اختيار الراغبين في سلك الرهبنة
ما أن يحط الشاب رحاله في الدير حتى تتم عملية الاختبار. وفترة الاختبار هامة وضرورية جدًا لكلا الطرفين الدير (مجمع الرهبان) وطالب الرهبنة.
فالدير يتيح للشاب فرصة التعرف على كل جوانب الرهبة، وتقاليدها ودروب نسكها وفلسفتها.
فهناك العديد من الشبان الذين كونوا فكرة خيالية عن الرهبنة وذهبوا بعيدا في تصورهم للنسك والفضيلة المعاشة (داخل الأسوار).
وربما حلق الشاب بأفكاره في آفاق واسعة بعيدة.. مع القديسين انطونيوس وآمون وبقية كواكب الرهبنة، فإذا ما صادف تصرفًا معينًا أو موقفًا غريبًا سبق هو فاستبعده عن ذهنه كلية، ناسيًا أن الدير موضع جهاد وأن الراهب أي راهب، كان شابًا في العالم ولن يستطيع التخلص من كل ضعفاته ونقائصه في عامه الأول للرهبنة، أو سنواته الأولى، فإذا به يشك ويعثر ويتراجع مصدومًا.
وقد لا يستريح للبقاء في الدير، قد لا تتفق رغباته مع امكانيات الدير وظروفه، وقد لا يتفق مع الرهبان كأشخاص، وقد لا تستهوية الرهبنة كنظام وحياة، ويقفل راجعًا من حيث جاء، طارقًا سبلًا أخرى لخلاصه.
ويجدر بنا هنا أن نضيف شيئًا إلى فكرة الاختبار، وهو أن الدير يرغب في التأكيد من ميول الشاب واستعداداته الطيبه للنمو المستمر، والتقدم من مجد إلى مجد وإقتناء الفضائل الواحدة تلو الأخرى.
فقد يغفر الدير لطالب الرهبنة (تصرفًا معينًا) ولكن احساسه بأن هذا التصرف جاء نتيجة سبب عضوي أو نفسي، لن يستطاع علاجه في الدير، واصبحت مثل تلك التصرفات شبه عادات ثابته راسخة داخل كيانه،الأمر الذي يؤكد عدم تناسب الطريق مع ذلك الراغب في الرهبنة اعتذر الدير في هدوء وصراحة مع ملاحظة التفاوت بين تصرف وآخر أو عادة وأخرى.
وأما إن صادف الدير قبولًا عنده، واستهوته تلك الحياة بما فيها ومن فيها، وأحس أنه وجد ضالته المنشودة، عًم السلام داخله، وملأ الشكر قلبه، وانتظر في هدوء وصمت رأي الدير.
وفي القرون الأولى للرهبنة- كان لقبول طالب الرهبنة شروطًا قاسية قد لا يتحملها الكثير من شباب اليوم.
ونسمع في السنوات القليلة الماضية أن أحد رؤساء الأديرة أراد أختبار طالب للرهبنة فطلب إليه أن يجرد بعض (قناديل الذرة) مما عليها من الذرة ويفرز الذرة وحدها والسيقان وحدها، ثم أشار بيده إلى الحجرة الموجود بها تلك القناديل، فإذا بها مملؤة على آخرها.
ولكن ذلك الشاب أطاع، ومكث أيامًا بلا ملل أو كلل، بل بفرح وطول أناه حتى أتى على آخرها، فسر به رئيس الدير وابتهج له قلبه واستراحت احشائه.