حقيقة جسد القيامة
اعترض البعض في أيام بولس الرسول قائلين: كيف يقام الأموات؟ وبأي جسد يأتون؟ 1 كو (15: 35) ولا يزال كثيرون حتى الآن يقولون أن الموت نهاية الحياة: وان الذي مات انحل إلى عناصره فأختلط بعضها بالهواء: وبعضها بالماء وبعضها بالتراب. وصار بعض أجزائها نباتا وبعضها حيوانا، فكيف يرجع الجسد بعد ذلك ويقوم؟ هذا ما يقوله الملحد، أما ما يقوله المؤمن فهو: أن غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله -كل شيء ممكن عنده- لا شيء عسير عليه وإذا كان الإنسان يصنع من الخرق البالية أوراقًا لامعة وشفافة. ومن الرمل زجاجًا وبلورًا. ونرى كل يوم النور يذهب عن البصر كأنه يموت ثم يعود كأنه يبعث حيا. والأشجار تتعرى من خضرتها ثم تعود إليها كأنها تقوم من الأموات والفصول الأربع يعود كل فصل منها بعد ذهابه. والزرع يموت في الأرض ويفسد ثم يقوم نباتا يانعا. فهل لا يقدر الله أن يعيد الأجساد كما كانت في حالة مجد وهو الذي أوجدها من العدم قال الرب "الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير" يو (12: 24) ومن هنا نعرف أن الموت ليس هو ملاشاة بل انتقال من حال إلى حال. والذي يصدق على الزرع الموضوع في الأرض يصدق على الجسد الموضوع في القبر. أي أن تنبت له حياة جديدة عوض حياته القديمة فيبقى واحد مع تغير هيئته. ان شجرة البلوط الكاملة تختلف في هيئتها وبعض صفاتها عن البذرة التي نتجت عنها، لكن حياتها هي حياة البذرة عينها. كذلك الجسد بعد القيامة يختلف في هيئته وبعض صفاته عن الجسد الموضوع في القبر مع أنه هو.
قال القديس أغسطينوس: إذا كان ممكنا لله أن يزيد في الحبة جرما لم يكن فيها قبلا أفلا يستطيع في القيامة أن يعيد ما كان في جسد الإنسان؟. قال الرسول في رده على منكري القيامة "يا غبي. الذي تزرعه لا يحيا أن لم يمت والذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير بل حبة مجردة ربما من حنطة أو أحد البواقي. ولكن اله يعطيها جسما كما أراد. ولكل واحد من البذور جسمه. ليس كل جسد جسدًا واحدًا. بل للناس جسد واحد. وللبهائم جسد آخر وللسمك آخر. وللطير آخر وأجسام سماوية وأجسام أرضية لكن مجد السمويات شيء. ومجد الأرضيات آخر. مجد الشمس شيء. ومجد القمر آخر. لأن نجما يمتاز عن نجم في المجد. هكذا أيضا قيامة الأموات. يزرع في فساد ويقام في قوة. يزرع جسما حيوانيا ويقام جسما روحانيا. يوجد جسم حيواني ويوجد جسم روحاني. هكذا مكتوب أيضًا: صار آدم الإنسان الأول نفسا حية وآدم الأخير روحا محييا. لكن ليس الروحاني أولا بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني. الإنسان الأول من الأرض ترابي. الإنسان الثاني الرب من السماء. كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضًا. كما هو السماوي هكذا السماويون أيضا. كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضا صورة السماوي. فأقول هذا أيها الأخوة أن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله. ولا يرث الفاسد عدم فساد.
هوذا سر أقوله لكم: لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير. في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير. فانه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير. لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت، ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد وهذا المائت عدم موت فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة" 1كو (15: 36-54).
لم يبين الرسول كيف تكون أجسادنا المستقبلة كأجسادنا الحاضرة لكنه أوضح بأنها لا تزال هي هي، وكما أنه يصعب جدا أن نوضح كيف أن جسد الإنسان شيخًا هو جسده طفلًا مع كثرة التغيرات التي طرأت عليه في تلك المدة ومع ذلك لا يستطيع أحد بمجرد عجزه عن بيان كيفية ذلك مع كل يطرا عليه من التغيرات منذ الموت إلى القيامة.
ونتعلم من الكتاب أن جسد القيامة يكون:
أولا - جسما روحانيًا موافقا لسكنى السماء، خاليًا من الشهوات الدنيوية، غنيا عن المقومات التي تحتاجها الأجساد الحيوانية، لا يأكل ولا يشرب، ولا يجوع ولا يعطش رؤ (7: 16) ويسمى بيتا غير مصنوع بيد أبدى ومسكنا من عند الله 2 كو (5: 1، 2) ولا بد من بقائه على صورة الجسد البشرية لأن المسيح ظهر لتلاميذه بعد القيامة بهيئته البشرية ولم تزل فيه آثار الطعنة والمسامير.
ثانيا - يكون مجيدًا وبهيًا في حالة الجمال والكمال فان الله يزيل عنه آثار الخطية ليكون أهلا لسكنى عالم المجد والنور ومعاشرة الملائكة، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.قال السيد له المجد: حينئذ يضئ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم مت (13: 43).
ثالثا - يكون في عدم فساد غير قابل والهوان والمرض والشيخوخة منزها عن الألم والدنس والخطية ولا يتسلط عليه الموت. راجع اش (25: 8، هو 13: 14، 1كو 15: 26، رؤ 21: 4).
خامسا - يكون كالملائكة في كونه لا يقبل الزواج، قال السيد له المجد في رده على الصدوقين أنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء مت (22: 30).
سادسا - انه يتغير حتى لا يكون بعد لحما ودما 1 كو (15: 50) في حالة الخفة واللطافة كالنور.
سابعا - يكون مثل جسد المسيح. قال يوحنا الرسول "أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنه إذا ظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" 1 يو (3: 2) وقال بولس الرسول "الذي سيتغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده" في (3: 21) وقيل عن المسيح في وقت تجليه أن هيئته تغيرت وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور مت (17: 2) لو (9: 29).
ومما يجب أن نعلمه أيضاً:
1 - أن الجسد الخاص بكل واحد ولو بلى واستحال إلى تراب هو هو بعينه الذي يقوم من الموت. لأن الرسول يقول: لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت، وهذا معنى القيامة إنما هي الرجوع إلى الحالة التي كان عليها الإنسان قبل موته في حالة مجد.
2 - أن الجسد لا يقوم فقط بل يعود إليه كل ما يخصه من الجمال ولا يبقى فيه شيء من العيوب، فمن كان قد أصيب بعاهة من العاهات: مرض أو هرم أو نحول أو ضخامة لا تبقى فيه. لأن المسيح لا يصلح فقط أجسادنا بل يزيل عنها كل ما طرأ عليها من أسوأ هذه الحياة، ومن كان أعمى منذ مولده أو فقد البصر بمرض أو من كان أعرج أو أعسم أو ضعيفا بأي عضو من أعضائه سيقوم من الموت بجسد صحيح كامل، وأجساد الشهداء التي تمزقت وتجرحت ستقوم مجيدة وفيها آثار تلك الجراح، تلمع أفضل من الذهب والدرر الثمينة كسماة جراح المسيح.
وينتج مما تقدم أن أجسادنا في القيامة ستحصل على قوى جديدة وتتغير تغيرًا عظيمًا حتى أننا نستطيع بسهولة ما لا نستطيعه في هذه الحياة. فإننا نعلم ضعفنا هنا ونقص أفعالنا، وضعف حواسنا ومحدودية عقولنا. وعدم إدراكنا كل شيء، ولكننا هناك سنرى كل شيء على حقيقته، وسيكون لنا القدرة على إدراك الأمور، وسنعتاض هناك بدلًا عن الانتقال البطيء المتعب الذي نحن مقيدون به بالقدرة على الانتقال بسرعة النور أو الفكر من أول الكون إلى آخره، ونظرنا المحدود سيعوض بنظر أحد وأكبر من أقوى المناظير، بل أن كل التخيلات والتصورات التي يمكن أن تجول في أذهاننا والصور المجيدة التي نتصورها عن تلك الأمجاد ونحن في هذه الحياة سنرى إنها لا تساوى شيئا بالنسبة لنا نراه ونكون عليه لأن "ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه" 1كو (2: 9).