كسوف الله
إن نظرة سريعة إلى الظاهرة الدينية في المجتمعات المتحضرة في العصر الحديث تبين لنا أن حضور الله لم يعد مستديماً كما كان في العصور الماضية. لقد عشنا في العقود الأخيرة، بحسب تحليل بعض الدارسين، علمنةً لم تطاول المجتمع وحسب، بل الوعي والوجدان البشري بحد ذاته. فماذا وراء هذه العلمنة؟ ماذا وراء " كسوف الله" هذا، بحسب ما يسميه الفيلسوف مارتن بوبر؟
إنه سيكون من الخطأ أن نبسط الأمر ونراه من وجهة نظر أحادية، ومع ذلك فإن هناك بعض العوامل والأسباب التي أدت إلى غياب تدريجي لله من أفق الإنسان المعاصر، وسنعدد بعضها:
أولاً: نهاية الإنسان الليتورجي: نتحدث عن نهاية الإنسان الليتورجي ليس فقط بإشارة إلى الإنسان الذي يزاول الكنيسة والصلوات العامة، بل نتحدث عن إنسان فَقَدَ وقع الإطار الديني لمختلف خبراته الحياتية. فمن يعيش في الغرب الآن يرى أن الأعياد الكنسية الكبيرة لا تعني شيئاً للمواطن العادي وقد تم تغيير أسماء العديد من الأعياد وإعطاؤها طابعاً علمانياً (أو وثنياً). إن مثلاً على ذلك هو عيد "هالوين" الذي حل مكان عيد جميع القديسين. وعيد الفصول (سيزونز غريتينغز) الذي اقترحه البعض بديلاً عن عيد الميلاد (كريسماس) في انكلترا. هذه الخبرة، خبرة تهميش البعد الديني تلقي بظلها على مختلف خبرات الإنسان الذي لم يعد يلتقي الله في المنعطفات الاعتيادية لوجوده اليومي.
ثانياً: الإلحاد الذي أضحى حالة اجتماعية وثقافية: يلتقي العديد من علماء الاجتماع واللاهوتيين على أن الإلحاد الذي بات حالة اجتماعية معممة وموقفاً ثقافياً إنما هو سابقة في التاريخ. بالطبع، الملحدون موجودون منذ أزمنة مختلفة وهناك أنواع عديدة من الملحدين. فملحدو الإغريق يختلفون عن ملحدي العصر الحديث في أوروبا. ولكن الظاهرة اللافتة هي أنه في أيامنا هذه لم يعد الإلحاد أمراً يتعلق بأقلية من المفكرين بل أضحى ظاهرة شعبية. ويعلق يوسف راتزنغر على هذه الظاهرة فيقول: " لقد بات الإلحاد متفشياً لدرجة أنه لا يُعنى بتحدي الإيمان، بل يتجاهله بالكامل".
ثالثاً: مآسي البشرية: لطالما كانت مسألة الشر من المسائل التي طرحت الشكوك في قلب الإنسان. وقد اعتبرها القديس توما الأكويني في خلاصته اللاهوتية من بين الاعتراضات ضد وجود الله. إن الحربين العالميتين، السجون النازية، عمليات الإبادة الجماعية، وتعميم أخبار الشر عبر وسائل الإعلام... كل هذه عوامل ضاعفت في ذهن الإنسان المعاصر حدس الشر في العالم، وبشكل غير مباشر أدت إلى تعميم الشكوك حول حضور الله، وجوده وطيبته. فكيف لنا أن نتحدث عن الله بعد إبادة ملايين الأشخاص؟ كيف لنا أن نتحدث عنه بعد أن نرى طفلاً يموت بداء السرطان؟ كيف يمكننا أن نتحدث عن الله بعد فيضان يقتل عشرات الآلاف؟
رابعاً: الثورة الجنسية: شكلت ثورة عام 1968 تعبيراً عن تحول شمل عدة أبعاد من نظرة المرء إلى نفسه، إلى علاقاته وإلى جسده. لم تكن الثورة فقط إطلاقاً للعنان للحرية الجنسية، بل تضمنت أبعاداً أعمق. حملت سنوات "الثورة" تلك إلى تقويض مفاهيم وقيم مثل الطاعة كنقيض للحرية، مثل العفة كنقيض للتعبير عن الذات، ومثل الإذعان لـ "أنا" إلهي كنقيض وتهديد للـ "أنا" الفردي.
خامساً: الديانات الشرقية: إن الأديان أو الفلسفات الدينية الشرقية جلبت إلى ذهنية الإنسان المعاصر إمكانية عيش بُعد روحي للوجود بمعزل عن إيمان ديني فردي أو جماعي. يمكننا أن نرى الكثير من الكتاب الروحيين الذين ليسوا مؤمنين بالضرورة. نرى في كتابات الفيلسوف الفرنسي الملحد أندريه كومت نموذجاً لهذا الشكل من الروحانية الملحدة (مثلاً في كتابه روح الإلحاد): الروحانية لم تعد تعبيراً حتمياً لحياة في الروح القدس الذي يُنال في الكنيسة، وفي حياة روحية مشبعة بالعقيدة، بحسب المفهوم الذي يقدمه القديس إيريناوس. الروحانية الآن هي عيش الحياة بفلسفة.عيش الحياة بانتباه للبعد الباطني لإنسان لا يرى بالضرورة في هذا البعد صدى لإله في السماء.
ختاماً: في حديثه عن الله يقول الفيلسوف المسيحي موريس بلوندل: " أن الله هو ذاك الذي لا يمكن الحديث عنه من الذاكرة، هو ذاك الذي لا يمكن الحديث عنه كغائب". ماذا يقصد بقوله هذا؟
بالطبع يمكننا الحديث عن الله متذكرين ما فعله في حياتنا، ولكن ما يعنيه الفيلسوف هو أنه لا يمكننا أن نعتبر عمل الله في حياتنا واقعاً من الماضي، واقعاص يغطيه غبار الزمان وتطويه ذكريات الماضي دون وقع حي في الحاضر. ما يعنيه الفيلسوف إذاً هو أن الحديث اللائق عن الله يتطلب أن نعي أن الله حاضر هنا والآن وأن حديثنا عنه يجب أن يرتكز على حديثنا إليه، على صلاتنا. لذا نختم بصلاة الطوباوية أليصابات الكرملية:
" يا إلهي الثالوث الذي أعبده، ساعدني لكي أنسى ذاتي كلياً فيك... اسمح لي أن أغوص أكثر فأكثر في أعماق سرك.. أشعر بعجزي، ولذا أطلب إليك أن تلبسني قوتك.. أن تغمرني، أن تغزوني، أن تأخذ مكاني لكي تضحي حياتي إشعاعاً لحياتك.
أيها الكلمة الأزلي، أريد أن أقضي حياتي بالإصغاء إليك. يا روح الحب حلّ علي لكي يتم فيّ كتجسد للكلمة. وأنت، أيها الآب، انحنِ نحو خليقتك الفقيرة الصغيرة.
أيها الثالوث، يا كلّ ما لي، أيها الغور الذي أضيع فيه، إني أسلم ذاتي لك".