مزمور 89 - تفسير سفر المزامير
ميثاق أبدي
يُعتبر هذا المزمور هو الأخير من الكتاب الثالث لسفر المزامير (مز 73-89). يُختم الكتاب بمزمور خاص بالميثاق الأبدي بين الله والملك داود، وهو ميثاق يمس حياة كل مسيحي حقيقي، حيث يملك الملك الحقيقي ابن داود على القلب أبديًا.
أساس هذا المزمور الميثاق الذي فيه أعلن الرب لداود خلال ناثان النبي: "مملكتك إلى الأبد أمامك، كرسيك يكون ثابتًا إلى الأبد" (2 صم 7: 16). هذا الوعد الإلهي يحمل نبوة صريحة عن السيد المسيح الذي من نسل داود، يملك في كنيسته إلى الأبد.
وُضع هذا المزمور غالبًا في وقت كان الشعب يعاني فيه من الضيق، حتى حسب كأن الله قد نسي وعده. وهو نبوة أيضًا عن الآم السيد المسيح والآم كنيسته التي تدفع تجديد العهد دائمًا مع تأكيد محبة الله الثابتة وأمانته في عهده[1].
1. تسبحة افتتاحية
1-4.
2. إله الميثاق
5-14.
3. الشعب والميثاق الإلهي
15-18.
4. بنود الميثاق
19-37.
5. الإنسان كاسر الميثاق
38-45.
6. استغاثة
46-51.
من وحي مز 89
العنوان
قَصِيدَةٌ لأَيْثَانَ الأَزْرَاحِيِّ.
عنوان هذا المزمور كما ورد في عظات القديس جيروم عن المزامير: "عن الفهم لإيثان الأزراحي". هذا العنوان في فكره يكشف عن ما يدور في المزمور. فإن كانت كلمة "إيثان" معناها "القوي" أو "الشجاع"، والأزراحي" معناها "الذي ينال عونًا من الرب". فإن هذا المزمور الذي فيه وعد من قبل الله بقسمٍ "حلفت لداود عبدي: إلى الدهر أثبت نسلك، وابني إلى دورٍ فدورٍ كرسيك" (مز 89: 3-4)، إنما هو قسم لنا نحن المؤمنين، لنفهم ما هو القسم الإلهي الذي يقدم لمن هم أقوياء وشجعان، يتمتعون بالعون الإلهي. يقول القديس جيروم: [بالحق يُقدم ذاك الوعد عن المسيح لنا نحن، حيث يحمل معنى سرِّيًا[2].]
هذا الوعد الإلهي لن يخيب، فإنه وإن كان لا يتحقق حرفيًا بالنسبة لليهود، لكنه يتحقق سرِّيًا بالنسبة لنا، حيث يجلس السيد المسيح الذي من نسل داود على كرسي العرش في كنيسته، كما في قلب كل مؤمنٍ!
* ليس إنسان في ذاته قوي إلا بالرجاء في وعود الله، فإنه بحسب استحقاقاتنا نحن ضعفاء، وبرحمته نحن أقوياء. هو ضعيف في ذاته، قوي برحمة الله. لذلك يبدأ المرتل هكذا: "بمراحم الرب أغني إلى الدهر. لدورٍ فدورٍ أخبر عن حقك بفمي" [1][3].
1. تسبحة افتتاحية
واضح أن المزمور وُضع في وقت بدا كأن الله قد نسي عهده أو الميثاق الذي أقامه مع داود عبده، لكن الكاتب يبدأ بالتسبيح والإعلان عن ثقته في مراحم الله الدهرية، وثبات حقه وأمانته في عهده مع مختاريه، وأن السماء تشهد لعجائبه التي يصنعها في جماعة القديسين. هذا الخط يكرره عدة مرات في المزمور.
بِمَرَاحِمِ الرَّبِّ أُغَنِّي إِلَى الدَّهْرِ.
لِدَوْرٍ فَدَوْرٍ أُخْبِرُ عَنْ حَقِّكَ بِفَمِي [1].
يعلن الكاتب بهجته وتهليله بمراحم الله تحت كل الظروف وفي كل الأوقات، ويخبر بحقه الإلهي، يبقى أمينًا في وعوده وعهوده. إنه أمين مع كل جيل، فلا يخاف أو يضطرب من جهة المستقبل.
* "بمراحم الرب أغني إلى الدهر". لم يقل المرتل: "برحمة"، بل "بمراحم". إن كانت الخطية هي واحدة، فإن الرأفة تكون واحدة. ولكن إذ الخطايا كثيرة، فكثيرة أيضًا هي مراحم الله. بمراحمك يا رب "أغني لك إلى الدهر"، فقد اقتنيت مراحم إلى الأبد. لذلك يليق بي أن أسبح إلى الأبد، لأن علة تسبيحي أبدية. من يغني يطرد الحزن، ويطرد الخوف، ويقيم الفرح، لأنه يقتني الرحمة. هذا إذن ما يقوله النبي: لأن خطاياي مغفورة خلال رأفة الله، لهذا أبقى أغني بمراحمه. ما يعنيه بقوله "إلى الأبد" هو: إذ تتعطف عليّ، لا لوقتٍ قصيرٍ بل إلى الأبد، فمن جانبي أسبحك إلى الأبد، ولن أتوقف، لأنك تخلصني أبديًا.
"لدورٍ فدورٍ أخبر عن حقك بفمي" (مز 89: 1) يا لعظمة تسلسل المزمور! لم يبدأ المرتل أولًا بالحق وبعد ذلك بلغ إلى الرحمة. إنما نال أولًا الرحمة وبعد ذلك بلغ إلى الحق عندما نال غفران الخطايا. بالحق عندما كنت خاطئًا لم أجرؤ أن اقترب من الحق. ولكن عندما نلت الرحمة عندئذ بقلب شجاع بلا خوف أعلنت عن الحق. عندما قال: "لجيلٍ (لدورٍ) فجيلٍ" تكلم حسنًا، إذ لم يقل من أجيالٍ إلى أجيالٍ، بل من جيلٍ إلى جيلٍ. لم يستدعٍ لذهنه أجيالًا كثيرة إنما فقط جيلين، واحد للمختونين والآخر للأمم. لجيلٍ أرسل بطرس ولآخر بولس... ذاك الذي تكلم أولًا بالآباء والأنبياء (الجيل الأول) تحدث بعد ذلك في شخصه (عب 1: 1-2)، وكما يقول نشيد الأناشيد: "ليقبلني بقبلات فمه" (نش 1: 1). إنه يقول: إنني أتكلم في شخصي عن ذاك الذي تكلمت عنه بالأنبياء، ذاك الذي لم يستطع العالم أن يسمعه في رعوده، يمكنه أن يسمعه على الأقل خلال صرخاته[4].
* إن كنت لا أطيعك لا أكون عبدك. إن كنت أتكلم مما هو عندي (لا مما لك) فأكون كذَّابًا. فالحديث إذن هو مما لك، والحديث أيضًا مما هو من شخصي. أمران، واحد لي، وواحد لك. الحق هو لك، واللغة هي من عندي [5].
لأَنِّي قُلْتُ: إِنَّ الرَّحْمَةَ إِلَى الدَّهْرِ تُبْنَى.
السَّمَاوَاتُ تُثْبِتُ فِيهَا حَقَّكَ [2].
ماذا يعني أن رحمة الله إلى الدهر تُبنى؟ لن يستطيع إنسان ما أو جيل ما أن يحد أو يدرك رحمة الله كما هي، فلأنها مراحم لا نهائية، تبقى البشرية تختبر هذه المراحم إلى الدهر، تدهش لمحبته الفائقة. إنها لا تبدأ لتنتهي مع جيل من الأجيال، إنما تشبه حجارة تُبنى، ويبقى البناء شامخًا ومستمرًا حتى ننعم به في عظم مجده يوم لقائنا مع السيد المسيح والتمتع بشركة الأمجاد الأبدية. دخولنا إلى السماوات يؤكد هذه المراحم التي لن تتوقف.
* "لأنك تقول إن الرحمة إلى الأبد تُبني". أنا الذي تكلمت في العهد القديم بالآباء والأنبياء، أتكلم بنفسي، فإنني لم آتِ لكي أبطل وصايا الرحمة التي بناها الناموس، وإنما أن أبني على أساسها. يقول الرب نفسه في الإنجيل: "ما جئت لأنقض الناموس بل لأكمله" (راجع مت 5: 17)... إذن ما هي الرسالة عندما يقول النبي: "تُبنى"، كما لو كانت موضعًا أو مدينة لكي تُبنى؟ aedificabitur؟ لننظر أين يوجد مثل هذا في موضع آخر بالكتاب المقدس؟ لنبحث في التكوين عن الاتحاد الخلقي الذي لكلمة aedificatione.
"أخذ الله ضلعًا من جنب آدم، وجعل منه امرأة" (راجع تك 2: 22). هنا يستخدم الكتاب المقدس (بناء) aedificavit. مفهوم البناء كما سبق فقلنا قبلًا عادة يشير إلى إقامة بيت عظيم. وبالتالي فإن جنب آدم الذي شكّل امرأة يعني "السلطان الرسولي": المسيح والكنيسة. هذا هو السبب الذي لأجله يقول الكتاب المقدس إنه شكَّل aedificavit امرأة من الضلع. لقد سمعنا عن آدم الأول. لنأتِ الآن إلى آدم الثاني، ونرى كيف أن الكنيسة قد جُعلت (بناءً) aedificetur من جنبه. جنب الرب المخلص إذ عُلق على الصليب طُعن بحربة، ومنه خرج دم وماء. أتريدون أن تعرفوا كيف تُبنى الكنيسة من الماء والدم؟ أولًا بمعمودية الماء تُغفر الخطايا، وبعد ذلك بدم الشهداء يتوج البنيان. إذ من الواضح أن الكنيسة تُبنى بحنو الله، لذلك يتبع ذلك منطقيًا إنه: "السماوات تثبت فيها وحقك" (مز 89: 2)، يُطبق هذا بأنه على الأرض تثبت حنوك، وفي السماء حقك[6].
يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح هو حجر الزاوية الذي جمع الإسرائيليين الذين آمنوا به مع الأمم الذين قبلوه، جمع الحق خلال وعوده للإسرائيليين ومعهم الأمم خلال رحمته، ففيه تحقق الحق مع الرحمة.
* بالنسبة للبعض أنت تهدمهم، لكي يُعاد بناؤهم. وإلا ما كان قد كتب إرميا: "انظر. قد وكلتك هذا اليوم... لتنقض وتبني" (إر 1: 10). بالحق كل الذين كانوا قبلًا يعبدون الصور والحجارة ما كانوا يستطيعون أن يُبنوا في المسيح ما لم يُهدموا من خطأهم القديم...
كل طرق الرب هي رحمة وحق (مز 15: 10). فالحق في تحقيق الوعود ما كان يمكن أن يظهر ما لم يسبقه أن تتم الرحمة بغفران الخطايا[7].
قَطَعْتُ عَهْدًا مَعَ مُخْتَارِي.
حَلَفْتُ لِدَاوُدَ عَبْدِي [3].
الآن يتحدث الله نفسه، الذي في محبته يعلن اعتزازه بالميثاق الذي قطعه مع مختاره داود المحبوب لديه.
* "قطعت عهدًا مع مختاري"، أتريدون أن تعرفوا كيف أنه حتى هذا اليوم يقطع الرب عهده؟ لنحيا حياة صالحة، فنتأهل للشركة مع المختارين في العهد مع الرب[8].
* قسم الله هو تأكيده للوعد. بحقٍ يُمنع الإنسان من القسم (مت 5: 34)؛ لئلا خلال عادة القسم وهو كإنسانٍ يُخدع، فيسقط في الحنث بالقسم. أما الله فوحده في أمان إذ هو وحده معصوم من الخطأ[9].
إِلَى الدَّهْرِ أُثَبِّتُ نَسْلَكَ،
وَأَبْنِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ كُرْسِيَّكَ. سِلاَهْ [4].
لم يقل "أثبت أنسالك" بالجمع، إنما "نسلك" بالمفرد. وكما يقول الرسول بولس: "وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول في الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحدٍ، وفي نسلك الذي هو المسيح" (غل 3: 16). لقد تحقق حرفيًا مع داود وابنه سليمان. لكن غاية هذا الميثاق الكشف عن دور السيد المسيح، كلمة الله الذي أخذ شكل العبد، وصار إنسانًا ليدخل بالبشر في عهدٍ جديدٍ، يتمتعون بالمصالحة مع الآب، وينعمون بشركة المجد الأبدي. هذا ما أعلنه الملاك جبرائيل عند بشارته بالتجسد الإلهي: "وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابنًا، وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو 1: 31-33).
هذا العهد تثبت بقسمٍ (1 صم 20: 3؛ صم 19: 23؛ عب 6: 16)، وهو عصب النبوات، وموضوع تسبيح المرتلين عبر الأجيال، ويبقى سرّ فرح وبهجة الكنيسة إلى يوم مجيء ملك الملوك في اليوم الأخير، بل وموضوع تسبيح السمائيين أنفسهم (رؤ 5: 6-14).
* "وأبني إلى جيلٍ فجيلٍ كرسيك". يُبنى كرسي الله على جيلين كما قلنا، على المختونين بالطبع وعلى الأمم[10].
يرى القديس أغسطينوس أن عرش الله فينا، وأنه يحكم فينا، هذا هو الجيل الأول، لكنه سيأتي أيضًا في يوم قيامة الأموات ويجلس إلى الأبد، هذا هو الجيل الآخر.
* ما هو نسل داود إلا نسل إبراهيم، وما هو نسل إبراهيم، يقول: "وفي نسلك الذي هو المسيح" (غل 3: 16)... لنأخذ أيها الإخوة الكلمات: "أثبت نسلك إلى الأبد"، ليس فقط بخصوص جسد المسيح المولود من العذراء مريم، بل وأيضًا نحن كلنا الذين نؤمن بالمسيح، إذ نحن أعضاء هذا الرأس. هذا الجسد لا يُمكن عزله عن رأسه. إن كان الرأس في مجدٍ إلى الأبد، هكذا أيضًا الأعضاء، هكذا يبقى المسيح بكليته إلى الأبد...
"أبني إلى دورٍ (جيلٍ) فآخر كرسيك". الآن للمسيح كرسي فينا. كرسيه مُقام فينا. فلو لم يجلس فينا ما كان يحكم علينا، وإن لم يحكمنا لما كان يجلس فينا. إنه يجلس فينا ويحكم علينا. وسيجلس في جيلٍ آخر عندما يأتي في قيامة الأموات[11].
2. إله الميثاق
وَالسَّمَاوَاتُ تَحْمَدُ عَجَائِبَكَ يَا رَبُّ،
وَحَقَّكَ أَيْضًا فِي جَمَاعَةِ الْقِدِّيسِينَ [5].
ربما يقصد بالسماوات الملائكة كما جاء في أيوب 15: 15؛ مز 97: 6، عب 1: 6. ويرى كثير من الآباء مثل القديسين جيروم وأغسطينوس وأيضًا العلامة أوريجينوس أنها تشير إلى الكنيسة أو جماعة المؤمنين الحقيقيين الذين صاروا سماءً جديدة تشهد لعجائب الله فيهم، حيث يتمتعون بما يظنه البعض فوق الطبيعة في العفة والطهارة ومحبة الأعداء ونقاوة القلب الخ.، أمور يحسبها غالبية البشر أنها خيالية فوق طاقة البشر.
* أنتم تسبحونه، لأن الأموات يقومون. بالأحرى سبحوه، لأن الضالين يخلصون. أي نعمة هذه وأية مراحم لله هذه! بالأمس كان الإنسان في دوامه سُكرٍ، والآن صار في زينة العقل. بالأمس كان الإنسان غارقًا في الترف، والآن في جمال الاعتدال. بالأمس كان الإنسان مجدفًا على الله والآن صار مسبحًا. بالأمس كان عبدًا للمخلوق، واليوم عابدًا للخالق... ليصيروا سماوات، ويسبحوا أعمال الله المجيدة التي بها صاروا سماوات[12].
* "السماوات تحدث بعجائبك يا رب" (راجع مز 89: 5). هذا الفكر هو صدى للعبارة في المزمور الثامن عشر (19): "السماوات تحدث بمجد الله" (مز 19: 1). بمفهوم سرِّي يدعو النبي الرسل سماءً. فإن كان يُقال للخاطي: "أنت تراب وإلى تراب تعود" (تك 3: 19)، فلماذا لا يُقال للقديس أو البار: "سماء أنت وإلى السماء تعود؟" فإنه للقديسين كما للرسل مواطنتهم هي في السماء (في 3: 20). بهذا فإن "السماوات تحمد عجائبك" تشير إلى التوبة التي يكرز بها الرسل، والتي بها قبلنا معرفة ربنا يسوع المسيح. فإن كنا نطيع نصائحكم، ونتبع مثالهم نحن أيضًا نُدعى سماءً، إذ نقتدي بهؤلاء الذين مواطنتهم هناك. يقول النبي أيضًا في مزمور آخر: "أنا غريب على الأرض، ونزيل مثل جميع آبائي" (راجع مز 39: 13). هذا في اليهودية مدينته، فكيف يدعو نفسه نزيلًا؟ لأن القديسين في العالم الحاضر ليسوا إلا نزلاء على الأرض، ليس لهم شهوة نحو الممتلكات الأرضية: ممتلكاتهم جميعها هي في السماء حيث لهم مساكن في المدينة التي صانعها وبانيها هو الله (عب 11: 10). النبي، الذي هو ليس من هذا العالم، نزيل هنا، وهو يسرع بكل غيرة نفسه نحو بلده، الفردوس، ملكوت السماوات... يعلمنا الرسول أننا نحن وإن كنا قد سقطنا من الفردوس بخطية آدم الأول، الآن ببرّ آدم الثاني نعود إلى الفردوس[13].
لأَنَّهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يُعَادِلُ الرَّبَّ.
مَنْ يُشْبِهُ الرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ اللهِ؟ [6]
جاءت الترجمة السبعينية: "لأن في السحاب من يساوي الرب؟ ومن يشبه الرب في أبناء الله؟"
إن كان الرب، كلمة الله، بتجسده أخذ شكل العبد، فصار بإرادته كما لو كان أقل من الملائكة يخضع للموت جسديًا، ويحتمل عارنا، لكنه ليس بين كل الطغمات السماوية من يُقارن به. وكما يقول الرسول بولس: "لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك، وأيضًا أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا. وأيضًا متى أُدخل البكر إلى العالم يقول: وتسجد له كل ملائكة الله. وعن الملائكة يقول الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار. وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور" (عب 1: 5-8).
ليس من فجوة -إن صح التعبير- أعظم من تلك التي بين الخالق والمخلوق، أيا كان مركزه، وبين غير المحدود والمحدود!
* "لأنه مَنْ في السحاب يعادل الرب؟" (مز 89: 6) السحاب هو الأنبياء والرسل، الذين يروون بالماء قلوب البشر القاحلة بأمطار تعاليمهم. "من يشبه الرب بين أبناء الله"؟ كل القديسين دعوا بلقب أبناء الله، لأنهم أبناء بالتبني، أما ابن الله، ربنا يسوع المسيح، فهو وحده الابن بالحقيقة بالطبيعة. عنه يسأل المرتل: من في السحاب أو بين أبناء الله مثل الرب؟ مَنْ مِنَ الملائكة أو القديسين يعادل الخالق في المجد أو السلطان، مادام هو نفسه يهب المجد للجميع، فمدحه أبدي، هذا الذي تخافه كل خليقة بمخافة قديرة، ويرتعب الكل أمامه، هذا الذي يصحبه الشاروبيم والسيرافيم والأربعة مخلوقات الحية (رؤ 5: 14)، معًا في خورس لا يتوقف، والذي يتعبد له السلاطين والرئاسات، وتسجد له كل الأرض؟ الذي له المجد والسلطان إلى الأبد الآبدين. آمين[14].
* دُعي عمانوئيل "البكر" حين أشير إليه بين إخوة كثيرين (رو 8: 29). لهذا السبب يلزمنا ألا ننسى أنه هو إله المسكونة، ونعبده كإله، ويملك كإله على الذين دُعوا إخوة له خلال النعمة. من في السماوات يُقارن بالرب، ومَنْ مِنْ بين أبناء الله يشبه الرب (مز 89: 6). لهذا فإن عمانوئيل يملك كإله على كل الذين قبلوه في أخوةٍ، وله "تجثو كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو رب المجد الله الآب" (في 2: 10-11)[15].
* شاء المسيح ومنحنا نعمة البنوة نحن الذين تحت نير العالم وبطبيعتنا عبيد، أما المسيح فهو الابن الحقيقي، هو بطبيعته ابن الله الآب حتى بعد تجسده. فقد ظل كما قلت لكم كما كان قبلًا بالرغم من أخذه جسدًا لم يكن له قبلًا[16].
* نحن نُفهم يا إخوتي بتلك السحب كما فهمنا السماوات أنها الكارزون للحق: الأنبياء والرسل والمعلنون لكلمة الحق... إن كانت السحب هي الكارزون بالحق، فلنسأل أولًا لماذا هم سحب. لأن البشر أنفسهم هم السماوات والسحب، سماوات لبهاء الحق، وسحب من أجل الأمور المخفية للجسد، فإن كل السحب غامضة وذلك بسبب قابليتها للدمار، ترتفع ثم تذهب. لهذا السبب، أي لذلك الغموض الذي للجسد، أي للسحب، يقول الرسول: "إذًا لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب سينير خفايا الظلام" (1 كو 4: 5). في تلك اللحظة سترون ما يقوله الإنسان، بل ما هو في قلبه، الذي لا تقدرون أن تروه الآن... نحن نُدعى سحبًا من أجل الجسد، ونحن كارزون بالحق في الجسد. لكن جسدنا يأتي بطريق ما، وجسده بطريق آخر. ونحن أيضًا نُدعى أولاد الله، أما هو فيُدعى ابن الله بطريق آخر. هو سحابة جاء من بتول، فهو ابن من الأزل، واحد مع الآب في الأزلية. "لأن من في السحاب يساوي الرب؟"[17]
إِلَهٌ مَهُوبٌ جِدًّا فِي مُؤَامَرَةِ (مجمع) الْقِدِّيسِينَ،
وَمَخُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الَّذِينَ حَوْلَهُ [7].
يبسط الله يديه بالحب لمؤمنيه، خاصة المقدسين له، وهم من جانبهم كأبناء له يكنون له الحب مع الالتزام بالمخافة والمهابة اللتين تليقان به. جاءت الكلمتان "مهوب" و"مخوف" في الأصل العبري يحملان مع الوقار العظيم معنى صالحًا.
من هم "جميع الذين حوله" إلا الطغمات السمائية وكل قديسي العهدين القديم والجديد.
* "الله الممجد في مجمع القديسين" (راجع مز 89: 7)... إنه عظيم ومهوب من كل الذين هم حوله، هؤلاء الذين بحياة الطهارة يتأهلون للاقتراب منه[18].
* إذ بُشر به بهذه الكيفية، حيث يُرسل كارزون باسمه في كل الأمم في كل العالم، بصنع عجائبٍ بين خدامه صار عظيمًا ومهوبًا منهم جميعًا الذين هم حوله[19].
يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ مَنْ مِثْلُكَ،
قَوِيٌّ يا رَبٌّ وَحَقُّكَ مِنْ حَوْلِكَ؟ [8]
جاء في الترجمة السبعينية: "أيها الرب إله القوات من مثلك؟ قوي أنت يا رب، وعدلك محيط بك".
إن كان إبليس وقوات الظلمة قد دخلوا معه في معركة، فإنهم باطلًا يقاومون إله الجنود، هذا الذي تخضع له كل جنود السماء، وتشتهي كل الخليقة حتى الجامدة أن تطيع كل أوامره. إنه رب الجنود القدير، الكلي الحكمة، ليس فيه خطأ قط، إن تجاسرنا وقلنا هذا. هو الحق عينه، ويهب الذين حوله روح الحق والحكمة. الذين حوله يسلكون بروح الإخلاص والأمانة على مثاله وبروحه.
* "يا رب، إله الجنود، من مثلك" في السلطان والقوة. "قوي أنت يا رب، وحقك من حولك". الحق نفسه يقول: "أيها الآب، أريد أن يكونوا معي حيث أكون أنا" (راجع يو 17: 24)[20].
* عظيم هو سلطانك، فأنت خلقت السماء والأرض، وكل الأشياء التي فيها، وأعظم منها هو حنوك، الذي يظهر حقك لكل المحيطين بك[21].
أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْبَحْرِ.
عِنْدَ ارْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا [9].
جاء في الترجمة السبعينية: "أنت تسود على عزة البحر". يرى القديس أغسطينوس أن عزة البحر هنا تشير إلى ثورة الأمم التي لم تقبل الإيمان فيقتلون بعض المؤمنين. إن كان الله يسمح بهذا فإن كل الأمور تتم تحت سلطانه بسماح منه. هذا الهياج يحدث إلى حين، عندئذ تهدأ أمواجه. لذلك يكمل المرتل: "وحركة أمواجه أنت تسكنها" (حسب الترجمة السبعينية).
الرياح والأمواج ودوامات البحار والمحيطات في قبضة يده. وكما يقول المرتل: المهدئ عجيج البحار، عجيج أمواجها وضجيج الأمم" (مز 65: 7). عندما اضطرب التلاميذ حين غطت الأمواج السفينة، قال لهم: "ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟ ثم قام وانتهر البحر، فصار هدوء عظيم. فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا؟ فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه" (مت 8: 26-27).
كثيرًا ما تشير المياه إلى الشعوب، والأمواج إلى اضطرابهم، كما إلى التجارب التي تلحق بهم، لكن السيد المسيح له سلطان أن يهبهم سلامًا فائقًا، وينقذهم من التجارب.
* "أنت متسلط على كبرياء (اندفاع) البحر، عند ارتفاع لججه أنت تسكنها"، التجارب التي تهاجم عبيدك الأمناء[22].
أَنْتَ سَحَقْتَ رَهَبَ مِثْلَ الْقَتِيلِ.
بِذِرَاعِ قُوَّتِكَ بَدَّدْتَ أَعْدَاءَكَ [10].
سبق أن رأينا أن رهب تشير إلى مصر (مز 87: 4)، حين كان بعض الفراعنة يمثلون العنف، خاصة حين استعبد فرعون اليهود، وقتل أطفالهم الذكور. في تشامخه دخل فرعون في معركة مع الله نفسه، وإذ أراد إبادة شعبه صار كل الأبكار قتلى في ليلة واحدة، وغرق فرعون وجيشه في بحر سوف.
جاء في الترجمة السبعينية: "أنت أذللت المتكبر مثل القتيل" توجد حيَّة متكبرة معينة في البحر، تقول عنها عبارة أخرى في الكتاب المقدس: "من هناك (قاع البحر) آمر الحية فتلدغهم" (عا 9: 3). وأيضًا: "لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه" (مز 104: 27).
يقارن أيضًا القديس أغسطينوس بين مذلة الشيطان المتكبر وتواضع السيد المسيح العظيم، كما يقارن بين قتل أو جرح كبرياء قلب الشيطان بالمسيح المجروح، والذي يُقال عنه "بذراع قوتك بددت أعداءك" [10].
* يقول: أنت أذللت المتكبر مثل القتيل (الجريح)" [10].
لقد تواضعت، فصار المتكبر في مذلة.
لقد أمسك المتكبر المتكبرين خلال الكبرياء. أما العظيم فبتواضعه وبالإيمان به صار صغيرًا.
بينما يتقوى الإنسان الصغير بمثال ذاك الذي نزل من العظمة إلى التواضع، إذا بالشيطان يفقد من أمسك بهم. فإن المتكبر لا يقبض إلا على المتكبرين.
إذ حدث هذا المثال أمام البشر تعلموا أن يدينوا كبرياءهم، ويتشبهوا بتواضع الله. بهذا يفقد الشيطان الذين كانوا تحت سلطانه، ويصير في ذلٍ دون أن يتأدب وإنما ينطرح...
لقد تواضعت، وتهب التواضع للآخرين. صرت مجروحًا، وتجرح الآخرين (يُصلبون معك)، لأن دمك المسفوك يمحو صك الخطايا (كو 2: 14)، ويستطيع أن يجرح (الشيطان)...
يلزمنا أن نفهم أن الشيطان جُرح لا بطعن الجسد الذي ليس له، وإنما بطعن كبرياء قلبه[23].
* "أنت سحقت المتكبر بنفخة قاتلة" (راجع مز 89: 10). إنه الشيطان الذي جُرح بجرح مميت بمسامير صليب[24].
لَكَ السَّمَاوَاتُ.
لَكَ أَيْضًا الأَرْضُ.
الْمَسْكُونَةُ وَمِلْؤُهَا أَنْتَ أَسَّسْتَهُمَا [11].
إنه خالق السماء والأرض، يسندهم برعايته الفائقة، فليس شيء غير مستطاع لديه.
"ملؤها" تعني كل سكان المسكونة عبر الأجيال.
ما هي السماوات التي للرب إلا الكارزين بالحق الإلهي في العهدين القديم والجديد، وما هي الأرض التي له إلا تلك التي تتقبل هذا الحق كالمطر النازل من السماء.
"لك السماوات. لك أيضًا الأرض" [11]. إنها تمطر من عندك على أرضك. لك السماوات التي بواسطتها يُكرز بحقك في دائرتك. "لك الأرض" التي تتقبل حقك في دائرتك. وما هي نتيجة هذا المطر؟ "أنت تؤسس العالم المحيط وكل السكان فيه"[25].
الشِّمَالُ وَالْجَنُوبُ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا.
تَابُورُ وَحَرْمُونُ بِاسْمِكَ يَهْتِفَانِ [12].
جاء في الترجمة السبعينية: "أنت خلقت الشمال والبحر".
جبل تابور يُقصد به هنا الغرب، حيث يقع غرب نهر الأردن. تبلغ قمته 1750 قدمًا فوق مستوى البحر، يُمكن رؤية البحر الأبيض المتوسط من قمته. بينما جبل حرمون يشير إلى الشرق، يبعد حوالي 50 ميلًا من جبل تابور، قمته تبلغ أكثر من عشرة آلالف قدمًا، يقع شرق نهر الأردن. فكل الاتجاهات الشمال والجنوب والشرق والغرب تهتف وتمجد الله خالق المسكونة. خاصة وأن الجبلين لهما شهرتهما ويتسمان بجمالٍ خاص.
* "الشمال والبحر أنت خلقتهما" (راجع مز 89: 12). يفهم من الشمال ضد المسيح الذي يقول عنه الرب بإرميا: "من الشمال ينتشر الشر على كل سكان الأرض" (راجع إر 1: 14)[26].
يرى القديس أغسطينوسأن "تابور" تعني "النور المقترب". و"حرمون" تعني "حرمانًا" أو "لعنة". فإذ هو النور الذي لا يشعله مصدر خارجي، عندما يقترب يحرم الشيطان ويلعنه، أي يحطم المتكبر ويهلكه. هذا ما يحققه الرب نفسه بقوة ذراعه.
* ليس شيء له سلطان ضدك، ضد خالقه. حقًا قد يهيج العالم (البحر) خلال خبثه، وعناد إرادته، لكنه هل يتعدى الحدود التي وضعها الخالق، الذي صنع كل الأشياء؟ فلماذا إذن أخاف من ريح الشمال؟ لماذا أخاف البحار. في الشمال بالحق الشيطان الذي قال: "أجلس على جوانب الشمال، أصير مثل العلي" (راجع إش 14: 13-14). لكنك أذللت المتكبر مثل الجريح (القتيل)[27].
لَكَ ذِرَاعُ الْقُدْرَةِ.
قَوِيَّةٌ يَدُكَ.
مُرْتَفِعَةٌ يَمِينُكَ [13].
تشير الذراع إلى القدرة، واليمين إلى المجد. فالله قدير وممجد، يعمل في مؤمنيه ليتمتعوا بروح القوة والمجد. وكما يقول الرسول بولس: "ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته" (أف 1: 19).
* لا ينتحل إنسان شيئًا لنفسه. "لك ذراع القدرة" [13]. بك خُلقنا، وبك نحتمي[28].
الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّكَ.
الرَّحْمَةُ وَالأَمَانَةُ تَتَقَدَّمَانِ أَمَامَ وَجْهِكَ [14].
إن كان عرش الله هو العدل والحق أو البرّ، فإن الرحمة وأمانته في تحقيق وعوده يتقدمانه. ففي كل أعماله هو كلي العدل وكلي الرحمة.
* "العدل والحق قاعدة كرسيك" [14]. سيظهر عدلك وحقك في النهاية، أما الآن فمختفيان... سيجلس البعض عن يمينك، وآخرون عن يسارك (مت 25: 33). سيرتعب غير المؤمنين عندما يرون من يسخرون به الآن، ولا يؤمنون به. أما الأبرار فسيفرحون عندما يرون من لا يرونه الآن، وإنما يؤمنون به[29].
3. الشعب والميثاق الإلهي
طُوبَى لِلشَّعْبِ الْعَارِفِينَ الْهُتَافَ.
يَا رَبُّ بِنُورِ وَجْهِكَ يَسْلُكُونَ [15].
يرى المرتل وقد تحدث عن الله الذي يقيم عهده مع شعبه، أنه يود أن يصير كمن في عيدٍ لا ينقطع. يُسمع دومًا صوت أبواق العيد. إنه يقيم العهد ليتعرفوا على خبرة الحياة السماوية المطوَّبة. إن أعظم ما يتمتعون به ليس نوال بركات زمنية وخيرات أرضية ومكاسب مادية، إنما يتمتعون بنور وجه الله، فيسلكون رحلة حياتهم في فرحٍ مجيدٍ لا يُعبر عنه. لا يشعرون بالحاجة إلى شيءٍ، إذ هم في شركة مع الله خالق الكل ومدبر كل الأمور، والمعتني بكل كبيرة وصغيرة.
يتحدثالعلامة أوريجينوس عن الحياة الكنسية كحياة فرحٍ دائمٍ وهتافٍ للرب، فيعلق على قول المرتل: "طوبى للشعب العارف الهتاف" (مز 15:89)، قائلًا: [لم يقل طوبى للشعب الذي يمارس البرّ، ولا للشعب العارف الأسرار، ولا لمن له معرفة بالسماء والأرض والكواكب، وإنما "طوبى للشعب العارفين الهتاف"... يقدم التطويب هنا بفيض، لماذا؟ لأن كل الشعب يشترك فيه، الكل يعرف صحبة التهليل. لهذا يبدو لي أن هتاف الفرح يعني وحدة القلب وترابط الروح معًا...عندما يرفع الشعب صوته باتفاق واحد، يتحقق فيه ما جاء في سفر الأعمال من حدوث زلزلة (أع١: ١٣)... فينهدم كل شيء ويبطل هذا العالم... إن أردت فلتصر أنت إسحق (تعنى الضحك) وتكون فرحًا للكنيسة أمك[30].]
عمل الكنيسة بث روح الفرح وسط الجميع. صار الكلمة منظورًا بالتجسد، فنقول مع الرسول يوحنا: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة... نكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملًا" (1 يو 1، 4). يليق بنا أن نحمل كل علامات الفرح للتجسد، ليس فقط في الداخل، بل فرح الخارج، لأن مسيحنا قدَّس التجسد وصار ظاهرًا. عمل الكنيسة في اليوبيل كما في حياتها أن تبذل كل الجهد لتدخل بكل إنسانٍ إلى الحياة المفرحة، فيدرك الكل أن إنجيلنا هو أخبار مفرحة، ويتلمس العالم قوة الخلاص في فرح الكنيسة كما في بعثها روح الفرح الحقيقي ما استطاعت.
* ليتنا لا نغرق في ضيقاتنا بل نقدم التشكرات في كل شيءٍ، فنقتني نفعًا عظيمًا، إذ نرضي الله الذي يسمح بالضيقات[31].
* "طوبي للشعب العارفين الهتاف" يا لكم من شعب مطوّب...! ماذا أعني بالهتاف؟ أن تعرفوا الفرح الذي يتعدى التعبير عنه بكلمات. هذا الفرح ليس من عنكم مادام "من افتخر فليفتخر بالرب" (1 كو 1: 31). إذن لا تفرحوا بافتخاركم، بل بنعمة الله. إذ ترون إن تلك النعمة هي هكذا، إن اللسان يعجز عن أن يعبر عن عظمتها عندئذ تفهمون الهتاف[32].
بِاسْمِكَ يَبْتَهِجُونَ الْيَوْمَ كُلَّهُ،
وَبِعَدْلِكَ يَرْتَفِعُونَ [16].
اسم الله أو حضوره هو سرّ بهجتنا اليوم كله، أي كل أيام حياتنا، حتى في وسط الضيق.
"بعدلك يبتهجون": أي ببِّره يتمتعون بالبرّ الحقيقي، فترتفع قلوبهم ونفوسهم لتلحق كما في السماء عينها. كأنما خلال أمانته في تحقيق وعوده يرفعنا لنعيش عن يمينه، ننعم بالمجد الداخلي، حسب وعده "أنا أكون مجدًا في وسطها".
* لهذا لا ينكسر حتى يؤسس القضاء على الأرض. لا تفسِّروا هذا بأنَّه عيَّن وقتًا فيه سينكسر، أي بعد تأسيس القضاء على الأرض. ما يقوله هنا بالحري أنَّه سينتصر على أعدائه، ويسيطر حتى يؤسس قضاءه في العالم كله. فقد كُرز بالإنجيل في العالم كما لو تأسَّست قوانينه. مكتوب: "برَّك إلى الأبد، وناموسك هو حق" (مز 119: 142 LXX). يقول: "يضع الأمم رجاءهم في اسمه. فإنَّهم إذ يأتون إلى معرفته أنَّه بالحقيقة هو الله، بالرغم من ظهوره في الجسد، جعلوه رجاءهم، وكما يقول المرتِّل: "يفرحون في اسمه كل النهار" (مز 89: 16 LXX). فإنَّنا نُدعى مسيحيِّين ونضع رجاءنا كله فيه[33].
القديس كيرلس الكبير
* إن كانوا يفرحون بإثمهم، فإنهم لا يبتهجون اليوم كله. إذ لا يستمرون في فرحهم، عندما يبتهجون بأنفسهم ويسقطون بالكبرياء[34].
لأَنَّكَ أَنْتَ فَخْرُ قُوَّتِهِمْ،
وَبِرِضَاكَ يَنْتَصِبُ قَرْنُنَا [17].
إذ يتحدث عما يتسم به المؤمنون من روح الهتاف والبهجة كل أيام حياتهم، والتمسك ببّر الله وأمانته، فإنهم يمارسون هذه الحياة لا خلال انفعالٍ عاطفي مؤقت، وإنما بالتمتع بقوة الله عاملة فيهم. وكما يقول المرتل: "لأنك أنت تبارك الصديق يا رب، كأنه بترسٍ تحيطه بالرضا" (مز 5: 12).
إن كان الله يكسر قرون الأشرار، فانه يرفع قرن أبنائه. "قلت للمفتخرين لا تفتخروا، وللأشرار لا يرتفعوا قرنًا. لا ترفعوا لإلى العلي قرنكم. لا تتكلموا بعنقٍ متصلب" (مز 75: 4-5).
لأَنَّ الرَّبَّ مِجَنُّنَا،
وَقُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ مَلِكُنَا [18].
الله لا يعطينا فقط القوة لمواجهة المعركة ضد إبليس وأعماله الشريرة وحيله الخبيثة؛ ولا يقف عند إرسال من ينقذنا ويخلصنا من شدتنا، لكنه هو بنفسه مجننا، وهو ملكنا مخلصنا من كل خطايانا وضعفاتنا.
يدعوه "قدوس إسرائيل"، فهو القدوس الذي ينسب نفسه لكنيسته، فيقدسها ويطهرها من كل خطيةٍ وضعفٍ.
* كنت أتحرك مثل كومة رملٍ، أسقط! ما لم ترفعني أيها الرب لابد أن أسقط...
إنه هو رافعكم، هو استنارتكم، بنوره أنتم في أمان، بنوره تسيرون، ببرَّه تتمجدون. إنه يرفعكم إلى فوق، إنه يحرس ضعفكم، يهبكم قوته، لا قوتكم.
4. بنود الميثاق
حِينَئِذٍ كَلَّمْتَ بِرُؤْيَا تَقِيَّكَ،
وَقُلْتَ جَعَلْتُ: عَوْنًا عَلَى قَوِيّ.
رَفَعْتُ مُخْتَارًا مِنْ بَيْنِ الشَّعْبِ [19].
جاء عن الترجمة السبعينية: "حينئذ بالوحي (بالإعلان) تكلمت مع بنيك".
في كثير من الترجمات جاءت كلمة تقيك بصيغة الجمع. كثيرًا ما تحدث الله مع أتقيائه خلال الرؤى والإعلانات الإلهية مثل موسى النبي (خر 3) وصموئيل النبي (1 صم 18) وناثان النبي (2 صم 7). كما كان النبي قديمًا يُدعى بالرائي.
أما عن المختار هنا، فيعني السيد المسيح الذي جاء ليخلص العالم.
* "رفعت مختارًا من بين الشعب"، أي المسيح الرب، الذي يُدعى مختارًا من بين الشعب، لأنه أخذ جسدًا بشريًا[35].
وَجَدْتُ دَاوُدَ عَبْدِي.
بِدُهْنِ قُدْسِي مَسَحْتُهُ [20].
يتحدث هنا عن اختيار داود ملكًا، حيث وجد قلبه نقيًا، فأمر صموئيل بمسحه ملكًا عوضًا عن شاول (1 صم 16: 1-13). هكذا استقر روح الله، هذا وقد جاء مسح داود رمزًا لابن داود المسيح الحقيقي الممسوح بروح البهجة لخلاص العالم كله.
* يجد الله النفس الضالة كما يعثر الراعي الصالح على الخروف الضائع، فتتحرك جموع الملائكة لتحتفل بهذه المناسبة كما يقول السيد المسيح. ويشبه ذلك الدرهم الضائع الذي وجد بعد أن أوقدت صاحبته سراجًا، ففرح الأصدقاء والجيران (لو 9:15). وأيضًا وُجد خادم الله داود كما قال المزمور: "وجدت داود عبدي، بدهن قدسي مسحته" (مز 20:89). فأصبح داود ملكا لمن وجده كما يتضح من الآتي: "الذي تثبت يدي معه. أيضًا ذراعي تشدده. لا يرغمه عدو وابن الإثم لا يذله. وأسحق أعداءه أمام وجهه، وأضرب مبغضيه" (مز 21:89-23). توجد عناصر أخرى تُضمن في هذه الفقرة من التمجيد[36].
القديس غريغوريوس النيسي
الَّذِي تَثْبُتُ يَدِي مَعَهُ.
أَيْضًا ذِرَاعِي تُشَدِّدُهُ [21].
يكشف تاريخ الملك داود كيف كانت يد الرب وذراعه يسندانه بالرغم من الضيقات التي حلت به.
لاَ يُرْغِمُهُ عَدُوّ،
وَابْنُ الإِثْمِ لاَ يُذَلِّلُهُ [22].
إنه لا ينزع الأعداء، ولا يمنعهم من نصب شباكهم وإثارة معارك ضد المؤمنين، لكنه يهب مؤمنيه روح الغلبة والنصرة، فيكللون.
لقد سمح السيد المسيح أن يُجرب من إبليس، وأصعد روحه للمعارك في البرية، لكنها انتهت بالعبارة: "وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" (مت 4: 11). وقبل عنه: فيما هو مجرب يقدر أن يعين المجربين".
"يرى القديس جيروم[37] أن العدو هنا هو الشيطان وابن الإثم هو يهوذا الخائن.
* يثور العدو بالحقيقة، لكنه لا يقدر أن يسبب له أذية. يريد أن يضره، لكنه لا يصبه ضرر...
يوجد نفع من ثورته، لأن أولئك الذين يثور ضدهم يكللون بنصرتهم. إذ كيف يُغلب إن لم يثر علينا؟ أو أين يكون الله معيننا إن لم نُجرب؟ يفعل العدو ما في مقدرته، لكن لا يقدر أن يؤذيه، لا يقترب ابن الهلاك ليؤذيه[38].
وَأَسْحَقُ أَعْدَاءَهُ أَمَامَ وَجْهِهِ،
وَأَضْرِبُ مُبْغِضِيهِ [23].
إذ رفض داود النبي أن يمس شاول الملك بأذية بالرغم من محاولات الأخير قتله، عندما أنقذه الرب من يد كل أعدائه ومن يد شاول نطق بنشيد جاء فيه: "تنطقني قوة للقتال، وتصرع القائمين عليّ تحتي، وتعطيني أقفية أعدائي ومبغضي فأفنيهم. يتطلعون فليس مخلص..." (2 صم 22: 40 الخ).
"وأضرب مبغضيه": كما ضرب فرعون ومن معه بالضربات العشرة، هكذا كل آلة تصوب ضد كنيسته تخرب.
أَمَّا أَمَانَتِي وَرَحْمَتِي فَمَعَهُ،
وَبِاسْمِي يَنْتَصِبُ قَرْنُهُ [24].
كثيرًا ما يربط هذا المزمور بين مراحم الله وأمانته، كما يكرر أن سرّ قوة المؤمن اسم الله، أو التمتع بحضرته الإلهية.
إن كان كلمة الله بتجسده وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب، "لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم المسيح كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (في 2: 9-11).
* كل طرق الرب رحمة وحق. تذكروا قدر ما تستطيعون كيف أن هاتين السمتين تُقدمان لنا بإلحاح، فنردهما لله. فإنه إذ أظهر لنا الرحمة لكي يمحو خطايانا، والحق لتحقيق مواعيده، هكذا نحن إذ نسلك في طريقه أن نرد له الرحمة والحق. الرحمة بأن نحنو على البائسين، والحق بأن لا نحكم بالظلم. ليت الحق لا ينزع عنكم الرحمة، ولا الرحمة تعوق الحق. فإنكم إن كنتم خلال صرامة الحق تنسون الرحمة، فأنتم لا تسلكون في طريق الله حيث الرحمة والحق يتلاقيان (مز 85: 10).
"وباسمي ينتصب قرنه" [24]. لماذا أقول أكثر من هذا؟ أنتم مسيحيون، تعرفوا على المسيح[39].
وَأَجْعَلُ عَلَى الْبَحْرِ يَدَهُ،
وَعَلَى الأَنْهَارِ يَمِينَهُ [25].
إذ يهب الله مسيحه، أي داود النبي، سلطانًا على البحر والأنهار، إنما يعني أنه يهبه مهابة قدام الأعداء أينما وجُدوا.
غالبًا ما تشير البحار إلى الأمم والشعوب الوثنية، بينما الأنهار بمياهها العذبة إلى المؤمنين. ينتشر الإيمان بالسيد المسيح بين الأمم، فيقبلونه ملكًا عليهم، أو ينضمون إلى مملكته الروحية.
إن كان السيد المسيح يملك على قلوب المؤمنين، فهو أيضًا سيُخضع الأشرار في يوم الرب العظيم.
* تجري الأنهار في البحر، هكذا يتدفق الناس الجشعون في مرارة هذا العالم، لكن كل هذه الأنواع من الناس سوف تخضع للمسيح[40].
هُوَ يَدْعُونِي: أَبِي أَنْتَ.
إِلَهِي وَصَخْرَةُ خَلاَصِي [26].
لا نجد حالة واحدة، فيها دعا داود الله أباه، لكننا نجد السيد المسيح يدعو الله الآب أباه أكثر من 60 مرة في إنجيل يوحنا وحده[41]. وإذ صار كلمة إنسانًا دعا أباه أيضًا إلهه.
أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ [27].
لم تتحقق هذه النبوة قط في شخص داود، إذ لم يُدعَ قط بكرًا، لكن السيد المسيح صار بكرًا، قام بإرادته من بين الأموات ليهبنا الحياة المقامة، صار بكرًا بين إخوة كثيرين. إنه أقامنا ملوكًا وكهنة لله أبيه، وهو رأس الكنيسة البكر.
"الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين" (رو 8: 29).
"الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كو 1: 15).
"وهو رأس الجسد الكنيسة، الذي هو البداءة، بكر من الأموات، لكي يكون هو متقدمًا في كل شيء" (كو 1: 18).
"وأيضًا متى أدخل البكر إلى العالم يقول: "ولتسجد له كل ملائكة الله" (عب 1: 6).
سيأتي يوم حين يترك كل ملوك الأرض كراسيهم، ويأتي ملك الملوك ورب الأرباب، ملك السلام الحقيقي، ابن الآب المحبوب، مخلص العالم.
* الرب يسوع "البكر بين الأموات" (كو 1: 18) كما يقول الرسول صار مرتفعًا، يصعد إلى السماء، وتخضع له كل ممالك العالم[42].
* مع أنه ابن الله الوحيد، إلاَّ أنه بكر لنا، لأننا جميعًا إخوة له، وبذلك أصبحنا أبناء الله...
المسيح بكر لنا، لأنه شاء فنزل إلى مستوى المخلوقات الطبيعية، لذلك تجدون الأسفار الإلهية تشير إلى المسيح ابن الله بالقول: "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب" (يو ١: ١٨). أما إذا استعمل الكتاب المقدس كلمة البكر، فإن الوحي يفسرها بما يبين مضمونها، فورد "ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين" (رو ٨: ٢٩)؛ وورد أيضًا: "بكر من الأموات" (كو ١: ١٨). المسيح بكر من الأموات، لأنه شاركنا في كل شيءٍ ما عدا الخطية، ولأنه أقام جسده من الموت[43].
إِلَى الدَّهْرِ أَحْفَظُ لَهُ رَحْمَتِي.
وَعَهْدِي يُثَبَّتُ لَهُ [28].
إذ أعلن الآب عن مسرته بابنه الوحيد أثناء عماده كما أثناء تجليه، إنما يُسر بكنيسته التي هي جسده، ويحفظ لها رحمته إلى الأبد. ويبقى الله الأمين في مواعيده حافظًا عهده مع الكنيسة، فتنعم بشركة المجد الأبدي.
* يحفظ رحمته في الكنيسة التي يخلصها بعهد وصاياه[44].
* من أجله قد وُفي العهد، وفيه تحققت وساطة العهد، إنه خاتم العهد، ووسيط العهد، وضامن العهد، والشاهد للعهد، وميراث العهد، والشريك في ميراث العهد[45].
وَأَجْعَلُ إِلَى الأَبَدِ نَسْلَهُ،
وَكُرْسِيَّهُ مِثْلَ أَيَّامِ السَّمَاوَاتِ [29].
من هو نسله إلا أولاد الله الذين يولدون من الماء والروح، فإنهم إذ يسلكون كما يليق بهم يتمتعون بالحياة الأبدية، وما هو كرسي الله أو عرشه إلا المؤمنين الذين يحملون الله في قلوبهم، ويتمتعون بالوعد الإلهي: "ملكوت الله داخلكم".
* هذا يشير إلى اجتماع المؤمنين، الكنيسة التي يجلس فيها الله كما على عرشه[46].
* "وأجعل إلى الأبد نسله"، ليس فقط في هذا العالم، بل وفي العالم الذي بلا نهاية...
"وكرْسيّه مثْل أيّام السّماوات"... كراسي ملوك الأرض مثل أيام الأرض، وهي تختلف عن أيام السماوات... أيام السماوات هي تلك السنوات التي قيل عنها: "وأنت هو وسنوك لن تنتهي" (مز 102: 27). أيام الأرض حالًا تباغتها الأيام التي تلحقها. فالسابقة تزول بالنسبة لنا، وحتى اللاحقة لن تدوم، فكما تأتي هكذا تذهب، بل وتذهب حتى قبل أن تأتي. هكذا عي أيام الأرض، أما أيام السماوات والتي هي أيضًا "اليوم الواحد" للسماوات، فإنها سنوات لا تزول، بلا بداية ولا نهاية، وليس من يوم فيها له مساءً وله غد: ليس أحد يتوقع فيها المستقبل، كما لا يفقد الماضي. أيام السماوات دائمًا حاضرة حيث يكون كرسي (المسيح) إلى أبد الأبد[47].
إِنْ تَرَكَ بَنُوهُ شَرِيعَتِي،
وَلَمْ يَسْلُكُوا بِأَحْكَامِي [30].
* هذا هو أقوى عربون لوعد الله. أبناء داود هم أبناء العريس. كل المسيحيين يدعون أبناءه[48].
إِنْ نَقَضُوا فَرَائِضِي،
وَلَمْ يَحْفَظُوا وَصَايَايَ [31].
أَفْتَقِدُ بِعَصًا مَعْصِيَتَهُم،ْ
وَبِضَرَبَاتٍ إِثْمَهُمْ [32].
ليس عند الله محاباة، فإن كانت رحمته فائقة، فإنه بعدله وبرَّه لا يقبل الشركة مع الإثم. أن يفتقد أولاده الذين انحرفوا عن الحق الإلهي بالعصا، وما ينالونه من تأديبات، إنما "ضربات إثمهم"، أي ثمر ما احتضنوه من الإثم.
هذه العصا وتلك الضربات ليس لهلاكهم وإنما لإصلاحهم. هذا ما اختبره داود النبي نفسه حين تهاون مع الإثم، فحلت به ضربات لا لتدميره بل لخلاصه.
* سعيد هو الإنسان الذي يؤدَب في هذه الحياة لأن الله لا يؤدب على أمر واحد مرتين (نا ١: ٩ LXX). يا لعظم سخط الرب عندما لا يغضب علينا هنا، فإنه بهذا يحفظنا كثورٍ للذبح. في الحقيقة يقول لأورشليم إن خطاياها كثيرة وشرورها عظيمة لذا تنصرف غيرته عنها ولا يغضب بعد عليها (حز ١٦: ٤٢)[49].
* "افتقد بالسياط خطاياهم" لماذا؟ لكي "لا أنزع رحمتي عنهم". فإنه عندما يترك أحدًا ما لا يعود يعاقبه أو يضربه بالسوط، فهو لا يضرب إلا كل ابن يقبله الرب[50].
* الإصلاح الذي يقوم به الأب، والذي لا يترك العصا، هو مفيد، حتى يرد نفس الابن للطاعة لوصايا الخلاص. إنه يؤدب بعصا، كما نقرأ: "أفتقد بعصا معصيتهم" (مز 89: 32).
* دعه يؤدبه مادام لا ينزع منه رحمته. ليضربه مادام عنيدًا مادام لا يريد أن يحرمه من الميراث. إن كنتم تفهمون حسنًا وعود أبيكم لا تخشون من أن تُجلدوا بل أن تُحرموا من الميراث. "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله" (عب 12: 6). هل يستخف الابن الخاطي بالتأديب إن كان يرى الابن الوحيد الذي بلا خطية قد جُلد...؟ ليت الأبناء الأتقياء لا يقولون: إن كنت تأتي بعصا لا تأتي نهائيًا. فمن الأفضل أن يتعلموا بعصا الآب عن أن تهلكوا بقبلات اللص[51].
أَمَّا رَحْمَتِي فَلاَ أَنْزِعُهَا عَنْهم،
وَلاَ أَكْذِبُ مِنْ جِهَةِ أَمَانَتِي [33].
مع ما فعله داود إذ تجاوب مع تأديبات الرب له، لم ينزع رحمته عنه، ولا كسر عهده معه، فجاء السيد المسيح من نسله.
يرى القديس أغسطينوس أنه وإن كان الحديث هنا عن السيد المسيح، لا ينزع رحمته عنه، وأنه لا يكذب من جهة أمانته، فإنه خاص بجسد المسيح، أي كنيسته. فعندما اضطهد شاول الطرسوسي الكنيسة، لم يقل له السيد المسيح: شاول، شاول، لماذا تضطهد عبيدي، أو المؤمنين بي، أو القديسين الذين لي، وإنما لماذا تضطهدني، فينسب ما يحدث مع الكنيسة إليه شخصيًا.
* لأن الله رحوم، ويريد أن الكل يخلصون، يقول: "أفتقد جرائمهم بالحديد والعصا، وخطاياهم بالسياط، أما رحمته فلا أنزعها منهم" (راجع مز 32:89-33)... لأن الله غيور، ولا يريد أن النفس التي خطبها لنفسه بالإيمان أن تبقى في دنس الخطية، بل يريدها أن تتطهر فورًا، يريدها أن تنزع نجاستها بسرعة، إن حدث أنها قد أمسكت بها شيء من النجاسات[52].
* "الذي يؤمن بالابن له حياة أبديَّة. والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله" (يو ٣: ٣٦). هذا الغضب يمكث على من يعصى، أي من لا يؤمن. لكنَّه متى آمن - أي إنسان كان - فسيرحل عنه الغضب، وتحل به الحياة.
إن كان الله لا يدينه، فهل أنت تدينه؟!
لقد قال بأن من يؤمن به لا يبقى في الظلمة، بمعنى أنه قبْل الإيمان كان في الظلمة، لكنَّه بعد الإيمان لا يعود بعد فيها. بل تُصلح أخطاؤه، ويحفظ وصايا الرب الذي قال: "إنِّي لا أُسر بموت الشرِّير، بل بأن يرجع الشرِّير عن طريقه ويحيا" (حز ٣٣: ١١). وكأن الرب يقول: "لقد سبق أن قلت إن من يؤمن بي لا يدان. وأنا أحفظ له هذا، لأنِّي لم آت لأدين العالم بل لأخلصه" (يو ١٢: ٤٧). إنَّني عن طيب خاطر أغفر له، وبسرعة أسامحه. "إنِّي أريد رحمة لا ذبيحة" (هو ٦: ٦)... "لأنِّي لم آتِ لادعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" (مت ٩: ١٣).
مرَّة أخرى يقول الرب: "من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه" (يو ١٢: ٤٨). فالذي رجع عن طريقه يكون قد قبل كلامه، لأن هذا هو كلامه أن يعود الكل عن الخطيَّة. بذلك بإدانته تكونون قد ازدريتم بكلام المسيح هذا، وإلاَّ فاقبلوا الخطاة.
حقًا أنه يلزمهم أن ينتفضوا من الخطيَّة، ويحفظوا وصاياه مزدرين بالإثم، لكن يا لها من قسوة أن تزدري بتوبة إنسان لم يحفظ بعد وصايا الرب، لكنَّه سيحفظها، لنترك الرب نفسه يعلِّمنا بشأن أولئك الذين لم يحفظوا بعد وصاياه "إن نقضوا فرائضي، ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معاصيهم وبضربات إثمهم... أمَّا رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز ٨٩: ٣١-٣٣). هكذا وعد الجميع بالرحمة[53].
* لأن الرب رحوم و"يريد أن جميع الناس يخلصون" (1 تي 2: 4)، يقول: "أفتقد بعصا معصيتهم، وبضربات إثمهم. أما رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز 89: 32-33). فالله إذًا، يفتقد ويسعى وراء الأنفس التي أنجبها أكثر الآباء شرًا، بتحريضها على الخطية، ويقول لكل واحدة منها: "اسمعي يا ابنتي وانظري، وأميلي أذنك. وانسي شعبك وبيت أبيك" (مز 45: 11). هو إذًا، يفتقدك بعد اقترافك للخطية ويقلقك. يفتقدك بسوط وعصا من أجل الخطية التي سلّمها لك إبليس أبوك، لكي ما يثأر من تلك الخطية في "حضنك".
* "لأن هذا زمان انتقام الرب". يوضح الكتاب المقدس أن العقوبات توقع على الإنسان الذي يحتملها ويصبر في احتمالها. فعندما لا يُعاقب الإنسان على الأرض يظل هكذا بدون عقاب حيث يتم عقابه في يوم الدينونة. ويقول الرب على لسان هوشع النبي: "لا أعاقب بناتكم، لأنهن يزنين ولا كناتكم لأنهن يفسقن" (هو 4: 14). الله لا يعاقب الخطاة بسبب غضبه عليهم، كما يظن البعض، أو بمعني آخر إن الله عندما يوقع عقابًا بإنسان خاطئ، فإنه لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن علامة غضب الله على الإنسان تتمثل في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المُعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أنه القصد هو إصلاحه وتقويمه. يقول داود: "يا رب لا توبخني بغضبك، ولا تؤدبني بسخطك" (مز 6: 1). لو أردت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: "أدبني يا رب، ولكن بالحق لا بغضبك، لئلا تفنيني" (إر 10: 24). كثيرون أُصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، إن أبناء السيد المسيح حينما يخطئون يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب: "إن ترك بنوه شريعتي، ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم، وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز 89: 30-33). من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يعاقب حتى الآن يكون علامة عن عدم استحقاقه للعقاب بعد[54].
لاَ أَنْقُضُ عَهْدِي،
وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ [34].
يليق بالمؤمن ألا ييأس بسبب ضعفاته، إنما يرجع إلى الرب بروح الرجاء، فإنه غافر الخطايا، ينتظر رجوع كل مؤمن إليه بالتوبة.
* وحيث إنني قلتُ إنك تبلغ خطوةً خطوة، فانظر في الأناجيل كيف أنّ المسيح أعطى مواهب النعمة مرارًا لتلاميذه بخصوص الأشفية وإخراج الشياطين، وتكلّم معهم عن غفران الخطايا لأجل التكميل النهائي قائلًا: "مَنْ غفرتم خطاياه تُغفَر له" (يو20: 23). إذن، فإن كان بسبب تعبك لأجل الله سيغفر لك خطاياك، فها هي الغاية التي أريدك أن تبلغها. أما إذا قرأت في الخطاب كلمات صعبة الفهم، فاسأل توأم نفسك ابني المحبوب سيريدوس وهو سيشرح لك بنعمة الله ما صعُب عليك فهمه، لأنني صلّيت إلى الله من أجله بخصوص ذلك أيضًا. إذن، فاركض أنت يا رجل الله في الطريق التي أُعِدّت لك حتى تصل بفرحٍ إلى ميناء المسيح الذي وصلنا إليه، وتسمع الصوت المملوء فرحًا ونورًا وحياةً وتهليلًا قائلًا لك: "نعمّا أيها العبد الصالح والأمين، كنتَ أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير، اُدخل إلى فرح سيدك" (مت 25: 21). ليتك تفرح في الرب، ليتك تفرح في الرب، ليتك تفرح في الرب. والرب سيحفظ نفسك وجسمك وروحك من كل شرٍّ، ومن كل معاندةٍ شيطانية، ومن كل تصوراتٍ مزعجة. ليكن الرب نورك وحماك وطريقك وقوتك وإكليل فرحك ومعونتك الأبدية. انتبه لنفسك، لأنه مكتوبٌ: "لا أغيِّر ما خرج من شفتيَّ" (مز 89: 34).
مَرَّةً حَلَفْتُ بِقُدْسِي،
أَنِّي لاَ أَكْذِبُ لِدَاوُدَ [35].
يتطلع كثير من الدارسين إلى لقب الله "القدوس"، كلقبٍ فريد، لا تشاركه فيه خليقة ما، إنما بالالتصاق به والشركة معه تصير الخليقة مقدسة.
في أكثر من موضع يدعونا الله لنكون له قديسين كما هو قدوس.
نَسْلُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَكُونُ،
وَكُرْسِيُّهُ كَالشَّمْسِ أَمَامِي [36].
يليق بنا أن نقف أمام كرسي شمس البرّ، فيشرق علينا ببهاء قداسته ومجده، فنصير كالقمر.
مِثْلَ الْقَمَرِ يُثَبَّتُ إِلَى الدَّهْرِ.
وَالشَّاهِدُ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ. سِلاَهْ [37].
* "كرسيه كالشمس أمامي" يعني أن الكنيسة ستقطن في بهاء المجد العتيد "مثل القمر يثبت إلى الدهر" في كمال النور. "والشاهد في السماء أمين" (مز 89: 37). المسيح الرب نفسه الذي حمل شهادة أمينة لله الآب في العالم، رُفع إلى السماء[55].
* يمكنكم بوضوح أن تفهموا القول: "لماذا تركتني؟" (مت 27: 49) عندما تقارن مجد المسيح الذي كان له في حضرة الآب مع الاستخفاف به الذي حدث وهو على الصليب، فإن عرشه كان "مثل الشمس في حضرة الله (الآب)، ومثل القمر ثابت إلى الأبد" (مز 89: 36-37)[56].
5. الإنسان كاسر الميثاق
<SPAN lang=ar-sa>
لَكِنَّكَ رَفَضْتَ وَرَذَلْتَ.
غَضِبْتَ عَلَى مَسِيحِكَ [38].
بعد أن تحدث الله عن رحمته وأمانته في وعده أن يقيم نسل داود على كرسيه إلى الأبد، إذ لم يدرك اليهود ما يقصده الآب، فحسبوا هذا الميثاق يمس المملكة الزمنية لإسرائيل القديم بطريقة حرفية، لهذا نسمع صوتًا غريبًا يتجاسر ويحاجج الله كمن يحاكمه، ابتداء من هذه العبارة [38]، متسائلًا: أين هو الوعد الإلهي؟ إنه يلقي باللوم على الله.
لعل الموقف هنا يشبه ما ورد في سفر الخروج 32، حيث ألقى الشعب باللوم على الله عندما تأخر موسى على الجبل لاستلام الشريعة. عبد الشعب عجلًا مسبوكًا، وقالوا: "هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (خر 32: 4). لقد بنى هرون مذبحًا أمام العجل، بكروا في الغد، وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة، وجلس الشعب للأكل والشرب، ثم قاموا للَّعب، أي لممارسة رجاساتٍ وأمورٍ دنسة.
يرى البعض من هنا نجد صوت الرسل موجهًا إلى الآب، وكما يقول القديس جيروم[57]<FONT size=6> إن الرسل يقولون هذا عندما نظروا المسيح قد أُسلم إلى أعدائه، وحيث ظنوا أن الآب قد نقض عهده معه، وسلمه للعار عند أقربائه، أي عند اليهود و