بداية الفِكر
إن فكر الخطية قد لا يبدأ بخطية.. لأنه لو بدأ هكذا، يكون قد كشف عن نفسه، وعندئذ يهرب منه القلب النقي، أو يطرده، أو يقاومه بكل السبل حتى لا يثبت.
ولكنه قد يبدأ بصورة خداعية... ربما يبدأ مثلًا بالغيرة المقدسة، ومحبة الرغبة في بناء الملكوت... ويتطور إلى دراسة الأخطاء التي تحتاج إلى إصلاح. ويتدرج من الأخطاء إلى المخطئين. ومن الرغبة في إصلاحهم إلى القسوة عليهم. وحينئذ يصبح الفكر كله إدانة وسخط على هؤلاء، وكراهية لهم، ورغبة في القضاء عليهم. وهناك فقط يكشف الفكر عن ذاته.
وقد يبدأ الفكر بعكس هذا، بالعطف على الساقطين ومحاولة إنقاذهم.
وهنا يستعرض نوعية السقوط، ودرجته وأسبابه وقصصه... وربما ينفعل بكل هذا انفعالًا أليمًا، فيسقط فكريًا في نفس الأمر..
لذلك ليس كل إنسان يصلح في العمل على إنقاذ الآخرين، ولا في ميدان الإصلاح.
الفكر الخاطئ قد لا يبدأ بصورة خطية. وأيضًا قد يبدأ ضعيفًا. يخيل إليك أنك تستطيع بسهولة أن تنتصر عليه... ولكنك كلما تستبقيه داخلك، وكلما تأخذ وتعطي معه.. يثبت هو أقدامه ويقوي عليك. ذلك لأنك مكنته من وضع اليد على أرض مقدسة داخل نفسك.
كما إنك أشعرت الفكر أنك تريده باستبقائك إياه... ومادمت تريده، إذن فأنت تعجز عن طرده.
كذلك في استقباله، يكثر إلحاحه عليك، وضغطه على مشاعرك، وحينئذ قد تضعف أمامه، لأنك لم تعد في قوتك الأولي التي كانت لك بداية الفكر.. ولم يعد هو في ضعفه الذي بدأ به.. وهنا تبدو الحرب غير متوازنة، وتحتاج إلى مجهود أكبر للسيطرة عليها.
أمنا حواء، لما بدأ معها الفكر، كان أضعف منها، مجرد سؤال. وقد تمكنت فعلًا من الرد على الفكر بقوة، فلم تذكر فقط أن الله قال لهما: "لا تأكلا من الشجرة" بل أنه قال بالأكثر" لا تمساه".. ولكن حواء مع معايشة الفكر الخاطئ، واستمرار عروضه وإغراءاته، بدأت تضعف، وتحولت من الفكر، إلى الشك، وأي الشهوة، وأخيرًا مدت يدها وقطفت وأكلت، وسقطت وأسقطت غيرها.
وبالمثل حدث لقايين..
قال له الله إن الخطية رابضة على الباب، إنها لم تدخل بعد، إنه (أي قايين)" يسود عليها" (تك4: 7). ومع ذلك بتوالي الفكر، وسماحه له أن يدخل إلى قلبه ومداولته معه، خضع قايين أخيرًا للفكر الذي سيطر عليه، وقاده إلى قتل أخيه...
نقطة أخري في سبب سيطرة الفكر عليك بعد أن كان ضعيفًا:
وهي إنك باسترخائك في طرد الفكر الخاطئ، إنما تخون الرب، باستبقائك فكرًا ضده، وبسبب هذه الخيانة تتخلى عنك النعمة التي كانت مصدر قوتك. وحينئذ يصبح من السهل سقوطك... وربما كان في داخلك لون من الكبرياء، شعور بالذات، يقنعك أنك أقوي من الفكر، وأنك تستطيع طرده في أية لحظة أردت!!
ولذلك تتركك النعمة لتشعر بضعفك فتهرب في المستقبل من أي فكر خاطئ يأتيك... وهكذا تنتصر عليه بالاتضاع وليس بادعاء القوة والقدرة على طرده..
وربما الفكر الضعيف الذي أتاك، استطاع أخيرًا أن يقوي عليك، لأنك حاربته وحدك، ولم تلجأ إلى الله بالصلاة لكي ينقذك منه، ونسيت أن ترشم ذاتك بعلامة الصليب وتلبس قوة من فوق...