آرثر شوبنهَور (1788-1860م.)
نظرًا للتأثير الكبير الذي تركه " شوبنهور " على " نيتشه " الذي تتلمذ على كتبه وأفكاره، وهو ما أنتقل بالتبعية إلى " هتلر " والنازية، وما نجم عنها من مآسي خلال الحرب العالمية الثانية لذلك تجدني مضطرًا لفرد مساحة أكبر لشوبنهور، ذلك الفيلسوف المُلحد، لنتحدث قليلا عن حياته، وإلحاده وازدراءه بالدين، وتشاؤمه ومخاوفه، وفلسفته، وتناقضه مع نفسه، وبعض أقواله، وموته. ولك يا صديقي أن تلاحظ أفكار شوبنهور تنتقل إلى تلميذه نيتشه، وتسري أفكار نيتشه المسممة في عروق هتلر، وهذا يدعونا للتدقيق في أي فكر يُعرَّض علينا، ولا نقبل الأفكار بسهولة، ولا ننقل الأفكار الهدَّامة.
س21: هل تأثر شوبنهور بانتحار أبيه وجنون جدته؟ وهل نجح في حياته العملية والأكاديمية؟
ج: وُلِد الفيلسوف الألماني " آرثر شوبنهَور " في مدينة " دانزج " في 22 فبراير سنة 1788م، وكان والده ثريًا وصاحب مصرف كبير، فعاش آرثر حياة الرفاهية التي ربما لم تتاح لعباقرة التاريخ، وكان والده يحب الترحال، وكان معجبًا بالفيلسوف الفرنسي " فولتير"، ولم يكن مقتنعًا بالتعليم المدرسي لذلك كان يصبو إلى أن يكون ابنه من رجال الأعمال، وعندما كان آرثر في سن الخامسة أصطحبه والده في رحلة إلى إنجلترا، وفيها ألتحق هذا الطفل بمدرسة داخلية لمدة ثلاثة أشهر، وكان ناظر المدرسة قسًا، يبالغ في ممارسة الطقوس مما جعل " آرثر " أن ينفر من الممارسات الدينية.
وفي سن السابعة عشرة مات والد آرثر منتحرًا، كما أُصيبت جدته لأبيه بلوثة عقلية، ربما بسبب حزنها المُفرط على ابنها المُنتحر، وانقلبت حياة آرثر إلى حياة شقاء بعد أن فقد أبيه، وأيضًا بسبب خلافاته المستمرة مع أمه الروائية التي كانت تعشق الأدب، وقد افتتحت صالونًا أدبيًا يؤمه كبار رجال الأدب، مثل أستاذه " جوته"، وعاشت الأم حياة التحرُّر من كل قيود الفضيلة، فكان الابن دائم الخلاف معها، وفي إحدى المرات تشاجر معها فدفعته على درج السلم فسقط بعض الدرجات، فقاطعها ولم يرها ثانية حتى موتها، وربما ما عاناه من هذه الأم التي لم تحتويه بعد موت أبيه، جعله يعزف عن الزواج نهائيًا.
وحاول " آرثر شوبنهَور " العمل بالتجارة كما كان يرغب أباه فالتحق بمكتب تجاري لمدة عامين، إلاَّ أن هذا العمل لم يستهويه، فتركه وأتجه لدراسة اللغتين اليونانية واللاتينية، والتحق بمدرسة " جوثا " ولكن بسبب تعاركه مع أحد المدرسين تعرَّض للطرد من المدرسة، فالتحق بجامعة جوتنجن لدراسة الطب، وأمضى بها عامين (1809-1811) فلم توافق ميوله أيضًا فتركها، واتجه إلى جامعة برلين لدراسة الفلسفة، فدرس أفلاطون، وعمانويل كانط وتأثر بهما، ورأى أن الإنسان يجب أن يتحرَّر من قيود الدين وهو يدرس الفلسفة، وفي سنة 1813م حصل على درجة الدكتوراه تحت عنوان " الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي " وقصد بالسبب الكافي علاقتنا مع العالم الخارجي، وقصد بالأصول الأربعة العلاقة بين المبدأ والنتيجة، وبين العلة والمعلول، وبين الزمان والمكان، وبين الداع والفعل، والصور الثلاث الأولى تخص التطوُّر النظري، أما الرابعة فتخص العمل والفعل، وطبع الرسالة على نفقته، وقدم لها الفيلسوف الألماني " جوته " ومع ذلك فإن الكتاب لم يلاقي نجاحًا، وكان كثيرًا ما يحتقر "شوبنهَور" أساتذته في الفلسفة، وهم بدورهم وصفوه بالكبرياء والغرور.
ولم يشغل " شوبنهَور " نفسه بالعمل نظرًا لعدم حاجته للمال، فكان يعيش بلا قيود، وفي سنة 1814م قدم أهم أعماله الفلسفية كتاب بعنوان " العالم كإرادة وفكرة " وكان منبهرًا بهذا العمل، حيث أظهر اهتمامه بفلسفة " توماس هوبز " وبناء على هذا العمل حصل على وظيفة مُحاضر في جامعة برلين، ولكن لسوء حظه أنه كان يُحاضر في ذلك الوقت فيلسوف ألمانيا "جورج هيجل"، فانصرف الطلبة عن محاضرات " شوبنهَور " وفشل في حياته الأكاديمية، ولم يتم رواج كتابه كما كان يتوقع، بل أن الناشر اضطر إلى بيعه بعد عشرة سنوات كأوراق مستعملة، وعزىَ " شوبنهوَر " هذا الفشل إلى أن هناك مؤامرة تُحاك حوله من جميع المفكرين والفلاسفة الذين نعتهم بالحمير قائلًا " أن كتابي هذا مثل المرآة، فإذا نظر فيها حمار فلا تنتظر أن يرى وجه ملاك " وكان " شوبنهوَر " يشعر بالغرور دائمًا، فيقول "أن فلسفتي هي في حدود المعرفة بصفة عامة، الحل الحقيقي للغز العالم، وبهذا المعنى يمكن أن نسميها " رؤيا " وهي مُستوحاة من روح الحقيقة. بل هناك في الكتاب الرابع (العالم كإرادة وفكرة) بعض الفقرات التي يمكن أن نقول أنها مستوحاة من الروح القدس"(10).
وفي سنة 1831م عندما انتشر مرض الكوليرا في برلين أسرع " شوبنهَور " بالفرار منها متجهًا إلى فرانكفورت، فعاش فيها 27 عامًا حتى موته، ورغم أن كتبه لم تجد صدى لدى القراء إلاَّ أنه أصدر بحثه المنشور سنة 1851م بعنوان " باربيرجيا " يشرح فيه رأيه في الدين والأدب وعلم النفس، ويُهاجم الفلسفات التي تُدرَّس في الجامعات الألمانية، ولم يحفل " شوبنهور " بالسياسة، بل فضل حياة الاستقرار وكان نصيرًا للنظام، وأبغض الثورة التي نشبت في ألمانيا سنة 1848م لأنها تخل بالنظام القائم، وتعاطف مع الجنود النمساويين وساعدهم على إخماد الثورة، وتبرع بجزء كبير من ماله للجنود الجرحى، ولم يكن لدى " شوبنهور " الحس الوطني، لأنه كان يرى في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أوطانًا بجوار وطنه.
س22: كيف نظر شوبنهور للطبيعة الجامدة؟ وكيف تنكر للدين، وأحتقر رجال الدين، وأُعجب بالبوذية؟
ج: أقرَّ " شوبنهور " بالإبداع والإتقان والإرادة في خلق الكون، ولكنه لم يُرجع هذا لله، إنما أرجعه إلى الطبيعة الجامدة، وقال أن فكرة الدين هي من صُنع البشر الذين ابتكروها لتفسير الأمور المجهولة لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، وكان الغرض من الدين تنظيم حياة مجموعة من الناس بحسب ما يراه مؤسس الدين، وليس حسب الاحتياجات الحقيقية للناس، الذين عن جهل قرَّروا الالتزام بمجموعة القيم البالية، وأن الديانات من المستحيل أن تكون صادرة من مصدر واحد، فالإله الذي قتل كل أبكار المصريين، ليس هو الإله الذي ينصحك بالتسامح وتحويل الخد للآخر [وكأنه يريد إلهًا إما أن يكون عادلًا فقط وإما أن يكون رحيمًا فقط].
وكان " شوبنهور " بحكم تربيته يحتقر رجال الدين والدين والكنيسة، وكان يعتبر أن الدين هو ميتافيزيقيا الشعوب، ورغم أنه كان يزدري بالمسيحية إلاَّ أنه لم يخفي إعجابه بها لأنها تكبح جماح الشهوات عن طريق الصوم، ولم يُخفي إعجابه بالقديسين لأنهم ينكرون إرادتهم الفردية، ولكنه فضل البوزية جدًا عن المسيحية، لأنها تفوق المسيحية في إنكار الإرادة والأنا، ولأنها المنفذ الذي يُخرِج الإنسان من شقائه، وأعتقد " شوبنهور " إن أسمى درجات الكينونة تتمثل في حالة " النيرفانا " أي تلاشي " الأنا " في الواحد السرمدي كما تقول الديانة الهندوسية، وأعتقد أيضًا " شوبنهور " بتناسخ الأرواح، وقال حتى لو كان ليست حقيقية، لكنها تنقل لنا الحقيقية في شكل أسطورة. ويقول عنه " دكتور رمسيس عوض": "ورغم إيمانه بأن فكرة تناسخ الأرواح ليست حقيقة بمعناها الحرفي فإنها تنقل لنا الحقيقة في شكل أسطورة. ولم يجد شوبنهور مخرجًا من شقاء الإرادة الإنسانية غير الإيمان بالبوذية وضرورة تحطيم هذه الإرادة وإفنائها.. والرجل الفاضل في نظره يصل إلى حالة الزهد عن طريق التمسك بأهداب الطُهر والعفاف ومداومة الصيام وتعذيب الذات وانتهاج طريق الفقر طواعية واختيارا، وهو يفعل كل هذه الأشياء سعيًا وراء تحطيم إرادته كفرد، وليس بهدف تحقيق التوازن والانسجام بينه وبين الله كما هو الحال مع المتصوفيين الغربيين" (1).
وقال " شوبنهور " مُنكرًا الوجود الإلهي " أنا وحدي الموجود، ولا شيء يوجد عداي، لأن العالم من امتثالي وتصوُّري" (2).. كما قال أيضًا مُنكرًا فكرة الثواب والعقاب " يُقال أن السماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا.. وأنا أظن أنه بإمكاننا أن نحاسبها أولًا عن " المزحة الثقيلة " للوجود الذي فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟"(11).
س23: هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على فلسفة شوبنهور التشاؤمية؟
ج: كان " شونبهور " ينظر للحياة على أنها شر مُطلق وتعاسة وشقاء، فليس كل تعاسة إلى سعادة، بل كل سعادة إلى تعاسة، وليس كل شقاء إلى راحة، بل كل راحة إلى شقاء، وليس كل مرض إلى شقاء، بل كل صحة إلى مرض، فرأى أن الشقاء والعناء والمرض والألم والموت الأصل والأساس، وماعدا ذلك فهو الإستنثاء، ورأى في الحياة أنها صراع مستمر وقتال متواصل لا يهدأ، وغض النظر عن صور التعاون الفائقة في الطبيعة، ولذلك فضل الانتحار عن الحياة.
ومما زاد من تشاؤم " شوبنهور " المزاج الغير سوي الذي لازمه، والحقد والكراهية اللذان ملأ قلبه، وفقدانه للود، فلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء، ولم يكن له سوى كلب أطلق عليه اسم " أطمأ " وهو اسم يُطلق على الروح الكلي عند البراهما، أما سكان الفندق والقريبون منه فقد دعوا هذا الكلب باسم " شوبنهاور الصغير". فكان " شوبنهور "يشعر بالعداء للحياة والأحياء، وأيضًا زاد من شؤمه قراءته في كتب الديانة الهندوسية والبوذية، والتي تعتبر أن المادة شر والطبيعة شر والجسد شر، ولا يصل الإنسان للخلاص، إلاَّ بالوصول إلى حالة النيرفانا، وأيضًا زاد من تشاؤمه فشله في الدراسة الأكاديمية، وفي الاحتفاظ بمنصبه في التدريس بالجامعة، وفي عزوف الناس عن كتبه، وزاد من تشاؤمه انتحار أبيه وانشغال أمه عنه وإصابة جدته بلوثة عقلية، وأستاذه الذي كان يجله الفيلسوف " جوته " يصرف أوقاته مع أمه، وأيضًا عاش " شوبنهور " في فترة دمرت الحروب كل ما هو جميل في أوربا، وشردت آلاف الأسر، ونشرت الفقر والبؤس والشقاء، وهذا ما رآه شوبنهور في الحياة أنها تعاسة وشقاء وعناء وألم ومرض وموت.
وهكذا كان " شوبنهور " يعيش في قلق زائد وتوجس لا يأمن لأحد، فيغلق الأبواب بعناية شديدة، ولا ينام إلاَّ وسلاحه بجواره محشو بالرصاص، ولم يُسلم رقبته لموسى الحلاق طوال حياته، لئلا يتآمر مع الآخرين ويذبحه، فقد كان يسئ الظن بجميع الناس، ويرى نفسه هدفًا لتآمر الناس واللصوص، ويقول عنه " دكتور عبد الرحمن بدوي": "ويقولون لنا أنه كان طوال حياته فريسة لكثير من المخاوف الشاذة التي تصل إلى حد الفزع المرضي، وفي سنة السادسة في أثناء تريّضه توقف مرة وشعر بالوحدة المخيفة وتخيل أن أبويه يريدان الخلاص منه، وحينما كان طالبًا في جامعة برلين كان يتصوَّر أنه مصاب بالتدُّرن، ولا يكاد يسمع دنو الحرب من برلين حتى يولي هاربًا مذعورًا، وظل دائمًا يَحذر الناس، ويعتقد أنهم جميعًا أعداء واقفون لإيذائه بالمرصاد" (3).
وقامت فلسفة شوبنهور على:
أ - الوجود يقتصر على المادة، والمادة فقط، فكل ما هو في العالم المادة لا غير.
1859
ب -الطبيعة هي التي تحافظ على استمرار الحياة، والوسيلة لحفظ النوع الإنساني العاقل بالإضافة للغريزة الجنسية، فقد رأى " شوبنهور " أن الجنس هو الركيزة الأولى عند الإنسان والحيوان، فتدور حوله حياة الفرد والجماعة والحياة كلها، وأنه مفتاح السلوك الأساسي، وعلى أساسه يمكن تفسير كل السلوك الإنساني من الألف للياء.
ج- رأى " شبنهور " أن الطبيعة تحافظ على استمرار الحياة بغض النظر عن الأشخاص الذين تطحنهم الآلام ويعذبهم الشقاء ويغرقون في بحور من المآسي والشرور، والموت هو العدو الأول للطبيعة، لأنه يحاول أن يقضي على الحياة والأحياء.
د - الحياة في حقيقتها ما هي إلاَّ شرور وأحزان ومشقات ومآسي، فلا مكان للخير، ولا معنى للسعادة، وأقصى ما يوجد من خير في الوجود هو أن تقل الشرور بعض الشيء ، أو تخف الآلام شيئًا ما، فالتعاسة هي جوهر الحياة وحقيقة الوجود، والسعادة ليس إلاَّ التفسير السلبي، أي أنها تعني اختفاء الآلام والشقاء، والتعاسة بعض الشيء .
ه- لأن الحياة كلها شرور وشقاء وعناء لذلك ينبذ " شوبنهور " الحياة ويدعو للانتحار، مستهينًا بالموت، فالموت في نظره لا يسبب أي ألم للإنسان، ولكن ما يؤلم الإنسان هو فكرة الموت أكثر من الموت نفسه، لأن الإنسان لا يلتقي بالموت، وبالتالي فأنه لن يتألم منه، فطالما الإنسان يعيش حيًّا فهو لم يلتقي بالموت بعد، وبمجرد أن يقبل الموت على الإنسان يذهب الإنسان ويستريح من شقاء الحياة وآلامها.
س24: كيف عاش شوبنهور يناقض نفسه؟ وكيف كان موته؟
ج: إتسمت حياة شوبنهور بالتناقض مع آراءه وأفكاره، ومن أمثلة ذلك:
أ - مع أن " شبونهور " كان يحبذ الانتحار، وبالرغم من أنه عاش وحيدًا تنتابه الوساوس والمخاوف، وكان أحق إنسان بالانتحار، لكنه لم ينتحر، بل أنه كان يتمنى العمر الطويل.
ب - رغم أن " شوبنهور " نادى بالتشاؤم، لكنه لم يحيا حياة التشاؤم، ولم يقم بتمثيل البطل ولا أحد الأفراد البارزين في التشاؤم، فقالوا عنه أن ابن الجمعة (لأنه وُلد يوم جمعة) لم يعش ابن الجمعة حقًا (أي الجمعة الحزينة) وإنما عاش ابن الأحد (إشارة للحياة الناعمة والراحة).
ج- كان ينظر للقداسة باحترام ويبجل القديس لأنه استطاع أن يكبح لجام شهواته، ومع ذلك اعترف بأن لم يعش لا قديسًا ولا شبه قديس، ولم يمنع نفسه من الملاذ والشهوات والمغامرات الغرامية، فتارة تراه مع الممثلة المشهورة " كارولين ياجمن " في ألمانيا، وتارة مع فتاة تُدعى " تريزا " في إيطاليا، حتى أنه فكر في الزواج منها رغم أنه كان ينظر للزواج على أنه نقمة على العبقرية، وعندما كان شيخًا في السبعين من عمره جاءت فتاة تُدعى " اليزابث نيه " لتعمل له تمثالًا نصفيًا، فأبدى إعجابه بها، وقال: "لم أكن أتصوَّر وجود فتاة خليقة بالحب كهذه الفتاة" (4). وتناسى ما قاله من قبل عن المرأة بأنها " إنسان ناقص أشبه ما يكون بالطفل، أو هي وسط بين الطفل والرجل" (5).
د - مع أنه كان يعتقد أن الألم يساعد الإنسان على إنكار ذاته، إلاَّ أنه أمضى حياة ناعمة متنقلًا بين ربوع إيطاليا وهو يقول "هذا البلد الجميل الذي فيه يشع الغناء " ورغم أنه كان يعتقد بأهمية الزهد والنسك إلاَّ أنه كان حريصًا على حضور الحفلات الموسيقية والمسرحية، وأيضًا كان حريصًا على أمواله، فعندما أستثمر أمواله في " دانزج " وكذلك فعلت أخته وأمه لدى تاجر يُدعى " ابراهام لودفيج مول " وأفلس هذا التاجر قبلت أخته وأمه باسترداد ثلث الودائع، أما هو فقد أصر على استرداد كل ما دفعه، وضغط على التاجر وهدَّده برفع الأمر للقضاء، حتى أستوفى كل ما أودعه بالإضافة للفوائد خلال عشرة أشهر، وقد قال له " بوسع المرء أن يكون فيلسوفًا، دون أن يكون بسبب ذلك مغفلًا " وكتب إلى " يوهان أدوار ايرومان " يقول "لقد كنت رجلًا موفقًا وذا حظ عظيم، أعلمُ كيف أؤمّن مصدر عيشي على الدوام، ولا أضطر للعمل من أجل النقود أو البحث عن وظيفة".
وقال عنه " الدكتور رمسيس عوض": "ومن الخطل أن نظن أن شوبنهوَر كان يضع تعاليمه موضع التنفيذ، فمن المعروف عنه أنه كان يستمتع بالطعام الهنيء والشراب الطيب ويلبي شهوات الجنس من آن لآخر" (6).
ومع كل هذا فقد قال البعض أنه لا يجب إدانة شوبنهور على هذه التناقض، وقال " فاوست": "أن في صدري تسكن، ويا للأسف! نفسان، كل منهما تريد أن تنزع نفسها من الأخرى، فأحداها تُنشب مخالبها في العالم بشهوة جامحة قاسية، والأخرى ترتفع من التراب بقوة إلى ساحة الأسلاف العالين" (7).
ومن بعض أقوال شوبنهور:
أ - الضوضاء: كان " شوبنهور " يتضايق جدًا من الضوضاء ويعتبرها معيار التخلف، وعندما ضاق ذرعًا من جارته التي تعمل بحياكة الملابس دفعها على درج السلم، فأُصيبت بعجز، ورفعت الأمر للقضاء، فحكم عليه بدفع جزء من تكاليف الحياة لها، فظل يدفع لها حتى موتها، وقال عن الضوضاء أنها الأكثر وقاحة في كل أشكال الإزعاج، وهي ليست إزعاج، لكنها أيضًا إرباك الفكر.
ب- الشهوة: قال " شوبنهور " في شبابه " أيتها الشهوة، أيها الجحيم! أيها الإحساس، أيها الحب الذي لا يُشبع ولا يقوى على قهره شيء" (8) وظل شيطان الشهوة يطارده كالجلاد في شبابه ورجولته، فكان يصبو للشيخوخة قائلًا " ففيها يبلغ المرء حالة الهدوء الصافي التي يعانيها من فُكت عنه القيود بعد أن ظلَّ مكبَّلًا بها طويلًا، فصار الآن يتحرك حرًا مُطلقًا من كل قيد" (9).
ج- السعادة: قال " شوبنهور": "كل شيء في الحياة الدنيا يدل على أن السعادة على وجه البسيطة محكوم عليها بأن تكون معكَّرة إن لم تُدمَر تمامًا.. كل الحياة خدعة، وهي لا تهبنا سوى الأوهام جملة وتفصيلًا"(12).
د - الحياة والموت: قال " شوبنهور": "هذه الحياة محزنة جدًا، ولهذا فقد قرَّرتُ أن أقضيها بالتأمل فيها " كما قال " يالها من هوة بين بداية الحياة ونهايتها. تبدأ الحياة في الدفء وفي الإغتباط المبهج. ثم تنتهي بتدمير الأعضاء وسط رائحة تعفن الجثث " وأيضًا قال " نحن نعزي أنفسنا بالموت لمواجهة مصائب الحياة، وبمصائب الحياة لمواجهة الموت. ياله من وضع رائع"(13).
وظل " شوبنهور " مغمورًا معظم حياته، ولكن في سنة 1854م بدأت فلسفته التشاؤمية تلقى اهتماما، وصار معروفًا في إنجلترا وروسيا والولايات المتحدة، وأصبح له بعض الأتباع الذين يقدّسون أفكاره، فشعر ببعض الرضى، وفي 21 سبتمبر سنة 1860م بينما كان جالسًا في الفندق يتناول إفطاره، وبعد ساعة من جلوسه لاحظت صاحبة الفندق أنه أطال الجلسة، فاقتربت منه، وإذ بالحياة قد فارقته، ومن أكثر من تأثر بفلسفة شوبنهور الفيلسوف الألماني "نيتشه"، والذي كان له تأثير كبير جدًا بدوره على الآخرين ولاسيما " هتلر"، وهكذا تتوالى فلسفة الإلحاد ورفض وجود الله، وهكذا تسير الحياة بدون الله من سيء إلى أسوأ.