تكلم جميع الآباء الذين ذكروا الإنجيل للقديس متى بالاسم عن الأصل الآرامي أو العبري الذي لهذا الإنجيل، وعلى رأس هؤلاء الآباء بابياس وإيريناؤس وبانتينوس مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية وأوريجانوس وأبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص وجيروم سكرتير بابا روما. وقد ناقش العلماء هذه المسألة كثيرًا، وكانت نتيجة دراستهم كالآتي:
إن الإنجيل اليوناني والذي كان بين أيدي أباء الكنيسة منذ فجرها وما يزال بين أيدينا برغم وضوح أصله السامي العبري اليهودي وثقافة كاتبة اليهودية العبرية والمليء أيضًا بالعبارات والاصطلاحات السامية اليهودية والذي يبدو واضحًا أن سلسلة الأنساب فيه وكذلك بقية الإصحاح الأول والثاني مأخوذان من أصل آرامي، إلا أنه مكتوب أصلًا باللغة اليونانية، فقد دُون وكتب في الأصل باللغة اليونانية وإن كاتبه عبري آرامي يهودي وكل ما فيه قد حدث وتم في فلسطين، وليس قيه سمات الترجمة، بل على العكس تمامًا إذ توجد فيه كلمات يونانية لا يوجد موازى لها في الآرامية، كما أقتبس كثيرًا، عند الإشارة لنبوات العهد القديم عن المسيح، من الترجمة اليونانية السبعينية Lxx، كما أقتبس أيضًا من الأصل العبري. وهناك أيضًا بعض الكلمات العبرية والعادات التي شرحها مثل قول السيد "إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني" (48)، وكذلك قوله "وكان الوالي معتادًا في العيد أن يطلق للجميع أسيرا واحدًا من أرادُوه" (49)، وأيضا قوله "فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم" (50)، وهذا يدل على إن القديس متى قد دون الإنجيل باليونانية وهو يضع في اعتباره المسيحيين خارج فلسطين.
تؤكد جميع الاقتباسات التي أقتبسها الآباء منذ فجر المسيحية وما بعد ذلك أنها مقتبسة من هذا الإنجيل اليوناني الذي كان مع الآباء وما يزال بين أيدينا.
وقد أكد الآباء أنفسهم، والذين اقتبسوا من الإنجيل اليوناني، والذي لم يكن بين أيديهم سواه أنهم اقتبسوا من الإنجيل الذي دونه القديس متى. كما أكدوا أن الإنجيل الذي كتب بالآرامية أو العبرية قد عرفوا عنه بالتقليد ولكنهم لم يروه وإنما رآه البعض مثل العلامة بنتينوس في جنوب الجزيرة العربية، وأيضا القديس جيروم الذي قال إنه رآه عند جماعة الابيونيين في سوريا ولكنه عاد وصرح بعد ذلك إنه لم يكن الإنجيل للقديس متى بل إنجيل العبرانيين وهو نسخة مشوهة عن إنجيل متى (51).
وقد ثار جدال حول عبارة بابياس "كتب متى الأقوال الإلهية باللغة العبرانية وفسرها كل واحد على قدر استطاعته" (52)، وتشبعت آراء العلماء والدارسين حولهاولكن هناك كثيرين غيره من الآباء بالإنجيل العبري أو الآرامي.
وهناك حقيقة هامة يجب أن لا تغيب عن أبصارنا مطلقًا، وهى أن جميع الآباء سواء الذين أشاروا إلى الإنجيل العبري أو غيرهم لم يكن لديهم سوى الإنجيل اليوناني والذي اقتبسوا منه وأشاروا انه هو الإنجيل الذي دونه القديس متى، وإن أقدم المخطوطات التي وجدت وترجع للقرن الثاني لهذا الإنجيل مكتوبة باليونانية وكذلك أقدم الترجمات مترجمة أيضًا عن اليونانية، وان الكنيسة تستخدم في قراءاتها في الخدمة الليتورجية سوى النص اليوناني، ولم تستخدم مطلقًا أي نص عبري للقديس متى أو غيره من كتاب الأناجيل.
ويقدم كثيرين من العلماء تاريخين لتدوين هذا الإنجيل الأول هو ما بين 40 و45م والثاني هو ما بين 60 و65م، إلى جانب أن كثيرين من العلماء يؤكدون أن القديس متى دون الإنجيل أولًا باللغة الإجرامية في فلسطين وبعد ذلك دون الإنجيل ثانية باللغة اليونانية دون التقيد بما دونه سابقًا بالآرامية، فهو لم يترجم النص العبري إلى اليونانية، بل دون الإنجيل واضعًا في اعتباره عند الكتابة إنه يقدم الإنجيل ليس لمسيحي فلسطين فقط بل لكل المسيحيين الذين من أصل يهودي في كل العالم.
وعلى كل حال فقد برهنت كل الأدلة على أن الكنيسة وكل آبائها وكتابها لم يستخدموا سوى هذا الإنجيل اليوناني مؤكدين جميعًا بالدليل والبرهان أن جامعة ومدونة وكاتبة بالروح القديس متى تلميذ المسيح ورسوله.
ويجب أن نضع في الاعتبار أيضًا أن هذا الإنجيل قد دون في الفترة الانتقالية للمسيحية التي لم تكن قد انفصلت نهائيًا عن اليهودية حين كان المسيحيون واليهود لا يزالون يعبدون معًا.