مزمور 87 (86 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
مدينة الله أم كل الشعوب
إذ يتطلع المرتل إلى مجيء المسيا مخلص العالم، وقد بسط يديه على الصليب ليحتضن العالم، يموت عنهم ويقوم، فيقيمهم معه، تنفتح أبواب أورشليم مدينة الله على كل الشعوب. تتهلل نفس المرتل إذ يرى المدينة التي كانت مغلقة على شعب معين، صار مواطنوها من كل الشعوب، تحمل أمومة روحية للجميع، وتهبهم الحياة المطوبة المتهللة، عربون السماء. وكأن الكنيسة، مملكة المسيح الروحية، تسمو فوق كل ممالك العالم والدخول في السياسات الزمنية، لا تدخل مع العالم في منافسة على سلطان أو مجد زمني.
ارتفع فكر المرتل في نظرته إلى أورشليم إلى ما بعد الحدود المكانية لأورشليم الأرضية التي كان يفتخر بها اليهود كمركز للعالم، وأقدس موضع لوجود الهيكل المقدس الوحيد.
1. اختيار أورشليم
1-3.
2. مواطنو أورشليم
4-6.
3. المدينة المتهللة
7.
من وحي المزمور 87
العنوان
لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورُ تَسْبِيحَةٍ
يرى البعض أن واضع المزمور هو داود النبي، وقام بنو قورح بتلحينه.
"لبني قورح": سبق أن رأينا أن قورح تعني "جلجثة" وكما يقول القديس جيروم إن بني قورح هم "أبناء القيامة"[1].
وكأن الذين يتمتعون بمدينة الله السماوية، هم الذين يقومون مع السيد المسيح، ويختبرون هنا الحياة المُقامة، كعربون للأبدية.
1. اختيار أورشليم
أَسَاسُهُ فِي الْجِبَالِ الْمُقَدَّسَةِ [1].
إذ يقارن المرتل بين خيمة الاجتماع وهيكل سليمان، فالأولى بلا أساسات، إنما خيمة متحركة، أما الهيكل فوضعت أساساته على الجبال المقدسة. أما كنيسة العهد الجديد فأساساتها هي الأنبياء والرسل، وحجر الزاوية هو ربنا يسوع المسيح.
* يعلن بولس: "كبناءٍ حكيم قد وضعت أساسًا" (1 كو 3: 10)، أي الإيمان بالثالوث. عندئذ يقول في موضع آخر: "لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله" (عب 11: 10)... يَّعين المرتل الجبال المقدسة، لأنه توجد جبال أخرى غير مقدسة. بجانب هذا يقول إشعياء: "أقيموا راية على جبال مظلمة" (راجع إش 13: 2). نجد في الكتاب المقدس عبارة أخرى: "من أنت أيها الجبل العنيد" (راجع زك 4: 7). وفي إرميا: "أعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة" (إر 13: 16)... من هم الذين ندعوهم أساسات؟ الرسل. عليهم قام إيمان الكنيسة وتأسس[2].
* أساسات أورشليم أسسها الله، والجبال المؤسسة عليها جبال مقدسة، لأن الله القدوس قد أظهر سكناه فيها...
* مدينة الله تُقال عن سيرة العبادة المستقيمة التي أساساتها هي التعاليم الإلهية المقدسة. وأما جبالها المقدسة التي عليها قائم بناؤها فهي الرسل والأنبياء، وقبلهم ربنا له المجد كما كتب بولس الرسول في الفصل الثاني للرسالة إلى أهل أفسس: "مبنين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف: 20)[3].
* أعتقد أنه لهذا السبب يسوع نفسه عندما تجلى لم يحدث هذا في السهل، إنما صعد على جبل، وهناك تجلى. لتفهموا من هذا أنه دائمًا يظهر على الجبال أو التلال، ليعلمكم أنتم أيضًا، فلا تجثوا عنه في أي موضع وإنما على جبال الشريعة والأنبياء[4].
الرَّبُّ أَحَبَّ أَبْوَابَ صِهْيَوْنَ،
أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَسَاكِنِ يَعْقُوبَ [2].
لا يكف الكتاب المقدس بعهديه عن الكشف بكل وسيلة عن حب الله للإنسان والبشرية، فاختياره لصهيون ومحبته لأبوابها لا يعني حاجته إليها، ولا اهتمامه بأمور مادية، فهو خالق السماء والأرض، لكنه يحب الإنسان، ويريد أن يضم البشرية إلى أحضانه، ويسكب بهاءه عليها.
* يبدو لي أن أبواب صهيون هي الفضائل.
كما أن الرذيلة والخطية هما بابا الموت، أظن أن أبواب صهيون هي الفضائل[5].
* لا يقصد الأبواب التي نراها اليوم في التراب والرماد، وإنما يقصد الأبواب التي لا يقوى عليها الجحيم (مت 16: 18)، والتي تدخل منها جموع الذين يؤمنون بالمسيح[6].
* صهيون هي أورشليم التي كانت عاصمة أمة اليهود، إذ كان الهيكل مبنيًا فيها. ومن أبوابها كانت تدخل الفرائض المؤدية إلى عبادتهم الموسوية. لهذا كانت أفضل من سائر مساكن الإسرائيليين...
يقول بولس الرسول في الأصحاح 12 من رسالته إلى العبرانيين عن صهيون وأورشليم أنهما كنيسة المسيح: "قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية، وإلى ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار مكتوبين في السماوات" (عب 12: 22-23).
وأيضًا في الأصحاح الرابع من رسالته إلى أهل غلاطية: "وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا فهي حرة" (غل 4: 26). هذه الكنيسة أبوابها هي فواتح تعليمها، يحبها الرب أفضل من جميع مساكن يعقوب، أي من سنن الشريعة الموسوية (في حرفيتها) التي كان إسرائيل ساكنًا فيها؛ يدعوها مساكن لأجل سرعة زوالها.
قَدْ قِيلَ بِكِ أَمْجَادٌ يَا مَدِينَةَ اللهِ. سِلاَهْ [3].
يتطلع المرتل إلى كنيسة المسيح، فيراها وقد امتلأت مجدًا، لأن مسيحها في وسطها هو سرّ مجدها الأبدي. بمجيئه تلألأ تاريخ العهد القديم وأحداثه، وتجلت معانيه المبهجة، كما فُهمت النبوات، وتمتعت البشرية بتسابيح متهللة وتعاليم مبهجة، وانكشفت أسرار سماوية، وصارت لها امتيازات فائقة ووعود إلهية.
هذا ما لمسه أنبياء العهد القديم، وكما رأى إشعياء النبي: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب؛ فيعلمنا من طرفه، ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب" (إش 2: 2-3).
* أين نجد هذه الأقوال المجيدة؟ كل الأنبياء تحدثوا عن هذه المدينة. يقول إشعياء: "استيقظي، استيقظي، البسي عزك يا صهيون" (إش 52: 1). وأيضًا: "أنا مدينة قوية، المدينة التي انهارت" (راجع إش 27: 10؛ 26: 1، 5؛ 25: 2، 12). يقول داود في مزمور: "نهر سواقيه تفرح مدينة الله" (مز 46: 4)... وأيضًا يتكلم المخلص نفسه عن هذه المدينة بطريقة مجيدة: "لا يُمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبلٍ" (مت 5: 14).
* هذا القول غير لائق بأورشليم العتيقة بل بالجديدة، وهي كنيسة المسيح التي ما قيل عنها مجيد، ليس فيها مقولات بشرية حقيرة؛ إنما أقوال إلهية مجيدة.
* يوجد عشرات الألوف من الملائكة هناك، اجتماع القديسين، وكنيسة الأبكار المُسجلة في السماء. "أعمال مجيدة قيلت عنكِ يا مدينة الله" (مز 87: 3 LXX). يعد الله هذا المدينة بإشعياء: "أجعلك فخرًا (ملوكيتكِ) أبديًا، فرح دور فدورٍ... لا خراب أو سحق في تخومك، بل تسمين أسوارك خلاصًا" (إش 60: 15، 18). لذلك إذ ترفع عيني نفسك أطلب كما يليق الأمور العلوية، ما يخص مدينة الله. أي شيء يمكن أن يعتبره أحد ما مستحقًا للسعادة في هذه المدينة التي يفرَّحها نهر الله، والتي الله هو صانعها وخالقها؟[7]
* يُعَّرف البعض المدينة بأنها اجتماع لكائنات في جسم واحد منظم، يحكمه القانون... وهذا التعريف الذي أطلق على المدينة يتناسب مع أورشليم العليا... المدينة السماوية، لأن هناك كنيسة أبكار المكتوبة أسماؤهم في السماويات (عب12: 23)، لأنها منظمة أيضًا حيث انسياب حياة القديسين لا يتوقف، ويحكمها القانون السماوي، لا يمكن للطبيعة البشرية إدراك مدى استعداد هذه المدينة ونظامها لأنه "ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو2 : 9). أيضًا يوجد في هذه المدينة ربوات من الملائكة... وكنيسة أبكار مكتوبين في السماوات (عب12 :3،2)... يذكر داود هذه المدينة فيقول: "قد قيل بك أمجاد يا مدينة الله (مز 87 :3) ما وعد الله لهذه المدينة ينقله لنا إشعياء: "أجعلك فخرًا أبديًا... فرح... دور فدور" لا يسمع بعد سحق في تخومك، بل تسمين أسوارك خلاصًا (إش60 :15،18). فلنرفع عيون نفوسنا، ولنبحث عن الخيرات العليا اللائقة بمدينة الله.
ما هذه المدينة التي دعيت مدينة الله، وقد قيل عنها أقوال مجيدة سوى القديسة مريم التي تجسد كلمة الله في أحشائها، وصارت سماء ثانية؟!
* في الشهر السادس أرسل جبرائيل إلى عذراء، إذ تقبل مثل هذه التعليمات.
تعال هنا الآن يا رئيس الملائكة، ولتكن خادمًا لسرٍّ خطيرٍ مخفيٍ...
لقد دفعني حنوّي أن أنزل إلى الأرض حتى أنقذ آدم المفقود، لأن الخطية أهلكت المخلوق على صورتي، وأفسدت عمل يدي، وشوّهت جمال ما أوجدته.
هوذا الذئب يفترس غنمي، وبيت الفردوس مخرب، وشجرة الحياة محروسة بسيفٍ من نارٍ، ومواضع السرور قد أغلقت... وأنا أرغب في أن أمسك بالعدو.
ومع ذلك فإنني أريدك أن تحفظ هذا السرّ الذي ائتمنك عليه وحدك، إذ لا يزال مخفيًا عن بقيّة القوّات السمائيّة. لذلك اذهب إلى العذراء مريم. أعبر إلى هذه المدينة الحيّة التي تكلّم عنها النبي، قائلًا: "أعمال مجيدة قد قيلت عنك يا مدينة الله" (مز 87: 2).
تقدّم إذن إلى فردوس عاقل، تقدّم إلى باب المشرق... إلى مكان حلولي حيث يستحق كلمتي... إلى السماء الثانية التي على الأرض، إلى السحابة المنيرة، وأخبرها عن مجيئي. تقدّم إلى المعبد المهيّأ لي، إلى ردهة تجسّدي، إلى الحجال النقي الذي لميلادي بالجسد. تحدّث في أذني تابوتي العاقل...[8]
القديس غريغوريوس صانع العجائب
2. مواطنو أورشليم
أَذْكُرُ رَهَبَ وَبَابِلَ عَارِفَتَيَّ.
هُوَذَا فَلَسْطِينُ وَصُورُ مَعَ كُوشَ.
هَذَا وُلِدَ هُنَاكَ [4].
ذُكرت رهب في المزمور 89: 10؛ إش 51: 9. وهي تشير إلى مصر حيث كانت مرهبة ولها عظمتها، وتعني الكبرياء أو القوة وأحيانًا العنف[9].
بابل: كانت إمبراطورية عظيمة لها سلطانها، غالبًا ما كانت في موقف التنافس مع مصر، وكانت إسرائيل في موقف لا تُحسد عليه بين الدولتين.
كوش: كانت تشير إلى أثيوبيا، أو إلى كل المناطق جنوب مصر، وبصفة عامة يُنظر إليها أنها الدول التي في الجنوب.
من هو هذا الذي وُلد في هذه الدول؟ يرى البعض أن المرتل يشير إلى كنيسة العهد الجديد التي ضمت الكثيرين من الأمم الوثنية، حيث يُقدم الإيمان كطفلٍ حديث الولادة.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن رهب هنا تشير إلى الاتساع (رحب) كما إلى الكبرياء، وبابل تشير إلى البلبلة والارتباك، وكورش إلى النفوس المظلمة، وصور إلى عبادة الأوثان. وكأن الأمم التي كانت تعبد الأوثان متسعة في الخطية ومرتبكة في التعاليم ومتعجرفة ومظلمة، صارت عارفة لله بدخولها في الإيمان الحقيقي، أي صارت أورشليم العقلية الروحية، بل الله عرفهم وحسبهم خاصته.
* تعال معي الآن إلى فئة أخرى خلصت بالتوبة.
قد تقول امرأة ما: لقد ارتكبت الزنا والدعارة ودنست جسدي بكل أنواع الترف والإفراط، فهل لي خلاص؟ حولي عينيك إلى راحاب، وتطلعي أيضًا إلى الخلاص. إن كانت زانية عامة تزني علنًا خلصت بالتوبة، أفما تخلص بالتوبة والصوم من سقطت في الزنا قبل قبولها النعمة؟!
اسألي كيف خلصت؟ إنها فقط قالت: "الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت" (يش 2: 1). إنها تقول: "إلهكم" دون أن تجسر لتنسبه لنفسها بسبب حياتها المملوءة ضلالًا. وإن أردت التأكد من خلاصها بشهادة من الكتاب المقدس، فإنك تجد في سفر المزامير: "أذكر راحاب وبابل بين الذين يعرفونني"[10] (مز 87: 4).
يا لعظمة حنو الله المترفق، فإن الكتاب المقدس يشير حتى إلى الزانيات. إنه لا يقول: "اذكر راحاب وبابل" فقط بل يكمل "بين الذين يعرفونني"، فالخلاص نبلغه بالتوبة سواء كنا رجالًا أو نساء على قدم المساواة[11].
القديس كيرلس الأورشليمي
أفاض القديس جيروم في الحديث عن رهب، التي قي ذهنه تعني راحاب الزانية، الأممية التي خبأت جاسوسي يشوع، وكأنها قد قبلت الإيمان بيسوع (المخلص). وقد أبرز القديس النقاط التالية:
أ. أنها أممية إشارة إلى قبول الأمم للإيمان.
ب. خبأتهما على السطح، فإيمانها كان ساميًا ومرتفعًا.
ج. خبأتهما تحت عيدان الكتان، والكتان الأبيض يشير إلى النقاوة، مع أنها كانت قبلًا زانية.
د. ينمو الكتان من التربة السوداء، وبلا جمال، لكن إذ يُسحب من التربة ويُعالج يصير باهرًا ببياضه الناصع.
هـ. أوصتهما أن يبقيا ثلاثة أيام ثم ينطلقا، ويرى القديس أن هذه الأيام تشير إلى التمتع بالاستنارة.
ز. طلبت منهما ألا يسيرا في السهول بل يصعدا على الجبل (يش 2: 16)، هكذا لا يوضع إيمان الكنيسة في السهول بل يرتفع.
ح. اسم "رهب" معناه "متسع" أو "كبرياء"، فقد كانت قبلًا تسلك في الطريق الواسع بكبرياء، المؤدي إلى الهلاك (مت 7: 13).
* الآن يتحدث المزمور عن دعوة الأمم "أذكر رهب وبابل بين الذين يعرفونني". ليكن الخاطي في سلام، فإن الرب كان يذكر رهب. أقصد يكون في سلام إن رجع إلى الرب... "أذكر رهب"، أي راحاب الزانية التي خبأت جاسوسي يشوع، هذه التي عاشت في أريحا (يش 2)... راحاب الزانية وحدها استقبلتهما، وخبأتهما لا في الدور الأرضي، بل في مخزن علوي على السطح، أي في سمو إيمانها[12].
* هذه التي كانت قبلًا في الطريق الواسع المؤدي إلى الهلاك صارت بعد ذلك تصعد إلى ذاكرة الله[13].
* أولئك الذين كانوا قبلًا غرباء، الذين كانوا في ضيق، يسكنون في وسط البحر (إذ يُقال أن صور تقع في قلب البحر)، هؤلاء الذين كانوا أولًا في البحر تضربهم الأمواج وُجدوا أخيرًا في الكنيسة[14].
* معنى "بابل" ارتباك". لا أذكر فقط رهب وإنما أيضًا بابل، أي كل نفس حتى إن كانت مرتبكة بالأخطاء والخطايا.
وَلِصِهْيَوْنَ يُقَالُ: هَذَا الإِنْسَانُ،
وَهَذَا الإِنْسَانُ وُلِدَ فِيهَا،
وَهِيَ الْعَلِيُّ يُثَبِّتُهَا [5].
جاء في الترجمة السبعينية: "وهو العلي الذي أسسها إلى الأبد". وكأن الإنسان المولود فيها بالحقيقة هو العلي الأبدي، الذي يؤسس كنيسته.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن كلمة الله الذي يهب المؤمن التبني أو الولادة الروحية قد وُلد فيها وتأنس لأجلنا؛ بهذا كل من يعترف بلاهوته يقبل صهيون أمًا روحية لنا، كقول الرسول إنها أمنا جميعًا (غل 4: 26).
يرى البعض أن القول "إن إنسانًا، وإنسانًا صار فيها" يشير إلى أن كثيرين يتمتعون بالولادة الجديدة، يأتون من كل الأمم، ويصيرون سكان صهيون الجديدة أو أعضاء في كنيسة العهد الجديد.
* إن كانت هذه رغبتنا، فإن المسيح يُولد يوميًا، خلال كل فضيلة يُولد المسيح[15].
* نظر داود إلى العلا وبدهشة شاهد منظر المدينة المدهش (مز 87: 5) بابل مدينة الله التي قيل عنها أمور مجيدة؛ ذكرت راحاب الزانية والقبائل الأممية وصور وأثيوبيا أيضًا في أورشليم السمائية. لن يقترب أحد بعد من أهل هذه المدينة المهجورين البؤساء، قائلًا: "ولصهيون يقال هذا الإنسان وهذا الإنسان وُلد فيها" (مز 87: 5). صار البابليون من أهل أورشليم، والزانية صارت عذراء، الأثيوبيون صار لونهم أبيض عوض السواد، وصارت صور المدينة العليا. وهكذا فإن العروس تشجع بنات أورشليم بحماسٍ، إذ تصف لهم صلاح العريس الذي يستلم النفس السوداء ويردها إلى صورة الجمال الأول بالشركة معه. إذن من كان "كخيام قيدار" يصير مسكنًا مضيئًا لسليمان الحقيقي، أي يسكن فيه ملك السلام. لذلك يقول النص: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم". وجميعكم الذين تنظرونني تصيرون كشقق سليمان حتى وإن كنتم قبلًا "كخيام قيدار"[16].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
* بمعنى: لا يقدر إنسان مجرد أن يكون له القدرة أن يعلن لصهيون أنها ستخلص بالإنسان الذي يُولد فيها... يُقال عنه إنه الرب العلي، فكم بالأكثر يُقال عنه إنه كلمة الله؟[17]
الرَّبُّ يَعُدُّ فِي كِتَابَةِ الشُّعُوبِ،
أَنَّ هَذَا وُلِدَ هُنَاكَ. سِلاَهْ [6].
يرى المرتل كأن الرب المشغول بخلاص البشر قد أمسك بكتاب يسجل فيه حسابات أو تعداد كل الشعوب القادمة للإيمان. كما يهتم بكل واحدٍ منهم باسمه، ليمجده.
يرى القديس جيروم أن الرب يعد تلاميذه ليسجلوا للشعوب عن مجيء هذا الابن العلي المولود في صهيون، يسجلوا هذا في الأسفار المقدسة.
* كتب أفلاطون كتبًا، لكنه كتب لقلة وليس لكل الشعوب... أما رؤساء الكنيسة (التلاميذ والرسل) فلم يكتبوا فقط لقلة، إنما لكل أحدٍ دون استثناء[18].
* صهيون العقلية كما ذكرنا هي كنيسة الأبكار المكتوبين في السماوات، كما قال ربنا له المجد: "افرحوا لأن أسماءكم كتبت في السماوات. فالشعوب وأراخنتهم، أعني بهم الرسل ومعلمي الشعوب الذين ولدوا فيها ولادة روحية. وهم عدد كبير لا يقدر إنسان أن يحصيهم؛ ولا ينطق بكميتهم سوى الرب المولود بالجسد. لهذا قال لتلاميذه: إن شعور رؤوسكم محصاة... وقد جاء في ترجمة سيماخوس: وأما عن الأمم فسيُقال لكل أحدٍ: "إنسان ولد هناك، وهو العلي الذي أسسها. الرب الذي معه كتاب الشعوب هو وُلد هناك".
3. المدينة المتهللة
وَمُغَنُّونَ كَعَازِفِينَ كُلُّ السُّكَّانِ فِيكِ [7].
يصور لنا سفر الرؤيا أورشليم العليا وقد دخلها كل المفديين يحملون قيثارات. إنها فرقة موسيقية متهللة تضم البلايين من آدم إلى آخر الدهور، لا تتوقف عن التسبيح بروح الفرح والتهليل بلا انقطاع.
يرى البابا ثاؤفيلس أنه عند انتقال (روح) إنسانٍ من هذا العالم يقف فريقان، فريق من قوات الظلمة يترقبون ضمها إليهم، لتشاركهم مصيرهم، وفريق من الملائكة يترقبون استقبالها بروح الفرح لتنعم بالفردوس السماوي.
* يتحدث النبي مع الكنيسة ويخبرها أن كل الذين يسكنون فيها كما لو كانوا مملوءين بالفرح والبهجة[19].
يعلق كل من القديسين أغسطينوس وجيروم على حرف "ك" في كلمة "كعازفين"، فالفرح في مدينة يختلف عن ذاك الذي يطلبه البعض هنا. يجد البعض فرحهم هنا في الخمر والموائد والطمع الخ. أما سكان مدينة الله فيتعرضون لمتاعب هنا وضيقات لكنهم ينعمون بالفرح السماوي الأبدي.
* تكون الأمم كلها صفوفًا، مرتلين ومسبحين لله بفرحٍ وسرورٍ، ساكنين في المدينة السابق تفسيرها التي أساساتها مبنية على الجبال المقدسة، وهي غير مختفية. وكما قال ربنا له المجد لأنها مبنية على جبلٍ. أما أبوابها ومداخلها فهي عندنا. وأما في وسطها فساكن فيها كافة المؤمنين مصطفين بنظامٍ إلهيٍ ومملوءين من كل فرحٍ روحي. وهي التي بناها المسيح الإله.
* إنني أفزع وأنا خائف، فأي رعب وأيّة شدّة تعاين النفس عند خروجها من الجسد، إذ يأتي ضدّها الجنود والقوات المضادّة وأرواح الشر والذين يتحكمون في ظلمة هذا العالم الخبيث، فيأخذون النفس، ويُظهِرون لها كل ما فعلت من الخطايا بمعرفةٍ أو بغير معرفةٍ أو بجهالة منذ شبابها، ويحاججونها على كل ما فعلت. فأيّة شدّة ورعب تلاقيهما النفس في تلك الساعة، حتى يُحكَم في قضيتها وتُعتَق. هذه هي ساعة شدّتها حتى ترى نهاية أمرها. ومن ناحية أخرى تقف القوات السماوية من الناحية المقابلة، وتُظهر أعمال النفس الصالحة. فتفكّر في خوف النفس ورعبها، وهي تقف بين الفريقين حتى يُحكم عليها في الدينونة من القاضي العادل. فإن كانت مستحقة للنعيم تأخذها الملائكة بكرامة وتحفظها من الأشرار، فتصير من ذلك اليوم بغير همٍّ كما هو مكتوب: "لأن جميع الساكنين فيكِ هم من الفرحين" (مز 87: 7 السبعينية). وحينئذ يتم المكتوب: "يهرب الحزن والتنهُّد" (إش 35: 10)، وحينئذ تفلت النفس من ضابطي الظلمة وتذهب إلى ذلك المجد المبهج الذي لا يُنطَق به.
من وحي المزمور 87
بك أدخل إلى مدينتك المحبوبة!
* نزلت إلى أرضنا، لكي تعلن حبك العجيب لنا.
حملتنا فيك، لندخل إلى كنيستك السماوية.
أنت هو الطريق الذي يحملنا إليه،
وأنت هو الباب الذي يدخل بنا إلى أمجادها.
وأنت هو سرّ مجدها وبهائها!
* أمجاد عجيبة قيلت عن مدينتك.
فيها تحققت نبوات الأنبياء.
وفيها كُشفت أسرار سماوية.
يُسمع فيها صوت تهليل لا ينقطع.
ويتجلى فيها الحق الإلهي والتعاليم المبهجة.
* تُرى متى تأتي على السحاب،
فأحمل قيثارة الروح الرائعة،
وأنضم إلى كل الذين عن يمينك.
كل كياني يعزف سيمفونية حب خالدة.
تفرح بنا الطغمات السماوية،
وتعزف معنا، أو نعزف نحن معهم.
يا لها من كنيسة سماوية مجيدة!