تأملات في سفر الرؤيا(6) اكتب إلي ملاك كنيسة أفسس
هكذا قال الرب للقديس يوحنا الرائي:
السبت 16 نوفمبر 2013
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
اكتب إلي ملاك كنيسة أفسس:هذا يقوله الممسك السبعة الكواكب في يمينه,الماشي في وسط السبع المنابر الذهبية...أنا عارف أعمالك, وتعبده وصبره.وأنك لاتقدر أن تحتمل الأشرار.
وقد جربت القائلين أنهم رسل وليسوا رسلا,فوجدتهم كاذبين.
وقد احتملت ولك صبر,وتعبت من أجل اسمي ولم تكل.ولكن عندي عليك أنك تركت محبتك الأولي فاذكر من أين سقطت وتب.واعمل الأعمال الأولي.وإلا فأني آتيك عن قريب,وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب...(رؤ2:1-5).
ملاك كنيسة أفسس كانت له علاقة محبة قوية مع الله,حياة شركة وعشرة,وكان قويا في خدمته له فيها تعب واحتمال وصبر.ولكنه بمرور الوقت ترك محبته الأولي,بل أيضا سقط وأصبح محتاجا إلي توبة!
هو ترك الرب,ولكن الرب لم يتركه
وكأن الرب يقول له:إن كنت لاتحبني بنفس محبتك القديمة,فأنا مازلت أحبك.وإن كانت ليست لك بي صلة قوية الآن فأنا أريد أن أتصل بك وعلي الرغم من أنك تركت محبتك الأولي إلا أني أقول لرسولي يوحنا اكتب إلي ملاك كنيسة أفسس
وها أنا أرسل إليك رسالتي لكي أعاتبك وأصالحك...
إنه أسلوب الله باستمرار-قديما وحديثا- أن يصالح أولاده...
في العهد القديم يرسل أنبياءه لمصالحتنا فيقول في سفر إشعياء النبيهلم نتحاجج-يقول الرب-إن كانت خطاياكم كالقرمز,تبيض كالثلج...(1ش1) وفي العهد الجديد يقول عنه القديس بولس الرسول: ...الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة ...إذن نسعي كسفراء عن المسيح-كأن الله يعظ بنا-نطلب عن المسيح:تصالحوا مع الله(2كو5:18-20).
وفي قصة الابن الضال,حينما غضب الأخ الأكبر,ورفض أن يدخل البيت ليشترك في الفرح بعودة أخيه,خرج إليه الأب ليصالحه,ويقول لهيابني أنت معي كل حين,وكل مالي فهو لك,ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر,لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش...(لو15:28-31).
ونري أن الرب في مصالحته لملاك كنيسة أفسس يبدأ بقوله
هذا يقوله الممسك السبعة الكواكب في يمينه,الماشي وسط السبع المنائر الذهبية فلماذا بدأ رسالته هكذا؟
نلاحظ في سفر الرؤيا أن صفة السيد المسيح تتنوع في كلامه من كنيسة إلي أخري.كما أن مكافأته أيضا تتنوع من كنيسة إلي أخري.
وحقا أن أوصافه لاتعد,ولكنه مع ملاك كنيسة أفسس يقصد شيئا معينا,فما هو؟إنه يقصد أن يقول له:
مادمت أنا الممسك السبعة كواكب في يميني,وأنت أحد هذه الكواكب,إذن فأنت في يميني مهما تركت محبتك وسقطت!
مهما بعدت عني وحتي إن حاولت أن تهرب مني فأنا مازلت أحافظ عليك في يميني ولا أجعلك تفلت من يدي.
أشبه هذا بفتاة مخطوبة لشاب ودبلة الخطوبة في يدها اليمني ومع أن محبته قد فترت فهي لاترال تحبه.
تقول له:قد تركت محبتك الأولي,ولكن دبلتك لاتزال في يدي اليمني....
قلت زيارتك لي,وقلت هداياك لي,وربما قل اهتمامك بي,ولكن دبلتك لاتزال في يدي اليمني...مازلت محتفظة بك في يميني.
فإن خرج الأمر عن حده,تقول لهاذكر أين سقطت وتب وإلا فإني أزحزح منارتك من مكانها.ازحزج دبلتك من يدي اليمني,إن لم تتب!...والرب هنا يقول لملاك كنيسة أفسس:
أنت في يميني,علي الرغم من أنك تركت محبتك الأولي
أنا لم أتخل عنك,ولا عن كنيستك,فأنا لاأزالالماشي وسط المنائر السبعة,أتجول بينها وافتقدها,ومنها منارتك...عجيب هو الرب في محبته!لايترك حتي الذين سقطوا ويحتاجون إلي توبة...لأن هبات الله ودعوته هي بغير ندامة(رو11:29)...حتي إن كنا نحن غير أمناء,يبقي هو أمينا.
ماذا تعني أيضا عبارة الماسك السبعة الكواكب في يمينه؟
يمسكها في يمينه,أي تكون أداة في يمينه يعمل بها عملا, يعمل بها خيرا,يستخدمها في بناء ملكوته,لأن في يمين الرب التي صنعت قوة(مز117) فاسأل يا أخي نفسك:ما الذي أمكن أن يعمله الرب بك؟لأنه من غير المعقول أن يمسك الرب بشئ في يده,ولا يعمل به شيئا! كمن يمسك بقلم في يده,لابد لكي يكتب به شيئا.فهل أنت أداة صالحة في يد الرب؟
الرب طمأن ملاك كنيسة أفسس بأنه ممسك به في يمينه وماذا أيضا؟قال لهأنا عارف أعمالك(رؤ2:2).
أنا عارف أعمالك...عبارة تفرح وتخيف
تفرح الإنسان الذي لايلومه ضميره علي شئ.وفي نفس الوقت تخيف الذين ضمائرهم مثقلة بخطايا لم يتوبوا عنها بعد...
أنا عارف أعمالك الطيبة والرديئة,الخفية والظاهرة.أعمالك كلها وما لايعرفه الناس عنك,أعرفه أنا عنك,وكا ماتريد أن تكتمه.
أنا عارف كل عمل حسن عملته في الخفاء,حتي لاتنال عنه أجرا من الناس.. هذا سوف تجازي عنه علانية...كذلك أعرف خطاياك المكتومة.
وهذه أريدك أن تتوب عنها,حتي لا أزحرخ منارتك من مكانها...
والرب قد طمأن ملاك كنيسة أفسس,فذكر له أعماله الحسنة أولا فقال لهأنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك...وقد احتملت ولك صبر,وتعبت من أجل اسمي ولم تكل(رؤ2:2-3) وأعرف ما قاسيته من الأشراروقد جربت القائلين إنهم رسل وليسوا رسلا,فوجدتهم كاذبين...أنا عارف أعمالك الطيبة,وقد ذكرتها لك,حتي لاتفتخر بها وتذكرها بنفسك كما فعل الفريسي(لو18:11-12).
عجيب أن الرب يذكر لإنسان ترك محبته الأولي,أعمالا طيبة له من قبل بين البشر:إذ إنسان ترك محبته الأولي,ينسون له كل مافعله قليلا من أعمال طيبة.وإذا بالسنوات العجاف تأكل ماكان للسنوات السمان(تك40) أما الرب فلا ينسي شيئا حتي كأس الماء البارد كما قال ومن سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ,فالحق أقول لكم أنه لايضيع أجره(مت10:42).
مث أولئك الذين يقفون عن يمينه في يوم الدينونة الرهيب ناسين مافعلوه من أعمال رحمة ويقولون لهمتي يارب رأيناك جائعا فأطعماك أو عطشانا فسقيناك؟ومتي رأيناك غريبا فآويناك؟أو عريانا فسكوناك؟
...فيذكرهم الرب بما فعلوه قائلاالحق أقول لكم:بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر,فبي قد فعلتم(مت25:37-40).
وبعد أن ذكر الرب لملاك كنيسة أفسس أعماله الطيبة,قال له:عندي عليك أنك تركت محبتك الأولي(رؤ2:4).
وهذا درس لنا أن نذكر محاسن الناس أولا قبل أن نتعرض لشئ من مساوئهم.وليكن هذا هو الأسلوب الممتدح في النقد.. اذكر أولا النقاط السليمة ووفها حقها قبل أن تذكر الأخطاء أو النقائص...
وكان هذا هو الأسلوب الذي استخدمه الرب مع المرأة السامرية:
قال لهاحسنا قلت ليس لي زوج قبل أن يقول لهالأنه كان لك خمسة أزواج وختم ذلك بعبارةهذا قلت بالصدق(يو4:17-18).
وأسلوب مدح الناس كان أسلوب الرب مع قائد المائة(من8:10) ومع زكا العشار(لو19:9) ومع المرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي (لو7:47) بل حتي هذا الفريسي الخاطئ امتدحه الرب بعبارة بالصواب حكمت(لو7:43) قبل أن يظهر له أن الخاطئة كانت أفضل منه!.
عجيب أن ملاك كنيسة أفس علي الرغم من تعبه وصبره كان قد ترك محبته الأولي واعتبره الرب أنه قد سقط!
إن الله يريد محبتك له أكثر من تعبك لأجله.
يقول عن مريم التي جلست عند قدميه تنصت إلي كلامه إنها اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها, أكثر من مرثا التي كانت تتعب في الخدمة(لو10:39-42).
الابن الكبير كان يتعب كثيرا من أجل الأب بغير حب.وقد قال لأبيه ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم اتجاوز وصيتك وجديا لم تعطني لأفرح مع أصدقائي!(لو15:29) وانتقد أباه وكان تصرفه ضد مشيئة أبيه,علي الرغم من أنه كان يخدمه سنين كثيرة وبرهن علي أنه ينقصه الحب ومن أجل عظمة هذه المحبة,قال القديس بولس الرسولإن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاسا يطن أو صنجا يرن...وإن اطعمت كل إخواني وإن سلمت جسدي حتي احترق ولكن ليس لي محبة فلست شيئا(1كو13:1-3).
مافائدة التعب الكثير لأجل الله بدون محبتنا لله؟!
ألا نكون كماكينات تتحرك وتتحرك,بدون عاطفة ولا حب؟!
حتي الإنسان المشغول بالخدمة يتعب دائما يتعب في اجتماعات وفي افتقاد,وفي تنظيم للخدمة وتحضير للدروس,كل ذلك بدون حب الله وللناس,بينما يقول الكتابتحب الرب إلهك من كل قلبك,ومن كل فكرك,ومن كل نفسك(تث6:5) (مت22:37) وأيضاتحب قريبك كنفسك(مت22:39).
ما أجمل قول السيد المسيح للأب عن خدمته المشبعة بالحبعرفتهم اسمك وسأعرفهم,ليكون فيهم الحب الذي احببتني به,وأكون أنا فيهم(يو17:26).
مشكلة ملاك كنيسة أفسس أنه تعب كثيرا في الخدمة ولم يكل وفي نفس الوقت ترك محبته الأولي!!
هل شغلته الخدمة عن محبة الآب,كما حدث للابن الكبير(لو15)؟
هل تحول إلي مكوك في الخدمة بدون حب؟هل تحولت خدمته إلي روتين بلا عاطفة؟مثال ذلك الذي يقوم بخدمة الفقراء...ويبدأ أولا بمحبتهم ثم تبرد محبته بمرور الوقت ويتحول من خادم روحي إلي باحث اجتماعي ويصبح كل همه هو فحص من يستحق ومن لايستحق...وبالوقت ينتهر الفقراء ويتهمهم أحيانا بالكذب أو التحايل أي أنهم محتالون!ويفقد محبته الأولي..
قديما كان يعطي المحتاجين وقلبه مملوء بالحب والحنو عليهم.أما الآن فيعطيهم وقلبه مملوء بالتذمر عليهم وقد لا يعطيهم!
ترك المحبة الأولي,ربما يكون لونا من الفتور الروحي وقد اعتبره الرب سقوطا فقال لهاذكر من أين سقطت وتب (رؤ2:5).
مثال ذلك: إنسان حينما يبدأ علاقته مع الله يكون ملتهبا بالنار.. الحرارة في صلواته وفي خدمته لله بحماس شديد يدقق في حياته الروحية,يتحمس جدا في ممارسة كل وسائط النعمة من صلوات ومزامير وألحان وتأمل وخدمة عيناه مملوءتان بالدموع وصلواته ممزوجة بالخشوع وقلبه عامر بالحب وكلماته كلها ذات تأثير عجيب في نفوس سامعيه.
ثم يأتي وقت تبرد في حرارته,وتتحول صلواته إلي روتين وتتحول خدمته إلي مجرد نشاط!!ويفقد محبته الأولي...
هذا الفتور يعتبر سقوطا ويحتاج إلي توبة
وإذا الكتاب المقدس قد تحول إلي معلومات في فكره,وليس إلي مشاعر في قلبه,ولا إلي مناخس في ضميره!
وبعد أن كان يذهب إلي الكنيسة فرحا وهو يرتلفرحت بالقائلين إلي بيت الرب نذهب(مز121:1) وبعد أن كان يدخل إلي بيت الرب في انسحاق قلب وهو يقول للربأما أنا فبكثرة رحمتك أدخل إلي بيتك وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتكأصبح يدخل كمجرد عادة بلا مشاعر!
يدخل إلي بيت الله لا حبا ولا فرحا ولا رغبة في نوال بركة روحية ونعمة...إنما خوفا من مجرد البعد عن الكنيسة لئلا يكون عثرة للآخرين...
|