تفسير مبسط لإنجيل مرقس بالكامل ............. للكاتب داربى
الإنجيل حسب مرقس
مقدمة
الإنجيل حسب مرقس يختلف في طبيعته عن باقي الأناجيل من عدة نواحٍ. فكل إنجيل كما سبق ورأينا له طبيعته الخاصة به، وإن كانت جميعها مشغولة بشخص الرب، ولكن من زوايا مختلفة للرؤية، فهو الشخص القدوس، وهو ابن الله، وهو ابن الإنسان، وهو ابن داود، وهو المسيا الآتي إلى اليهود، وهو أيضًا عمانوئيل. ولكن مرقس ليس مشغولاً بأي من هذه الصفات، بل نرى فيه الخادم، وعلى وجه الخصوص خدمته كمن يحمل الكلمة، فهذه هي الخدمة الفعالة للمسيح في هذا الإنجيل. ولا شك أن مجده الشخصي الإلهي يظهر بصورة واضحة وتلقائية من خلال خدمته، ولكن كما لو أنه يظهر منه لا إراديًا، حتى أنه يتفادى إظهار نتائجه، ولكن تبقى الخدمة هي موضوع هذا الكتاب. من الطبيعي أننا سنجد فيه خصائص تعليمية، وسنرى الحق يزعزع التقليد اليهودي الذي رزحوا تحته طويلاً، كما سنجد وقائع موته الذي يُبنى عليه الإيمان، ولكن يظل ما يميز هذا الإنجيل خصائص الخدمة والخادم كما نراها في حياة الرب يسوع، والعمل الذي جاء هو شخصيًا لكي يكمله على الأرض. من هذا المنطلق لا نجد وقائع وأحداث ولادته في مرقس، بل نجده يفتتح بإعلان بدء الإنجيل، الذي كان يوحنا المعمدان كارزًا له والمرسل أمام ذاك الآتي بالأخبار السارة إلى الإنسان.
الأصحاح الأول
كانت هذه الكرازة رسالة جديدة، على الأقل في طبيعتها وهدفها، وفي تطبيقها المباشر. لم تكن تتكلم عن الامتيازات التي لليهود والتي لابد أن ينالوها بالتوبة والرجوع إلى الرب. فحسب المواعيد كان المسيا آتٍ، وكان يوحنا يعد الطريق أمامه بالكرازة بالتوبة ومغفرة الخطايا، فهذا ما كانوا في حاجة إليه. وبالنسبة إلى التائب يكون غفران الخطايا أمرًا هامًا، وهذه كانت المهمة الرسمية ليوحنا المعمدان. والغفران هنا هو الأرضية التي تقف عليها كل البركات التي سينالها إسرائيل تحت العهد الجديد الذي سيؤسس على موت المسيح، ولكن إذ قد رُفض المسيا فقد أُدخل المؤمنون إلى بركات سماوية أفضل. في خروج32: 14،34 نجد الغفران السياسي وليس غفران التبرير، وفي حالة خطية داود العظمى حصل هذا الغفران عندما اعترف فنقلت عنه خطيته، ولكنه نال تأديبًا قاسيًا بسببها لأنه أعطى أعداء الرب فرصة لأن يجدفوا، فكان لابد من أن يُحفظ مجد الله في البر أمام العالم (2صم12: 13، 14).
عرض يوحنا على إسرائيل غفرانًا حاضرًا، وهو الغفران الذي سينالونه في اليوم الأخير، حين ينتهي رفضهم الطويل بغفران سياسي، كما أن البقية على الأقل سينالون بواسطة الموت وبدم الرب يسوع المسفوك غفرانًا وتبريرًا لكي يتمتعوا بالمواعيد تحت العهد الجديد[1].
كان الأنبياء قد تكلموا عن الغفران الذي سيمنح للشعب متى رجعوا إلى الرب، ولكن هذا الغفران هنا هو موضوع الكرازة الحاضر، فخرج الشعب أفواجًا لينالوا هذا الغفران. لاشك أن هذه الكرازة مست الضمائر، ومهما كانت كبرياء قادتهم فإن الشعب كان يشعر بحالته بمجرد أن يتكلم الله إلى القلب والضمير خارج إطار الديانة الرسمية، حتى أنهم اعترفوا بخطاياهم. ربما كان هذا بالنسبة للبعض مجرد تأثير الضمير الطبيعي، أي لم يكن عمل الإحياء الحقيقي، لكن على أقل قياس كان هذا استجابة لشهادة الله.
ولكن يوحنا انفصل بصلابة عن الشعب وعاش خارج نطاق المجتمع، مناديًا بآخر أقوى منه، لم يكن يوحنا أهلاً لأن يحل سيور حذائه. ذاك لم يكن مزمعًا أن يكرز فقط بتوبة تقبل بواسطة معمودية الماء، بل مزمع أن يعطي الروح القدس والقوة لمن يقبل شهادته. ثم ينتقل الإنجيل سريعًا إلى خدمة ذاك الذي شهد عنه يوحنا، بعد أن أوجز خدمة يوحنا باعتبارها المدخل إلى خدمة الرب يسوع.
ويأخذ الرب يسوع مكانه بين التائبين من شعبه، وإذ يقف بين يدي يوحنا المعمدان يرى السماوات وقد انفتحت له، والروح القدس ينزل عليه كحمامة، ويعلن الآب أنه ابنه على الأرض الذي به قد سر جدًا. ثم يخرجه الروح إلى البرية حيث يجتاز تجربة الشيطان له أربعين يومًا بين الوحوش، وحيث مارست الملائكة خدمتهم نحوه. ثم نرى كل جوانب مركزه وصفته التي يأخذها على الأرض وعلاقاته بكل من أحاطوا به في أعداد قليلة، وقد سبق أن تأملنا هذا تفصيلاً في استعراضنا لإنجيل متى.
من هذه النقطة يختفي يوحنا المعمدان من المشهد ليفسح المجال للخدمة العلنية للمسيح الذي كرز به، ومن ثم يظهر المسيح في مركز الشهادة معلنًا أنه قد كمل الزمان ولم يبق مجال لنبوات أخرى ولا لأزمنة تُنتظر، فإن الله مقيم ملكوته، وعليهم أن يتوبوا ويقبلوا البشارة التي أتى بها إليهم في ذلك الوقت الحاسم.
ثم يتقدم مرقس الإنجيلي بسرعة[2] إلى كل جوانب خدمة المسيح، فيقدمه أولاً كمن أخذ على عاتقه مهمة خدمة الدعوة الجهارية للإنسان لقبول البشارة كموضوع الساعة، فقد حل زمان تتميم طرق الله. ويظهره الإنجيل كمن يدعو الآخرين لاتباعه لكي يتمموا أيضًا باسمه طرق الله. وكلمته لا تفشل في تأثيرها، فقد ترك الذين دعاهم كل شيء وتبعوه بالفعل[3]. ولما ذهب إلى المدينة ليعلِّم في يوم السبت لم تكن كلماته تحمل جدلاً لمحاولة إقناع الإنسان المتشكك، بل كانت تحمل سلطانًا لمن يعرف الحق الذي ينادي به، وهذا في الواقع سلطان خاص بالله الذي يستطيع أن يعطي هو الحق، وباعتباره مالك الحق يتكلم به ويعطي البرهان على سلطانه، فإن الكلمة التي قدمت للإنسان لها سلطانها على الأرواح النجسة، فقد كان هناك إنسان به روح شرير، شهد رغمًا عنه للمتكلم الذي كان وجوده أمر لا يتحمله الروح النجس، ولكن الكلمة التي أثارته كان لها سلطان أن تخرجه أيضًا، فما أن انتهره الرب لكي لا يثير الاضطراب وأمره أن يخرج من الإنسان حتى انصاع لأمره بعدما انكشف على حقيقته وما فيه من غش. هكذا كان سلطان كلمة المسيح. ولا عجب إن كان عمل كهذا يذاع في كل المنطقة، ولكن الرب لا يتوقف عنده، بل يسير في طريق خدمته إلى حيث ينبغي العمل، فيدخل بيت بطرس الذي كانت حماته مضطجعة محمومة فيشفيها للوقت. ومع انتهاء السبت يحضرون إليه المرضى، فيجدونه ـ له المجد ـ مستعدًا للخدمة في كل وقت ويشفيهم.
ولكن خدمة الرب لم يكن الهدف من ورائها أن يجذب حوله جمعًا كبيرًا، لذلك فمع أول أشعة الصباح، وقبل أن يأتي النهار، يخرج إلى البرية ليصلي. هذه كانت طبيعة خدمته، فقد كان يقوم بها في شركة مع الله أبيه وبالاتكال عليه، فيذهب إلى موضع خلاء، ولكن التلاميذ يجدونه هناك ويخبرونه بأن الجميع يطلبونه، ولكن قلبه كان على عمل الله، وطلب الجميع له لم يكن يجعله يعود إليهم، بل كان يتقدم في طريقه ليتمم العمل الذي أعطاه الآب ليعمل، كارزًا بالحق بين الشعب، فقد كانت هذه هي خدمته التي كرس نفسه لها.
ولكن مع التكريس لهذه الخدمة لم يصبح قلبه جامدًا بسبب انشغاله بها، بل كان دائمًا في رفقة الله. يظهر ذلك جليًا في الأبرص المسكين الذي جاء إليه معترفًا بسلطانه، ولكن غير واثق في إرادته لعدم يقينه من وجود المحبة التي تحرك هذا السلطان. وهذا المرض اللعين لم يكن يغلق على صاحبة فقط خارج المحلة، بل كان ينجس كل من يلمسه. لكن شيئًا لم يكن ليوقف الرب يسوع عن التقدم إلى الخدمة التي تدعوه محبته إليها. كان الأبرص بائسًا منبوذًا من المجتمع الإنساني، محرومًا من بيت الرب، ولكن قوة الله قد أُظهرت. كان ينبغي أولاً أن يتيقن الأبرص من صلاح مشيئة الله التي لم يستطع قلبه المكتئب أن يدركها، فمن ذا الذي يعبأ بفقير بائس مثله؟ كان له إيمان بقوة الله التي في المسيح، ولكن انحصار أفكاره في ذاته حجب عنه محبة الله التي افتقدته، ولكن يسوع يمد يده ويلمسه.
إن اتضاع الإنسان فيه اعتراف بالخطية ورفض لها، ومن هنا يبدأ علاجها، والبرص كان رمزًا للخطية، فإن الإنسان الذي في قوة محبته لمس الأبرص دون أن يتنجس هو الله الذي استطاع وحده أن يزيل البرص الذي أذل صاحبه بأعراضه المزرية وما ينجم عنها من العزلة المقبضة.
ويرد الرب في الحال بما يؤكد محبته وسلطانه الإلهي “أريد فاطهر” فقوله “أريد” يكشف عن محبته التي كان الأبرص غير متيقن منها، وفي الوقت نفسه تظهر سلطان الله الذي له وحده الحق أن يقولها، ثم يتبع إعلان إرادته بتنفيذها. هكذا يكون عندما يتكلم الله، ومن أبرأ أبرص غير يهوه وحده؟ فقد كان هو الشخص الذي جاء متضعًا إلى الحد الذي معه يلمس النجس وهو في الحالة التي معها ما كان ممكنًا أن يتعامل الله معه. نعم إنه إنسان، ولكنه هو الله الذي جاء متضعًا، هو المحبة التي تنازلت جدًا، والتي أظهرت بمثل هذا العمل قوتها نحو كل من يثق بها. إنها الطهارة غير القابلة لأن تتنجس مصحوبة بالسلطان، والتي لأجل ذلك كانت قادرة على أن تخدم بالمحبة أدنى الناس، بل وتبتهج في هذه الخدمة. لقد جاء إلى الإنسان النجس ولم يتنجس حين لمسه، بل أزال منه نجاسته، فلمس الأبرص بالنعمة فذهب عنه برصه.
والرب يوارى نفسه ولا يعمل لنفسه دعاية، فيأمر الإنسان الذي شفي أن يذهب ويري نفسه للكاهن حسب ناموس موسى. هذا الخضوع للناموس يحمل في حد ذاته شهادة له بأنه يهوه، لأنه ليس سواه تحت الناموس يستطيع بالنعمة أن يطهر البرص، وما كان الكاهن هنا سوى شاهد على ما جرى. ولكن ذاعت هذه المعجزة على نطاق واسع، فجذبت الجموع حتى جعلته يذهب إلى البرية.
الأصحاح الثاني
ويعود الرب بعد ذلك إلى المدينة، فيجتمع إليه الجمع على الفور، وهنا نرى في الرب صورة حية لحياة الخدمة (راجع ص1: 38)، فقد كان يكرز لهم بالكلمة، لأن هذه كانت خدمته الأساسية وغرضه الرئيسي. ولكن مرة أخرى نرى ذات المحبة في خدمة الشفاء وهو في طريق تتميم خدمته الأساسية في اتضاع كامل، ومن يخدم هذه الخدمة مثل الله عندما يتنازل ليشفي؟ إنه من خلال هذا يظهر سلطانه الإلهي. هو يعرف المصدر الحقيقي لهده الآلام، وهو الذي يستطيع أن يأتي بالعلاج. لقد أنزلوا المفلوج أمامه بإيمان يتخطى الصعوبات ويثابر بالرغم منها المثابرة التي تدل على الشعور بالاحتياج، كما تبين الثقة في القوة التي سيجدونها عند الرب الذي يطلبونه، لذلك يقول له “مغفورة لك خطاياك”. ثم يجيب على أفكار الكتبة إجابة أسكتت كل المغرضين، ثم يمارس القوة التي خولت له السلطان بأن ينطق بالغفران للمريض المسكين[4]. لقد كان تذمر الفريسيين فرصة لإظهار من هو هذا، مثلما كان حكم الكاهن بطهارة الأبرص ختمًا من الكهنوت الأرضي على حقيقة كون يهوه شافي إسرائيل الذي في وسطهم. إن العمل الذي كان يعمله الرب يسوع هو الذي يشهد له، وبه صار معلنًا أن يهوه قد افتقد شعبه وأنه موجود بينهم. هكذا تم ما جاء في المزمور المائة والثالث عن حقوقه واستعلان شخصه الذي يشفى كل أمراضهم.
ويترك الرب المدينة، ولكن الجموع تذهب وراءه، فيعلمهم أيضًا، ثم تأتي دعوة لاوي لتعطي فرصة لتقدم خدمته، فإنه أتى ليدعو خطاة إلى التوبة لا ليدعو الأبرار. بعد ذلك يعلن لهم أنه ليس من الممكن أن توضع القوة الإلهية المعلنة في شخصه في الإطار الفريسي القديم، علاوة على أن وجود العريس بينهم لا يتفق مع هذا، فكيف يصوم بنو العرس والعريس معهم؟ ولكن لابد أنه سيأخذ عنهم، حينئذ يأتي زمان الصوم. ويستمر في تأكيد عدم إمكانية التوفيق بين النظام اليهودي القديم وبين قوة الإنجيل التي لا يمكن إلا أن تنقض اليهودية التي كانوا متمسكين بها. هذا ما علم به الرب عندما اجتاز التلاميذ في حقول الحنطة.
لقد فقدت الوصايا سلطانها في حضور الملك المعين من الله، وإن كان غريبًا مرفوضًا على الأرض. كما أن السبت، الذي كان علامة عهد بين الله واليهود، قد جعل لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت، لأجل ذلك فإن ابن الإنسان هو رب السبت. فطالما أن ابن داود قد رفض فإن الفرائض فقدت سلطانها وأصبحت تحت سلطانه هو، وكابن الإنسان هو صاحب كل الحقوق التي أعطاها الله للإنسان، وبالتالي فهو مالك السبت الذي جُعل لأجل الإنسان، أما الأشياء العتيقة فقد مضت، وهذا مبدأ جديد مرتبط بالنعمة والقوة لا يعترف بالترتيب القديم. ولكن كان السؤال هو هل يستطيع الله أن يعمل بموجب سلطانه بالنعمة ويبسط البركة لشعبه، سواء وهو في موقف الخضوع لهيئة بشرية[5] استغلت وصاياه لمصلحة أصحابها بما لا يتفق مع صلاحه، أو وهو يعمل الخير بحسب قوته الذاتية ومحبته باعتباره فوق كل شيء، الأمر الذي كان في الحقيقة هو الخمر الجديدة التي يقدمها الرب للإنسان.
الأصحاح الثالث
نفس هذا التساؤل كان في قلب الذين في المجمع الذي كان فيه الإنسان ذو اليد اليابسة، وقد أظهر الرب ما في ضمائرهم علنًا، ولكن لا القلب ولا الضمير أجاب الرب، فمارس الرب خدمته بحسب صلاحه وسلطانه الإلهي وشفي الإنسان[6]. وهنا اتحد الفريسيون مع أعدائهم الهيرودسيين، فكلاهما كان ضد الله، فتشاوروا معًا كيف يهلكونه، أما هو فتركهم ومضى إلى بحر طبرية. وتبعته الجموع الغفيرة من كل صوب لِما رأته وسمعت عنه من أعماله، حتى أنه اضطر إلى أن يدخل إلى سفينة حتى لا يزحمونه. وكانت الأرواح الشريرة تخضع له، ومرغمة كانت تعترف بأنه ابن الله، أما هو فقد أمرها أن لا تظهره.
كانت خدمة الرب يسوع في الكرازة وطلب النفوس، وفي تكريس نفسه لأجل الجميع، وإظهار كونه صاحب القوة الإلهية بواسطة أعماله، وفي ذات الوقت إخفاء ذاته عن الناس حتى يتمم خدمته بلا ضجيج. هكذا كانت حياته الإنسانية على الأرض تكشف عن محبة وقدرة إلهية من خلال خدمته التي كانت هذه المحبة تدفعه لتتميمها، وفي تتميم هذه الخدمة كان يمارس قدرته الإلهية. ولكن هذه المحبة والقوة لم يكن ممكنًا أن تمارس داخل الإطار اليهودي المحدود، حتى ولو كان الرب تحت الناموس خاضعًا لوصايا الله التي أعطاها لليهود.
ولكن ما أن استعلن الله بهذه الصورة حتى برزت المقاومة الجسدية من الإنسان[7]. وهنا يتوقف وصف خدمة الرب ليفسح المجال لإظهار تأثيراتها، وقد كان تأثيرها في اتجاهين، فقد أظهرت شر الإنسان من جهة (ع6)، ولكن من الوجهة الأخرى تحققت فيها مقاصد الله (ع10ـ12). وبينما هو يخدم يعين اثني عشر من تلاميذه ليكونوا مرافقين له وليذهبوا كارزين باسمه، فهو ليس فقط يستطيع أن يصنع المعجزات، بل هو أيضًا قادر أن يمنح القوة والسلطان لآخرين ليصنعوها. ثم يعود إلى البيت فيجتمع الجمع الغفير إليه مرة أخرى، وهنا تستعلن أفكار الناس في ذات الوقت الذي فيه تستعلن أفكار الله، فأقرباؤه يبحثون عنه كمن هو مختل العقل، أما الكتبة وهم يعتبرون أنفسهم متعلمين فقد نسبوا القوة التي لم يستطيعوا أن ينكروها إلى الشيطان، أما الرب فيجيبهم بأن أظهر لهم أنه بصفة عامة يمكن أن تغفر كل الخطايا، ولكن إذا كانت قوة الله قد أظهرت فينسبونها إلى العدو بدلاً من أن يعترفوا بصانعها فهذه الخطية لا تكون عن جهل في عدم إيمان، بل يأخذ صاحبها مكان المقاوم، وبهذا يكون قد جدف على الروح القدس، وهذه خطية لا يمكن أن تغفر. كان هناك “القوي” ولكن يسوع كان أقوى منه، لأنه أخرج الأرواح الشريرة، وهل يمكن أن يسعى الشيطان لهدم بيته؟ إن استعلان قوة الرب يسوع بهذه الصورة جعلهم بلا عذر، فإن رجل الله الأقوى قد جاء، ولكن إسرائيل رفضه، وإذ جدف قادتهم على الروح القدس فقد وضعوا أنفسهم تحت دينونة أبدية لا شفاء منها. ولكن الرب على الفور يميز علاقته بالبقية التي قبلته عن الذين كانت تربطه بهم الروابط الطبيعية، فقد صار الذين يصنعون مشيئة الله هم أمه وإخوته، وبهذا يكون قد نحى عمليًا إسرائيل في ذلك الوقت من دائرة علاقاته.
الأصحاح الرابع
هذا الأصحاح يأتي بنا إلى الصفة الحقيقية لخدمة الرب ونتائجها، والتاريخ الطويل لهذه الخدمة حتى تتميمها، وكذلك مسئولية تلاميذه ونصيبهم في هذه الخدمة. كما يبرز الطمأنينة التي لمن يخدمون وهم واثقون في الله، ومع أنه لا بد للعواصف أن تهيج لكن ينبغي أن يمارسوا الإيمان حتى ولو بدا وكأن الرب يسوع ليس منتبهًا إليهم، فهذه هي الثقة الصحيحة التي للإيمان والقوة التي تحفظه. فهذا الأصحاح يصف طبيعة الخدمة من ذلك الحين حتى رجوع الرب.
يعود الرب هنا إلى التعليم الذي هو عمله المعتاد، ولكن بالارتباط بالتطور الذي كان قد حدث في نهاية الأصحاح السابق في علاقته مع اليهود، هو هنا الزارع الذي يلقي البذار وليس الكرام، لأنه لم يجد في كرمه ثمرًا، ولم يعد يطلبه بعد فيه. وفي عدد11 نجد الرب يفرق بوضوح بين التلاميذ واليهود، فللتلاميذ أعطي أن يعرفوا سر الملكوت، أما الذين هم من خارج فهذه الأمور لا تقدم لهم سوى في أمثال. ولا أريد تكرار ما ذكرته عن محتوى هذا المثل في متى، ولكن ما جاء في العدد21 يرجع في المقام الأول إلى موضوع إنجيل مرقس. لقد رأينا كيف كان الرب مشغولاً بالكرازة بإنجيل الملكوت، وأنه كلف آخرين أيضًا بهذه الكرازة، فهو كالزارع كان يبذر بذار الكلمة، فهذه كانت خدمته، وهذه كانت أيضًا خدمة تلاميذه، فهل يوقد يوقدون السراج ليضعوه تحت المكيال؟ لا يجب أن نخفى شيئًا، فإن أخفى أحد الحق الذي أخذه فإن الله سيعلن كل شيء، لذلك ينبغي أن تكون لنا الأذن الطائعة لقوله.
في العدد24 يطبق الرب هذا المبدأ على تلاميذه، فقد كان عليهم أن ينتبهوا إلى ما سمعوه، لأن الله سوف يتعامل معهم بحسب مدى إخلاصهم في خدمة الكلمة الموكل إليهم الكرازة بها، فإن الله قد أرسل كلمة النعمة والملكوت إلى الإنسان، وكانت الخدمة التي كلف بها التلاميذ هي أن يصلوا بهذه الكلمة إلى ضمائر الناس، فقد ائتمنهم الله عليها، وهم عليهم أن يوصلوها كاملة إلى الآخرين. فعلى قدر ما يكونون أمناء لشهادة المحبة هذه بحسب ما أخذوا من موهبة على قدر ما يكون لهم بحسب حكومة الله. فإن أطاعوا ما تعلموه منه فسينالون ما هو أعظم، ذلك لأن المبدأ العام في هذا هو أن كل من أقتنى الحق الذي وصله واعتبر أنه امتلكه سيعطى ما هو أكثر، أما من يصله الحق ولا يقتنيه ولا يطبقه على نفسه كأنه لم ينله فالذي أعطي له يؤخذ منه.
ثم يظهر الرب لهم كيف يطبقون هذا الحق من جهته، فهو قد بذر، وكما أن بذاره تنبت وتنمو بلا عمل أو جهد من جانب باذر البذر، هكذا سيعطي المسيح أن ينتشر الإنجيل في العالم دون تدخل ظاهر طالما أن وضع الملكوت هو أن الملك ليس بموجود فيه، ولكن عندما يأتي وقت الحصاد فإن الذي بذر أولاً عليه أن يعود إلى العمل، وهذا ما سيكون للرب يسوع، فسوف يرجع لأجل الحصاد. لقد كان هو شخصيًا له عمله في نثر البذار، ولابد أن يكون له عمله في الحصاد، وبين البذر والحصاد يسير كل شيء كما لو كان الملكوت متروكًا لشأنه بلا تدخل شخصي ظاهر من جانب الرب.
ثم يضع الرب تشبيهَا آخر ليوضح صفة الملكوت، فحبة الخردل الصغيرة التي زرعها لابد أن تصير نظامًا عظيمًا ممتدًا على الأرض، قادرًا أن يوفر حماية زمنية لمن احتموا به. هكذا رأينا عمل الكرازة بالكلمة، ثم مسؤولية العاملين الذين أوكل إليهم الرب هذا العمل أثناء غيابه، ثم عمله هو الشخصي في بداية ونهاية الملكوت في زمان البذر وزمان الحصاد، بينما هو يبقى على بعد ما بين الزمانين، ثم تكَوُّن هيئة أرضية عظيمة كنتيجة للحق الذي كرز به، والذي جمع به جماعة صغيرة حوله. ولكن بقي جانب من تاريخ تابعيه كان يحتاج إلى أن يعلن، فقد كان لابد أن يقابلوا صعوبات شديدة في طريقهم، ولابد أن يهيِّج العدو العواصف ضدهم، والرب يبدو كما لو أنه لا ينتبه إلى ما هم فيه. ولكنهم يدعون إليه، فيوقظوه بصراخهم، ويستجيب لهم بنعمته وينتهر الريح والبحر ويصير هدوء عظيم. ولكنه في نفس الوقت يوبخ عدم إيمانهم، فقد كان يجب أن يركنوا إليه والى قوته الإلهية ولا يتصوروا أنه كان من الممكن أن تبتلعه الأمواج. وكان ينبغي أن يتذكروا ارتباطهم به وأنهم بالنعمة قد اتحدوا معه، وهاهم يرونه في سلام تام لا تقدر العاصفة أن تنال منه. لقد كان مكرسًا للعمل، لذلك لم يأخذ قسطًا من الراحة إلا في الوقت الذي كانت خدمته لا تحتاج إلى نشاطه، فنام أثناء السفر لحظات لم تكن خدمته تسمح بأطول منها. وكان سلامه الإلهي الذي لا يتزعزع يجعله يستطيع أن ينام أثناء العاصفة. ولكن لم يكن هكذا الحال بالنسبة إلى التلاميذ إذ غابت قوته عن فكرهم، ولم يكن لديهم التقدير لمجد ذاك الذي كان معهم، لأن أفكارهم كانت محصورة في ذواتهم، فارتعبوا كأن الرب يسوع لم يكن معهم، ولكنه بكلمة واحدة منه يظهر أنه سيد الخليقة. هذه كانت حال التلاميذ لما نُحي إسرائيل، عواصف تهب بينما الرب يبدو وكأنه لا يعير أمرهم انتباهًا، وفي هذا كان ينبغي أن يميز الإيمان أنهم في ذات السفينة التي فيها الرب، بمعنى أنه وإن كان الرب يترك البذرة التي زرعها لتنمو حتى الحصاد، لكنه على الرغم من ذلك هو معهم في السفينة يشترك في نفس قرعة الذين له وليس أقل، أو بالحري هم يشاركونه نصيبه. والخطر ليس محدقًا بهم وحدهم، بل به وبالذين له، وبالتالي فالواقع أنه ليس هناك خطر على الإطلاق. ولكن ما أغبى عدم الإيمان، تأمل ماذا كانوا يظنون! لقد كان ابن الله آتيًا إلى العالم ليتمم عمل الفداء وقصد الله الثابت، ولكن في ظن الإنسان أن عاصفة عارضة يمكن أن تبتلعه، وتغرق معه مقاصد الله. إننا معه ـ له المجد ـ في نفس السفينة، فطالما أنه ليس من الممكن أن يغرق ابن الله فبالتالي لا يمكن أن نغرق نحن.
الأصحاح الخامس
لكن في مشهد آخر من له ليسوا معه، وإنما دعوا ليخدموا بعد أن يهدَّئ اضطراب خليقته. هذا ما نتعلمه في مجنون اللاجيئون الذي خلص من حالته المزرية. لقد كان الإنسان ـ وعلى وجه الخصوص إسرائيل ـ واقعًا تحت سلطان العدو بكل المقاييس، ولكن قوة المسيح عندما تعمل لحساب الإنسان تخلصه خلاصًا كاملاً، والآن قد صار لابسًا ولم يعد عاريًا، وقد أصبح عاقلاً، وفي هدوء يجلس عند قدمي يسوع يسمع كلامه. ولكن أهل المكان خافوا وأبعدوا الرب يسوع، وهذا ما صنعه العالم بالمسيح. ونرى فيما حدث لقطيع الخنازير صورة مطابقة لتاريخ إسرائيل بعد أن استخلص الرب وشفى منهم بقية، فقد صاروا نجسين ويقودهم الشيطان إلى الدمار. ثم بعد أن رحل الرب يسوع نجد أن من اختبر شخصيًا قوة عمل محبته يريد أن يلتصق به، ولكن كان عليه أن يذهب إلى بيته ويشهد لمن حوله بما صنعه به يسوع، فقد كان عليه أن يخدم في زمان غياب المسيح. في كل هذه الوقائع نجد العمل التكريسي للرب كالخادم، وفي نفس الوقت تظهر قدرته الإلهية من خلال خدمته.
وبعد أن شفي المجنون نرى مركز الرب يسوع مستعرضًا من خلال عمله، فقد طلب إليه يايرس أن يشفي ابنته، مثلما كان مطلوبًا منه ـ إن أمكن ـ أن يشفي الأمة اليهودية، ولكن بينما هو ماض إلى بيت يايرس ليتمم عمله تأتي امرأة بائسة دائها عديم الشفاء وتلمس هدب ثوبه، فشفيت في الحال. هكذا كانت الحال مع ربنا يسوع وهو مجتاز بين اليهود، فمن بين الجمع الذي كان يزحمه وجدت نفوس تلمسه بالإيمان، فشفي داؤها. فهو الذي فيه الحياة بحسب قوة الله، والإيمان هو الذي يستطيع بلمسته أن يستمد هذه الحياة منه، وكل من يؤمن به لابد أن يصل أولاً إلى إدراك حالته، وهكذا ينال الشفاء. لقد كان بحسب الظاهر بين كل الأمة الإسرائيلية، ولكن الإيمان فقط استطاع أن يجني ثمار وجوده في مشهد عجز وحاجة الإنسان من جهة ومجد شخصه المبارك من الجهة الأخرى. أما من جهة ابنة يايرس التي كانت هي القصد في رحلته، فقد كانت قد بلغت حالة لا ينفع فيها عمل الشفاء، فقد كانت قد ماتت بالفعل قبل أن يبلغ إليها، ولكن ولا الموت كان يستطيع أن يبطل قصده، فقد أقامها ثانية لأنه القادر على منح الحياة. هكذا أيضًا بالنسبة إلى إسرائيل، فبينما هو يجتاز بينهم شفي كل من آمن به بالرغم من دائهم عديم البرء، ولكن من جهة إسرائيل كأمة جملة فقد كانت ميتة بالذنوب والخطايا. وظاهريًا أدت حالة الموت التي وصلت إليها الأمة إلى توقف عمل المسيح لأجلهم، ولكن النعمة سترد الحياة إلى إسرائيل في النهاية. ونلاحظ كيف أن نعمة المسيح تتدخل لتوقف تأثير الأخبار المفشلة الآتية من بيت يايرس إذ يقول له بمجرد أن بلغته الرسالة بموت ابنته “لا تخف، آمن فقط”. والواقع أنه بالرغم من أن الرب سيعيد إسرائيل إلى الحياة في آخر الدهور، ولكنهم لن يستردوا الحياة إلا بالإيمان . وإن كانت حالة المرأة المنحنية لا تتجاوز رمزيًا حالة اليهود، ولكنها كمبدأ تنطبق على شفاء الأمم الذين بالنعمة استحضروا ليلمسوا ربنا يسوع بالإيمان.
إذن فتسلسل أحداث هذا الأصحاح يشرح لنا طبيعة خدمته والكيفية التي بها كان يتممها في مواجهة حالة الإنسان.
الأصحاح السادس
ثم يستأنف بعد ذلك تاريخ خدمته ـ إن جاز هذا التعبير ـ فنراه كالمرفوض من الشعب الأعمى بالرغم من القوة التي أظهرها، والتي كانت شهادة لمجد شخصه، ومع ذلك فهو لا يزال على طريقه في خدمته. ثم يرسل تلاميذه وقد وضع لهم ترتيبًا به لا يكون لهم احتياج إلى شيء من عندهم، فقط عليهم أن يحملوا الشهادة عن الدينونة التي تنتظر كل من يرفض إرساليته، الأمر الذي كان قد وقع من اليهود بالفعل. كان الرب قد استمر في تقديم البراهين على أنه هو يهوه الذي يتراءف على شعبه، وذلك من خلال أعمال الرحمة والصلاح، ولكن في النهاية كان لابد له أن يهيئ تلاميذه للنتيجة النهائية المحتومة لخدمته، وهي موته بيد الأمم الذين إليهم كان رؤساء الكهنة مزمعون أن يسلموه.
كان الرب يسوع في نظر اليهود هو النجار ابن مريم، فأدى عدم إيمانهم إلى أن يد الله الصالحة تنسحب من بينهم، وكان لابد للرب يسوع أن يذهب إلى موضع آخر ليؤدي خدمته ويعمل عمله ويرسل إليه تلاميذه. وفي إرساله تلاميذه إنما كان يمارس ما له من سلطان إلهي. كانت الإرسالية التي أخذوها لا تزال موجهة إلى إسرائيل، وكان عليهم فيها أن ينطقوا بالقضاء على أرض عمانوئيل ـ أرض إسرائيل التي تنجست ـ في كل موضع ترفض فيه شهادتهم. وكان عليهم أن يذهبوا متكلين فقط على من أرسلهم وعلى حمايته القوية، وكان لابد أن لا يعوزهم شيء، لأن الذي أرسلهم هو السيد ذو السلطان الذي بيده كل الأشياء. إن المسيح ليس فقط يستطيع أن يناولنا البركة، ولا هو فقط مجرد قناة تصلنا عبرها، بل إنه قادر أيضًا أن يمنح لتلاميذه سلطان إخراج الأرواح الشريرة، وقد نفذ التلاميذ المهمة التي أوكلها الرب إليهم. ويبرز هذا الفصل بصورة خاصة مركز ومجد المسيح، فهو العبد، وعند الناس هو ابن النجار، وفي خدمته الجديدة لا يأخذ سوى مركز من يتمم فقط ما أعطاه الله ليعمل. ولم يستطع الرب أن يعمل قوات بسبب عدم إيمانهم، فمن جانبه هو مستعد دائمًا للخدمة، ولكن عدم الإيمان كان يغلق على قوته ويقيد ممارسته لمحبته، فلم يكن يجد أمامه بابًا مفتوحًا لاستقبال عواطفه، بل كان يجد حكم النظرة الطبيعية إلى الأمور، والتي لا تتفق مع الإيمان. ومع ذلك فقد كانت محبته تعمل ولا تكل من العمل، ولكن فقط حيثما وُجد الاحتياج، فكان للقطيع الصغير من المرضى نصيب في عمل محبته التي لا تحتقر أحدًا، لأنها لا تطلب ما لنفسها.
ولكن في الأعداد التالية نجد أن ذاك الذي لم يستطع أن يعمل ولا قوة واحدة[8] يعطي سلطانًا للآخرين على كل الأرواح النجسة، وهذا سلطان إلهي، فأي شخص يمكن له أن يصنع القوات إذا أعطاه الله هذا السلطان، وليس هناك من يمكن أن يعطي هذا السلطان سوى الله. ولم يكونوا في حاجة إلى شيء لأن عمانوئيل كان هناك، وكان عليهم أن يعلنوا القضاء حيثما ترفض إرساليتهم. لقد جعلته المحبة الإلهية عبدًا طائعًا، ولكن هذا العبد المطيع كان هو الله مستعلنًا في النعمة والبر.
ولكن إظهار هذا السلطان كان له تأثيره في إيقاظ ضمير الملك الذي كان على إسرائيل في ذلك الزمان. ويكشف لنا البشير عن التاريخ الدموي للسلاطين في إسرائيل ضد شهود الحق، فقد قتل هيرودس يوحنا مكافأة لامرأة ساقطة سرَّه إثمُها الذي كان شريكها فيه. لقد كانت عنده رقصة خليعة تستحق رأس نبي لله مكافأة لها. هذا كان حال ملوك إسرائيل.
وعاد الرسل إلى يسوع، فيأخذهم وينتحي بهم إلى موضع خلاء بعيدًا عن الجمع ذي الاحتياج الذي يطلبه، ولكن الجمع يتبعه إلى هناك. أما يسوع المرفوض من الناس الذين أحبهم يتحنن على أذل الغنم ويظهر سلطانه كمن هو يهوه لصالحهم، ويباركهم حسبما ورد في المزمور المائة والثاني والثلاثين، فيشبع مساكينها خبزًا. وبعدما صرف الجموع يجتاز البحر بالقدم، فيفرِّح التلاميذ بأن يسكت الريح في صورة نبوية سبق وتأملناها في الإنجيل حسب متى، بعدها يكون قد انتهى عملهم. لكن قلوبهم إلى ذلك الحين كانت لا تزال متقسية، لأنهم نسوا معجزاته ولم يفهموا منها، ومع ذلك يظل الرب مستمرًا في عمله للبركة، فقد كانت تكفي المريض لمسة ولو لهدب ثوبه لكي يشفى.
الأصحاح السابع
كانت السلطات الحاكمة في إسرائيل قد أظهرت عداءها للشهادة لله، فقتلت الرسول الذي أرسله إليهم في سبيل البر، أما الكتبة وكل من كان ظاهريًا يتبع البر فقد أفسدوا الشعب بتعليمهم الذي كسروا به وصية الله.
كانوا يتمسكون بغسل كؤوس وأباريق ولم يغسلوا قلوبهم، وحولوا واجبات الأبناء نحو آبائهم إلى ما فيه مصلحة الهيئة الدينية الكهنوتية. ولكن الله ينظر إلى القلب، لأنه من قلب الإنسان تخرج كل أنواع النجاسة والإثم والاغتصاب، وهذا ما ينجس الإنسان وليس عدم غسل أياديهم. هكذا كان الحكم على التدين الذي بدون الضمير وبدون خوف الله، وبه كشف الرب ما هو قلب الإنسان في نظر الله الذي عيناه أطهر من أن تنظرا الشر.
ولكن كان لابد أن يكشف الله أيضًا قلبه هو، فإن كان الرب يسوع قد دان قلب الإنسان بحسب نظرة الله إليه، فإنه أظهر أيضًا طرق الله وأمانته، وبهذا كله أظهر من هو الله بالنسبة لأولئك الذين شعروا بحاجتهم وأتوا إليه بالإيمان، معترفين ومستندين على صلاحه الكامل. فلما أتت إليه امرأة أممية في جنسها فينيقية سورية من تخوم صور وصيدون من الجنس المحكوم عليه أجاب الرب سؤلها بأن يشفي ابنتها بأنه ينبغي أن يشبع البنون أولاً، فلم يكن مقبولاً أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. كانت تلك إجابة قاطعة من الرب تكفي لأن تجعلها تنصرف لو لم يكن لديها الشعور بصلاح الله وحاجتها إليه حتى تطرح جانبًا كل اعتبار آخر، ولكن هذا التقدير العميق لصلاح الله أعطاها اتضاع القلب وجعلها مستعدة لأن تعترف بسلطان الله المطلق في الإحسان إلى شعب اختياره في هذا العالم. أ لم يكن في سلطانه أن يختار شعبًا؟ أما هي فلم تكن من هذا الشعب، ولكن هذا لم يكن ليبطل صلاحه ومحبته، وإن كانت هي كأممية مجرد كلب فإن صلاح الله كان يكفي لأن يعطي حتى الكلاب خبزًا. وقد كان المسيح هو التعبير الكامل عن الله، بل هو استعلان الله ذاته في الجسد، لذلك لم يكن ممكنًا أن يخفي صلاحه ونعمته، ولم يكن من الممكن أن يقول إن إيمانًا كهذا قد زاد عن صلاح أفكار الله، فقد كان الله نفسه هو هذه المحبة. إن الاعتراف بسلطان الله المطلق يبطل كل ادعاء بحقوق للإنسان عنده، ولكن المرأة المسكينة اتكلت فقط على النعمة، وبالإيمان مع الفهم الذي أعطي لها من الله تمسكت بهذه النعمة التي تتجاوز المواعيد التي أعطيت لإسرائيل. لقد دخلت إلى أعماق قلب الله المحب كما استعلن في يسوع، تمامًا كما دخل هو إلى أعماق قلوبنا، فتمتعت بثمار هذه المحبة. في هذا المشهد نرى الله حاضرًا وفي علاقة مباشرة مع الإنسان، والإنسان وقد صار له دخول إلى محضر الله بدون ناموس أو نظام خاص يُعِدُّ به نفسه للدخول إلى محضره.
ثم في المعجزة التالية نرى الرب بذات النعمة يمنح السمع والنطق لإنسان أصم أعقد لم يكن يستطيع حتى أن يعبر عن فكره. لم يكن يستطيع أن يستقبل شيئًا لا من العالم ولا من الله، ولا كان يستطيع أن يرفع صوتًا بالحمد له. كان الرب قد رجع إلى الجليل الذي كان فيه قد قام نورًا لإسرائيل[9]، وهناك كان يتعامل فقط مع البقية، لذلك انتحى بالأصم الأعقد جانبًا بالانفصال عن الجمع. وكانت هي ذات النعمة التي تبطل كل ادعاء بالبر من جانب الإنسان وتظهر نفسها للمعوز الفقير. وإن كانت هذه النعمة في هذا المشهد تعمل لأجل البقية من إسرائيل، إلا أنها ذاتها التي تواجه حالة الجميع يهودا وأممًا. إنها النعمة ويكفيها اسمها وصفًا. هي لليهود وهي على ذات القياس للأمم. وأخذ الرب الإنسان وانفصل به من بين الجمع، فإنه عندما يتمم عمل الله لا يكون لأهل هذا العالم نصيب فيه. وهانحن نرى ربنا يسوع وقد تحرك قلبه بسبب حالة الإنسان، لاسيما حالة إسرائيل المحبوب إلى قلبه إلى الأبد التي كان هذا المسكين المتألم صورة مطابقة له. وقد جعل الأصم يسمع والأعقد ذا اللسان العيي يتكلم فصيحًا. هذا الذي تم في ذلك الإنسان فرديًا سيتحقق لكل بقية إسرائيل الأيام الأخيرة. إنه عندما يعمل فإنه يعمل كل شيء حسنًا. لقد حطم قوة العدو، وبعمله بقوة الله أنهى بمحبته عقدة لسان الإنسان التي منعته من استخدامه في الغرض الذي صنعه الله لأجله.
كانت معجزة الأرغفة شهادة على حضور إله إسرائيل حسب مواعيده، أما معجزة شفاء الأصم الأعقد فهي شهادة على النعمة التي من جانب الله والتي تذهب إلى ما هو أبعد من حدود هذه المواعيد، بعد أن دان الله من جهة حالة أولئك الذين ادعوا دائمًا حقهم في هذه المواعيد على أساس برهم، وهذا البر الإنساني المدعى كان هو الشر عينه. ومن الجهة الأخرى خلص الله الإنسان وباركه في المحبة وأنقذه من سلطان الشيطان، حتى أصبح في إمكانه أن يسمع صوت الله ويسبح بحمده.
تبقى بعض الملاحظات الهامة على ملامح هذا الجزء من حياة المسيح، ففيه تظهر الروح التي بها كان الرب يعمل في ذلك الوقت، فقد رحل عن اليهود بعد أن أظهروا فراغ عبادتهم ورياءهم فيها، وكذلك كل إثم القلب الذي هو منبع كل فساد وإثم.
في هذه اللحظة الحاسمة التي ظهر جليًا فيها رفض إسرائيل مضى الرب بعيدًا عن الشعب إلى موضع حيث لا توجد فرصة للخدمة بينهم، إلى تخوم مدن الكنعانيين الغرباء عن الشعب، إلى صور وصيدون (7: 24)، وإذ كان منفطر القلب لهذا كان لا يريد أن يعرف أحد أين هو. ولكن في هذا الموقف استعلن الله بصورة واضحة في صلاحه وسلطانه، فلم يكن يسمح بأن يبقى الرب يسوع مختفيًا بينما هناك احتياج، فإن خبره ذاع خارج حدود الأمة، وعين الإيمان هناك وجدته في الوقت الذي كان جميع الذين كانت لهم المواعيد حسب الظاهر أعماهم عنه ادعاؤهم بأنهم يستحقونها. هذا هو الإيمان الذي يعرف عوزه ويعلم أن يسوع، ويسوع وحده، عنده سداد هذا العوز بالنعمة التي فيه والسلطان الذي له. كذلك عندما شفى الأعقد الأصم (7: 33) وفتح أذنه وحل عقدة لسانه أخذه بعيدًا عن الجمهور ونظر إلى السماء وأنَّ. كان حزين القلب بسبب عدم إيمان الشعب لذلك وضع في قلبه أن يمارس سلطانه خارج دائرته، ناظرًا إلى المصدر الأعلى لكل صلاح وكل معونة للإنسان، متألمًا لما يراه من حال قد صار إليها الإنسان. هذه الحالة تمثل على وجه أخص حالة البقية التي حصلت بين اليهود حسب اختيار النعمة، والتي فصلها الرب بنعمته الإلهية من مجموع الأمة إذ كان الإيمان في هذه البقية الصغيرة إيمانًا عاملاً. إن قلب المسيح لا يمكن أن يلفظ شعبه الأرضي، فمع أن نفسه كانت تتألم لعدم إيمان الشعب، الأمر الذي فصلهم عنه وأبعد عنهم الخلاص، لكنه كان ينزع من بقية منهم القلب الأصم ويحل عقدة لسانهم لكي يتمجد إله إسرائيل.
يماثل هذا ما حدث عند موت لعازر، فقد حزن الرب بسبب الشقاء الذي أتى به الموت إلى قلب الإنسان، ولكن كانت الشهادة هناك علنية عامة.
وسنرى في الأصحاح الثامن مثالاً آخر على ما ذكرناه، فهو يقود الأعمى إلى خارج القرية. إنه لا يترك إسرائيل في أي موضع يجد فيه الإيمان، ولكنه يفصل من له هذا الإيمان عن المجموع، ويأتي به إلى الارتباط بالنعمة بالسماء التي هي مصدر السلطان ومصدر البركة، تلك البركة التي كان لابد أن تمتد بعد ذلك إلى الأمم، لأنه لم يكن ممكنًا أن تمارس القوة حيث يكون عدم الإيمان سافر. هذا يظهر بوضوح موقف المسيح إزاء الشعب، فقد كان يسعى في خدمته، ولكنه كان يرجع إلى الله لعدم إيمان إسرائيل، ولكن الله الذي يرجع إليه هو إله كل نعمة، وعنده كان يجد راحة إلى حين، حتى جاءت ساعة الكفارة الرهيبة.
الأصحاح الثامن
في ذات خط السير هذا يصنع الرب معجزة الأرغفة الثانية، فهو حسبما أرى يعمل ثانية لأجل إسرائيل، ولكن ليس فيما بعد كمن يظهر سلطانه المسياوي في وسط الشعب، الأمر الذي حدث قبلاً كما رأينا في معجزة الأرغفة الأولى التي رفعوا فيها اثنتي عشرة قفة بعدد أسباط الشعب، لكنه الآن بالرغم من رفضه من إسرائيل لا يزال يمارس سلطانه الإلهي بالانفصال عن الإنسان، لذلك نجد العدد هنا سبعة[10] الذي يرتبط دائمًا بالكمال الذي يتجاوز حدود الإنسانية، سواء كان كمال قوة الشر أو كمال قوة الخير طالما أنها قوى تفوق قوة الإنسان، وإن كانت خاضعة في الحالتين لله، وهي هنا قوة إلهية لا شك، هي القوة التي لا يعتريها الكلل والتي تعمل بموجب سلطانه، الأمر الذي كان التأكيد عليه هو الغرض من تكرار المعجزة.
ثم بعد ذلك تظهر حالة رؤساء الشعب على حقيقتها، كما تظهر أيضًا حالة البقية، فالفريسيون يطلبون آية، ولكن لن تعطى آية لهذا الجيل، لأنه دليل على عدم الإيمان أن يطلبوا آية في وقت كانت أمامهم براهين متعددة على من هو الذي أمامهم، فلماذا يطلبون المزيد وقد رأوا الكثير؟ ويرحل الرب عنهم. ولكن تنكشف من الجهة الأخرى حالة العمى والغباء التي كانت البقية نفسها فيها، فالرب يحذرهم من روح وتعليم الفريسيين، التي تمثلت في الادعاء الكاذب بالغيرة المقدسة لله، كذلك من الهيرودسيين الذين استعبدوا لروح العالم لكي يرضوا قيصر في خنوع غير واضعين الله في الاعتبار.
والرب استعمل تعبير “خمير” لكي يكشف قصور فهمهم الروحي، فإن كان اليهود لم يتعلموا شيئًا من معجزات الرب فطلبوا المزيد من الآيات، فإن التلاميذ أيضًا لم يدركوا السلطان الإلهي المستعلن أمامهم، ولا أشك في أن هذه هي الحالة التي كان يمثلها أعمى بيت صيدا.
يأخذ الرب بيده ويقوده إلى خارج المدينة بعيدًا عن الجمع، ويستخدم لعلاجه مادة خرجت منه[11]، لها قوة وفاعلية شخصه، والتأثير الأول يماثل حالة التلاميذ، فقد كانوا يبصرون بلا شك، ولكن رؤية غير واضحة، فقد كانت الأمور مختلطة عندهم مثلما رأى الرجل “الناس كأشجار”. ولكن محبة الرب لم تضعف لعدم إيمانهم وضعف تمييزهم، وإنما ظل يعمل بحسب قصده من نحوهم حتى يجعلهم يبصرون كل شيء جليًا. بعد ذلك، وهو بعيد عن إسرائيل، تظهر المباينة بين عدم الإيمان ويقين الإيمان، حتى ولو كان إدراك الإيمان ضعيفًا. كان الرب قد أمر تلاميذه أن لا يتكلموا بما يؤمنون به، إذ كانت فرصة إقناع شعب إسرائيل بحقوق المسيح كالمسيا قد مضت، ولكنه أعلن للتلاميذ ما كان لابد أن يحدث له كابن الإنسان بعدما رفض من إسرائيل تتميمًا لقصد الله في النعمة[12]، وهكذا يضع الرب كل شيء في نصابه، فإن إسرائيل لم يميز المسيا في شخص الرب يسوع، وبالتالي لا يتكلم إليهم بعد من هذا المنطلق. أما تلاميذه فيؤمنون بأنه المسيا، فيتكلم معهم عن موته وقيامته.
أمامنا الآن حق عملي هام، وهو أنه يمكن أن يوجد إيمان حقيقي بينما القلب لا يكون قد استوعب بعد كلية إعلان المسيح، ولا الجسد قد صلب عمليًا بما يتناسب مع ما نال الإنسان من معرفة من هذا الإعلان. كان بطرس قد تعلم بالفعل من الله أن يسوع هو المسيح، ولكن قلبه كان لا يزال بعيدًا عن التوافق مع فكر الله في المسيح، فلما أعلن المسيح أنه سيرفض ويتألم ويموت أمام كل العالم فإن الجسد في بطرس، وقد جرحه هذا الفكر أن السيد يرفض ويحتقر، يتحرك وينشط حتى يجرؤ على انتهار الرب نفسه. كانت هذه تجربة من الشيطان ليخيف التلاميذ من عار لصليب، وهذا ما حرك قلب الرب. لقد جلب بطرس على نفسه لوم الرب الشديد لأنه كان أداة في يد الشيطان فتكلم عن فمه. وكانت مشاعر الرب من نحو تلاميذه ومنظر القطيع الصغير الذي وضع العدو معثرة أمامه مستخدمًا بطرس سبب توبيخ الرب له. هذا بكل أسف ما يحدث معنا عندما نهتم كبطرس بما للناس وليس بما لله. إن كل مجد الله متضمن في الصليب، ولكن الإنسان يقدر مجد الإنسان، وبهذا يسيطر الشيطان عليه، لذلك دعا الرب يسوع الجمع مع التلاميذ ووضح لهم بجلاء أن كل الذين يريدون أن يتبعوه عليهم أن يشتركوا معه في كل ما يجتازه، فيحمل كل منهم صليبه. إنهم بهذا وإن كانوا يفقدون حياتهم لكنهم يخلصونها، والنفس غالية وتستحق التضحية لأجلها بكل ما عداها. وعلى الجانب الآخر فإن كل من يستحي بيسوع وبكلمته فإن ابن الإنسان سيستحي به عندما يأتي في مجد أبيه والملائكة القديسون معه، فهو صاحب المجد مهما بلغ من الاتضاع. ثم يكشف عن لمحة لهذا المجد أمام النخبة من تلاميذه.
الأصحاح التاسع
رأينا في إنجيل متى التجلي موصوفًا بأسلوب يتفق مع موضوع هذا الإنجيل، حيث نجد فيه المسيح المرفوض وهو يأخذ مكانه المجيد كابن الإنسان. وفي الثلاث أناجيل التي ذكرت فيها حادثة التجلي تذكر بالارتباط بنفس التوقيت والحوادث التي سبقتها، ولكن بالأسلوب الذي يتفق مع غرض الإنجيل. وفي مرقس رأينا الخادم المتضع المكرس للكرازة بالملكوت، حتى مع ما كان يسطع من مجد اللاهوت من خلال اتضاعه، وهكذا كان تجلي مجده هنا كما لو أنه في مجيء الملكوت بالقوة. ونحن لا نجد فارقًا مميزًا في الوقائع عما في ورد في متى سوى أن انفراد الرب بتلاميذه الثلاثة يذكر هنا بتحديد أوضح في ع2، كما أنه يذكر الوقائع مجردة. والرب يوصيهم بعد ذلك أن لا يقصوا ما رأوا على أحد حتى يقوم من بين الأموات.
نستطيع أن نرى هنا استعلان الملكوت بالقوة، ليس قوة الروح القدس التي تأتي بالخاطئ ليرتبط بالمسيح الرأس كعضو مقدس بالجسد ويكشف له المجد السماوي للمسيح كمن هو في يمين الآب، ولكنه هنا مجد المسيح على الأرض حسب الشهادة التي كانت عند اليهود في الناموس والأنبياء، ممثلة في شاهدين يخلون له مكانهم حتى وإن كان يشاركونه في مجد الملكوت.
يستعلن المسيح هنا في المجد على الأرض، فهذا الإنسان الممجد يعرَّف بأنه ابن الله كما أعلن الصوت الآتي من السحابة، وهذا هو ذات المجد الذي سوف يستعلن على الأرض ـ مجد المملكة بينما الله لا يزال في السحابة، وإن كان يستعلن مجده فيها. هذا ليس مركزنا نحن بعد أن انشق الحجاب الذي كان بيننا وبين الله من فوق إلى أسفل، وصار لنا الثقة والجرأة للدخول إلى الأقداس بدم المسيح. هذا امتياز روحي وليس حرفيًا، بمعنى أنه لا ينطبق على جسدنا الذي هو حجاب لم ينشق بعد أمام العيان، أما جسد المسيح فقد انشق ليصير دليلاً لمن يدخل به روحيًا إلى الأقداس[13].
ولكن هذا المركز المجيد والسلطان الأسمى لم يكن للرب أن يشغله إلا في ظل ترتيب جديد للأمور، فكان لابد أن يقوم المسيح من الأموات أولاً لكي يؤسس هذه الحالة الجديدة، إذ لم تكن حالة الملكوت حينئذ متوافقة مع حضوره كما بدا من رفضهم له كالمسيا. لأجل ذلك أوصى تلاميذه أن لا يخبروا أحدًا بما رأوا حتى قيامته، وعندئذ يكون الإخبار بهذه الحادثة تأكيد قوي على تعليم مملكة المجد، ، فكما علمتهم جثسيماني حقيقة آلامه وجهاده ضد رئيس الظلمة يكون استعلان هذا المجد حينئذ مثبِّت لإيمان التلاميذ، ويصير بعد ذلك موضوعًا لشهادتهم ومثبتًا لها عندما يأخذ المسيح مركزه الجديد في يمين الله.
قد نرى طبيعة هذا الاستعلان وعلاقته بالملكوت الأرضي المجيد الذي تكلم عنه الأنبياء في بطرس الثانية1: 19 حيث يقول “وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت”.
لقد توقف التلاميذ عند العتبة، فالواقع أنه بالرغم من أن عيونهم كانت مفتوحة، إلا أنهم كانوا يرون “الناس كأشجار يمشون” لذلك تساءلوا فيما بينهم “ما هو القيام من الأموات؟”. كانت القيامة معروفة عندهم، فقد كانت كل طوائف الفريسيين يؤمنون بها. أما هذه القوة التي تخلص إنسانًا من حالة الموت التي صار إليها الجميع، بما في ذلك القديسون أنفسهم، بينما يبقى باقي الناس تحتها فهذا ما كان يجهله التلاميذ، فما كانوا يؤمنون به أن الله سيقيم الجميع في القيامة في اليوم الأخير، ولكنه لم يكونوا يفهمون أن ابن الإنسان هو القيامة والحياة، ولا يعرفون نصرته الكاملة على الموت كآدم الأخير ابن الله، الذي له حياة في ذاته تستعلن بقيامته من بين الأموات[14]. لاشك أنهم قبلوا كلامه كحق لكونه صاحب السلطان، ولكن لم يفهموا معنى كلامه.
ولكن عدم الإيمان لا يفتأ أن يجد لنفسه المبررات لرفض البراهين الإلهية للحق، وقد تبدو مبررات قوية حتى أنها قد تبلبل أذهان الذين يرغبون في قبول الإيمان، أو الذين بالنعمة قبلوه ولكن لا يزالون ضعافًا فيه.
ذكر الأنبياء أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً، هذا ما كان الكتبة يؤكدون عليه، وهذا شكل صعوبة أمام التلاميذ الذين انبهروا بالمجد الذي يؤكد أن الذي أمامهم هو المسيح، فسألوا المسيح عن حل هذه المعضلة. لقد أقنعهم مشهد المجد الذي علق بأذهانهم بأن يفصحوا عن تساؤلاتهم التي ظلت حبيسة قلوبهم، والتي لم يجرءوا أن يتكلموا عنها معه من قبل، ولكن البرهان القاطع على من هو الذي رأوا مجده أعطاهم الجرأة على ذلك.
والواقع أن الأنبياء قالوا ذلك بالفعل، والرب يصادق على هذا كحق، فإن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً ويرد كل شيء، وهذا ما سيحدث بالفعل قبل استعلان مجد ابن الإنسان، ولكن قبل كل هذا لابد أن ابن الإنسان يتألم ويرفض، فهذا أيضًا تكلم عنه الأنبياء مثلما تكلموا عن إرسالية إيليا. علاوة على ذلك فإنه قبل ظهور المسيح ليضع اليهود تحت الاختبار من جهة مسؤوليتهم فن الله لم يبخل عن أن يعطيهم شهادة بحسب روح وقوة إيليا، ولكنهم لم يحسنوا قبول حاملها، بل أساءوا إليه حسب أهوائهم. فكشهادة لليهود قد أتاهم من شغل مركز إيليا أدبيًا، فعاملوه مثلما كانوا مزمعين أن يعاملوا الرب. لهذا قال يوحنا عن نفسه إنه ليس إيليا، بل اقتبس عن نفسه ما جاء في إشعياء40 الذي تكلم عن الشهادة، ولكنه لم يذكر لهم ما جاء في ملاخي4 عن الشاهد نفسه والذي ذكر إيليا بالاسم. والرب في متى11: 10 يطبق ملاخي3: 1 على المعمدان، أما يوحنا المعمدان فلا يطبق على نفسه سوى ما قاله إشعياء.
وما أن نزل الرب من الجبل حتى اندفع الجمع نحوه، ويبدو أنهم كانوا متحيرين من سبب غيابه المفاجئ عن تلاميذه وحيُّوه بالتحية اللائقة به والتي تتناسب مع ما وجدوه فيه في حياته. ولكن ما حدث في غيابه كان تأكيدًا لحقيقة كونه يلزم أن يفارقهم، الأمر الذي كان صعوده إلى الجبل مثالاً مجيدًا له، فإن البقية المؤمنة لم يتعلموا كيف يستخدمون القوة التي كانت معهم على الأرض، لأن إيمان أولئك الذين كانوا يتبعونه لم يبلغ إلى استيعاب حقيقة كونه المسيا، ولا كونه يهوه شافي إسرائيل، فلماذا يبقى بعد وسط الشعب ومع تلاميذه. لقد عبر الأب المسكين عن معاناته بطريقة مؤثرة وبكلمات تنبع من قلب شاعر بحاجته إلى علاج لحالته، ولكن مع إيمان شديد الضعف. كانت حالة ابنه المحزنة تماثل حالة الأمة، وكان قلبه صورة لحالة البقية التي لها إيمان في حاجة إلى التشديد في ظل حالة عدم الإيمان العامة للأمة، فلم يكن إسرائيل في حالة أفضل من حالة الابن المسكين. ولكن كانت القوة التي تستطيع كل شيء متاحة لديهم، فلم يكن العجز لعدم وجود القوة، بل لعدم وجود الإيمان الذي يمسك بها، هكذا قال الأب المحزون للرب يسوع “إن كنت تستطيع”. والرب يرد عليه “إن كنت (أنت) تستطيع أن تؤمن” فالأمر يتوقف على ما لك من إيمان، فإن “كل شيء مستطاع للمؤمن”. وهنا يصرخ الأب المسكين معترفًا بقلب صادق بحالته المحزنة، طالبًا المعونة لإيمانه الضعيف الفاشل من منطلق صلاح المسيح. بهذا كُشف موقف إسرائيل المؤسف. فمع أن قوة القدير كان حاضرة بينهم لتشفيهم وتخلصهم من سطوة الشيطان، ولكن كان لابد أن يتم كل ذلك على أساس الإيمان، لأنه كان يلزم لذلك رجوع النفس إلى الله. كان هناك إيمان عند أولئك الذين لمستهم شهادة قوته وأثرت فيهم نعمة الله، فكانوا يلتمسون في الرب يسوع العلاج لبؤسهم والأساس لرجائهم، ولكن كان إيمانهم ضعيفًا متذبذبًا، ولكنهم على أية حال كان لهم هذا الإيمان، والرب عمل بسلطانه بحسب نعمته وبحسب صلاح الله الذي مقياسه هو الله ذاته، بالرغم من عدم الإيمان الذي كان عند أولئك الذين كان يجب أن يفيدوا من هذه، فلم يكن هناك احتياج لم يسده الرب يسوع بمجرد أن يطلب منه، وفي هذا رحمة عظيمة وتشجيع لنا.
ولكن لكي يستعمل الإنسان الذي يدعوه الله هذه القوة يحتاج لأن يكون قريبًا جدًا من الله، فيلزم لمن يعطى له هذا السلطان أن يدرب نفسه على الشركة مع الله بالانفصال عن كل ما يمكن أن يربطه بالعالم والجسد.
لنوجز الآن المبادئ التي وجدناها في هذه القصة من الجانب التطبيقي العام. كان الرب ماضٍ مزمعًا أن لا يراه العالم مرة أخرى حتى يأتي بالمجد، ولكنه في نزوله من جبل التجلي وجد حالة تمثل فيها سلطان الشيطان على الإنسان، وعلى وجه الخصوص على شعب اليهود. كانت هذه حالة لازمت الولد منذ ولادته تقريبًا، وكان الإيمان الذي يميز تداخل الله بواسطة المسيح ويحتمي به من وجه الشر ضعيف متذبذب، لأنه كان ينظر إلى حالة الشر المستعصية حتى أنها حجبت عنه القوة الأقدر منه والتي تستطيع إزالته، ولكن كان الشعور بالاحتياج عميقًا بالدرجة التي تكفي لأن تحرك هذه القوة.
إن عدم الإيمان لم يكن يعرف أن يتكل على القوة التي كانت بينهم، وهذا ما يقطع علاقة المسيح بالإنسان، فليس شر الإنسان هو ما يقطع هذه العلاقة، بل إنه هو الدافع الذي أتى به إلى الإنسان على الأرض. كانت قوة القدير بينهم، وما كان يلزمها سوى الإيمان لتعمل لصالحهم. ولكن شكرًا لله، متى التفت القلب الذي استعبد للعدو إلى يسوع فإنه ينزع عدم إيمانه مع كل نتائج عبوديته لإبليس. عنده المحبة، وعنده القوة التي تعالج كل صور الضعف. كان الجمع يتزاحم حوله وقد شدهم مشهد سلطان العدو. هل يستطيع الرب أن يشفيه؟ أم سيترك الشهادة على سلطان الشيطان تسيطر على قلوبهم؟ كان الفضول يثير هذه التساؤلات في مخيلة أولئك الذين سيطرت عليهم مشاهد قوة العدو الحاضرة. ولكن مهما كان عدم الإيمان عند الإنسان فإن حضور الرب يسوع كان فيه شهادة على القوة التي تستطيع بالمحبة للإنسان أن تزيل كل نتائج تسلط العدو عليه. فلما رأى الرب الجمع يتراكض أخرج العدو بكلمة. إنه يعمل حسب ما يقتضيه سلطانه ومقاصد محبة الله. هكذا كان عمل العدو فرصة لأن يتدخل الرب يسوع، حتى مع ما كان يمثله ضعف إيمان الأب من عائق في مواجهة عمله. إن كنا تلقي بضعفنا مع كل أثقالنا أمام الرب فإنه يستجيب بحسب قدرته، ولكن إن تدخل الجسد بأفكاره المضادة للإيمان فإنه يفسد الذهن عن فهم طرق الله.
وفيما هو يجول في الجليل كان المسيح يشرح لتلاميذه موته والحالة الجديدة التي سيكون عليها بعد قيامته، ولكن ماذا كان السبب وراء عدم فهمهم الذي جعل كل هذا يخفى عليهم؟ وما الذي جعل محور أفكارهم المجد المسياوي الأرضي؟ كان الرب قد كلمهم عن هذه الأمور بصراحة ووضوح، ولكن كان السر وراء عدم الفهم عندهم هو أنهم في الطريق كانت بينهم مشادة عمن يكون الأعظم بينهم في الملكوت. لقد وجهت أفكار الجسد قلوبهم من نحو الرب يسوع إلى ما هو على العكس تمامًا مما كان يشغل قلب الله من نحوه، ولكن متى أتينا بضعفنا إلى المسيح يجيبنا بحسب قوة وسلطان النعمة. فالجسد يخفي عنا ما هو محور أفكار الله، حتى لو كنا نفكر في المسيح، لذلك طلب التلاميذ مجد أنفسهم في الملكوت، أما الصليب الذي هو الطريق الصحيح إلى المجد فلم يكن في إمكانهم استيعابه.
ولكي يستعيد الرب إلى ذهنهم الغرض الموضوع أمامه في ذلك الحين يأخذ التلاميذ بعيدًا عن الجمع ويعلمهم أنه سيرفض، وأنه عليهم أن يتخذوا قرارهم. ولكنهم إذ كان ما يشغلهم هو مجده وحقوقه كالمسيا لم يفهموا هذا. كان إيمانهم بهذه الصورة يعميهم عن كل شيء عدا مجده، ذلك لأنهم وإن كانوا قد ربطوا أنفسهم بصدق بشخصه، ولكن قلوبهم التي سكن فيها هذا الإيمان ربطت بينه وبين تحقيق رغبات الجسد فيهم، وكانت تتطلع إلى نوال هذه الرغبات من خلال تمجيد المسيح. كم هو مخادع هذا القلب! لقد قادهم إلى أن يتشاجروا على الزعامة. كان إيمانهم هكذا ضعيفًا حتى أنهم لم يتحملوا تعليم الرب لهم لأنه كان مضادًا لأفكارهم (ع32). كانوا جميعًا بلا استثناء عندهم هذه الأفكار، لذلك وبخهم الرب يسوع، ومثلما كان يفعل كثيرًا أعطاهم مثلاً، فأقام ولدًا بينهم واحتضنه. إن من يتبع المسيح ينبغي أن تكون له روح مناقضة لروح العالم، مثل روح المسيح الذي كان أمام كبرياء العالم محتقرًا مستضعفًا، فمن يقبل من له هذه الروح يمكنه أن يقبل المسيح، وبقبوله المسيح فإنه يقبل الآب. فمادامت الأمور الأبدية هي الموضوع فإن روح الإنسان ينبغي أن تكون مثل روح الولد.
إن العالم كان مضادًا للمسيح بصورة جعلت الناس إما ضده وإما معه[15]، وكان لابد أن ابن الإنسان يرفض، وكان الإيمان به هو دليل قبوله لأنه لم يكن وقت الخدمة الفردية له. ولكن بالأسف كان التلاميذ لا يزالون يفكرون في ذواتهم لذلك يقولون “ليس يتبعنا”. كان ينبغي عليهم أن يشاركوه رفضه، وفي أثناء ذلك فإن من يعطيهم كأس ماء بارد فإن الله لن ينسى هذا الصنيع، وكل ما يمكن أن يعثرهم في مسلكهم ينبغي أن يقطعوه، ولو كان ما يعثرهم يدهم اليمنى أو عينهم اليمنى، فليست الأمور الأرضية المرتبطة بالمسيا هي الهدف الذي يقصدونه في مسيرتهم، بل الأمور الأبدية، لهذا فكل شيء ينبغي أن يقاس بمقياس قداسة الله الكاملة، وينبغي الحكم على كل شيء يضادها بكل الوسائل. كل واحد يملح بنار، الصالح والطالح سواء، فإن وجدت الحياة فالنار لن تحرق سوى الجسد، لأننا حينئذ نكون نؤدب من الرب لكي لا ندان مع العالم، أما متى لحق القضاء الأشرار فإنه يكون دينونة نار لا تطفأ. أما الأبرار فلهم شيء آخر، فهم يملحون بملح أيضًا، فأولئك الذين تقدسوا لله وكانت حياتهم تقدمة له لن تعوزهم قوة النعمة الإلهية التي تربط النفس بالله وتحفظهم في الباطن من الشر. والملح ليس هو الشيء الناعم ذو المذاق المستحسن الذي للنعمة، ولكنه القوة الإلهية التي فينا والتي تربط كل ما فينا بالله وتكرس القلب له سواء في المواقف المرة أو الحلوة، وترفض كل ما لا يوافقه. هذه عمليًا هي النعمة المميزة والقوة المقدسة التي تفصل النفس عن كل شر، ولكن بالانفصال إلى الله. الملح جيد، لأن له تأثيره الصالح في النفس، لذلك فإن الذين قدموا ذواتهم لله قد انفصلوا إليه فصاروا هم ملح الأرض. ولكن إذا صار الملح في حاجة إلى ما يملحه فإنه يكون لم يعد يصلح لشيء. هكذا الحال بالنسبة للمسيحيين، فإن كانوا هم الذين للمسيح لا يقدمون هذه الشهادة فهل نجد غيرهم ليقدمونها لهم؟
هذا الشعور الداخلي في النفس بالالتزام بالارتباط بالله يستلزم الانفصال عن الشر وإدانة كل شر في القلب، ليس أن ندين بعضنا البعض، بل يضع كل واحد بمفرده نفسه أمام الله، وبهذا يصبح الواحد ملحًا. أما من جهة الذين حولنا فينبغي أن نطلب السلام، والانفصال الحقيقي عن الشر يمكِّننا من اتباع السلام من نحو بعضنا البعض. كان ينبغي على المسيحيين أن يحفظوا أنفسهم في الانفصال عن الشر وبالقرب من الله، وأن يسيروا مع الله في سلام بين الآخرين. ليس هناك تعليم أبسط وأهم وأثمن من هذا، لأنه يحكم ويوجه كل حياة المؤمن في إطار واضح بسيط.
ولكن خدمة الرب كانت تدنو من نهايتها، وهاهو قد أوضح في هذا المبدأ مقتضيات الأمور الأبدية وعلاقات المؤمن في الحياة، ثم يسترجع كل علاقة الله مع الإنسان في عناصرها الأصلية، فينحي جانبًا مجد العالم، حتى مجد إسرائيل كأمر يتحقق فورًا، ورسم طريق الحياة الأبدية في الصليب وفي قوة الله المخلصة، ومع كل هذا فإنه يأخذ مكان الطاعة والخدمة الذي هو المكان الصحيح للإنسان. وفي طريق ذلك أخلى نفسه، بالرغم من لاهوته وصفاته وطبيعته وحقوقه الإلهية التي لا تتغير كل التدابير وعلاقاته التي تتناسب مع كل تدبير منها.
الأصحاح العاشر
نجد هنا مبدأ هامًا وهو إعادة إرساء العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة كما أوجدها الله منذ البدء، وفي نفس الوقت إدانة القلب البشري، وأنه لم يعد هناك طريق لاقترابهما إلى الله الذي خلقهما سوى الصليب. فإن المسيح على الأرض لم يقدم لمن اتبعوه سوى الصليب، كما أنه أظهر للبعض منهم المجد الذي يستتبع الصليب، أما هو فقد أخذ مكان الخادم. لقد كانت معرفة الله بواسطته هي الأمر الذي ينبغي أن يغير صورتهم إلى صورة هذا المجد ويقودهم إليه، لأنه في الواقع هذه هي الحياة الأبدية، وكل طريق آخر فتحه الله أمام الإنسان قبل المسيح للاقتراب إليه تحول في يد الإنسان إلى عداوة لله الذي أعطاه للإنسان، وبالتالي كان أيضًا فيه عداوة لاستعلان الله في شخص المسيح.
في الأعداد من 1: 12 نجد العلاقة الأصلية للرجل بامرأته كما أوجدتها يد الله الخالق، ثم في الأعداد من 13: 16 اهتمام المسيح الذي أبداه من نحو الأطفال ومكانتهم في عين الله الشفوقة، والقيمة الأدبية التي تتمثل فيهم أمام الناس. ثم في عدد 17 نأتي إلى الناموس، والى العالم، وإلى قلب الإنسان من نحو كليهما. وبينما نجد أن الرب يسوع يجد لذة في كل ما هو حسن في المخلوق بحسب طبيعة خليقته التي خلقه عليها، لكن في نفس الوقت يضرب على الوتر الحساس ليؤثر أدبيًا على قلبه، وهذا مبدأ له أثره العميق نجده أمامنا في هذا الأصحاح. كان هذا الشاب قد حفظ ظاهريًا الناموس كوصايا تطالب بعمل يُرى من الناس بإخلاص طبيعي وتدقيق جعل الرب يسوع يقدره كمخلوق له طبيعته، وهو الأمر الذي ينبغي علينا أن نحترمه في الإنسان متى وجد فيه مثل هذا الإخلاص. لقد انفصل المسيح عن الناس لأنه كان عنده فكر الله، ولكن يجب أن نتذكر دائمًا أن هذا الذي انفصل عن الناس كان يضع في الاعتبار ثبات العلاقات التي وضعها الله نفسه، وأنه كان يقدر كل ما هو حسن في خليقته مثلما وجد في ذلك الشاب. لقد كان هو الله الظاهر في الجسد لذلك كان يستطيع أن يميز ما هو من الله في خليقته، وبينما يسر بما هو حسن فيها فإنه يرسخ مبادئ العلاقات التي أوجد الإنسان فيها، كما يكشف عن رقة مشاعره نحو خليقته في مثال الطفل الذي أقامه بينهم. كان لابد أن يمتدح الرب الصلاح الطبيعي الذي ينشأ في المخلوق، ولكن في نفس الوقت كان ينبغي أن يحكم على حالته الحقيقية وميوله التي استراحت على ما يقدمه له الشيطان بعد أن يكشفها كاملة، كما يكشف الإرادة التي رفضت وتحولت عن إعلان الله الذي يدعوه لأن يتخلى عن تلك الأباطيل ليتبعه، وبهذا يضع القلب البشري تحت الامتحان أدبيًا.
ثم يستعرض الرب يسوع كمال الله المطلق بأسلوب آخر. كان الشاب الغني قد رأى الكمال الظاهر للمسيح، ولكنه في ثقته بقدرة الإنسان على أن يعمل الصلاح، وكان قد رأى كمال هذا الصلاح في ربنا يسوع، فإنه يستمر في مناقشته راغبًا رغبة صادقة في أن يتعلم قانون الحياة الأبدية ممن رأى فيه الكمال، ولكن بنظرة إليه كمعلم فقط كما هو واضح من تحيته القلبية الصادقة للرب، فقد ركض وجثا للمعلم الذي كان يحمل له تقديرًا ساميًا قائلاً له “أيها المعلم الصالح”. ولكن تقديره الإنساني المحدود للصلاح، وثقته في قدرات الإنسان ظهرت في قوله “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟” ويجيب الرب بما يتفق مع جدية كلمات هذا الشاب قائلاً “لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالح إلا واحد وهو الله”. إن كل من يعرف الله من خليقته لابد يقدره ويعتبره ويأخذ مكانه الصحيح أمامه، أما الصلاح فهو فقط لله. ولو أن الإنسان عنده فهم لما ادعى الصلاح أمام الله، ولا خطر بباله أن يكون هناك صلاح في الإنسان، أما هذا الشاب فكان على الأقل لديه الأمل في أن يصير صالحًا بواسطة الناموس[16]، وكان يظن في المسيح أنه إنسان تحقق فيه ما يأمله في نفسه. ولكن الناموس الذي كان بمثابة امتياز عظيم يستطيع الجسد أن يتعامل معه لأنه يتوافق مع طبيعته لم يصل بالإنسان إلى شيء سوى أنه أغلق في وجهه طريق الحياة والسماء. لقد سعى الجسد بالناموس لإدراك البر الذاتي في حين كان الإنسان خاطئًا وليس صالحًا، وواضح أننا إن كنا نبحث عن الصلاح والبر فذلك لأننا لا نمتلكهما. علاوة على ذلك فإن الامتيازات العالمية التي تبدو أنها تعطي الإمكانية لمن يمتلكها أن يعمل صلاحًا هي التي ربطت قلبه بالأمور التي تؤدي إلى الهلاك، وقوَّت فيه الأنانية وأضعفت تقديره لأخيه الإنسان الذي خُلق على صورة الله.
ولازال هذا الأصحاح يحمل المزيد عن حالة الإنسان أمام الله، ولازالت أفكار الجسد تصاحب أحاسيس القلب في الإنسان الذي أحياه روح النعمة العامل بواسطة ما للمسيح من قوة جاذبة، إلى أن يصل الروح القدس بهذه الأحاسيس إلى قوة حضور المسيح بأن يجعل مجد المسيح في السماء هو غرض القلب وأحاسيسه، وفي نفس الوقت يجعل نور هذا المجد على الصليب يسطع في قلب المؤمن، مؤثرًا عليه بما لعمل الفداء الذي أكمله فيه من قيمة ثمينة، ويجعل النعمة التي كانت وراء هذا العمل تلمع أمامه، حتى يصير كل من يحمل الصليب وراءه في توافق معه. لم يستطع بطرس أن يفهم كيف يمكن أن يخلص الإنسان إذا ما كانت كل الامتيازات التي له في علاقته بالله كيهودي، والتي كانت بارزة بصورة واضحة في هذا الشاب، لم تفعل شيئًا سوى أنها سدت الطريق إلى ملكوت الله، والرب يجيبه على قدر إدراكه، لأن الموضوع كان هو الإنسان واستحالة تحقيق وجوده في محضر الله بحسب حالته التي هو عليها، وهذا حق آخر يصعب على القلب استيعابه. فليس الأمر فقط أنه ليس صالح إلا واحد وهو الله، بل أيضًا ليس في إمكان إنسان أن يخلص بواسطة قدراته مهما بلغت. فمهما كانت الامتيازات، ومهما كانت الإمكانيات، فإنها لا تمنح الإنسان شيئًا طالما هو في حالته كخاطئ. ولكن الرب يدخل مصدرًا آخر للرجاء في أنه “كل شيء مستطاع عند الله”. إن هذا الجزء من الإنجيل يضع النظام اليهودي بجملته جانبًا، ذلك النظام الذي وضع من أجل اختبار إمكانية حصول الإنسان على البر الإلهي والوقوف أمام الله، عن طريق امتلاك وصايا إلهية معطاة له من الله، حتى باعتباره لا يزال إلهًا محتجبًا. هذا الاختبار في الواقع انتهى إلى استعلان الله في النعمة، واستحضر الإنسان إلى مواجهة أمام قلب الإنسان كما هو على حالته في محضر الله. ولكن التلاميذ كانوا لا يزالون تحت تأثير النظام القديم لأنهم لم يكونوا قد قبلوا الروح القدس بعد، ولم يكونوا يرون الناس سوى كأشجار يتمشون كما يوضح لنا هذا الأصحاح. صحيح أنهم كانوا يستطيعون أن يفكروا في الملكوت، ولكن بأفكار جسدية.
ولكن الجسد وفكر الجسد يتقدم أكثر ليتداخل في مسار حياة النعمة، فينبه بطرس الرب إلى أن التلاميذ قد تركوا كل شيء وتبعوه، ويجيبه الرب بأن كل من[17] فعل مثل هذا لابد وأن ينال كل ما يلزمه للسعادة في وجدانه الاجتماعي بحسب طبيعته التي خلقه الله عليها أكثر مائة ضعف مما يستطيع العالم أن يعطيه في هذا المجال، ولكن مع اضطهادات من هذا العالم واجهها الرب نفسه في حياته في هذا العالم، ولكن في العالم العتيد[18] لن تكون لهم مجرد امتيازات فردية، بل ستكون لهم الحياة الأبدية. لقد ذهب الرب إلى ما هو أبعد من المواعيد المرتبطة بالمسيا على الأرض، فدخل بهم إلى الأمور الأبدية، أما المكافأة الفردية فلن يكون الحكم فيها بحسب الأمور الظاهرة.
في الواقع أنهم تبعوا الرب بالفعل، ولكن كانوا يفكرون كثيرًا في المكافأة، وقلما فكروا في الصليب الذي يأتي بها، لذلك تعجبوا حين وجدوا أن الرب يسوع بمحض اختياره يصعد إلى أورشليم حيث كان الشعب يريد قتله، لذلك كانوا يخافون، ولكن ظلوا يتبعونه بالرغم من أن إدراكهم كان قاصرًا جدًا عن فهم أبعاد الطريق الذي يتبعونه فيه، وبالكاد استطاع الرب أن يشرح لهم أمر رفضه ودخوله إلى عالم جديد بالقيامة. أما يوحنا ويعقوب فكان صدى قوله هذا فيهما ضعيفًا جدًا حتى أن الجسد وجد فرصته في إيمانهما بمجد المسيح الملكي ليظهر رغبات القلب فيهما، وهي أن يكونا واحدًا عن يمينه والآخر عن يساره في مجده، فيعيد الرب تأكيد مبدأ أنهم ينبغي أن يشاركوه في الصليب، ويتخذ الرب من هذا الموقف فرصة لتتميم خدمته في حث الآخرين على الاشتراك في آلامه. أما من جهة مجد المملكة فهذا لمن أعده الله لهم، وليس للمسيح أن يعطيه إلا لمن عين له الآب ذلك. هذا هو مركز الخدمة والاتضاع والطاعة الذي فيه يقدم هذا الإنجيل المسيح لنا دائمًا.
رأينا كيف كان الجسد في شاب صالح أحبه المسيح، ثم في تلاميذه الذين لم يتعلموا كيف يأخذون مركز المسيح الصحيح، ولكن في مقابل ذلك نرى النصرة الكاملة للروح القدس بعد أن قبلوه، وهذا يتضح بالأكثر لنا إذا قارنا الأصحاح الذي أمامنا بكلام بولس في فيلبي3.
كان شاول الطرسوسي ظاهريًا حسب الناموس بلا لوم نظير هذا الشاب، ولكنه رأى المسيح في المجد، وبتعليم الروح القدس رأى البر الذي بسببه دخل المسيح إلى المجد الذي منه أعلن ذاته لشاول، فصار كل ما كان ربحا له خسارة من أجل المسيح. فما هو البر الجسدي، وماذا يكون البر الإنساني حتى بفرض أنه استطاع أن يكمله بالمقابلة مع هذا البر الذي يسطع بالمجد الذي للمسيح؟ فاقتنى البر الذي من الله بالإيمان، وماذا تكون قيمة البر الذي لأجله تعب بالمقابلة مع البر الذي ناله من الله بالإيمان؟ فهو بر لم ينزع الخطايا فقط، بل جعل البر الإنساني بلا قيمة، ولكن عينيه انفتحتا على هذا البر بالروح القدس وبرؤية المسيح. فكل ما ربط قلب الشاب بالعالم الذي رفض المسيح، وبالتالي رفض الله، لم يكن ليربط من رأى المسيح في المجد، بل هي في نظره ليست سوى نفاية، لأجل ذلك ترك كل الأشياء لكي يربح المسيح حاسبًا إياها بلا قيمة على الإطلاق، لأن الروح القدس بإعلانه إليه عن المسيح قد خلصه خلاصًا كاملاً.
ولكن استعلان المسيح الممجد للقلب يصل إلى مدى أبعد، فمن ترك لأجله العالم سيتبعه إلى أن يصل إلى مجده، واتباعه يعني أن يضع الواحد نفسه تحت الصليب. لقد ترك التلاميذ كل شيء وتبعوه، لأن النعمة ربطتهم به ليتبعوه، ولكن الروح القدس لم يكن قد ربطهم بعد بمجده، فقد كان عليه أن يذهب أولاً إلى أورشليم. تعجب التلاميذ من ذلك، وبالرغم من أنه كان يتقدم أمامهم، وبالرغم من وجوده بينهم وقيادته لهم، إلا أنهم كنوا خائفين. أما بولس فقد كان يسعى إلى معرفة قوة قيامته وأن تكون له شركة في آلامه، وأن يتشبه بموته، فكان عنده وعي روحي كامل ولم يكن لديه خوف من التشبه بموت الرب يسوع كما كان للتلاميذ، بل كانت عنده الرغبة في الوصول إلى هذه الحالة لأنه وجد المسيح أدبيًا فيها، ولأن هذا الموت كان هو الطريق إلى المجد الذي رآه فيه.
علاوة على ذلك فإن رؤية المسيح في المجد تنقي رغبات القلب حتى من جهة المجد، فقد كانت رغبة يوحنا ويعقوب المكان الأول في الملكوت لنفسيهما، وهي رغبة كشف عن محدودية زاوية الرؤية التي منها كانوا ينظرون إلى الملكوت الذي كانوا يطلبونه في الحال، فكانت رغبة جسدية تنم عن غرض هو الذات، ولم يكونوا يطلبون مجد العالم العتيد، أما بولس الذي رأى المسيح في المجد فكانت رغبته الوحيدة هي أن يفوز بالمسيح “لكي اربح المسيح” وأن يكون في الحالة الجديدة التي يتشبه فيها به، ليس مكانًا متميزًا بالقرب منه في الملكوت، بل أن يحظى به هو نفسه. هذا هو الخلاص، هذا هو تأثير حضور الروح القدس الذي يستعلن المسيح الممجد.
وقد يلاحظ القارئ أن الرب يسوع في كل مرة يستحضر الصليب، لأنه الطريق الوحيد من هذا العالم الطبيعي إلى عالم المجد والحياة الأبدية[19]، فللشاب قدم الصليب، وللتلاميذ الذين تبعوه قدم الصليب، وليوحنا ويعقوب اللذين طلبا المكان الأميز قدم الكأس التي ينبغي أن يشربانها في اتباعهما له. فمع أنهم كانوا قد نالوا الحياة الأبدية، ولكن اختبارها والتمتع بها بحسب قصد الله كان على الجانب الآخر من الصليب.
لاحظ أيضًا أن الرب كان في الكمال والقداسة الإلهية فوق الخطية التي تقوم فيها الطبيعة البشرية، حتى أنه استطاع أن يميز كل ما هو من الله في هذه الطبيعة، وأظهر استحالة وجود أية علاقة بين الله والإنسان على أساس ما هو الإنسان في ذاته، فكل ما هو حسن في الإنسان لم يكن سوى عائق يمنع هذه العلاقة. ولكن لابد للإنسان أن يجتاز حالة هي بالنسبة للجسد موت، فننال برًا إلهيًا، وندخل بالروح إلى دائرة خليقة جديدة حتى نستطيع أن نتبعه ونكون معه، وهكذا نربح المسيح. هذا درس هام بالنسبة لنا.
الخلاصة هي أن الله وحده هو الصالح، وبدخول الخطية أصبح من المستحيل على الإنسان أن يكوِّن من جانبه علاقة مع الله، ولكن بالنسبة لله ليس شيء مستحيلاً، والصليب هو الطريق الوحيد إلى الله، والمسيح هو المتقدم أمام الجميع في هذا الطريق، ونحن علينا أن نتبعه فيه، فهذا هو طريق الحياة الأبدية. ومن رجع وصار مثل ولد يسير في هذا الطريق بروح الخدمة وإنكار الذات، مثلما سار فيه المسيح وقدم نفسه فدية عن كثيرين. إلى هنا تنتهي نصائح المسيح لتلاميذه في هذا الجزء، وفيه يأتي بنا إلى طريق اتضاع الخدمة الذي سلك هو فيه. إن هذا الأصحاح يستحق أن ينتبه إليه كل مسيحي قدر ما يستطيع بالنعمة، لأنه يضع أمامنا الأرضية التي يمكن للإنسان أن يقف عليها أمام الله، وما هو مدى تقدير الله لما هو من الطبيعة البشرية، والسلوك الواجب على كل من يتتلمذ له هنا على الأرض.
من العدد 46 يبدأ موضوع جديد ينتقل فيه الرب إلى علاقته الأخيرة مع إسرائيل، يبرز فيه نفسه كعمانوئيل الملك أكثر من كونه النبي المرسل إليهم، فإن خدمته كالنبي قد أكملت، فكما قال الرب لتلاميذه كان هو قد أرسل ليبشر، وهذه البشارة انتهت به إلى الصليب كما رأينا، وقد أعلن لمن تبعوه أن الصليب هو النتيجة الحتمية لاتباع طريقه. ولكنه الآن يستعيد علاقته بإسرائيل، ولكن كابن داود، وهاهو يقترب من أورشليم التي منها كان قد خرج، وفيها كان ينبغي أن يرفض، وكان لابد أن تستعلن قوة الله فيه. ويأخذ هذا الشخص العجيب، مصدر البركة، طريق أريحا مدينة اللعنة، ويعترض طريقه الرجل الأعمى المسكين[20]، الذي تظهر فيه حالة العمى التي كانت فيها الأمة، ولكنه يعترف به كيسوع الناصري ابن داود، ويجيبه الرب بنعمته بقوة تواجه احتياج الأمة، وتتجاوب مع الإيمان الذي لا تقف في طريقه العقبات والعثرات التي يضعها الجمع الذي يتبع الرب يسوع، والذي لم يكن يشعر بحاجته إليه، بل كان فقط مندهشًا من إظهار قوته دون أن يرتبط بالرب بالإيمان القلبي. أما الأعمى فقد كان في إيمانه لديه الشعور بالاحتياج. فيقف المسيح ويناديه، ويظهر أمام جميع الشعب قوته الإلهية التي تتجاوب مع الإيمان الذي يعترف بيسوع الناصري أنه المسيا ابن داود. إن إيمان الأعمى المسكين قد شفاه فتبع يسوع بلا رياء ولا خوف، لأن الإيمان الذي يعترف بيسوع في ذلك الوقت أنه المسيح لا شك هو إيمان من الله، حتى ولو لم يكن قد أدرك بعد شيئًا عن الصليب الذي كان الرب قد أعلن عنه قبل ذلك مباشرة لتلاميذه كالنتيجة الحتمية لأمانته وخدمته، والذي لابد للإيمان متى تقدم في المعرفة أن يتبعه في ذات الطريق.
الأصحاح الحادي عشر
ثم يقدم الرب يسوع نفسه لأورشليم كالملك، ومن خلال استقباله فيها يظهر مدى فاعلية شهادته التي قدمها وتأثيرها على قلوب البسطاء. ونلاحظ اختلاف بسيط في الهتاف المذكور هنا عما ورد في متى، فالمملكة هنا تذكر ببساطة أنها “مملكة أبينا داود”.
بكل جلال كالمتسلط على كل شيء يتجول في الهيكل متأملاً بناظريه فيما كان يجري فيه، ثم يخرج منه دون أن يتفوه بكلمة. كان قد أتى إلى هيكله كما ذهب إلى المدينة وهو راكب على جحش ابن أتان لم يجلس عليه إنسان قبله، وحكم على إسرائيل في لعنته على شجرة التين[21]. لقد تبرهن مجد الرب ومجد بيت يهوه فيما أظهره ومارسه من سلطان. وأمام قوة وفاعلية وقع كلمته على الشعب ينسحب الكتبة ورؤساء الكهنة، فيخرج المسيح من المدينة دون أن يلقوا عليه أياديهم، ولا يكون أمامهم سوى اللجوء إلى التآمر والخبث. وفي اليوم التالي يؤكد لتلاميذه الذين أدهشهم أن يروا شجرة التين وقد يبست أن كل ما يطلبونه بإيمان لابد أن يتحقق لهم، ولكن عليهم أن يكون لهم قلب يتعامل بالنعمة تجاه الآخرين حتى يتمتعوا بهذا الامتياز. أما الكتبة والكهنة وشيوخ الشعب فقد ارتبكوا بسبب ما عمله، وسألوه عن سلطانه الذي بموجبه يعمل هذه الأعمال، فيخاطب الرب ضميرهم ولكن بأسلوب يكشف لهم أنهم ليس لهم الحق في أن يسألوه عن هذا، وفي نفس الوقت يعكس عدم إخلاصهم في الرغبة في المعرفة. وبالفعل لم يستطيعوا أن يجزموا بشيء من جهة يوحنا المعمدان، فمن أين لهم أن يسألوا عن سلطانه هو؟ فإنهم لم يستطيعوا أن يحددوا مصدر خدمة كانت واضحة أمامهم، وفي نفس الوقت كانوا بين شقي رحى، فإما أن يعترفوا بمعمودية يوحنا، أو يفقدوا سلطانهم على الشعب إن أنكروها. إن إجابة الرب عليهم تدل على أن غرضه لم يعد كيف يكسب أولئك الرافضين، ولكن إظهار فراغ الحكمة الإنسانية عندما تختبر في محضر الله بالمقابلة مع حكمته.
يأخذ تغير التدبير وخطية رفض الملك مكانًا أوضح في متى مما نجده في مرقس، الذي فيه نجد بالأكثر خدمة الرب كالنبي أولاً ثم بعد ذلك يظهر نفسه كالملك. وفي كلا الإنجيلين نجده يهوه الذي ملأ المركز الذي تنازل ليشغله.
لذلك نجده في متى يوجه اتهامات أكثر لهم كما في مثل الابنين (مت21: 28ـ28)، كما نرى بوضوح تغير التدبير في مثل العرس (مت22 :1ـ14)، ولكننا لا نجد أيًا من هذين المثلين في مرقس، الذي فيه يضع روح الله أمامنا جلال شخصه غير المتغير، مع الحقيقة البسيطة أنه كالنبي وكالملك قد رفض من جانب إسرائيل، الأمر الذي أوقعهم تحت القضاء. خلاف ذلك يتفق الإنجيليان عمومًا فيما يختص بشهادة الرب يسوع التي استعرضناها في متى.
الأصحاح الثاني عشر
ثم يقدم الرب يسوع خلاصة كل الناموس باعتباره المبدأ الذي تقوم عليه بركة الله إلى الإنسان كخليقته، وهو أيضًا المحك الذي يبين ما في القلب إزاء رفض المسيح. وأقول إنه يكشف ما في القلب لأن رفض المسيح كان يمثل تجربة للقلب، حتى ولو كانت نتائجها تظهر في الفكر من جهة هذا الشخص المرفوض، فالقلب الذي لم يرتبط بشخصه لم يستطع أن يتبعه في طريق رفضه، لأن مقاصد الله التي كان تحقيقها مبنيًا على رفضه كانت تمثل عثرة لهذا القلب. أما أولئك الذين ارتبطوا به فقد تبعوه، ووجدوا أنفسهم في نفس موقفه مرفوضين، مع أنهم لم يكونوا في البداية يفهمون أن هذا سيكون نصيبهم. لذلك يضع الرب أمامهم الناموس جملة باعتباره الوصايا الإلهية، والنقطة التي عندها سينتقلون إلى مشهد جديد من مشاهد مقاصد الله، فيه ينفصلون نهائيًا عن شر الإنسان وإرادته السقيمة. فنجد في الأعداد من 28ـ37 الناموس من جهة وابن داود من جهة أخرى وقد أخذ مكانه كابن الإنسان ربًا في يمين الله، وكان هذا هو السر وراء كل ما كان يلاقيه من رفض. أما ما يختص بوحدة الكنيسة واتحادها معه كجسده فلم يكن قد أعلن بعد. وفي مرقس فقط نجد الرب كالنبي يصادق على الحالة الأدبية للإنسان تحت الناموس التي تقربه من الملكوت (ع34)، لأن ذلك الكاتب كان عنده روح الفهم.
أما صورة الحالة التي أتت بإسرائيل تحت الدينونة التي رأيناها في متى23 فلا نجدها هنا، لأنها ليست موضوعه في هذا الإنجيل، ولكن الرب يسوع كالنبي لازال يحذر تلاميذه التحذيرات الأدبية. أما دينونة إسرائيل بسبب رفضه فليست هي موضوع مشغولية أساسي للروح القدس هنا بالدرجة التي نلاحظها في متى. فيكشف الرب حقيقة القداسة الظاهرية للكتبة ويحذر تلاميذه منهم، ويعطيهم البصيرة لما هي تلك القداسة الوهمية في عين الله، وما هو تقديره لقيمة التقدمات التي كانوا يأتون بها إلى الهيكل.
الأصحاح الثالث عشر
هنا نرى الرب يركز على خدمة الرسل في الظروف التي كانوا مزمعين أن يجتازوا بها أكثر من تدبيرات طرق الله من جهة المملكة، الأمر الذي يركز عليه في متى.
سوف نلاحظ أن سؤال التلاميذ يدل على أنه كانت لديهم فكرة عامة تشغلهم من جهة هذا الموضوع، فقد سألوا عن موعد الدينونة على هذا الهيكل ومتى تتم كل هذه الأمور. وفي الأعداد 9ـ13 نجد أن النص يسترجع بالأكثر أقوال الرب في متى10، وإن كان لا يخلو من بعض عبارات قالها في متى24، فهو يتكلم عن الخدمة التي كان على التلاميذ أن يكملوها بين إسرائيل والشهادة في مواجهة السلطات التي تضطهدهم، وهي أن يكرزوا بالإنجيل لكل الأمة قبل أن يأتي المنتهى. كان عليهم كمبشرين أن يشغلوا نفس المكان الذي كان الرب يسوع يشغله بين الشعب، ولكن كان ينبغي أن يتسع مجال الشهادة في وسط كل أنواع الاضطهاد والآلام والتجارب.
ولكن ستأتي ساعة فيها تنتهي هذه الخدمة، وعلامة رجسة الخراب الشهيرة تحدد نهايتها، فعند رؤيتهم لهذه العلامة عليهم أن يهربوا. هذه ستكون أيام ضيق لم تكن ولن تكون مثلها، كما أنها أيام علامات وعجائب لو كان من الممكن لخدعت حتى المختارين، ولكنهم قد حذروا مسبقًا منها. سوف تتزعزع كل الأشياء بعد ذلك الوقت، وحينئذ يأتي ابن الإنسان، فيحل سلطانه محل الشهادة، ويجمع ابن الإنسان مختاريه من إسرائيل من جميع أنحاء الأرض.
ويبدو لي أن الرب في هذا الإنجيل يجمع بين دينونة أورشليم التي كانت وشيكة الوقع وبين دينونتها المستقبلة أكثر من متى ولوقا، موجهًا الفكر إلى الدينونة الأخيرة عليها، ذلك لأنه مشغول هنا أكثر بمسلك تلاميذه في وسط هذه الأحداث. كان لابد لإسرائيل كالنظام الذي جاء إليه الرب أن ينحَّى جانبًا بحسب مقاصد صلاح الله ليفسح الطريق للكنيسة وللملكوت في صفته السماوية، ثم بعد ذلك الملك الألفي، حينئذ تكون الكنيسة في مجدها والمُلك قد تأسس بالقوة، وقد انتهى أخيرًا النظام الناموسي ووضع إسرائيل تحت العهد الأول. خلال هذين التدبيرين ـ الكنيسة والملك الألفي ـ يكون الوضع العام للتلاميذ هو هو بلا اختلاف، ولكن أحداث الفترة الأخيرة ستكون ذات طابع حاسم ولها قدرها من الأهمية، والرب يتحدث عنها على وجه الخصوص. ولكن مع هذا كان يلزم تحذيرهم من الأمور الخطيرة التي أدت إلى تنحية إسرائيل وانتهاء الشهادة بينهم باعتبارها خطر حاضر كان يحيط بهم، وقد قبل التلاميذ هذا التحذير.
إن محاولة اليهود لإعادة إقامة كيانهم[22] في النهاية في تحد لله لن يؤدي سوى إلى فتح الباب أمام التجديف وسينتهي إلى الدينونة الحاسمة، وسيكون هذا بالنسبة لهم زمان ضيق لم يكن مثله ولن يكون، وهذا ما تكلم عنه الرب هنا، ولكن منذ خراب أورشليم الأول بواسطة تيطس الروماني وإلى مجيء الرب يكون اليهود مطروحين جانبًا تحت القضاء جزئيًا أيًا كانت درجة ما يجتازونه من ضيق.
وقد أمر الرب التلاميذ أن يسهروا، ذلك لأنهم لا يعلمون الساعة. لقد كان مسلك التلاميذ بالسهر والصلاة هو ما يضعه الرب أمام عينيه في هذا المقام، لأن هذا اليوم العظيم، وتلك الساعة الحاسمة لا يعرفها أحد حتى من الملائكة، وبل ولا ابن الإنسان كنبي، لأن الرب يسوع ينبغي أن يجلس في يمين الله حتى توضع أعداؤه موطئًا لقدميه، وتوقيت قيامه من يمين الله ليس معلنًا، فقد حفظه الله في سلطانه كما يقول الرب يسوع. في أعمال3 يتكلم بطرس إلى اليهود عن رجوع الرب، ولكنهم رفضوا شهادته، وهم الآن في انتظار وقوع وتتميم كل ما قيل عن القضاء الذي سيقع عليهم، وفي أثناء ذلك فإن عبيده تُركوا هنا ليخدموا في زمان غياب السيد، وهو يوصي البوابين على وجه الخصوص بالسهر، لأنهم لا يعلمون في أية ساعة يأتي سيدهم، وهذا ينطبق على التلاميذ في خدمتهم بين إسرائيل، ولكنه أيضًا مبدأ عام يوجهه الرب إلى الجميع.
الأصحاح الرابع عشر
يعود الأصحاح الرابع عشر إلى التسلسل التاريخي للأحداث، ولكنها الآن الوقائع الخطيرة الخاصة بخاتمة حياة ربنا يسوع.
كان الكتبة والفريسيون يتآمرون منذ زمان لكي يأخذونه على غرة بمكر ويقتلونه، ولكنهم كانوا يخافون من أن يثير هذا مشاعر الشعب الذين كانوا يتعاطفون مع الرب يسوع بسبب أعمال الخير ولأجل اتضاعه، لذلك كانوا يريدون تجنب وقوع ذلك في العيد، حين تأتي الجموع أفواجًا إلى أورشليم. ولكن الله قصد خلاف ذلك، فإن الرب يسوع كان لابد أن يصير هو حمل الفصح لنا.. مبارك هو الرب.. وكان ينبغي أن يقدم هو نفسه كفدية الكفارة. وإذ كانت هذه هي مقاصده، وإذ كانت هكذا محبة المسيح، فإن الشيطان لم يكن في حاجة للعملاء المخلصين لكي يتمم ما يريد أن يعمل ضد الرب. فالرب يسوع ذاهب بنفسه إلى هذا المصير، والشعب سوف يستثار بسهولة ليسلم هذا الذي كانوا معجبين به إلى الأمم، ولم يكن هناك داع للخيانة لكي يقبضوا عليه ويسلموه إلى أيدي الكهنة. ولكن كان ينبغي أن يتم كل هذا لتكون هذه الأحداث في المقام الأول أدلة تظهر الله في نعمته، فكان لابد أن يقام عشاء بيت عنيا، وكان لابد أيضًا من عشاء أورشليم، في الأول قدم يهوذا عرضه، وفي الأخير فعل فعله المشين. ليكن شر الإنسان كيفما كان، فإن الله يأخذ مكانه الذي يختاره، ولا يسمح لقوة العدو إطلاقًا أن تخفي طرقه عن عين الإيمان، ولا يترك شعبه بلا شهادة عن محبته.
هذه المرحلة من حياة الرب لها تميزها الواضح، فالله هنا يكشف عن نوايا ومخاوف قادة الشعب لكن نعرفها، ولكن كل شيء هو في يديه بصفة مطلقة، أما غش الإنسان وخيانته، وقوة الشيطان حين يعمل بكل طاقته التي لم يشحذها قبلاً مثلما فعل في ذلك الوقت، كل هذه لا تعمل شيئًا سوى أنها تتمم قصد الله لمجد المسيح. فقبل خيانة يهوذا كانت شهادة المحبة من قبل مريم لذاك المزمع أن يُقتل. ومن الجهة الأخرى قبل أن يتركه الجميع ويسلَّم قدم هو شهادة عن محبته من نحو خاصته عندما رسم لهم العشاء، والذي كان بالنسبة له العشاء الأخير معهم، فبالها من شهادة جميلة عن مدى اهتمام الله بأولاده وتعزيته لهم في أحلك لحظات ضيقتهم.
لاحظ أيضًا كيف تجد المحبة نحو المسيح النور الذي يوجه طريقها في وسط الظلام الذي يكتنف طريق الرب، وتحدد المسار بوضوح بما يتناسب مع كل ظرف في حينه. لم تكن لمريم معرفة بالنبوات، ولكن الخطر الذي كان محدقًا بالرب يسوع المسيح من قبل اليهود الحنقين عليه حرك مشاعرها لتصنع به عملاً جديرًا بأن يذكر على مدى الأجيال أينما كرز بموت المسيح ومحبته في كل العالم. هذا هو الفهم الصحيح والمثال الأدبي الجدير بالتقدير. وبينما كان عملها فرصة للعمل في الظلمة بالنسبة ليهوذا، فإن الرب ألبسه ثوبًا من النور الإلهي بشهادته عن فهمها لفكر الله. إن محبة المسيح هذه تميز بين الخير والشر باستقامة وتشهد للعمل الصالح في وقته المناسب، فلا شك إنه حسن أن نعتني بالفقراء، ولكن في تلك اللحظة كان فكر الله متركزًا فقط على ذبيحة المسيح، فقد كانت للتلاميذ كل حين فرصة لأن يحسنوا إلى الفقراء، وحسنًا إن كانوا قد فعلوا. ولكن أن يوضع الفقراء في الكفة مقابل الرب يسوع في لحظات تقديم نفسه كان معناه وضعهم في مكان ليس لهم ونسيان كل ما هو غال عند الله. أما يهوذا فما كان يعتني بشيء سوى المال، فقوَّم عمل مريم بحسب اهتمامه، فلم ير قيمة شخص المسيح، بل كانت شهوة الكتبة أثمن عنده. كانت حكمته من العدو، أما حكمة مريم فكانت من الله. وتتوالى الأحداث، ويدبر يهوذا مع رؤساء الكهنة خطتهم لتسليم الرب يسوع مقابل دراهم قليلة، فتلاقت أفكاره مع أفكارهم وتم الاتفاق، ولكن من الرائع أن نرى من خلال ذلك كيف يسيطر الله على كل الأمور، ففي هذه اللحظة التي بلغ حقد الإنسان أوجه، وأخرج الشيطان كل ما في جبعته، سارت كل الأمور معًا في التوقيت المعين وبالأسلوب المحدد من قبل الله، وبالآلات التي حددها الله، لتتمم مشورته المحتومة. لم يفلت ولا أصغر الأمور من يده، ولم يحدث إلا ما كان في مشيئته، وبالكيفية التي أرادها، وفي التوقيت الذي عينه. يالها من تعزية لنا، وبالها من شهادة لنا عندما نمر في ظروف مثل هذه، من أجل هذا سجل لنا الروح القدس ما أراده الكهنة والكتبة في أن يتفادوا وقوع هذا في العيد، ولكن هيهات لهم، فإن هذه الذبيحة كان موعد تقديمها هو في هذا الوقت، وقد كان.
دنا يوم عيد الفصح الأخير في حياة ربنا يسوع، الذي فيه كان مزمعًا أن يكون هو نفسه الحمل، فلا يكون بعده تذكار للإيمان سوى ذكراه وذكرى عمله. لذلك أرسل تلاميذه كل ما يلزم لحفظ العيد، وفي المساء اتكأ مع تلاميذه ليتحدث إليهم ويشهد عن محبته لهم ورفقته لهم للمرة الأخيرة، ولكن كان عليه أن يخبرهم أن واحدًا منهم سيسلمه، فقد كان ينبغي أن يتألم بكل تجربة، فحزن قلب كل واحد من الأحد عشر لما تفكروا في هذا القول[23]. هذا ما كان سيفعله من كان يأكل من نفس الصحفة مع الرب يسوع، ولكن ويل لذلك الإنسان. ولكن لم يكن علمه بهذه الخيانة، ولا حزن قلبه في تلك الساعة، يستطيعان أن يوقفا تدفق انسكاب محبة المسيح، فأعطاهم عربون محبته في عشاء الرب. لقد كان عليهم منذ ذلك اليوم فصاعدًا أن يذكروا شخصه هو وذبيحته، وليسوا يذكرون بعد خلاصًا زمنيًا، فقد احتوى كل هذا في شخصه في موته على الصليب. ثم أعطاهم الكأس التي فيها أرسى رمزيًا قواعد العهد الجديد بدمه، مناولاً إياها لهم كاشتراك في موته، فلما شربوا منها كلهم أعلن لهم أن هذه هي ختم العهد الجديد، الأمر الذي سيعرفه اليهود حسبما قيل بإرميا، مضيفًا القول بأنه سيسفك عن كثيرين. كان لابد من دخول الموت لكي يتأسس العهد الجديد، وليكون هو فدية عن كثيرين. هذا هو السبب وراء حتمية الموت، لأنه كان ينبغي أن تنحل الرابطة الأرضية بين الرب يسوع وتلاميذه. لذلك لم يكن له أن يشرب من نتاج الكرمة ـ التي تشير إلى هذه الرابطة ـ حتى يجدد هذه العلاقة في صورة جديدة، لأنه سوف يجددها في ملكوت الله. فلما يتأسس الملكوت سيكون هو مرة أخرى معهم، ويعيد الرابطة في صورة أخرى أقوى وأكثر مجدًا. أما الآن فإن ترتيب الأمور جميعها قد تغير، فكان حسنًا أن يسبحوا ويمضوا من هناك إلى الموضع الذي ارتادوه مرات من قبل في جبل الزيتون.
كان ينبغي أن الرابطة الأرضية هنا بين الرب يسوع وتلاميذه تنقطع، ولكن ليس بأن يتركهم، لذلك شددهم، أو بالحري أظهر لهم عواطف قلبه وقوة علاقته بهم في عشائه الأخير معهم. أما هم فإن ما سيجري معه سيعثرهم ويجعلهم يتركونه، بالرغم من ذلك فإن يد الله كانت هي التي تحرك كل هذا، لأنه كان ينبغي أن يضرب الراعي، ولكن عندما يقوم الرب يسوع من الأموات فإنه يستعيد علاقته مع تلاميذه، فيخرج أمامهم إلى الجليل، المكان الذي بدأت منه علاقته بهم، بعيدًا عن موطن كبرياء الأمة، وحيث أضاء لهم النور بحسب قول إشعياء (إش9: 2).
تمثل الموت أمامه، فقد كان لابد له أن يجتازه حتى يمكن أن تتأسس أي علاقة بين الله والإنسان. كان لابد أن يضرب ربُ الجنود الراعي، لأن الموت كان هو حكم الله، ومن هو الإنسان الذي يستطيع احتماله؟ ليس سوى واحد فقط. كان بطرس يحب الرب كثيرًا، ولكن كان لابد أيضًا أن يتركه بالقلب، حتى مع ذهابه وراءه بالجسد في طريق الموت، لكن عند نقطة معينة كان سيتراجع إلى الوراء، مقدمًا شهادة دامغة عن عجزه عن عبور الحفرة التي فتحت فاها أمام عينيه لتبتلع سيده الذي أنكره هو. وفوق كل هذا فإن ما رآه بطرس كان هو الموت في صورته الخارجية، ولكن ضعفه أخفى عن عينيه أهوال الهاوية التي فتحتها الخطية تحت قدمي الإنسان. فلما أعلن الرب هذا لبطرس تعهد الأخير أن يحتمل كل ما يأتي على الرب، وقد كان مخلصًا في عواطفه، لكنه لم يكن يعرف ما هو الإنسان كما يعرفه الله، ولا كان يقدر ضعفه أمام قوة العدو الممسك بسلاح الموت. كان بطرس مرتعبًا بالفعل من الموت، ولكن منظر الرب يسوع الذي كان يحرك العواطف لم يكن يكفي لأن يضع الجسد الذي يعوق تمجيدنا لله في حكم الموت عمليًا، علاوة على ذلك فإن بطرس لم يكن يعرف شيئًا عن هذا الحق، فإن موت المسيح الذي أظهر حالتنا الحقيقية في النور الكامل كان هو نفسه العلاج لهذه الحالة التي كشفها، فلم يكن لحالتنا علاج سوى الموت الذي تخرج منه حياة القيامة، مثلما كان التابوت في عبوره الأردن، فقد نزل إليه منفردًا، حتى يعبر شعبه المفدي على اليابسة، ولم يكونوا قد عبروا هذا الطريق من قبل.
يقترب الآن الرب يسوع من نهاية تجربته التي لم تُخرِج سوى كماله المطلق ومجده، وفي نفس الوقت مجد فيها الله أبيه، بالرغم من أنها تجربة لم تدع وسيلة تحاول أن تثنيه عن هذا حتى الموت الذي فيه يحتمل غضب الله، وكم كان هذا الغضب حملاً ثقيلاً يفوق كل تصور.
كان يقترب من المعركة والآلام، ليس باستخفاف كبطرس الذي اندفع نحوها دون أن يدرك أبعادها وطبيعتها، بل وهو عالم بكل ما يأتي عليه، واضعًا نفسه في محضر أبيه حيث يوزن كل شيء، وحيث كان قد أعطاه كل مشيئته بوضوح تام من خلال شركته معه لكي يتممها حسبما أرادها الله تمامًا في مقاصده وأفكاره وطبيعته، وكل ذلك يتممه في طاعة كاملة لمشيئة أبيه.
ويتقدم الرب يسوع منفردًا ليصلي، فيمر أدبيًا بكل أبعاد آلامه مدركًا مرارتها وهو في الشركة مع الآب. وإذ تمثلت هذه الآلام أمام عينيه فإنه يلقي بها أمام قلب أبيه، حتى ـ إن أمكن ـ تعبر عنه هذه الكأس، وإن لم يكن فعلى الأقل يتناولها من يد أبيه. هذه هي التقوى التي سمع له الآب من أجلها، والتي بسببها صعدت صلاته إلى فوق. هناك كان هو كإنسان يسر بأن يشاركه تلاميذه في سهره وصلاته، ويسر بأن ينفصل عنهم لكي يسكب قلبه في حضن أبيه في اتكال إنسان يصلي. يا له مشهدًا عجيبًا!
في سرده للأحداث ينتقل مرقس سريعًا من موقف إلى موقف يوضح من خلال نسجها معًا الحالة الأدبية لأولئك الذين ارتبط بهم الرب يسوع بصورة لا تقل في تأثيرها على القلب عن باقي الأناجيل. فهذه الحالة الأدبية تلقي بانطباعات في كل خطوة وكل حدث، لتصل إلى نتيجة قاطعة بأنه لا يوجد نظير هذا الشخص الذي نراه متفردًا في المشهد الذي أمامنا. هو وحده الذي سهر أمام أبيه، فقد نعسوا جميعهم وناموا، وأما هو فبالنعمة كإنسان كان محتاجًا، وما كان يستطيع إنسان آخر أن يصنع لأجله شيئًا، وإنما كان كإنسان يتكل على الله وحده، وبهذا كان هو الإنسان الكامل. ومضى مرة أخرى ليصلي، ويعود فيجدهم نيامًا مرة أخرى، ويعرض قضيته مرة أخرى على أبيه، ثم يوقظ تلاميذه لأن الساعة كانت قد اقتربت، ولم يعد هناك وقت يستطيعون فيه أن يعملوا شيئًا لأجله، وهاهو يهوذا يأتي ليقبله قبلته الغادرة، أما يسوع فلا يقاوم. ويستيقظ بطرس الذي نام حين كان سيده مستيقظًا يصارع في الصلاة، ليضرب حين كان سيده خاضعًا كشاة تساق إلى الذبح، فضرب واحدًا من العبيد وقطع أذنه. ويتكلم الرب يسوع مع الآتين عليه ليمسكوه، مذكرًا إياهم بأنه كان دائمًا في متناول أيديهم ـ نتكلم إنسانيًا ـ ولم يلقوا عليه الأيادي، ولكن هناك سبب مختلف تمامًا الآن لما يجري منهم، فقد كانت هذه مقاصد الله، وكان هذا لكي تتم كلمة الله، وكان ينبغي أن يتمم الخدمة الموكلة إليه. وتركه الجميع وهربوا، فمن منهم كان يستطيع أن يتبعه في هذا الطرق إلى النهاية؟
شاب واحد حاول أن يتبعه، ولكن حالما ألقى الجند أيديهم عليه قابضين على ثوبه حتى فر عريانًا تاركًا إزاراه في أيديهم. إن من يندفع في الطريق التي يواجه فيها قوة العالم والموت بدون قوة الروح القدس لابد أن يهرب منها بالخزي، وعلى قدر ما يتقدم أكثر في هذا الطريق على قدر العار الذي يلحقه في طريق الهرب، هذا إن أفسح له الله طريق الهرب.
طلبوا شهادة عليه، فلم يجدوا، حتى شهود الزور لم تثبت شهادتهم، فلم يكن ممكنًا أن يفعلوا بالمسيح شيئًا حتى اللحظة المعينة من الله. فلم يجدوا وسيلة لإدانته سوى اعترافه وأمانته في النطق الحق أمام المجمع. لم يكن الإنسان يستطيع أن يعمل شيئًا، فشهادة أعدائه وعواطف تلاميذه لم تفلح، وهذا هو الإنسان، أما المسيح فهو الشاهد للحق وهو الشاهد عن الآب. هذا هو يسوع الذي أخضع ذاته لأولئك الذين لم يستطيعوا أن يقبضوا عليه حتى جاءت الساعة المحددة من قبل الله. مسكين بطرس! لقد اندفع إلى ما هو أبعد مما ذهب إليه الشاب الذي تبعه في البستان، ووصل إلى هنا ـ الجسد إلى مكان الشهادة ـ إلى الموضع الذي كان ينبغي أن تقدم فيه الشهادة أمام كل آلات العدو التي أعطاها قوته وسلطانه. يا للحسرة! فقد أغلق أمامه طريق الهروب، وما قاله الرب سيتحقق، وسيثبت أن ما قاله بطرس زيف، ولكن سيظل قلب الرب مليء بالأمانة والمحبة حتى عندما يظهر من بطرس ـ وهو ما يظهر منا بكل أسف ـ من جبن وعدم أمانة. لقد اعترف المسيح بالحق، أما بطرس فقد أنكره، وبالرغم من ذلك فإن نعمة ربنا المبارك لم تفشل منه، بل لمسه بهذه النعمة حتى أنه أخفى وجهه وبكى.
ومرة أخرى كان ينبغي أن يتم ما قيل بالأنبياء إنه يسلم إلى أيدي الأمم، حيث ألقوا عليه الاتهام بأنه ملك، الأمر الذي إذا اعترف به كفيل بأن يودي به إلى الموت، ولكن هذا هو الحق.
كان اعتراف الرب يسوع المسيح أمام الكهنة يختص بعلاقته بإسرائيل كما رأينا في مناسبات سابقة في هذا الإنجيل، فقد كانت خدمته أن يبشر في جماعة إسرائيل، وقد أظهر نفسه لهم كالملك عمانوئيل، والآن هو يعترف بأنه بالنسبة لإسرائيل هو رجاء الشعب، وأنهم سيبصرونه بهذه الصفة. فلما سأله رئيس الكهنة “أ أنت المسيح ابن المبارك؟” وهذا لقبه، وفيه تعبير عن مركزه المجيد كمن هو رجاء إسرائيل بحسب المزمور الثاني، أضاف ما سيكون عليه فيما بعد، والمركز الذي سيشغله كالمرفوض من الشعب، والذي سيظهر فيه لهذا الشعب المتمرد، فلابد أن يتم أيضًا فيه ما قيل بالمزمور الثامن والمزمور المائة والعاشر، وكذلك ما قيل بدانيآل في أصحاحه السابع بكل نتائجه، فيرون ابن الإنسان في يمين الله وآتيًا على سحاب السماء. فالمزمور الثامن يقدمه لنا في صورة عامة، أما مزمور110 ودانيآل7 فيتكلمان عن المسيا في الصفة الخاصة التي يعلن الرب يسوع نفسه فيها هنا. أما أن ينسب رئيس الكهنة إليه تجديفًا فهذا لم يكن سوى الرفض لشخصه، لأن ما ذكره كان ما هو مكتوب.
الأصحاح الخامس عشر
وأمام بيلاطس يشهد فقط بالاعتراف الحسن شهادة للحق حيث كان مجد الله يستلزم هذا، وحيث كانت هذه الشهادة تقف في وجه سلطان المقاوم، وأما عدا ذلك فلم يجب الرب عن شيء، بل ترك المشتكون عليه وشأنهم. ولا يسترسل الإنجيلي في سرد التفاصيل، فقد كانت هذه الشهادة هي خاتمة خدمته وواجباته التي كان عليه أن يؤديها، وقد تمت. واختار اليهود باراباس القاتل، ويخضع بيلاطس للجمع الذي يتزعمه رئيس الكهنة، فيسلم يسوع ليصلب. ويتعرض الرب لإهانات العسكر التي مارسوا فيها كبرياءهم وغطرستهم المعهودة، وقساوة قلب الجلادين التي عاملوه بها، وما هؤلاء سوى عينة لطبيعتنا الرديئة. لقد كان المسيح الذي جاء لأجل خلاصهم تحت سلطانهم لبرهة من الزمن، أما هو فقد استعمل قوته الذاتية لا ليخلص نفسه منهم بل ليخلص آخرين من سلطان العدو. وفي النهاية اقتادوه إلى الجلجثة ليصلبوه، حيث قدموا له مزيجًا مخدرًا ليشرب، فرفضه. ثم صلبوه مع لصين، واحد عن يمينه والآخر عن يساره، وهكذا تم كل ما قيل عن الرب، لأن هذا فقط ما كان يستطيعه الإنسان. كانت هذه ساعة اليهود والكهنة، ويا للأسف عليهم! أظهروا فيها شهوة قلوبهم، ولكنهم دون أن يدروا أظهروا أيضًا مجد وكمال الرب يسوع المسيح. ما كان ممكنًا أن يقام الهيكل ما لم ينقض بهذه الطريقة، وهم كآلات تتموا الحقيقة التي تكلم هو عنها، وعلى الجانب الآخر فإنه خلص آخرين وأما نفسه فلم يخلصها، وهذان الأمران هما شِقَّا الكمال في موت المسيح بالنسبة للإنسان.
ولكن مهما كانت خواطر المسيح وآلامه من جانب الإنسان، سواء من تلك الكلاب، أم من ثيران باشان (مز22) فقد كان العمل الذي عليه أن يتممه يتضمن أغوارًا أعمق كثيرًا من هذه الأمور الخارجية، لهذا لف الظلام الأرض في شهادة إلهية تنبئ عن آلام عميقة لفت بظلمة أكثر قتامًا نفس ربنا يسوع المتروك من الله بسبب الخطية، ولكن في هذا كان إظهار لكماله المطلق بصورة غير مسبوقة، بينما كانت الظلمة الخارجية علامة على انفصاله التام عن كل ما في الوجود، وأن العمل يجري على انفراد بينه وبين الله بحسب كمال كليهما. كل شيء كان بينه وبين إلهه، ومن كانوا في المشهد لم يدركوا منه سوى أقل القليل. ثم يصرخ مرة أخرى بصوت عظيم ويسلم الروح، وهكذا تمت خدمته، وماذا أكثر من هذا يمكن أن يصنعه في عالم عاش فيه فقط ليصنع مشيئة الله؟ لقد تمت هذه المشيئة كاملة، وينبغي الآن أن يمضي عن العالم. لا أقصد الخروج الحرفي من العالم، لأن صرخته القوية تظهر أنه كان لا يزال محتفظًا بقوته الجسدية، ولكنه أدبيًا قد رفض من العالم ولم يعد في العالم موضع ليمارس الرب فيه رحمته من نحوه، لأنه صنع بنفسه كل مشيئة الله، وشرب في أعماق نفسه كأس الموت ودينونة لخطية، ولم يبق عليه شيء سوى أن يموت، فأسلم الروح طائعًا إلى النهاية، ليبدأ حياة في عالم آخر لا يدخله الشر مطلقًا، حيث الإنسان الجديد سيكون سعيدًا السعادة الكاملة في محضر الله.
لقد كملت خدمته، وطاعته بلغت غايتها بالموت، فانتهى دور الطاعة، وبالتالي دور حياته التي عاشها يبن الأشرار، وما معنى الحياة ولم يعد هناك ما يتطلب الطاعة ولا مجال لممارستها، فإنه بالموت أُكملت طاعته، وقد مات فعلاً، والآن قد صار الطريق إلى الأقداس مفتوحًا، فقد انشق الحجاب من فوق إلى أسفل. عندئذ ميز قائد المائة الأممي في موت المسيح أن هذا الشخص هو ابن الله.
إلى هذه النقطة كان الرب هو المسيا لليهود، ولكن في موته رفضته اليهودية، ومن هنا صار مخلص العالم. ولم يعد الحجاب يحجب الله، وهذا منتهى ما كانت تستطيع اليهودية أن تعمله في هذا المجال، ومن هنا يبدأ استعلان النعمة الكاملة للأمم، فقد أسلم يسوع الروح بصرخة بصوت عظيم تدل على أن هناك قوة عظيمة لا تزال فيه لتستعلن لكل الأمم الذين سمعوها فعلموا أن هذا هو رئيس الحياة، وأنه ابن الله. حتى بيلاطس تعجب من أنه مات هكذا سريعًا، ولم يصدق حتى أتته شهادة قائد المائة، ولكن إذ أنه كان بلا إيمان وبعيدًا عن النعمة، بل حتى بعيدًا عن العدالة الإنسانية، لم يعنه هذا الأمر شيئًا.
إن موت الرب يسوع لم يشغله عن قلوب أولئك الضعفاء الذين أحبوه، والذين وإن كانوا لم يكونوا معه عند الصليب ولكن بالنعمة الآن قد رجعوا بعد انسحابهم من المشهد، مثل النسوة التقيات اللواتي تبعنه، واللواتي خدمن أعوازه من أموالهن، ويوسف الذي وإن كان قد تأثر في ضميره لكنه لم يكن يتبعه حتى هذا الوقت، ولكنه تقوى أخيرًا بشهادة نعمة وكمال الرب يسوع، فقد وجد هذا المشير الشريف فيما حدث دافعًا لا للخوف، بل دافعًا لأن يعلن حقيقة ما في قلبه. كانت تلك النساء مَثَلهن مَثَلُ يوسف في قلق من جهة جسد الرب يسوع، فإن خيمة ابن الله لم تكن لتترك بدون مثل هذه الخدمة الواجبة على الإنسان ليقدمها لهذا الشخص حتى وإن كان قد غادرها، علاوة على أن عناية الله كانت قد عملت في قلوبهم وهيأتها لهذا العمل لأجل جسد الرب يسوع. فوضع الجسد في القبر، وظلت النسوة جميعًا يراقبن أين وضع، ثم انتظرن في ترقب حتى انتهاء السبت ليقمن بالخدمة التي وضعن في قلوبهن أن يصنعنها لجسده.
الأصحاح السادس عشر
ينقسم الأصحاح الأخير إلى قسمين، الأمر الذي أثار تساؤلات حول صحة الأعداد من9 إلى20. ويتعلق الجزء الأول من ع1ـ8 بخاتمة الأحداث بالارتباط باستعادة العلاقة بين الرب كنبي إسرائيل والملكوت وبين الشعب، أو على الأقل بالبقية المختارة منه، الأمر الذي كان أمامنا في كل هذا الإنجيل. فنرى التلاميذ الذين تركوه وهربوا وبطرس الذي أنكره، ومع ذلك يعترف بهم بالنعمة كأفراد، وكان عليهم أن يذهبوا ليلاقوه في الجليل كما قال لهم، حيث كانت علاقته بهم قد تأسست في البداية، وحيث كان ينبغي أن يرد العلاقة بينه كالمقام من الأموات وبين أذل الغنم الذين ينتظرونه، فأولئك فقط صاروا هم الشعب أمام الله. أما النسوة فلم يقلن شيئًا لأحد عما رأين، لأن الشهادة بقيامة المسيح أوكلت إلى التلاميذ الجليليين فقط، فكان الخوف الطبيعي عند المرأة هو الوسيلة التي استخدمتها العناية الإلهية لمنع النسوة من التكلم بهذا الأمر.
أما الأعداد 9ـ20 فنجد فيها شهادة أخرى، فلا نجد التلاميذ هنا كالبقية المختارة، ولكن في عدم الإيمان الطبيعي للإنسان. ونجد الكرازة مرسلة إلى العالم أجمع، ونجد مريم المجدلية التي كان يسكن فيها قبلاً سبعة شياطين ومستعبدة استعبادًا تامًا لسلطان الظلمة، ولكنها الآن هي الواسطة التي بها تبلغ أخبار قيامته إلى رفقاء الرب يسوع. ثم نجد الرب يسوع يظهر شخصيًا لهم ويكلفهم بإرساليتهم، فيأمرهم أن يذهبوا إلى العالم أجمع، وأن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، فهو لم يعد مقصورًا على كونه على إنجيل الملكوت، فالآن كل من آمن بالمسيح وارتبط به بالمعمودية في كل العالم يخلص، أما كل من لا يؤمن فلابد أن يدان، فإما خلاص وإما دينونة، فمن قبل الخبر بالإيمان خلص، ومن لم يقبل الرسالة فقد دين. علاوة على هذا فإن من عرف الحق ولكن رفض أن يتحد مع التلاميذ معترفًا بالرب فإن مصيره هو الأكثر شؤمًا، لذلك قال لهم “من آمن واعتمد”.
كان لابد أن تتبع المؤمنين علامات، وأولى هذه العلامات أن يكون لهم سلطان على الأرواح الشريرة، ثم ثانيًا أن يتكلموا بألسنة مختلفة برهانًا على أن النعمة قد اتسعت إلى ما هو أبعد من دائرة إسرائيل الضيقة لتشمل كل العالم.
ثم من جانب آخر فإن قوة العدو التي تظهر في إيذائهم مثل سم الحيات لن يكون لها تأثير عليهم، بل إن الأمراض تكون خاضعة لسلطانهم. وباختصار فإن هذه الكرازة كانت بمثابة انحسار سلطان العدو على الإنسان وإذاعة النعمة إلى كل إنسان.
وإذ أكمل تكليفه لهم بإرساليتهم فإن الرب يسوع صعد إلى السماء وجلس في يمين الله، المكان الذي منه يرسل قوته هذه للبركة، والذي منه أيضًا سيرجع ليعطي الملكوت للقطيع الصغير أذل الغنم. وإلى أن يحين ذلك يشغل التلاميذ مكانه مع توسيع دائرة الخدمة لتصل إلى أطراف الأرض والرب من ورائهم يثبت كلامهم بالآيات التابعة.
قد يرى البعض أنني ركزت على آلام المسيح في تأملاتي في مرقس، ولكن هذا الموضوع لن نكف عن الكلام عنه، وينبغي أن يكون متسعًا أمامنا اتساع شخص المسيح وعمله. مبارك الله لأجل هذا، فسوف نجد في لوقا تفاصيل أكثر، ولكنني أتتبع تسلسل الأفكار التي يضعها الإنجيل أمامي. ويبدو لي أن الإنجيلي هنا يرى صلب المسيح كإتمام لخدمة الرب يسوع. كان موضوعه الأساسي هو “النبي”، ولكن كان ينبغي أن يكمل سرد تاريخه حتى النهاية، لذلك أورد في عجالة مختصرة صورة كاملة للإحداث البارزة في خاتمة حياة الرب، والتي كان لابد أن يكمل مسيرته فيها كالخادم لأبيه، وهذا ما تتبعته بحسب الترتيب الذي ورد به في هذا الإنجيل.
[1] قارن أعمال3.
[2] هذه السرعة يتميز بها إنجيل مرقس كما يتبين من تكرار كلمة “للوقت”.
[3] نجد سلطان كلامه هنا مجردًا كما في متى، أما لوقا فسنجد فيه تفاصيل دعوة التلاميذ. وعلى الأقل فهؤلاء الأربعة كان لهم ارتباط بالرب من أيام يوحنا المعمدان.
[4] يجب أن نفرق بين الغفران السياسي والغفران المطلق للخطايا. وكمبدأ لا يمكن أن يحصل الإنسان على الأول بدون الثاني، ولكن إلى أن رفض ربنا يسوع وصلب لم يكن هذا المبدأ قد طبق بصورة مطلقة.
[5] يقصد الكاتب الكهنوت اليهودي الذي كان الرب في موقف الخضوع له لما أمر الأبرص أن يذهب إليه ليري نفسه للكاهن حتى يكون الحكم بطهارته من السلطة التي أناط بها الناموس هذا السلطان ـ المعرب.
[6] نستطيع أن نرى هنا كيف ينحى النظام القديم ليفسح المجال لإظهار ما هو الله بالنسبة للإنسان. ولكن لم يكن هناك ما يبرر اليهودي الذي تخلى عن النظام الأول سوى كلام وأعمال الرب، ذلك لأنه كان من الواضح أن التمسك بالنظام الأول يتناقض مع الاستعلان الكامل لمن أعطى الناموس. قارن يو15: 22،24.
[7] هذا هو سر كل تاريخ الرب يسوع ابن داود، فإن كل المواعيد التي لليهود هي فيه، وهو الخادم لكل احتياجهم وآلامهم، ومع ذلك فهو الله، وفيه يستعلن الله، وهذا ما لم يتحمله الإنسان، لأن فكر الجسد هو عداوة لله.
[8] “لم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة” لأن خدمته كانت تعتمد على مقاييس مقدسة يمكن لله من خلالها أن يتعامل مع الإنسان لكي يعلن من خلالها ذاته.
[9] راجع متى 4: 16.
[10] نلاحظ أن العدد سبعة ارتبط بالكمال غير المنظور، أما العدد 12 فهو يرتبط بالكمال المنظور.
[11]اللعاب كان له ارتباط بالتقديس عند الرابيين باعتباره شيء من داخل الإنسان، ولكنه هنا له قيمته في ذات الشخص الذي استخدمه.
[12] لا يوجد شيء هنا يخص الكنيسة ولا مفاتيح ملكوت السماوات، لأن الجزئية من اعتراف بطرس بأنه “ابن الله الحي” التي تأسس عليها الإعلان الخاص بهما في متى لا تذكر هنا ولكن هنا مجد الملكوت الآتي بالقوة بالمقابلة مع رفض المسيح كالنبي والخادم في إسرائيل.
[13] إن الدخول في السحابة ليس جزءًا من الإعلان هنا، ولكننا نقرأ عنها في لوقا. كانت السحابة بالنسبة لإسرائيل هي مكان سكنى الله، وفي متى17 نقرأ أنها كانت “سحابة نيرة”.
[14] هذا خلاص سيكمل في القديسين في وقته.
[15] يجد البعض صعوبة في التوفيق بين هذا وبين قوله “لا تمنعوه... لان من ليس علينا فهو .معنا” ولكن الصعوبة تزول عندما نضع الموضوع الأساسي في الاعتبار. كان الرب يسوع هو القداسة الإلهية في حالة إنسانية، فكان العالم بجملته ضده بصفة مطلقة. فإذا وجد إنسان ليس على هذه الحالة المضادة له فلن يكون سوى معه، لأنه لا يمكن أن توجد حالة وسط. وعلى نفس المنوال إذا كان واحد ليس للمسيح فهو إذًا للعالم، وبالتالي فهو ضد المسيح.
[16] لاحظ أنه لا يسأل “ماذا أعمل لكي أخلص؟” لأنه كان يفترض أنه بواسطة الناموس يمكنه نوال الحياة الأبدية.
[17] هذا يصل بالتلاميذ إلى ما هو أبعد من ارتباطهم باليهود، وكمبدأ يضم القول “ليس أحد” الأمم أيضًا.
[18] لاحظ أن بطرس لم يكن يفكر في العالم العتيد، وإنما كان يريد أن يعرف المكافأة في العالم الحاضر على تركهم كل شيء لأجله.
[19] من التجلي إلى أن يأخذ الرب يسوع حقوقه كابن داود لا نجد سوى الصليب. كان الرب كالنبي والكارز بالملكوت حتى التجلي، وانتهت خدمته بهاتين الصفتين عنده لما سطع مجده المستقبل في الصليب الذي به انتهت خدمته هنا على الأرض. ولكن قبل أن يصل إلى الصليب قدم نفسه كالملك. إنجيل متى يبدأ به كالملك، أما مرقس فهو أساسًا يقدمه كالنبي.
[20] سبق أن أشرت إلى أن أعمى أريحا في الأناجيل الثلاثة الأولى يمثل نقطة التحول في تاريخ معاملات المسيح مع اليهود وبداية آلامه الأخيرة، ومعه تبدأ نهاية خدمة الرب يسوع الرب يسوع بين عامة الشعب.
[21] هذا هو الإنسان تحت العهد الأول، أو الجسد تحت المسؤولية، فلن يكون منه ثمر إلى الأبد.
[22] ينبغي أن يلاحظ القارئ أن الكاتب سجل هذا الكلام قبل قيام دولة إسرائيل بأكثر من مائة عام، بل وقبل ظهور الدعوة بين اليهود لاستعادة كيانهم السياسي ـ المعرب.
[23] هناك شيء جميل يمس القلب في كونهم تساءلوا هكذا، فقد كانت قلوبهم مخلصة فكان لكلمة الرب يسوع تأثيرها المقدس على قلوبهم. لم يكن لديهم فكر الخيانة للرب سوى لدى يهوذا، ولكنهم كانوا متيقنين من أن كلماته حق، ولم تكن لديهم الثقة في ذواتهم أمام قول المسيح، فلم يدعِ أحد منهم أنه ليس هو، بل انحنوا جميعًا بقلوبهم أمام قول الرب يسوع الخطير المرعب. أما يهوذا فقد تجنب أن يسأل أولاً، ولكن يبدو أنه كنوع من تقليد الآخرين سأل أخيرًا ظانًا أنه سيبرئ نفسه بذلك ويلقي بالشبهة على آخر (راجع متى26: 25).