أهمية العمل الداخلي
الحياة الروحية ليست مجرد ممارسات خارجية تعمل بالجسد. إنما المقياس الروحي لها يتوقف على مدي روحانية الإنسان من الداخل، من حيث دوافعه ونياته، ومشاعر قلبه وحالة فكرة... ولا ننسي قول الرب في ذلك: "يا إبني اعطني قلبك، لأن منه مخارج الحياة" (أم4: 23).
الفضائل إذن تبدأ في القلب. ومن القلب تخرج لتظهر في الأعمال الظاهرة وكل عمل خارجي فاضل بدون القلب لا يحسب فضيلة على الإطلاق.
ولقد رفض الله كل عبادة تقدم إليه دون أن تكون نابعة من قلب نقي. وقال موبخًا اليهود هذا الشعب يكرمني بشفتيه. أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا" (مز7: 6).
لذلك لا يصح أن تهتم بالفضائل الخارجية، ولا أن تكتفي بذلك.
ولنضرب مثالًا لذلك: مقاومة الغصب. إنسان يريد أن يترك الغضب، فيدرب نفسه على أن يهدئ ملامحه، ويهدئ حركاته، ويبعد عن الصوت العالي، وعن الصوت الحاد، ويبدو هادئًا، بأعصاب هادئة بعيدة عن الانفعال. ولكن كل هذا هدوء خارجي. وربما يكون قلبه من داخل في أتون من نار، مملوءًا من الغضب، المكبوت في داخله، وحسن طبعًا أنك لا تثور، حتى لا تخطئ بلسانك وتفقد علاقاتك بالآخرين. ولكن...
وهدوء القلب يأتي بتدريبه على الاحتمال، وعلى الوداعة، ومحبة الآخرين، وعلى لوم النفس أيضًا. وهكذا تقنع نفسك من الداخل، حتى لا يتحرك قلبك حركة خاطئة، مهما كانت غير ظاهرة للآخرين.
ولعل هذا يذكرنا بقول الآباء عن: معنى تحويل الخد الآخر...
ما معني من لطمك على خدك الأيمن حول له الآخر أيضًا؟ (متى5: 39).
قال بعض الآباء كما في كتاب المعاهد ليوحنا كاسيان إن اللطمة الأولي هي من الخارج، على الخد أي إهانة خارجية، تقابلها بتحويل الخد الآخر، الذي هو اللطمة الداخلية، بتوجية اللوم إلى نفسك، بأن تقول لنفسك: أنا استحق كل هذا بسبب خطاياي. فاللطمة الثانية تأخذها من قلبك في الداخل.
وحتى إن أخذنا وصية تحويل الخد الآخر بالمعني الحرفي وليس بالمعني الرمزي يوافق ما حدث لداود النبي لما تعرض " شمعي ابن جيرا " لسبه وإهانته حينئذ أراد قائد جيش داود أن يقتل شمعي بن جيرا، فمعنه داود النبي قائلًا: "دعوه يسب، لأن الرب قال له سب داود.. لعل الرب ينظر إلى مذلتي" ((2صم 16: 5 12).
وهذا أيضًا يوافق قول القديس الأنبا أنطونيوس الكبير "إذا وبخك أحد من الخارج، فوبخ نفسك من الداخل" وذلك لكي يصير هناك توازن في داخلك وخارجك، حتى لا تتعب..
فالبعض يحتمل من الخارج في هدوء ظاهري بين داخله وخارجه...
ولكن بالعمل الروحي الداخلي ينجو من هذا التناقص، إما عن طريق الاتضاع بلوم النفس وتذكر خطاياه.. وإما عن طريق الفرح بالدخول في شركة آلام المسيح (في3: 10). وهكذا يشعر بفرح في الآلام، مثلما حدث مع الآباء الرسل الذين بعد أن جلدوهم " ذهبوا فرحن.. لأنهم حسبوا متسأهلين أن يهانوا من أجل أسمه" (أع5: 41). ننتقل إلى نقطة أخري وهي:
العمل الداخلي في التوبة.