قبول معمودية الهراطقة كجذور لعقيدة خلاص غير المؤمنين
نحن نعلم أن
المعمودية سر من أسرار الكنيسة السبعة، وفي السر يحصل الإنسان على نعمة غير منظورة تحت أعراض مادة منظورة.. لقد قدَّس الله المادة، ففي سر المعمودية تستخدم الكنيسة الماء، وفي سر الميرون تستخدم الزيت، وفي سر الإفخارستيا تستخدم الخبز وعصير الكرم، ويشترط لإتمام السر أن يقوم به "كاهن مشرطن" نال وضع اليد بطريقة قانونية، مستمدة أساسًا من الرب يسوع عبر رسله الأطهار والآباء الأساقفة عبر الزمن بدون انقطاع.
وفي القرن الثالث الميلادي ظهرت بدعة غريبة تنادي
بقبول معمودية الهراطقة مادامت لها نفس الصورة. أي مادامت تتم بالتغطيس في الماء أو الرش بالماء وباسم الثالوث القدوس، حتى لو قام بها كاهنًا ليس مشرطنًا ولا شماسًا ولا إنسانًا مسيحيًا، بل قام بها أحد اليهود أو أحد الوثنيين.
وتصدى الشهيد
"كبريانوس" أسقف قرطاجنة لهذه البدعة، فعقد مجمعًا سنة 255م. وقرَّروا أن الأسرار التي تمنح خارج الكنيسة هي باطلة، ومن الطبيعي أنه ليس المقصود بالكنيسة المبنى، إنما المقصود هم الأكليروس وجماعة المؤمنين، فلو إن إنسانًا في خطر وعمَّده إنسان علماني مسيحي فإن معموديته صحيحة، وهذا ما رأيناه في قصة زوجة سقراط التي عمدت ابنها وابنتها بالماء والدم عندما هاج البحر وتعرضا للغرق، حتى إن البابا بطرس عندما أراد أن يُعمّدهما تجمَّد الماء، فاستفسر من أمهما عن قصتهما، وقال:
حقًا إن المعمودية واحدة.
وأرسل كبريانوس إثنين من أساقفته بقرارات المجمع إلى
" إستفانوس الأول " بابا روما (254 - 257م) مع عبارات التبجيل والتكريم والرقة والاحترام طالبًا منه أن يُثبّت هذه القرارات، فكانت هذه القرارات كشرارة وقعت في غابة، فإحتد البابا إستفانوس على الأسقفين، وهدَّد كبريانوس بالقطع مع أساقفته، كما كتب إلى
" فرميانوس " أسقف قيصرية الجديدة بنفس المعنى، الذي قال بعدم صحة معمودية الهراطقة
(14) أما فرمليانوس فقد عقد مجمعًا مع أساقفة آسيا في أيقونية سنة 258م وقرروا " عدم قبول شيء من الأسرار التي يقوم بها المبتدعون لأنها باطلة بما فيها معموديتهم"
(2).
وللأسف الشديد
لم يرتد إستفانوس عن آرائه الفاسدة وتغافل ما جاء في القانون (47) من قوانين الآباء الرسل حيث أمر بإعادة معمودية الهراطقة " أيُّ أسقف أو قس عمَّد ثانية من كان قد إقتبل المعمودية الحقيقية، أو لم يعتمد (لا يعيد معمودية) من كان قد تدنس بمعمودية الكفرة فليسقط، بما أنه مستهزئ بصليب الرب وموته ولم يميز بين الكهنة الحقيقيين والكهنة الدجالين"
(3) فقد كان بعض المسيحيين أثناء الاضطهادات يضعفون وينكرون الإيمان فهؤلاء لا تُعاد معموديتهم، أما الذين إعتمدوا بمعمودية الهراطقة فإن معموديتهم لا تُحتسب، وبالتالي فإنه يجب عمادهم. أما إستفانوس فقد تغافل هذا، بل وزاد الطينة بلة، فقام بحرم فرمليانوس وأساقفة كيليكية وغلاطية، وأيضًا أساقفة أفريقيا
(15).
وفي سنة 258م عقد كبريانوس مجمعًا آخر حضره 71 أسقفًا وأكدوا قرارات المجمع الأول و"إن كل معمودية قام بها المبتدعون باطلة. وكل من يرتد بعد معمودية كهذه يجب أن يُعمَد معمودية أرثوذكسية، ولا يعني ذلك عمادة ثانية، بل هي المعمودية الواحدة إذا لم يسبق لهم أن نالوا المعمودية الحقيقية"
(4).
ثم عاد كبريانوس وعقد مجمعًا ثالثًا أكبر ضم أساقفة أفريقيا وحضره 184 أسقفًا، وأكدوا بطلان معمودية المبتدعين والهراطقة لأن "
من كان له أن يُعمِد فله أيضًا أن يعطي الروح القدس، ولكنه مادام لا يقدر أن يعطي
الروح القدس، لأنه صار بدون نعمة
الروح القدس، فهو ليس مع
الروح القدس ولا يستطيع أن يُعمِد.. من يأتي إليه.. مادام كل شيء عندهم باطلًا وكاذبًا فلا يجوز أن يعتبر شيء مما يقومون به مقبولًا عندنا.. هل في وسع هؤلاء مقاومي الرب الدجالين أن يمنحوا نعمة
المسيح"
(5).
وأرسل القديس فرمليانوس أسقف قيصرية رسالة إلى الشهيد كبريانوس جاء فيها " ليست معمودية في غير الكنيسة.. ظهر بغتة امرأة متجننة (بها أرواح شريرة) كانت تدعو نفسها نبية حاملة روحًا.. وكانت تصنع غرائب وعجائب وتدَّعي بأنها تحرك الأرض كلها.. كانت تتظاهر بأنها زيادة على صنائعها تقدس وتتمم سر الشكر بدعاء جليل (أي تقيم قداس).. وكانت تستعمل (في المعمودية) كلمات السؤال القانونية المعتادة (طقس جحد الشيطان والاعتراف بالمسيح) وتُعمّد كثيرين، فظهر أنها لا تخالف قانون الكنيسة في شيء.. فماذا تقول عن هذه المعمودية التي عدَّها الشيطان وإستعمل الامرأة آلة لها..؟
إن كانت عروس
المسيح واحدة فمن الواضح أن
الكنيسة الجامعة هي وحدها التي تلد أبناء لله، لأنه ليست عرائس كثيرة للمسيح.. ما لم يكن إستفانوس يعتقد أن الهرطقة تلد وتربي..
الذين يباشرون ضدنا أعمالًا كهنوتية غير مباحة ويصنعون مذابح رجسة لا فرق بينهم وبين
قورح وداثان وأبيرام، ولكونهم متعدين على الكهنوت مثلهم سوف يُعاقَبون بعقوبات مثل عقابهم، لا يفلت منهم المشاركون آراءهم.. أما أنا فلا أطيق حماقة إستفانوس الواضحة بهذا الصدد..
إنك (يا استفانوس) أشنع من جميع الهراطقة. إستفانوس.. يصنع شقاقًا في الأخوية من أجل الهراطقة"
(6) وكذلك وصف الشهيد كبريانوس إستفانوس بابا روما بأنه " صديق الهراطقة وعدو المسيحيين".
وفي سنة 325م عندما إنعقد
مجمع نيقية أوضح رفضه لمعمودية الهراطقة، وطالب بمعمودية أتباع بولس الساموساطي الذين عادوا للكنيسة بالرغم إن بولس الساموساطي كان يعمدهم بإسم الآب والابن و
الروح القدس، وجاء في القانون (19) من قوانين
مجمع نيقية " إننا نُحدّد أن أتباع بولس الساموساطي اللاجئين إلى الكنيسة الجامعة يجب أن تعاد معموديتهم على كل حالٍ
،وكان البولسيون (أتباع بولس الساموساطي) كما يقول القديس أثناسيوس يذكرون اسم الآب والابن و
الروح القدس في إتمام سر المعمودية، ولكنهم لم يكونوا يستعملون هذه الكلمات بمعناها الحقيقي، ولذلك إعتبر المجمع والقديس أثناسيوس إن معموديتهم باطلة"
(7) وعندما إنعقد
مجمع القسطنطينية سنة 381م أكد أيضًا على رفض معمودية الهراطقة في القانونين رقم 7، 8.
ولكن للأسف الشديد فإن الكثير من باباوات روما ساروا على نفس درب البابا إستفانوس الأول، فمثلًا
البابا نيقولاوس الأول رقم 105 (858 - 867م) عندما سُئل عن معمودية الكثيرين من البلغار بيد إنسان يهودي، أقرَّ بصحة هذه المعمودية.. كما إن
البابا أوجانيوس الرابع رقم 206 (1431 - 1447م) إعترف بالمعمودية التي يجريها الوثني والهرطوقي، وأيضًا أكد على هذه العقيدة المجمع اللاتيراني الرابع، فيقول الأب أنطون صالحاني اليسوعي " قال البابا نيقولاوس الأول في جوابه على سؤالات إستفهمه عنها البلغار {ذكرتهم أن كثيرين في بلادكم مُنحوا العماد من أحد اليهود، وإنكم تجهلون أكان هذا مسيحيًا أو غير مسيحي وتطلبون ما الذي يجب عمله في أمر هؤلاء} فأجاب البابا قائلًا {إذا ثبت أنهم إعتمدوا بإسم الثالوث الأقدس أو فقط بإسم
المسيح.. كما جاء في أعمال الرسل يجب أن لا تُعاد معموديتهم}.
وقال أيضًا البابا أوجانيوس الرابع في صورة الإيمان التي بعث بها إلى الأرمن {في وقت الضرورة ليس فقط الكاهن والشماس الإنجيلي لكن أيضًا الرجل العلماني والمرأة بل
الوثني والهرطوقي يمكنهم أن يُعمّدوا بشرط أن يستعملوا الصورة التي تستعملها الكنيسة مع النية بأن يتمموا ما تعمله}.
وقال القديس ايزيدورس {إن روح الله يمنح نعمة العماد وإن كان مانح العماد وثنيًا}
(16) والمجمع اللاتراني الرابع وهو المجمع المسكوني الثاني عشر (سنة 1215م) حدَّد أن {سر المعمودية الممنوح كما يجب يفيد للخلاص أيًّا كان مانحه"
(8).
وهكذا أصبحت معمودية الهراطقة مقبولة رسميًا لدى الكنيسة الكاثوليكية، فجاء في كتاب "مختصر اللاهوت الأدبي الكاثوليكي" تحت رقم 451 " يصح العماد الذي يمنحه
طبيب يهودي، وهو يقصد أن يعمل ما تعمله الكنيسة أو المسيحيون"
(9) وتحت رقم 452 " لا يقتضى لصحة إيلاء السر أن يكون مانحه مؤمنًا في حالة النعمة، وعليه فإذا عمَّد
يهودي مراعيًا ما تجب رعايته صح العماد، وإن كان المُعمّد لا يؤمن بالعماد أو
المسيح"
(10) وتحت رقم 472 "لأي كان (أي شخص كان) وإن كان غير كاثوليكي أو
غير مؤمن أن يمنح على وجه صحيح العماد غير الاحتفالي"
(11).
وينتهي الأب أنطون صالحاني إلى النتيجة الآتية "إن صحة السر لا تتوقف على إيمان خادم السر وبرارته، جاز لنا أن نستنتج بكل صواب إن العماد يكون صحيحًا وإن أُعطي من
وثني بشرط أن يمنحه كما تمنحه الكنيسة وأن يقصد عمل ما تعمله"
(12).
ومن الأمور المضحكة المبكية أن
الكنيسة الكاثوليكية تسمح للكاهن بإقامة قداس من أجل إنسان ينتقل غير مؤمن أو هرطوقي، وتسمح له بتقاضي أجرًا عن هذا العمل، فعلى سؤال حول هذا الموضوع جاءت الإجابة " يمكن تقديم القداس سرًا مع قبول الحسنة من أجل الجميع مؤمنين
وغير مؤمنين، أحياءًا وأمواتًا، على أن اللاهوتيين يرتابون فيما إذا كانت الثمرة التكفيرية تلحق غير المؤمنين.. بناء على المبادئ المعطاة في الجواب عن الأول جاز للأب أن يُقدّس لأجل الشخص الغير الكاثوليكي ويأخذ حسنة لقاء قداسه، سواء أكان هذا الشخص من
غير المؤمنين أم من الهراطقة، بشرط أن يكون التقديم قد تم سرًا لا علنًا"