مزمور 126 (125 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
عبادة مقدسة متهللة
أو
فرح سماويِ مع نهر دموع مقدسة
يُعتبر هذا المزمور بداية المجموعة الثالثة، والتي تقابل سفر اللاويين، وهو السفر الخاص بالقداسة. فإن كان الله هو مخلصي الوحيد الذي يقيمني من القبر والموت (سفر التكوين)، ويهبني الحرية الداخلية من إبليس والطاغية والخطية (سفر الخروج)، فإن هذا السفر هو دعوة أن ننعم بالحياة المقدسة كأيقونة للمخلص القدوس. هذه القداسة تتحقق خلال رئيس الكهنة السماوي الذي قبل أن يقدم نفسه ذبيحة، وقدم لنا وصايا خاصة بالتطهيرات تتحقق خلال الطاعة لذاك القادر أن يحققها فينا. لذلك جاء هذا المزمور يكشف لنا عن جوهر العبادة لله، ألا وهو الدخول إلى عبادة مقدسة متهللة، لكي تتحول حياتنا إلى عربون الحياة السماوية، وتصير أيامنا أشبه بفرحٍ سماوي، سره الرجاء بما نناله، بالرغم مما نعانيه هنا من متاعب وتجارب.
وقد جاءت المزامير الثلاثة المقابلة لسفر اللاويين تكشف عن سمة العبادة الكنسية السماوية:
1. مزمور 126: عبادة مقدسة متهللة.
2. مزمور 127: عبادة لله باني البيت وحافظه.
3. مزمور 128: عبادة الأسرة المباركة.
المزمور أشبه بصيحات فرحٍ لا تنقطع! إذ يتحرر المؤمنون من سبي الخطية، ترتفع قلوبهم كما إلى السماء في نقاوةٍ وطهارةٍ وقداسةٍ، يتهللون بالقدوس العامل فيهم، يختبرون الحياة السماوية المقدسة المملوءة فرحًا لا يُنطق به.
يعتبر هذا المزمور أشبه بمرثاة وطنية، يشبه في صياغته مزمور 85، وفي أسلوبه إرميا 31، حيث يتذكر المؤمنون معونة الرب الخلاصية، إذ جاء بهم من السبي، وأنقذهم من البلاء أو المجاعة. هذا كان حال بعض الراجعين من السبي إلى أورشليم، كانوا كمن في حلمٍ من شدة الفرح. وكما قيل للشعب: "لا تحزنوا، لأن فرح الرب هو قوتكم" (نح 10: 8). هذه صورة مبسطة لما يكون عليه حالنا حين ننطلق إلى الفردوس.
* هذا المزمور الذي يتحدث إلى روح المصممين على الاستمرار في الرحلة الروحية إلى الله، يناسبنا تمامًا ليعيننا في أوقات الحزن والكآبة. هذا العالم هو دون شك وادي الدموع الذي فيه يزرع الإنسان وهو باكٍ. إنه يسندك لتستمر في إيمانك. على أي الأحوال، إن شرحت ما يعنيه هذا السفر بالبذور التي نزرعها الآن.
هذه البذور هي الأعمال الصالحة التي خلقها الله لكل واحدٍ منا أن نفعلها (أف ٢: ١٠). وقد خطط لنا أن نقمها بقوة روحه في وسط أتعاب هذه الحياة المضطربة.
من يتعلم أن يمارس عمل الله في هذا العالم -وادي الدموع والأتعاب هذا- يصير متهللًا مثل المزارع المُجِدْ الذي يزرع البذار حتى في موت الشتاء، فهل تقدر الرياح الباردة والجو القاسي أن يمنعه عن العمل؟ حتمًا لا! هكذا يليق بنا أن نتطلع إلى متاعب هذه الحياة. تُلقى الملاهي في طريقنا بواسطة الشرير، بقصد أن نَحد عن الأعمال الصالحة التي خُلقنا لكي نعملها. تطلعوا ماذا يقول المرتل: "من يخرج باكيًا..." بالحق يجد علة للبكاء، يجد كل واحدٍ منا ذلك. ومع هذا يلزمنا أن نسير، ممارسين أعمال الله الصالحة في طريقنا.
كم نكون بائسين إن كنا قد دُعينا للعمل بجديةٍ لكي نبكي فقط دون التطلع إلى أية ثمرة لعملنا. يا لنا من بائسين إن كنا لا نجد أحدًا يمسح دموعنا.
لكننا نعرف أن الروح القدس يعمل لكي نستمر في الغرس وسط دموعنا. لأن الروح يعدنا خلال المرتل أننا نعود مندهشين بالفرح! نحمل ثمر تعبنا كتقدمة له[1].
القديس أغسطينوس
1. حياة مفرحة فائقة
1.
2. عمل إلهي مفرح
2-3.
3. ينابيع مبهجة
4-6.
من وحي المزمور 126
1. حياة مفرحة فائقة
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
عِنْدَمَا رَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ صِهْيَوْنَ،
صِرْنَا مِثْلَ الْحَالِمِينَ [1].
إذ يبلغ المؤمنون مدينة أورشليم يحسبون أنفسهم أشبه بمن هم في حلمٍ، فلا يصدقون أنهم تحرروا من السبي، وانطلقوا إلى وطنهم أو مدينتهم السماوية أورشليم العليا أمنا.
ليس شيء يفرح قلب الإنسان مثل التحرر من سبي الخطية ليعيش في حرية مجد أولاد الله. لا سلطان للخطية ولا لإبليس عليه. يعيش كملاك الرب، كمن في حلمٍ لا سلطان للإنسان العتيق عليه، وليس للعالم أو ظروفه أن تحبس نفسه.
يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن نوعين من السبي، سبي صالح وآخر شرير. الأول كما يقول الرسول بولس: "مستأسرين كل فكرٍ إلى طاعة المسيح" (2 كو 10: 5)؛ والثاني السبي تحت سيدة قاسية وعنيفة ألا وهي الخطية: "يسبون نُُسيَّات محملات خطايا" (2 تي 3: 6).
* أسألكم أن نتجنب تسلطها بحذرٍ شديدٍ، محاربين ضدها دون أن نتصالح قط معها، وما أن نتحرر منها حتى نبقى في حرية. فوق هذا كله كما أن هذا الشعب عندما تحرر من المتوحشين صاروا في راحةٍ، يلزمنا بالأكثر أن نفرح ونتهلل عندما نتحرر من الخطية ونحافظ على هذا الفرح الخالد عوض إفساده وتشويهه بالانشغال في ذات الرذائل[2].
* انظروا من أين صرنا مسبيين، لأننا صرنا مبيعين تحت الخطية. من الذي باعنا؟ نحن أنفسنا الذين قبلنا المخادع. أيمكننا أن نبيع أنفسنا لكننا لا نقدر أن نُفدي أنفسنا. بعنا أنفسنا إذ قبلنا الخطية، ونحن نخلص بإيمان البرّ. فقد قُدم البار لكي نخلص... سفك دمًا واحدًا له، هذا الذي لم يصر بارًا، بل وُلد بارًا[3].
* لقد فرحنا إذ ننال تعزيات... نحن نحزن على نصيبنا الحاضر، ونحن في راحة بالرجاء. عندما يعبر الحاضر عِوَض الحزن يأتي الفرح الأبدي، حيث لا نحتاج إلى تعزية، حيث لا نُصاب بأية كارثة. لذلك يقول: "مثل" فإنهم في راحةٍ، ويُقال عنهم إنهم ليسوا في راحة. كلمة "مثل" ليست دائمًا تُعني الشبه، وإنما تُشير أحيانًا إلى حالة واقعة وأحيانًا إلى شبه. هنا تُشير إلى حالة واقعة... لذلك اسلكوا في المسيح، وسبحوا فرحين، سبحوا كمن هم في تعزية، لأنه يسير أمامكم ذاك الذي يأمركم أن تتبعوه[4].
القديس أغسطينوس
2. عمل إلهي مفرح
حِينَئِذٍ امْتَلأَتْ أَفْوَاهُنَا ضِحْكًا،
وَأَلْسِنَتُنَا تَرَنُّمًا.
حِينَئِذٍ قَالُوا بَيْنَ الأُمَمِ:
إِنَّ الرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ الْعَمَلَ مَعَ هَؤُلاَءِ [2].
يا له من مزمورٍ بديعٍ! لقد تراءت أمامهم العودة من السبي البابلي حتى قبل حدوث السبي الذي دام سبعين عامًا. لكن هذه العودة المفرحة إلى أورشليم ليست إلا عربون للعودة إلى الوطن السماوي.
الذين عادوا إلى وطنهم من السبي، عبَّروا عن فرحهم بالترنم، فامتلأت أفواههم بالضحك الروحي المبهج، وصاروا يسبحون الله الذي بذراعه ردهم إلى أرض الوعد. كان على كورش ملك فارس ومادي - الذي يمثل الأمم - أن يعترف ويقر بيد الرب القوية وذراعه الرفيعة. هذا الذي تنبأ عنه إشعياء النبي قبل مولده بأكثر من خمسين سنة.
عادوا بهتافات الفرح ليبنوا الهيكل، ويستعيدوا أسوار المدينة. إنها عربون ما ناله على مستوى سماوي أبدي.
* هذا الفم يا إخوتي الذي أعطانا الرب إياه... نأخذه لكي نملأه بالفرح والتسبيح، لا بالأطعمة والشراب أو بكلام السفاهة أو شبه ذلك.
* هذا الفم يا إخوة الذي لنا في جسمنا كيف يُقال عنه: "امتلأ فرحًا" إنه يستخدم لكي يمتلئ بالطعام والشراب وغير ذلك مما يوضع في الفم... وعندما يمتلئ الفم... لا نقدر أن نتكلم. لنا فم في الداخل، أي في القلب، هذا الذي إن أصدر شرًا يُدنسنا، وإن صلاحًا يُطهرنا. عن هذا الفم تسمعون عندما يُقرأ الإنجيل... يطلب الرب طهارتنا الداخلية، التي إن اقتنيناها يحتاج الخارج أيضًا أن يتطهر يقول: "نقِّ أولًا الداخل.. لكي يكون خارجهما أيضًا نقيًا (راجع مت 23: 26)[5].
* احفظوا فم قلوبكم من الشر، فتكونوا أبرياء. سيكون لسان جسدك بريئًا، ويدا جسدك ستكونان بريئتين، حتى القدمان والعينان والأذنان أبرياء. كل أعضائك ستخدم في براءة، لأن القائد البار هو قلبك. "حينئذٍ قالوا بين الأمم إن الرب قد عظم العمل مع هؤلاء"[2][6].
القديس أغسطينوس
تقف الأمم في دهشة كيف تمتلئ قلوبنا فرحًا وألسنتنا تسبيحًا وسط متاعب هذه الحياة وتجاربها. إنهم يلتزمون بالشهادة أن هذا لن يكون عملًا طبيعيًا، إنما هو عمل الله فينا.
* تمتلئ أفواهنا فرحًا لعدم نطقنا بكلام الضجر أو الشتائم لبعضنا البعض، أو بكلام السفاهة أو الفحشاء؛ بل تمتلئ ألسنتنا تهليلًا بدراستنا كلام الله بالحكمة والشكر له، وذلك لأننا عُتقنا من بيت العبودية.
* التكرار هنا لم يحدث بلا معنى، إنما ليؤكد الفرح العظيم الذي حدث. في عبارة يؤكد الفرح بين الأمم، وفي عبارةٍ أخرى الفرح العظيم الذي لديهم هم[7].
عَظَّمَ الرَّبُّ الْعَمَلَ مَعَنَا،
وَصِرْنَا فَرِحِينَ [3].
إذ تقدم عبادة مقدسة للرب، يقف الذين في الخارج في دهشة أمام الفرح العظيم الذي يحل بنا.
* التهليل عند التحرر من السبي ليس بالمساهمة البسيطة للتحول إلى ما هو أفضل.
إنه يسأل من لا يفرح لهذا؟ عندما تحرر أسلافهم من مصر، وتحولوا عن العبودية الرهيبة إلى الحرية، تحت تأثير تمرمرهم الجاحد في وسط البركات التي نالوها ذاتها صاروا ساخطين وناقمين وبقوا في حزنهم. هذا لا يليق بنا، فإنهم اشتكوا، أما نحن فنفرح ونتهلل... إننا نتهلل ليس فقط لأجل التحرر من الكارثة، وإنما لأن كل واحدٍ سيتحقق من رعاية الله لنا[8].
* كورش نفسه كمثالٍ، الذي كانوا تحت سلطانه حررهم دون أن يسألهم أحد، لكن الله ليَّن موقفه، ولم يحررهم فقط بل وقدم لهم عطايا وهدايا (عز 1: 1-4)[9].
* ضعوا في اعتباركم يا إخوة إن كانت صهيون لا تقول هذا اليوم بين الأمم، خلال العالم كله، لكن ألا يجري البشر إلى الكنيسة[10].
القديس أغسطينوس
3. ينابيع مبهجة
ارْدُدْ يَا رَبُّ سَبْيَنَا،
مِثْلَ السَّوَاقِي فِي الْجَنُوبِ [4].
إنها صرخة المرتل إلى الله، لأنه رأى أن كثيرين رغبوا في البقاء في بابل، ولم يقبلوا التحرر من سبي بابل.
بدأ المرتل المزمور بالتسبيح للرب لأنه رد سبي صهيون، فكيف يطلب الآن: "أردد يا رب سبينا"؟
قديمًا حين أصدر كورش مرسومًا بالسماح لليهود بالرجوع إلى أورشليم، رجع حوالي خمسين ألفًا فقط، واستحسن الباقون البقاء في بابل، لأنهم أقاموا مشاريع تجارية، وحسبوا الرجوع إلى أورشليم فيه خسائر مادية فادحة. لقد تهلل المرتل بالراجعين من السبي، لكنه يبقى يصرخ إلى الله حتى يرجع آخر إنسان ويتحرر!
هكذا مع تهليل نفوسنا بعمل الله معنا، لن تستريح نفوسنا حتى نرى كل البشرية تتمتع بالخلاص، وتتذوق فرح الإنجيل.
يشبه المرتل الكنيسة بالسواقي في الجنوب. فإنها تفيض بمياه النعمة الإلهية حتى تضم كل يوم الذين يخلصون، أو الذين يتحررون من سبي الخطية. كما تسبب الأمطار اندفاعًا مفاجئًا للمياه عبر القنوات الجافة الفارغة في نجب (جنوب أورشليم)، هكذا يجدد الرب حياتنا.
في العهد القديم تشير ريح الجنوب عادة إلى حرارة الروح أو عمل الروح القدس الناري، بينما تشير ريح الشمال إلى برودة الروح بالشر.
* هذا المزمور يعني أن السيل يتدفق بعد هبوب ريح الجنوب الدافئة، تلك إشارة إلى الروح القدس الذي يفتقده القلب المتحجر بالخطية، والذي تجمد مثل الثلج لتراكم الشرور فيه، كذا حينما يذيب الروح القدس الثلوج المتجمدة فيه تهطل الدموع عندئذ كالسيل.
الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ،
يَحْصُدُونَ بِالاِبْتِهَاجِ [5].
يقف المؤمن في دهشة، يمتلئ قلبه بالفرح السماوي، فيشعر كأن السماء قد احتلت قلبه، أو ارتفع إلى السماء. وتنهار الدموع في أعماقه لتحطم الفرح أو تحجبه، بل لترويه وتغذيه. تُرى هل تحول القلب إلى سماء متهللة أم نهر دموع يسقي مدينة الله التي في داخله.
إن ضحك العالم يتعارض مع الدموع، أما الضحك الروحي، فيتناغم مع الدموع الروحية، يعملان معًا كأختين شقيقتين!
مسيحنا مصدر الفرح الحقيقي يقودنا في طريق الدموع ليعبر بنا إلى فرحه السماوي. لقد بكي على لعازر كما على أورشليم وأيضًا في بستان جثسيماني. لقد وعدنا: "ستحزنون، ولكن حزنكم سيتحول إلى فرحٍ" (يو 16: 21). هذا هو حصاد الدموع المقدسة.
كان داود يعوِّم كل ليلة سريره وبدموعه يبل فراشه (مز51)، ويقول إرميا النبي: "يا ليت رأسي ماءً، وعينيَّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا" (إر 1: 10)
يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [هذه الدموع هي مجاري المياه التي تفرح مدينة الله (مز 46: 4).]
يرى القديس أغسطينوس أن هذه الدموع تسقي بذرة الإيمان التي في قلوبنا.
* يلزمنا أولًا أن نتعب ونجاهد وعندئذ نطلب الراحة. إنكم تجدون هذا يحدث في كل موضعٍ حتى في أمور هذه الحياة. لذلك يركز المرتل على هذه الأمور: الغرس ثم الحصاد. فكما أن الغارس يحتاج أن يبذل جهدًا وعرقًا ودموعًا... هكذا من يمارس الفضيلة. ليس شيء غير لائقٍ مثل التهاون بالنسبة للإنسان. لذلك جعل الله هذا الطريق ضيقًا وكربًا، ليس فقط في ممارسة الفضيلة، بل وحتى في شئون هذه الحياة، فقد جعلها متعبة، بل في الواقع أكثر من هذا. أقصد أن الغارس والبناء والمسافر والنجَّار والفنان، كل شخص في ذهنه يود أن يقتني ربحًا، يلزمه أن يتعب ويقدم جهدًا. كما تحتاج البذور إلى مطرٍ، هكذا نحتاج نحن إلى دموعٍ، وكما أن الأرض تحتاج إلى حرثٍ وحفر هكذا تحتاج النفس إلى متاعب، عوض المجرفة التي تُعزق بها التربة، حتى لا يوجد بها أعشاب مؤذية، ويتحول جمود الأرض إلى اللين... التربة التي لا تُعامل بالتعب لا تقدم شيئًا صالحًا[11].
* في هذه الحياة المملوءة بالدموع، لنزرع. ماذا نزرع؟ الأعمال الصالحة. أعمال الرحمة هي بذورنا. عن أية بذور يتحدث الرسول؟ "فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل" (غل 6: 9)...
ليس من حقلٍ متسعٍ أكثر من المسيح، يمكننا أن نزرع فيه، هذا الذي أراد منا أن نُغرس فيه. تُربتك هي الكنيسة، اغرس فيها قدر ما تستطيع. لكن ليس لديك القدرة الكافية لتحقيق ذلك.
هل لك الإرادة الصالحة؟ فإن كل ما تفعله يُحسب كلا شيء ما لم يكن لديك الإرادة الصالحة، لا تكتئب إن كان ليس لديك ما تود أن تفعله مادام لك الإرادة الصالحة.
ما هو الذي تغرسه؟ الرحمة! وما الذي تحصده؟ السلام!
هل قالت الملائكة: "وعلى الأرض السلام للأغنياء"؟ لا، بل قالت: "على الأرض السلام للناس الذين لهم إرادة صالحة" (راجع لو 2: 14). كان لزكا إرادة صالحة، وكانت له محبة عظيمة (لو 19: 8)[12].
القديس أغسطينوس
* "وعند المساء يبيت البكاء... وفي الصباح ترنم" (مز 30: 6). تذكر أوقات الآم الرب... لتفهم ما أقول... في المساء بكى تلاميذ الرب عندما رأوه معلقًا على الصليب... وفي الصباح تعالت أصوات الفرح بعد القيامة... ركضوا في فرح يبشرون بعضهم البعض بالبشارة المفرحة... لقد رأوا الرب.
وإذ تكلمنا بصفة عامة... يشير المساء إلى الحياة في هذا العالم... فالذين يبكون... بالفرح يتعزون حينما يأتي الصباح "طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون" (مت5: 4) طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون" (لو6: 21) والذين أمضوا حياتهم... التي اقتربت من نهايتها... واقترب غروب شمسها... يقاومون الخطية بدموعٍ... سيفرحون عندما يأتي الصباح الحقيقي... "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج" (مز126: 5) في المستقبل[13].
* أما من جهة الطعام، فلتكن هذه هي قوانينك، إذ توجد عثرات كثيرة من جهته. فالبعض لا يبالي بما يقدم للأوثان. بينما يدرب البعض نفسه (على عدم أكله)، لكنهم في نفس الوقت يدينون من يأكلون منه. وهكذا بطرق متنوعة تتدنس نفوس البشر في أمر الأطعمة بسبب جهلهم الأسباب المعقولة النافعة للأكل أو الامتناع عنه.
فنحن نصوم ممتنعين عن الخمر واللحوم، ليس احتقارًا لهما كأشياء دنسة، بل أملًا في المكافأة. فنستهين بالأمور المادية لكي نتمتع بالوليمة الروحية العقلية، وإذ نزرع الآن بالدموع نحصد في العالم الآتي بالفرح (مز 126: 5)[14].
القديس كيرلس الأورشليمي
* لنزرع بالدموع كي نحصد بالفرح. لنظهر أنفسنا شعب نينوى، لا شعب سدوم (تك 19: 17، 23). لنصلح شرنا حتى لا نهلك. لننصت إلى كرازة يونان لئلا تكتنفنا النار والكبريت[15].
القديس غريغوريوس النزينزي
* يعتقد الكثيرون أن هذه الفكرة (الواردة في ميخا 6: 3) يلزم أن تُنسب للرب يسوع، فإنها تخصه وحده، إذ لا يخشى المحاكمة. إنه ذاك الذي يغلب متى حُوكم (مز 51: 4). بالحقيقة يحاكمه الإنسان الظالم، ويدخل بإرادته في المحاكمة، إذ كُتب: "يا شعبي، ماذا صنعت بك؟ وبماذا أضجرتك" (مي 6: 3). لكن حيث أن الآب يعطي كل الحكم له (يو 5: 22)، ليس لمن هو ضعيف، بل للابن، فأي حكم يمكن أن يعاني منه؟[16].
* آلام الزمان الحاضر التي تحدث من أجل الحق، لا يمكن أن تُقاس بالمجد العتيد المهيأ للذين يجتهدون في الأعمال الصالحة (رو 8 :18). وكما إن حزم الفرح (أشبه بحزم القمح) هي من نصيب الذين يزرعون بالدموع، هكذا الفرح يتبع الذين يتألمون من أجل الله. كما أن الخبز الذي يُقتني بعرقٍ كثيرٍ يبدو حلوًا للزارع، هكذا عذبة هي الأعمال من أجل البرّ في قلوب الذين نالوا معرفة المسيح[17].
* ليته لا يخدع أحد نفسه يا إخوة ليس من وقت للضحك في هذا العالم. أنا أعلم أن كل أحدٍ بالحقيقة يريد أن يفرح، لكن ليس الكل يطلب الفرح في الموضع الذي يليق به[18].
* "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح". قد يقول قائل: من المجحف أن نبكي، ومن الصعب تحمل الحزن. إن قيل هذا في وسطكم، فإنكم تدركون بصبر القلب الجمال الباهر الناتج عن الحقول تمامًا. فإن تأملتم بما فيه الكفاية في هذا لبدا لكم أنه ينشئ قبحًا، لكنه يثمر فيما بعد ثمارًا كثيرة. لهذا يليق بنا أن نراعي باجتهاد ألا نذرف دموعنا على الخسائر الأرضية، بل في اشتياق إلى الحياة الأبدية[19].
* إذ نفكر في حال ضعفنا وكثرة التجارب وزحف الخطايا ومقاومة الشهوة وقوة الشهوات المدمرة التي تثور دائمًا ضد الأفكار الصالحة، نحزن على الدوام ونتأوه. حينئذ نتأهل أن نتهلل إلى الأبد في زمن الفرح والراحة والسعادة والحياة الأبدية القادمة[20].
* حينما ترون نفسًا نُفَّلح حسنًا، فتزرع بالدموع وتستعد للحصاد بصرخات الفرح (مز 126: 5)، فإن هذا الحقل المفَّّلح له ملك، اللوغوس، الذي يقود ويحكم ويملك[21].
* بالنسبة للذين يريدون العمل لا المسترخين، توجد الحياة السعيدة، ولا ينقصهم وجود السكون[22].
القديس كيرلس الكبير
الذَّاهِبُ ذِهَابًا بِالْبُكَاءِ،
حَامِلًا مِبْذَرَ الزَّرْعِ،
مَجِيئًا يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ،
حَامِلًا حُزَمَهُ [6].
يرى القديس أغسطينوس في مثل السامري الصالح الذي يرمز للسيد المسيح بكونه الحارس الصالح، صورة واقعية للمؤمن الذي كان نازلًا من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوصٍ، عروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حيّ وميت (لو 10: 30 الخ). لقد تحنن عليه السامري الصالح وصعد به إلى الفندق (غالبًا في أورشليم) واعتنى به.
يطالبنا القديس أغسطينوس ألا نرتبك بسبب نزولنا وسقوطنا بين أيدي اللصوص، فإن مسيحنا يود أن يحملنا ويصعد بنا إلى كنيسته المقدسة. في صعودنا معه ننسى جراحاتنا وتتهلل نفوسنا وتسبح وتشكر، وتتقدم روحيًا، وتستقر في الفندق السماوي!
* ليتنا لا نفشل في غرس بذورنا وسط المتاعب. فإننا وإن كنا نزرع بالدموعٍ فسنحصد بالفرح... إن كنا قد نزلنا وجُرحنا، فلنصعد (مع السامري الصالح)، ولنغنِ، ونتقدم، حتى نصل إلى الموقع (أورشليم)[23].
القديس أغسطينوس
* لا يكذب المسيح حينما يقول في شخص رسوله: "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد"، وبعون الله لنسعى على الدوام أن نزرع في حقل قلوبنا بالقراءة والصلاة والأعمال الصالحة. هذه التي بما نحصد البرّ والرحمة في اليوم الآتي، يوم الدينونة. عندئذ يتحقق فينا المكتوب: "الذاهب ذهابًا بالبكاء حاملًا مبذر الزرع مجيئًا يجيء بالترنم حاملًا حزمة". خلال هذا الفرح يقودكم الرب الصالح الذين مع الآب والروح القدس، هذا الذي يحيا ويملك بلا نهاية[24].
* إنه لا يتحدث عن المحاصيل بل عن الحياة العادية، يعلم المستمعين إليّ ألا يحزنوا في التجارب. فكما أن الباذر لا يحزن مع وجود أثقال كثيرة، إذ يتطلع إلى جني المحاصيل، هكذا الشخص الذي في التجربة لا يستثقل هذا، مهما تكن المتاعب، فإن انتظار المحصول يحفظ الذهن خاضعًا للتجارب. لنضع في ذهننا أن نشكر على التجربة كما على التحرر منها[25].
* هل ترون أيها الأعزاء المحبوبون عظمة المنفعة الصادرة عن التجارب التي تحل (بالبار)؟ ألا ترون عظمة مكافأة احتماله؟ ألا ترون الرجل وزوجته المتقدمين في العمر، فمع كونهما هكذا يشهدان عن إحساسهما الصالح، وشجاعتهما ومحبتهما الواحد للآخر.
ما هو مثل هذا الرباط من الحب؟ لنتمثل نحن جميعًا بهذا ولن يحل بنا اثباط الهمة أو نحسب أن حلول الضيقات علامة على ترك الله لنا أو دليل على الاستخفاف بنا. بالحري ليتنا نتعامل معها كأوضح دليل على العناية الإلهية من نحونا[26].
* حقًا أشرقت نعمة الله على يُوسفَ حتى في صباه. لأنه حَلَم حُلمًا: أنه بينما كان يحزم حُزمًا مع إخوته (في الحقل). قد رأى في الرؤيا أن حزمته قامت فانتصبت بينما انحنت حُزَمُ إخوته وسجدت لها (تك 5:37-8). وهكذا استعلنت له قيامةُ المسيح العتيدة، فعندما رأوه في أورشليم، انحنى له الأحدُ عشر تلميذًا وكل القديسين، وحينما يقوموٍن، ينحنون حاملين ثمار أعمالهم الصالحة، كما هو مكتوب "مجيئا يجيئون بالفرح (الترنم) حاملين حُزمَهم" (مز 6:126). وبالرغم من أن إخوته ازدروا بالحلم، وأنكروا واقعيته، بدافعٍ من حسدهم، إلا أنهم عبَّروا عن تفسيره له بكلامهم حينما أجابوا: "ألعلك تملك علينا ملكا؟" (تك 8:37)؛ لأن تلك الرؤيا حدَّدت الملِكَ الآتي، وقداّمه يسجد كلُ ذي جسدٍ بشرىٍ بركبٍ منحنيةٍ (راجع في 10:2)[27].
من وحي المزمور 126
يا لعظم حبك يا واهب القداسة
* في وسط وادي الدموع،
تشرق عليّ بنور حبك الفائق،
تدخل بي إلى عربون السماء،
وتحول حياتي إلى عيدٍ لا ينقطع!
تحررني في كل يومٍ من سبي الخطية،
وتطلقني لأنعم بمجد أولاد الله.
* تحررني من سبي إبليس،
وتنعم عليّ بسبي الفائق حبك لي.
لا تعود عيناي ترتكزان على خطاياي وضعفاتي،
إنما على أعمالك الفائقة!
صرت كمن في حلمٍ،
ليس من لغةٍ تعبر عن ما وهبتني،
فكم بالأكثر ما تعده لي في يوم مجيئك،
حين أراك وجهًا لوجهٍ!
* ملأت فمي ضحكًا روحيًا، ولساني تهليلًا.
بالفرح الفائق أشهد لعظمة أعمالك فيّ ومعي.
صار ليّ الفرح طعامًا يملأ فمي، ويشبع نفسي.
لم يعد ما يشغلني هو الأكل والشرب.
لأنك أنت هو الخبز النازل من السماء.
من يأكل منك لا يعرف إلا الشبع والتهليل!
* كلما امتلأت أعماقنا بالفرح بك،
تلتهب مشاعرنا بالشوق أن يشاركنا الكل هذا الفرح.
في بيتك نفرح بالقداسة التي تُسكب فيه،
لكن متى تتقدس البشرية كلها لك؟!
* وسط فرح الروح الفائق تنعم عليّ بدموع الحب.
تجري دموعي كنهرٍ يفرح مدينة الله!
تصرخ دموعي إليك:
يا من تحنو على تنهدات القلب ودموعه الخفية.
دموعي تسقي جنة قلبي الخفية،
فتحمل ثمارًا هي من عمل روحك القدوس.