حتى تجد مقاماً للرب (مز 132). ومن هناك تنال الإيمان، وتعتمد بالنار والروح لا بالماء. - يعطى الإيمان بالوحي للأنبياء والرسل بواسطة الأشراق من العلى، دون مشقة أو تعب. وأما النساك فلا ينالونه إلا بعد طلب وعناء وإنسحاق وزهد. وبهذه الوسيلة يرتقون من إيمان الخيال إلى إيمان الإلهام. - احترس، لعلك بالقراءة السريعة، وبمواظبتك على العمل (الجهاد الروحي) تتمكن من دمغ ذاتك بسمة أهل الملكوت. لأن كثيرين تعبوا كثيراً، وإذ لم يكن ذلك بتعقل، لم يدركوا طريق الحق، ولم يصلوا ميناء الحياة. - لا يُقتنى الكمال بالأتعاب الجسدية فحسب، وإنما باجتهاد الضمير السليم وجهادة أيضاً، فاقرن إذن عملك الجسدي بتمييزك الروحاني، لكي تعرف العبادة بالجسد والنية معاً. - هذه هي المحبة، طلب المحب للمحبوب. وهذا هو الطلب الحقيقي أن يوجه الطالب كل نظره إلى المطلوب. حينئذ يصير الطلب والفوز به توأمين متفقين. أعني يحصل الفوز بعد الطلب حالاً. ومن يطلب هكذا يجد، ومن يسأل بهذه الوسيلة ينل. - كما أن الحديد الخالص يجذبه المغناطيس بسهولة، ولكن إذا ما اختلط بعنصر آخر، تضعف فيه قوة الجاذبية، هكذا أيضاً العقل النقي، تجذبه برمته الذات الإلهية السامية، ولكن إن كانت رغبات الجسد ملتصقة به، أبطلت قابلية الانجذاب فيه. - عندما يؤهل العقل لسماع أقوال فائقة الوصف، يعجز الانسان عن تفسيرها، ورؤية أمور لم تر مثلها عين، يكون قد سكن في مسكن الرب وحلّ في جبله المقدس. - إذا سلمنا بحقيقة ظهور الله لموسة بالعليقة في جبل سيناء، واعطائه إياه الشرائع والاحكام الملائمة لبني اسرائيل، فكيف ينكر ظهور تعالى للعالم بانسان تام ذي نفس ناطقة عاقلة؟ - كما أن المرآة خالية بذاتها من كل صورة وشكل. وبقدر صفاتها وصقلها تظهر فيها بوضوح الصور الخارجة عنها. كذلك العقل أيضاً وهو خال من التصورات، وبحسب نقائه من الأدناس الهيولية، تتصور فيه الأشكال الروحية. - كما أنه لا وجود حقيقي ذاتي للصور التي تظهر في المرآة، وإنما وجودها تابع لوجود الأجسام الأصلية خارج المرآة. كذلك ليس المملكتين الروحانية والجسمانية وجود حقيقي بذاتهما، ولكن وجودهما يتبع علتهما الأولى أي الذات الإلهية. - من لا يزال يرضع الحليب كطفل لا يستطيع تناول الطعام المعدّ لكاملي السن، ومن كانت قوة بصره كقوة بصر الخفاش، لا يتمكن أن يتطلع إلى نور الشمس. - عندما تنفتح نافذة قلبك، فانك تحلق طائراً نحو ملكوت الله، وهناك ترى علانية جميع هذه الأمور، ولا تحتاج بعدئذ أن تسمع بحديثها، ولا تكون عندئذ غير مؤمن بل مؤمناً. - إن معرفة الكاملين هي معرفة إيحائية، وكل معرفة إيحائية تعتبر معرفة نبوية. ولا تكتسب المعرفة النبوية بل ولا يتعلمها الانسان من مطالعة الكتب. - من لم يذق حلاوة محبة سيده، لا يتمكن من معرفة قوة كلمات المحبوب، لأنها رمزية إذ لا ينطق بكلمات الروح إلا برموز سرية. - من يكتب أسرار الروح دون أن يملي عليه الروح ذلك، فهو نحاس يطن أو صنح يرن. لأن الروح لم يمزج حلاوته لكلامه. - من يتعلم أسرار الروح من الروح ذاته، يلتذ سامعوه بكلامه، وتستأصل كلمته سائر الأهواء من قلوبهم. - يحتاج الطالب - الذي يرغب أن يقرع باب الملكوت - جزء يسير من كلام العارفين، ليتبين علائم الطريق. وليكثر من التأمل فيه، ويضاعف اللهج به، ولا يضيّع أيامه سدىَّ فيخسر وقته في مطالعة الكتب المسهبة بتعليمها والمطنبة بمبناها. - حتى متى تفتش عن دليل ليفتح في جدار قلبك نافذة تجاه الملكوت؟! نقِ مرآة عقلك من الأدناس فتُريك أشكال المملكتين والسبل المؤدية إلى السماء وهي أيضاً توصلك إلى الله. - طالما لا يتمكن العطشان من الذهاب إلى ينبوع الماء، لا يستطيع المرشد أن يوصله إليه، أو يحمله إلى هناك. بل يريه فقط كيفية الذهاب ونوع السلوك . - كما أن السفينة المثقوبة لا تنفعها الريح مهما كانت هذه الريح ملائمة، هكذا القلب الذي تدخله الشهوات لا يجديه الدليل (المرشد) نفعاً، مهما كان هذا من ذوي الدرجات العالية. - إن الجرة التي رأسها مائل نحو الأرض لا يمكن أن يخزن فيها ماء. والنفس المتجهة بافكارها نحو الدنيويات، لن تثبت الموهبة السماوية فيها. - إن من يرغب التشبه بانقياء القلوب، ينفعه كثيراً الانهماك بخدمتهم. وأنقياء القلوب هؤلاء، هم الذين طهروا إنسانهم الباطني من كل إثم، ونالوا سائر المواهب الصاحلة والتامة النازلة من فوق من عند أبي الأنوار. - أنه لسعيد ومستحق الطوبى ذلك الذي قد عثر على خبير، أشرق شعاع شمسه على قبس مصباحه، وتلاشى نوره بنور ربه، ومات عن العالم ليحيا بإلهه. - إن الحياة الحقيقية هي التي يرضع الكاملون لبنها من ثدي العناية الإلهية جل شأنها مباشرة، وليس لمعلمي الناموس، ولا لكتبهم، فيها سوى الاسم والصورة. - لولا أن الرب أعانني وردني من ضلال مختلف العلوم، وأنواع الفنون، في تلك السنين السبع، إلى التأمل في كتب العارفين، لتلبستني العادات الرديئة، تلك التي أراها تلازم الكثيرين. - لعلك تسأل، هل هناك علامة فارقة تميز ما بين العارف الحقيقي من المرائي المضل؟ أجيبك قائلاً: نعم، إن العلامات كثيرة، ولكنها تبدو بادئ ذي بدء غامضة، ومع مرور الزمن تبدو أخيراً ظاهرة للنظر. - من لم يذق شيئاً لا يعرف طعمه، ومن لم يأكل شيئاً لا يشبع بمجرد حديث يصدر عن الآكل منه، ومن لم يشرب ماء لا يرتوي بمجرد حديث عابر يُلقيه من شرب منه. ومن لا يدخل التجربة (الخبرة الشخصية) لا تنفعه تجربة غيره. - يرفض بعض المعلمين المتبحرين بعلوم الكتاب المقدس وتفسيره، أن يتعلموا السير في طريق الملكوت على يد عارفين غير متضلعين بفنونهم. إلا أن هؤلاء المعلمين لا يفقهون، كون معرفتهم ما هي إلا معرفة نقلية، وأما معرفة العارفين - وإن كانوا بسطاء - فهي معرفة اختبارية. - أيها العلماء الأفاضل، أقسم لكم بسيدي رب الأرباب، أنكم إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال مجردين عن كل دهاء وحيلة، فأنكم لن تعرفوا حتى الاتجاه الصحيح للملكوت. فكيف إذن تسعون إلى الرحيل في سبيله، وترومون التقدم نحوه؟! سيحدث لكم أنكم ستبتعدون عنه، في الوقت الذي تظنون فيه أنكم قد وصلتم إليه. - ما أسرع زوال الزمن، وأخف أوان هذا النور (الإلهي). ما أقصر نهاره وأقل ساعاته. وندر من يستحقه من الناس. أما أنا ففي غمرة ظلمتي أبصرته حول القطب - كالشمس أبان السحر، وكالبرق الخاطف. - الأدنياء يرغبون في هذا العالم، والفضلاء يطلبون العالم الآتي، أما الأعلون فيطلبون ربهم نفسه. لا بغية منفعة لهم، أعني يبتغونه حباً به، لا بخيراته. ولم يفصلهم عن حبه شيء، لا الأمور الحاضرة، ولا المستفبلة، ولا خليقة أخرى. وكلما ازداد هيامهم بجماله ازداد تلهفهم إليه. - كما أن الخفاش لا يرى الشمس أبداً، أما الانسان وإن شاهد نورها بحسّه البصريّ، فلا يراها كما هي، هكذا أيضاً المتأمل في الالهيات، إنما يسمع عن العلي سمعاً، ولكنه لا يراه. والعارف يرى جزءاً من أمجاد العلي غير المحدودة لا كلها. - هذا الزرع اليسير وإن كان صغيراً مثل حبة الخردل فأنه سينمو ويصير مثل شجرة عظيمة - إذا لم يقع على قارعة الطريق أو على صخر أو بين الشوك بل سقط في الأرض الجيدة - ومتى نما ستأتي طيور السماء التي ترمز إلى الأجناد السماوية، وتعشش في أغصانها. ومع هذا كله فلا يستطيع أحد أن يأخذ شيئاً من عندياته ما لم يُعط له من السماء. |
20 - 07 - 2014, 10:37 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: إضاءات _ مار غريغوريوس يوحنا الشهير بابن العبري
مشاركة جميلة جدا ربنا يبارك حياتك |
||||
|