وقع الأقباط في أيام ديسيوس ثم في أيام دقلديانوس أبان القرن الثالث الميلادي تحت وطأه الأضطهاد الشديد . و كان عهد هذين الطاغيتين من أسوأ العهود التي مرت بها المسيحيه منذ نشأتها الي اليوم . حتي كانت حياه المسيحيين تحت حكمهما كابوسا مروعا مملوءا بالأهوال , و مذبحه مستمره تفيض من جنباتها دماء الشهداء من رجال و نساء و اطفال . الا أنه لم يكن الأرهاب و العذاب و لم يكن الأضطهاد و الأستشهاد الا ليزيد ما بقلوبهم من ايمان . و ان يضاعف من عزمهم الجبار علي احتمال الآلام و الأخطار . بل لقد دفعت بهم قوه ايمانهم و شده عزمهم الي استعذاب العذاب و التلذذ بالألم و السعي مختارين مطمئنين الي حومه الموت . ثم أنتهي بهم الأمر الي استشعار الفرح و الفخار في التقدم طواعيه لنيل اكليل الشهاده و الي الأحساس بالخيبه و العار لو أن مسيحيا نجا من حد السيف أو من لهيب النار و لم يسعد بنعمه الأستشهاد . حتي اذا أنقضي ذلك العهد الدامي و أنتهت تلك التجربه العظمي . كان مالاقاه المسيحيون من أهوال قد صهر نفوسهم و طهر من أدران الدنيا سرائرهم و خواطرهم و خلجات قلوبهم و أرشدهم الي سبيل الروح و عودهم علي التضحيه بالذات و أحتمال الشدائد لغايه مجرده هي محبه الله . فما بدأ عهد الحريه في أيام قسطنطين حتي بدأت تلك الفضائل المسيحيه في الظهور و الأستقرار . حتي بدأ كل مسيحي بقي علي قيد الحياه يتوجه بالتقدير و التقديس لتلك الدماء الذكيه التي سفكت . ثم يحس بالحسره و الألم لأنه لم تدركه تلك الفرصه المباركه لأن ينال فخر الشهاده مع الشهداء . و من ثم راح يسعي لتعويض ما فاته بالسلوك الذي يمجد الله في حياته عن طريق بذل الذات من أجل الوصول الي التقرب الي الله . فتنازل بعض المسيحيين عن كل ما في الحياه من لذات و متع و قاموا بتكريس الحياه كلها بعيدا عن دنيا الناس للتسبيح و العباده . لقد أدرك المسيحيون خلال تجاربهم المريره بطلان هذا العالم و خداع مظهره الخلاب . و اذ عرفوا بأحساسهم الذي أرهفه العذاب أن هنالك ما هو أحق بالجهاد و الأستشهاد من مطالب هذا العالم الكاذب . راحوا يبذلون أنفسهم بمحض رغبه نفوسهم و مشاعرهم و علي هدي ضمائرهم و بصائرهم هاربين من الناس متواريين عن مدائنهم و قراهم الزاخره بالأدناس . منطلقين في الصحاري و البراري أو منزويين تحت سقوف ألأطلال أو كهوف الجبال يحاربون الجسد فيقتربون بالصلاه و الصوم و التأمل و تسامي الروح من ملكوت السموات . و علي هذه الصوره بدأت الرهبنه . فخرج أفراد من ديار اهلهم و يمموا شطر الأكامات و التلال البعيده عن معالم العمران و أنفرد كل منهم وحيدا متعبدا لله في كهف من الكهوف أو تحت سقف من السقوف . لا يؤنس وحدته أنيس و لا يجلس اليه في خلوته جليس . و لا يعاونه علي تدبير أمره رفيق أو صديق . و كان من اوائل أولئك الناسكين المتوحدين في أواخر القرن الثالث القديس الأنبا بولا ثم الأنبا انطونيوس و الأنبا باخوميوس . ثم ظهر في القرن الرابع الأنبا مكاريوس و هؤلاء هم الذين وضعوا أسس الرهبنه و سنوا شرائعها و صاغوا مبادئها و آدابها حتي جعلوا منها أسلوبا ساميا من اساليب الحياه أجتذب اليه الاف النفوس الباره في مصر و في العالم أجمع . حتي لقد أقبل كثير من الأمراء و الحكماء و الفلاسفه الي وادي النيل كي يتتلمذوا علي هؤلاء الرهبان الأوائل و يسلكوا سبيلهم في الحياه . و من أولئك القديس أرسانيوس و قد كان معلم أبناء الملك في روما و أعظم فيلسوف فيها و كان أبوه من كبار رجال البلاط الملكي . و منهم كذلك القديسان مكسيموس و دوماديوس اللذان تركا قصر أبيهما الملك . و أقبلا من القسطنطينيه . و هما في زهره شبابهما كي ينخرطا في سلك الرهبنه . و قد أفنيا حياتهما في الزهد و التقشف والتعبد و الصلاه . و غير أولئك كثيرون من سائر أمم الأرض . و ظلت الرهبنه هكذا تقوم علي التوحد و هو أسمي مراتبها , اذ به يكتمل ما للرهبنه من معني التصوف . و ما لها من صوره التقوي و التقشف و ما ينبغي لها من التجرد و الأنقطاع الي التأمل في حقائق الكون و الأتصال بالله . و كان الــــــنساك في ذلك الوقت يعيشون في الكهوف أو المغارات أو القلالي يبنونها لأنفسهم و يغلقونها علي أنفسهم . فلا يروون الناس و لا يراهم الناس . حتي أقبل القرن الرابع الميلادي و كثر طلاب الترهب و أنطلاق الناس الي البراري و القفار . الا أن النفوس ليست بقادره كلها علي التزام الصبر الشديد علي الوحده المطلقه بما تنطوي عليه من قسوه و أقفار و حرمان . و قد نشأ الناس بغريزتهم ميالين للأجتماع و التعاون علي مطالب الحياه . و من ثم فقد بدات تظهر الحاجه الي جمع شمل الرهبان ممن عجزوا عن حياه الوحده . كي يعيشوا في جماعات تتوافر لها أسباب الأئتناس بالزماله و الجوار و الأمن و السلامه من عداء الوحوش الضاريه و المغيرين من قطاع الطرق و لصوص القفار . فراح الرهبان يبنون قلاليهم في سفوح الجبال متجاوره مع بعضها حتي يخففوا عن أنفسهم حده ما يستشعرون من وحده و أنفراد . و مع الزمن أبتدأ هؤلاء النساك المتجاورون يتعاونون علي أقامه الصلاه و تدبير ما يلزم لهم من شئون حياتهم , و حمايه أنفسهم من ضواري الصحراء و غارات البربر. فقاموا يبنون أسوارا عاليه تضم قلاليهم ( أماكن سكنهم ) و تعزز ما نشأ بينهم من تعاون و موده . و هكذا نشأت فكره الأديره .
و كان أول من نظم جماعات الرهبان هو الأنبا باخوميوس . فكان يقيم لهم الأديره عند اطراف المدن في نواحي الوجه القبلي . و هكذا فعل الأنبا انطونيوس في الجبل الشرقي و الأنبا مكاريوس في الجبل الغربي . و توالت من بعدهم ديار الرهبان . الا أنها ظلت خلال السنين المتواليه في تطور مستمر من حيث بنائها و من حيث النظام السائد بين ساكنيها . فبعد أن كانت قاصره علي القلالي تضمها الأسوار , أصبحت تقام لها أبنيه كامله ذات حجرات متباعدات أو متجاورات . و بعد أن كانت الصلاه فيها انفراديه دائما أصبحت جماعيه في بعض الأوقات . يشترك فيه رهبان الدير جميعا . و قد أصبحت تضمهم لهذا الغرض كنيسه تبني داخل الدير . و بعد أن كان كل راهب مسئولا عن نفسه و غير مسؤل أمام غيره , أصبح يسود الدير نوع من النظام الأجتماعي قوامه التعاون و التواضع و الطاعه من سائر الرهبان لمن أقاموه رئيسا لهم يسهر علي شئون مجتمعهم الصغير . حتي اذا ما أقبل القرن الخامس . كانت الأديره تملأ كل براري مصر و قفارها حتي بلغت الآلاف . و أصبحت تضم عشرات الآلاف من الرهبان المقبلين من كل بقاع الأرض .
لقد كانت حياه الرهبان في الأديره حياه كفاح و حرمان , بيد أنها كانت في ذات الوقت حياه أنتاج و خصوبه . فلم يكونوا يفهمون الرهبنه علي أنها أنقطاع للعباده و المناجاه فحسب , و لا تطلع الي الخير الذاتي وحده . و أن كان هذا الخير متصلا بالروح و انما يفهمونها علي انها رساله ساميه ذات غايه متسعه الأفاق يمتد ظلها فيشمل المجتمع كله و يشمل الزمن كله , لأنهم كانوا يدركون أن فضيله الأنسان باطله ان كان ضياؤها لا يتعدي جدران النفس البشريه و لا ينعكس علي الأنسانيه كلها فيغمرها بنور الحقيقه , و يهديها الي سر الوجود . فلم يكن الراهب اذ يغلق باب الدير علي نفسه أن يقطع صلته بالكون و الكائنات , و انما أن يتخلص من الجانب المظلم في الحياه كي ينكشف أمامه الجانب المضيء . فيري الكون و يري الكائنات علي هداه , فيتأثر بما حواه من أضواء , ثم يجتهد أن يؤثر بدوره في الحياه البشريه , و أن يكسوها مما أكتست به نفسه من بهاء . و من ثم فقد كان ايمان الراهب غير قاصر علي سويداء قلبه . و انما يجتهد أن يشيع بين الناس ما أقتنع به . فكان للراهب الي جانب تعبده لله واجبان مقدسان هما تبشير أهل الدنيا بأسرار الدين . و تلقينهم ما وصلت اليه القرائح من علم . من ثم كانت حياه الراهب موزعه بين الصلاه و الصوم و التعبد من ناحيه , و بين القراءه و البحث و الكتابه من ناحيه أخري . و بذلك وصلت الينا أخبار نسكهم و قداستهم و شده أحتمالهم و طهاره قلوبهم و تفانيهم في ايمانهم و اجتهادهم في مرضاه ربهم و اجهاد أبدانهم في عبادته و تسبيحه و اجلاله