فحص الذات
كان أحد المُتطلبات الهامة للاعتراف الفَّعال، وبصفة عامة لأي نوع من التقدُّم الروحي، هو أن يعرف المُبتدئ نفسه جيدًا جدًا ويكون قادرًا على عرض نفسه على أبيه الروحي كي يختار كطبيب ماهر الطريقة المُناسبة للتعليم و”الدواء“.
ومعرفة النَّفْس هذه هي ”بحق أصعب العلوم“ (54) تتطلّب فحصًا ذاتيًا مُدققًا للغاية وواعيًا، ولذلك يُؤكد الأدب الرَّهباني المُبكِر على الحاجة إلى الفحص المُدقِق للذَّات، فيعتبره القديس أموناس أحد الالتزامات الأولى الموضوعة على الراهب، ونقرأ في سيرة الأنبا أنطونيوس ”لِيُحاسِب كل إنسان نفسه عن أعمال النهار والليل“ (56) وأيضًا يقول أبو الرهبنة ”فليُلاحظ كلٍّ منّا نفسه ونكتُب أعمالنا ودوافِع النَّفْس“ (57)، ويقول برصنوفيوس أنَّ الراهب لابد أن يفحص ويُلاحظ أفكاره ويشرح كيف يجب أن يكون ذلك:
”عندما يأتيك فِكْر انتبه إلى ما يلده (هذا الفِكْر) وهاك مِثالًا: أنت تُفكِر أنَّ شخصًا ما قد أهانك ويُزعِجك فِكرك كي تُخبِره (تعاتبه) عندئذٍ قُل لفِكرك " إذا أخبرته فإني أغيظه وهو يحزن ضدي إذًا أنا أحتمِل قليلًا ويمُر الأمر"، لكن إذا لم يكُن الفِكْر تجاه إنسان آخر بل الإنسان في ذاته يُفكِر في الشر، إذًا لابد أن يبحث الإنسان عن الفِكْر ويقول "فِكْر الإنسان يقود إلى الجحيم " فتبطُل عنك (الأفكار) ومع سائر الأفكار اصنع هذا الأمر عينه“. (58)
وهكذا لم يكتفِ آباء البريَّة بالتأكيد على ضرورة فحص الذات ومُحاسبة النَّفْس فقط بل وأيضًا شرحوا كيف يتم فحصها، وكانت غايتهم مُحاربة التصورات والميول الشِّرِّيرة في بدايتها الأولى، وقد كان يوحنَّا الدَّرجي مُعبِرًا للغاية عندما كتب:
”اجلِس في مكانٍ عال وارصُد نفسك إن كان لك في الرصد دِراية، فتُبصِر حينذاك أي لصوص يأتونك ليدخلوا ويسرقوا عناقيدك وكيف ومتى ومن أين يأتون وما عددهم“. (59)
وقد أسهم هدوء البريَّة وسكونها وطبيعة الحياة الرَّهبانية التي بلا هَمْ، اسهامًا كبيرًا في عملية فحص الذات المنهجي التي يقوم بها الراهب.