عذابات يوحنا وأباكير واستشهادهما
وفي أثناء ذلك كانوا يضربون أباكير ويوحنا بعد أن عروهما، ويسلخون جسديهما بسياط مسلحة بخطاطيف، واحرقوهما بالمشاعل، ثم رشوا علي جراحاتهما المفتوحة بالخل الممزوج بالملح، وكانوا يدلكون الجروح بأقمشة من حرير، وسكبوا علي أرجلهما شحما مغليا، وبالاختصار استعملوا كل الوسائل التي في مخليتهم الهاذية للتعذيب لكي يحاولوا أن يزعزعوا إيمانهما ويكسروا ثباتهما.
و الحق يقال، لقد كان المشاهدون يتألمون أكثر من الشهداء. فكان مجرد منظر العذابات المختلفة التي كانوا يعذبونهم بها في غير هوادة، يجعلهم يصيحون صيحات الفزع. وكانت الاحتجاجات الساخطة وحدها توقف أذرع الجلادين.
وتأجلت قضيتهما لمدة قصيرة. فقد قطع أمامهما الجلاد رؤوس المرأة الشهيرة وبناتها الثلاث. وكانا قد حضرا لكي يعزيانهن في المعركة الكبيرة، فكن يضعن أمامهما بشهادتهن مثال الشجاعة والأمانة التي لا تتزعزع.
ولما انتهي الوالي من هذا العمل المؤسف، عاد إلي بطلي المسيح. والقي عليهما أحدي تلك الخطب الطويلة وكلها رياء، وقد إلف كل المضطهدين سماعها، يتظاهرون بأنهم يهتمون أشد الاهتمام بأمر الضحايا الذين سوف يذبحونهم بنفاق،فيصورون أمامهم مباهج الحياة واحدة واحدة، وفظاعة الموت. فكانت الهدايا الفاخرة والتهديدات المرعبة والعذابات التي لم يسمع بمثلها، والمكافآت التي تجاوز حدها المعقول. وكانت ابتسامة الشهيدين فيها احتقار واستهزاء. ففهم الوالي أنه يضيع وقته ويتكلم في الهواء، لذلك توقف فجأة، ونطق بالحكم كيفما اتفق:
(أباكير رئيس الجليليين، ويوحنا من ذات الشعب المتهمان بعصيان القوانين، وبمخالفة القرارات الإمبراطورية وباحتقار الإلهة الخالدة، حكم عليهما بقطع رأسيهما. هكذا نأمر الأباطرة).
ونفذوا الأمر في الحال. وانتهت القضية بسرعة كما كان يعتزم سهريانوس. وهكذا وجد الشعب نفسه أمام الأمر الواقع: وعلمت الإسكندرية بخبر ميته طبيبها المشهور المفجعة قبل أن تعلم بخبر القبض عليه، فانذهل الناس.
وفى المساء حضر أناس أنقياء وأخذوا رفات الشهداء. فرضعت أجساد القديسات في تابوت واحد، ودفنوا القديسين أباكير ويوحنا في نفس القبر بكنيسته مارمرقس حيث ظلت قرنًا من الزمان، إلى اليوم الذي أخرجهم القديس كيرلس لكي ينقلهم إلى "مينوتس" Menuthis بالقرب من كانوب حيث تمت معجزات عديدة باهرة.
وأصبح المنزل الذي يسكنه أباكير بالإسكندرية موضع تكريم كل مواطنيه، وهدفًا يحج إليه الأتقياء. ولما ألغى قسطنطين منشورات الاضطهاد وأعطى الحرية للعبادة المسيحية، تحول إلى كنيسة، وكرسوها باسم الثلاثة فتية الذين ألقاهم نبوخذ نصر في الغار. وكانت تتم فيها معجزات باهرة بشفاعتهم.
وقد حمل جسدا القديسين أباكير ويوحنا إلى روما عند الفتح العربي لمصر سنة 641م. وتوجد بمصر القديمة كنيسة أثرية على اسم القديسين. ولما لهما من الشهرة العظيمة، فقد أسست قرية في ضواحي متوتس بالقرب من بقاياها وسموها باسم الشهيد العظيم أباكير(1)، إرضاء للرأي العام وشهادة لخادم الله.
_____
الحواشي والمراجع:
(1) منطقة أبو قير الحالية بالإسكندرية، مصر.