خطورة الفضيلة الواحدة
إنه خطأ يقع فيه الكثيرون، إن لم يكن غالبية الناس، أعني الاهتمام بفضيلة واحدة أو التركيز علي فضيلة واحدة، بأسلوب مع الفضائل أخري، أو تهمل فيه فضائل أخري.
فالحياة الروحية ليست مجرد فضيلة معينة. ولكنها حياة تشمل كل شيء.
كما أن الكتاب المقدس ليس مجرد آية واحدة، أو وصية واحدة، إنما هو كتاب، تحدث عن الخير كله، وعن البر كله، وينبغي أن نلتفت إلي كل ما فيه من وصايا، لكي نحيا حياة لا نقص فيها ولا صراع.. لأنه ربما نقص فضيلة واحدة قد يضع الحياة كلها..! وكما قال الرسول:
"إن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئًا" (1كو2:13).
تصوروا إنسانًا ركز علي فضيلة واحدة عظيمة جدًا هي الإيمان، ووصل إلي قمتها. ولكن نقصته المحبة، فأصبح لا شيء!
وبنفس الوضع الذي يجاهد حتى يصل إلي مستويات عليا في حياة الفضيلة والبر، وينقصه فضيلة واحدة هي التواضع.. ما أسهل أن يقع في الكبرياء أو في البر الذاتي أو المجد الباطل، ويهلك!!..
مثال ذلك الفريسي الذي وقف يصلي مفتخر في الهيكل.
كان يذهب إلي الهيكل ويصلي، وكان يصوم يومين في الأسبوع، ويعشر جميع أمواله. ولم يكن من الناس الظالمين الخاطفين الزناة. وهكذا لم يحصل فقط علي فضيلة واحدة، وإنما علي جملة من الفضائل. ولكن لأنه كانت تنقصه فضيلة الاتضاع، بل كان يفتخر بنفسه، ويدين ذلك العشار. لذلك لم يخرج من الهيكل مبررًا مثل العشار (لو14:18).
وسنحاول أن نضرب أمثلة لخطورة استخدام الفضيلة الواحدة:
الوداعة
بعض الأشخاص يتمسك جدًا بفضيلة الوداعة، علي اعتبار أن السيد المسيح قد قال تعلموا منى فإني وديع ومتواضع القلب "مت29:11" وأيضًا قوله في العظة علي الجبل "طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض" (مت5:5). ويفهم الوداعة، علي أنه يكون باستمرار لا يغضب.
وتأتي موافق تحتاج إلي نخوة وإلي شجاعة وشهامة، ولا يتحرك هذا (الوديع)، لأنه يحب أن يكون باستمرار طيبًا هادئًا!!
وفي تصرفه هذا لا يكون إنسانًا فاضلًا، لأن كل مناسبة تحتاج إلي الفضيلة تناسبها. وتمسك هذا الإنسان بفضيلة الوداعة، بدون الشهامة والشجاعة توفقه في موفق الملام الناقص.. وقد قال الحكيم "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت" (جا1:3).
+ إبراهيم أبو الآباء كان أنسانًا وديعا، إذ سجد أمام بني حث، لما اشتري منهم مغارة المكفيلة، لتكون قبرًا لسارة (تك12:23). ومع ذلك ظهرت نخوته وشجاعته "لما سمع أن أخاه لوطًا قد سُبِيَ، جمع رجاله المدربين" (تك14:14). وقام ضد أربعة ملوك وهزمهم ورد سبي لوط وسادوم. ولما أراد ملك سادوم أن يكافئه ويعطيه شيئًا من الغنائم، ورفض وقال له في عزة نفس "لا آخذ خيطًا ولا شراك نعل.. فلا تقول أنا أغنيت إبرآم" (تك23:14).
+ كان الرهبان ودعاء. ولنهم لم يكتفوا بالوداعة وحدها. ولما حان وقت الدفاع عن الإيمان كانوا شجعانًا.
+ ومن الخطأ أن تكتفي بالوداعة، وتظن أنها تغنيك عن الشجاعة، أو تحولك إلي جثة هامدة بلا حركة، لا نخوة فيها ولا شجاعة.
بل تستخدم الوداعة حين تحسن الوداعة. وتستخدم الشجاعة حين تلزم الشجاعة تكون كلتاهما فيك، وتظهر كل منهما في الحين الحسن المناسب لها.
الوداعة ليس معناها الضعف. والقسوة ليس معناها العنف.
والوداعة والقوة تمتزج كل منهما بالحكمة والفهم. والإنسان الضعيف لا يمكن أن يكون صورة الله ومثاله. والإنسان القوي لا ينحرف إلي التهور، ولا يفقد وداعته وأدبه.
موسى النبي كان وديعًا. ولكنه أضاف إلي وداعته الشجاعة والقوة.
كان وديعًا إلي أبعد الحدود، إذ قيل عنه "وكان الرجل موسى حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين علي وجه الأرض" (عد3:12). وفي نفس الوقت كان شجاعًا وشهمًا وقويًا. إذ وقف ضد الشعب كله لما عبد العجل الذهبي. ووبخ أخاه هرون رئيس الكهنة حتى خاف منه وأرتبك "وأخذ العجل الذي صنعوه، وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا، وذراه علي وجه الماء" (خر20:32).
وداود النبي أيضًا أضاف الشجاعة والقوة إلي وداعته.
كان وديعًا حقًا. ونحن نقول في المزمور "اذكر يا رب داود وكل دعته" (مز1:131). ولم يركن إلي الوداعة وحدها. بل لما وجد الجيش كله خائفًا أمام جليات الجبار، قال "لا يسقط قلب أحد بسببه" (1صم32:17). وذهب بكل شجاعة وحاربه، وقتله، وأزال العار عن الشعب كله.
والسيد المسيح نفسه كان وديعًا (مت29:11). وكان قويًا.
وقف ضد الكتبة والفريسيين، وقال لهم "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون" (مت23). ووقف ضد الصدوقيين والناموسيين وأفحمهم وأخجلهم، وكذلك بكت كهنة الشعب اليهودي (مت21:22).
وهنا ننتقل إلي فضيلة أخري وهي الطيبة:
الطيبة
كثيرون يحاولون أن تكون لهم فضيلة الطيبة، لأنها ميزة واضحة للأنقياء وللقديسين. ولكنهم إذ يسلكون في طيبة القلب وحدها، بلا إفراز وفهم، كثيرا ما يصبحون ألعوبة وهزأة في أيدي المستهترين.
كن طيب القلب. ولكن أضف إلي الطيبة فضيلة الحكمة. فقد قال السيد المسيح "كونوا بسطاء كالحمام، وحكماء كالحيات. ولكن أحذروا من الناس" (كت10: 16،17). فكن طيبًا، ولكن ليس بالقدر الذب تفقد فيه كرامتك وهيبتك. وإلا فإن البعض -بسببك- سوف يكرهون الطيبة التي تجعل الغير يستهزئ بهم.
المشكلة إذن ليست في الطيبة، وإنما هي عدم مزجها بالحكمة، وبقوة الشخصية. بهذا ندرك عيب استخدام الفضيلة الواحدة.
إذن يجب عليك أن تزن كل فضيلة بميزان دقيق، ولا تمارسها منفردة عن باقي الفضائل، وإن رأيت من نتائجها سلبيات، أعرف أن السلبيات ليست بسبب الفضيلة، وإنما بسبب وقوفها وحدها بعيدة عن سائر الفضائل التي ينبغي أن تصاحبها وتحميها. يمكن، تكون طيب القلب. ولكن ليس معني الطيبة أن تسلم قيادتك لغيرك، أو أن تشترك بضعف شخصية في أخطاء الآخرين. أو أنك خوفًا من أن تغضب غيرك تشترك معه في خطأ، أو تجامله في ذنب واضح!
كان السيد المسيح طيب القلب جدًا. وكان أيضًا قويًا جدًا.
كان طيب القلب، إذ يقل عنه إنه كان "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف. وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (مت12:19،20). وفي نفس الوقت لم تقف وداعته وحدها. وإنما إلي جوارها شخصية قوية. إذ كان قويًا في كلامه وفي إقناعه وتأثيره. قويًا في محبته، وفي بذله، وفي مواجهته للموافق.
كان طيبًا يحب الأطفال ويحنو عليهم. ويدافع عن المرأة الخاطئة. وفي نفس الوقت يخزي الذي قبضوا عليها فينسحبون (يو8:7-9).
في طيبة قلب سمح للشيطان أن يجربه. ولما زاد عن حده، انتهره في قوة قائلًا "اذهب يا شيطان". فمضى (مت4).
سمح للجنود أن يقبضوا عليه. وفي نفس الوقت لما قال لهم "أنا هو"، سقطوا علي الأرض من هيبته (يو6:18).
من المفروض في الآباء والمعلمين، أن يكون في طبعهم الحنو، وأيضًا تكون لهم الهيبة. وليس من الصالح أن حنوهم يفقدهم هيبتهم.
لعل هذا ينقلنا إلي فضيلة أخري هي الحزم.
الحزم
قد يقال عن راهب إنه إنسان طيب يصلح أبًا، وكنه قد لا يصلح أن يكون أسقفًا، إذ تنقصه الإرادة والحزم ضد الروحيات!!
الإنسان الروحي يمكنه أن يجمع الأمرين معًا. ولا يستخدم الحنو بدون حزم. فمثل هذا الحنو الخالي من الحزم يضر ويتلف..
يوسف الصديق كان خادمًا جدًا في إدارة شئون مصر،وفي نفس الوقت كان له قلب حساس مملوء من الحنو. كان حازمًا جدًا في معاملته لأخوته، حتى أنهم ارتاعوا منه وخافوا، لما قال لهم "أنا يوسف. أحيٌّ أبي بعد؟" (تك3:45). ومع ذلك لم يستطيع أن يضبط نفسه، لما عرف أخوته بنفسه، وأطلق صوته بالبكاء (تك45: 1،2).
السيد المسيح كان يحب تلاميذه. وكان ينتهرهم أحيانًا.
قيل إنه "أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهى" (يو1:13). ومع ذلك لما أراد بطرس أن يمنعه عن موضوع الصلب "قائلًا له: حاشك يا رب" قال الري لبطرس "اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي" (مت23:16). هنا نجد الحزم واضحًا وبنفس الحزم وبخ الرب تلميذيه يعقوب ويوحنا، لما رفضت قرية السامريين أن تقبله، فقال التلميذان "أتريد يا رب أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضًا "فالتفت الرب وأنتهرهما. وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن إبن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص" (لو9: 53-56).. نعم في هذه المناسبة انتهر الرب يوحنا، الذي كان يتكئ في حب علي صدره..
من الأشياء العجيبة التي نجدها أحيانًا. في محيط الأسرة، أن الأبوين قد يوزعان الحب والحزم بينهما.
فيكون الحب مثلًا للأم، والحزم للأب!! بينما الحب والحزم يجب أن يتصف بهما كل منهما..
فإن أخطأ الإبن، أو حاول أن يخطئ، تقول له الأم "لئلا يغضب أبوك ويعاقبك "دون أن تقول له إنها هي أيضًا لا ترضي عن تصرفه. ويختلط الأمر علي الابن، ولا يعرف أين الحق؟ كل ما في الأمر أنه يتقي غضب الأب!
ويحدث أحيانًا أن كاهنًا يريد أن يكسب محبة شعبه، أو رئيسًا يحب أن يكسب محبة مرؤوسيه.. من أجل هذا يتهاون الأب الكاهن في حقوق الله. ويتهاون رئيس العمل في حقوق العمل!! ولا يضم أحد منهم إلي محبة الناس محبة الله والإخلاص للعمل!!
الخدمة والتأمل
هناك خدام يركزون علي خدمتهم تركيزًا كبيرًا، ومن فرط انشغالهم بها يقدرون أهمية الصلاة والتأمل في حياتهم، ويهملون روحياتهم في تركيزهم علي فضيلة واحدة هي الخدمة!!
ولا شك أن هذا ضد التكامل في حياة الروح.
إن السيد المسيح يطوف المدن يكرز ببشارة الملكوت (مت35:9). ومع ذلك كان يقضي الليل كله في الصلاة، وله خلوته في جبل الزيتون (يو1:8). وفي بستان جسيماني.
ويوحنا المعمدان كانت له خدمته الناجحة جدًا التي أعد بها الطريق أمام الرب. ومع ذلك قضي 30 سنة من حياته في البرية حتى ظهر لإسرائيل (لو80:1).
وإيليا النبي كانت له خدمته التي قضي بها علي أنبياء البعل وأنبياء السواري، ووبخ بها آخاب الملك (1مل18). وفي نفس الوقت كانت له خدمته علي جبل الكرمل.
وبولس الرسول كانت له حياة التأمل التي صعد بها إلي السماء الثالثة (2كو2:12). ومع ذلك كانت له خدمته القوية التي تعب فيها أكثر من جميع الرسل (1كو10:15). والتي بشر بها في آسيا وأوروبا وكتب 14 رسالة، بل كتب رسائل وهو في السجن أيضًا.
الإنسان المتكامل يجمع بين الحياتين: لا تكون الخدمة علي حساب التأمل، ولا التأمل علي حساب الخدمة. ولا يكتفي بفضيلة منهما مهملًا الأخرى.
من الأمثلة الواضحة لخطورة الفضيلة الواحدة، موضوع الطاعة:
الطاعة
لقد أمر الله بطاعة المرشدين الروحيين الذين يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابًا (عب17:13). وفي بستان الرهبان أمثلة كثيرة عن الطاعة لآباء كانوا قدوة عجيبة في حياة القداسة. وهنا يقف أمامنا سؤال هام وهو: هل تجب الطاعة مهما كان الأمر متعبًا للضمير؟! هنا ونضع إلي جوار الآية التي تدعو إلي الطاعة، آية أخري مشهورة وهي:
"ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس "(أع29:5).
فالمسيحية لا تنادي إطلاقًا بمبدأ (الطاعة العمياء). فينبغي أن يكون الإنسان واعيًا في طاعته، مدركًا أنه يطيع المرشد داخل طاعة الله. وإلي جوار طاعة المرشد، ينبغي أن توضع أيضًا طاعة المرشد لله. وكذلك روحانية المرشد. ونفس الكلام يقال في محيط الأسرة. إذ يقول الكتاب:
"أيها الأبناء، أطيعوا واليكم في الرب، فإن هذا حق" (أف1:6).
ونضع تحت عبارة (في الرب) أكثر من خط. فإن أمرك احد واليك أمرًا يخالف وصية الله، فلا تطعه. وإنما تطيع وصية الله. وهذا الأمر يحتاج إلي إفراز. وفي الكتاب أمثلة واضحة له. لعل من أبرزها: موقف سليمان الحكيم من طاعة أمه بثشبع، وموقف يوناثان من طاعة أبيه شاول الملك:
أ- موقف سليمان الحكيم من طاعة أمه.
كان سليمان الملك يحترم أمه جدًا ويكرمها. فلما جاءت لزيارته، يقول الكتاب إنه "قام للقائها، وسجد لها. وجلس علي كرسيًا، ووضع كرسيًا لأم الملك، فجلست عن يمينه" (1مل19:2). ولما قالت له "سؤالًا واحدًا صغيرًا، لا تردني".
قال لها "إسألي يا أمي، لأني لا أردك" (1مل20:2). ولكنها لما طلبت إعطاء أبيشج الشونمية زوجة لأخيه أدونيا (1مل1: 1-4). فكيف يجرؤ أدوينا أن يطلب الزواج بإمرأة أبيه، وهذا أمر مخالف لشريعة الله (لا8:18). لأنها بمثابة أمه. لذلك صار مستوجب القتل. كذلك كان خطأ من بثشبع أن تتوسط لأودينا في هذا الطلب الخاطئ (1مل18:2). لذلك رفض سليمان طلبها، بل وبخها علي ذلك (1مل33:2). علي الرغم من سجود لها قبلًا.
ب- موقف يوناثان من شاول الملك أبيه.
كان شاول الملك يحسد داود، ويخاف أن يأخذ داود الملك منه. لذلك حاول أن يقتل داود أكثر من مرة. أما يوناثان فانضم إلي داود ضد شاول أبيه. وكان يخبر داود بخطط أبيه لكي يهرب داود منه (2صم2:19). بل إن يوناثان وبخ أباه شاول من جهة محاولته قتل داود، وقال له "لا يخطئ إلي الملك عبده داود، لأنه لم يخطئ إليك، ولأن أعماله حسنة لك جدًا فلماذا تخطئ إلي دم برئ، بقتل داود بلا سبب؟! (2صم19: 4،5). وعمل يوناثان علي إفساد خطة أبيه في قتل داود، وأنقذه منه (2صم20).
الطاعة إذن موجهة أصلًا إلي الله.
أما طاعة الآباء والمرشدين، فهي داخل طاعة الله.
الكتبة والفريسيون كانوا علماء الشعب وقادته. ولكن السيد المسيح قد وصفهم بأنهم (قادة عميان) كما في (مت23: 16،24). وهكذا ما كان يحب طاعتهم، وبخاصة فيما يعملون به عن السبت، والهيكل والمذبح والقربان (مت23). وهم وأمثالهم ينطبق عليهم قول الكتاب "يا شعبي، مرشدوك مضلون" (أش12:3). وقوله أيضًا "وصار مرشدو هذا الشعب مضلين" (أش16:9).
هكذا كما أن هناك أشخاصًا يهلكون بالعصيان،هناك من يهلكون بالطاعة.
والأمر يتوقف علي نوعية الطاعة والعصيان، ونوعية المشورة المقدمة هل هي توافق كلام الله أم لا. فإن كانت وصية الله واضحة أمامك يجب أن تطيع الوصية الإلهية، مهما كانت شخصية الذي يقدم لك المشورة، أو الذي يصدر لك الأمر. وإن لم يكن الأمر واضحا بوصية إلهية، فماذا تفعل؟
علي الأقل يجب أن تطاوع ضميرك.
والمثال واضح في قصة أوريا الحثي مع داود الملك مسيح الرب: كان داود الملك يحاول أن يغطي علي خطيئة ما امرأة أوريا، بأن يجعل أوريا يبيت في بيته مع إمرأته. ولك ضمير أوريا لم يسمح له أن يكون باقي الجيش في البرية يحارب، بينما يأتي هو إلي بيته ليأكل ويشرب ويضطجع مع امرأته. لذلك قال لداود الملك "وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر" (2صم11:11). وهنا لأطاع أوريا ضميره، ولم يطع الملك مسيح الرب..
هناك أمر في الإنجيل، بعدم طاعة التعليم الخاطئ.
وذلك في قول القديس بولس الرسول: "إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم به، فليكن أناثيما.." (غل8:1). أي أنه مهما كانت درجة الذي يوصل إليكم التعليم -رسولًا كان أو ملاكًا- فلا تطعه فيما يخالف كلام الله. ومن يطيعه يكون محرومًا..
وينطبق ذلك علي التعليم الذي يصدر من "نبي أو حالم حلمًا "حتى لو أنه "أعطاك آيه أو أعجوبة. ولو حدثت الآية أو الأعجوبة" (تث13: 1-3).
يقول الكتاب "فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم. لأن الرب إلهكم يمنحكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" (تث3:13).
موقف القديسة دميانة من أبيها
كان أبوها واليًا علي البرلس والزعفران، فلما خضع لديوقلديانوس، وأنكر الإيمان ولو خوفًا، اعتبرت القديسة دميانة أنه لم تعد له عليها طاعة كأب. بل وبخته بشدة، وقالت له إنها تتبرًا من أبوته إن ظل هكذا منكرًا الإيمان. وظلت حتى أعادته إلي الإيمان واستشهد.
إن طاعة الوالدين نضع أمامها قول الرب:
"من أحب أبًا أو أمًا أكثر منى، فلا يستحقنى.." (مت37:10).
إذن أنت تكرم والديك إلي أبعد حد، فهذه أول وصية بوعد، كما قال الرسول (أف2:6). وتطيعها أيضاَ إلي أبعد الحدود، وكن "في الرب "داخل وصية الله. أما خارج الوصية، فالطاعة لله أولي.
ونفس الوضع يقال عن الآباء بالروح، وعن المرشدين..
لا شك أن أريوس -ككاهن- كان له أبناء في الاعتراف.
فلما سقط في هرطقة، لم تعد له طاعة عليهم. وهكذا بالنسبة إلي كل من خرجوا عن الإيمان، وكل المعلمين المخطئين كالكتبة والفريسيين.. والكهنة الذين يستخدمون الحل والربط ضد وصية الله. وهكذا نقول:
"كل حل ضد وصية الله هو باطل..
مهما كانت الدرجة الكهنوتية التي تصدره. فالكاهن إنما يعطي الحل، باعتباره منفذًا لوصية الله "ومن فمه تُطْلَب الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (سفر ملاخي 2: 7). فإن كان الحل منافيًا للشريعة يكون جلا باطلًا..
وينطبق هذا أيضًا علي الكهنة الذين يعطون تصريحًا بالزواج للمطلقين بعكس وصية الله. أو أي تصريح بزواج غير شرعي.
أنت تطيع الكاهن. والكاهن ينبغي أن يطيع الله.
وأنت تطيع المرشد، ولكن ينبغي للمرشد أيضًا أن يطيع الله. وليس من حق الكاهن أو المرشد أن يعطيك جلًا بأن وصية الله. فالراهب مثلًا الذي برهبنته قد نذر البتولية، ومن ذا الذي يستطيع أن تمنحه حلًا بأن يتزوج كاسرًا وصايا الله بخصوص النذر (جا5:5)..؟!
إن فضيلة الطاعة فضيلة جميلة تدل علي الأدب والتواضع واحترام الكبار والخضوع لهم، ولكن..
هناك بعض الموافق، التي يجب أن نقول فيها "لا"..
صدقوني، أتجرأ وأقول أن البعض استخدموا كلمة لا مع الله نفسه، وكانوا من الأبرار والقديسين..
موسى النبي، قال له الرب "رأيت هذا الشعب، وإذا هو شعب صلب الرقبة. فالآن أتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم.." (خر32: 9،10). ولكن لم يتركه ليحمي غضبه. بل قال له "أرجع عن حمو غضبك، وأندم علي الشر بشعبك" (خر12:32). والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر32:32).
ولم تعتبر هذه عدم طاعة الله، وإنما دالة. ولم يكن كلام الله أمرًا لموسى ينبغي أن يطيعه، وإنما كان اختبارًا لمحبته لشعبة وطول أناته عليهم.
إن المناقشة مع الله، لا تنفي حياة التسليم لمشيئته وأوامره.
ومثال ذلك مناقشة أبينا إبراهيم أبي الآباء مع الله بخصوص إهلاك سادوم وقوله له "أفتهلك البار مع الأثيم؟! حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر" (تك18: 23،25). ولم يقل إبراهيم "لتكن مشيئتك. احرق سادوم "!! بل كان نقاشه مع الله جزءًا من بره.
وهنا أيضًا نذكر ما قاله أرميا النبي "أبر أنت يا رب من أن أخاصمك. ولكني أكلمك من جهة أحكامك:
لماذا تنجح طريق الأشرار؟! اطمأن كل الغادرين غدرًا (أر1:12).
إذن يكمن أن تقول لا أحيانًا لمن هو أكبر منك. ولكن قلها في أدب.
كما قالتها أبيجايل لداود النبي، بكل إحترام وفي نصح ومحبة، حينما أدار أن يقتل نابال الكرملي"..لا تكون لك هذه مصدمة ومعثرة قلب لسيدي، إنك سفكت دمًا عفوًا، أو أن سيدي قد أنتقم لنفسه" (1صم31:25). وسبقت ذلك بكثير من كلام المديح. فسمع داود لها وامتدح عقلها، لأنها منعته في ذلك اليوم من إتيان الدماء وإنتقام يده لنفسه (1صم33:25).
يوحنا المعمدان وجد من واجبه أن يقول لا، للملك هيرودس.
فقال له "لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك" (مر18:6).
إذن في بعض الموافق ينبغي للإنسان أن يشهد للحق، علي شرطين:
1- أن يكون متأكدًا أم ما يتكلم عنه هو الحق. فلا يدافع عن جهل.
2- أن يقول ذلك في أدب. فلا يخطئ بلسانه ولا بقلمه ولا بمشاعره، ولا يجعل الآخرين يسلكون في سبيله ويخطئون معه، ومن أجل الحق، أو ما يظنه أنه الحق.
لأنه ليس من الحق، أن يخطئ إنسان باسم الدفاع عن الحق.