ذكريات القديسة البتول مريم العذراءعظة في صوم العذراء
أغسطس 1980
الخميس 08 اغسطس 2013
نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط
* مجداً وإكراماً .. إكراماً ومجداً للثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس اله واحد آمين.
* في هذه الأيام المباركة تعيش الكنيسة المقدسة صوم العذراء وهو الصوم الذي يشرق دائماً في هالة من ذكريات القديسة البتول مريم العذراء بدءاً من مخدع صلواتها وهي تتلقى البشارة بتجسد المسيح مخلصي منها وحتى انتقالها العجيب لتستأنف حياة المجد مع مسيحها الحبيب.
* وعذراؤنا الطاهرة لها أكرم مكانة في الكنيسة القبطية وهي المطوبة من جميع أجيال البشرية لأنها والدة المخلص وأم الخلاص. والخلاص في المسيحية هو الثمرة الناضجة للإيمان بها والحياة فيها، ويقول الرسول بولس «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا».
* ويقوم هذا الخلاص أولاً على التحرر من الخطيئة والنجاة من سلطانها لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله، ولأن الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. فلهذا يقوم الخلاص ثانياً على النمو في معرفة الحق والتقدم في حياة التوبة والتمتع بفاعلية نعمتها ونيل كريم مكافأتها، وهو ما لم ترى عين وما لم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه. والخلاص بالنسبة للإنسانية يشمل أرواحها كقول صاحب المزمور «قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي».
وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئن في الباطن منتظرين التبني وفداء أجسادنا.. هذا هو الخلاص الذي تعهد به الرب لينهض الإنسان الذي خلقه مستقيماً ولكنه أخطأ بإرادته فاستحق أن ينزل من موطن نعيمه وسعادته إلى أرض التعب مهبط شقائه وغربته وصار في حاجة إلى خلاص يقدم له.. يقدمه له الله وحده.. فهو القائل: «أليس أنا الرب ولا إله آخر غيري. إله بار ومخلص ليس سواي».
* ولما كان خلاص البشرية لا يتم إلا بتضحية وفداء لقاء ما اقترفت من معصية وأخطاء لهذا لم يكن غريباً أن يتخذ الله من الإنسانية الخاطئة جسدها ليفتديها ويعيش بينها لينقذها وينجيها.. مكتوب «أنه عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد كُرز به بين الأمم أؤمن به في العالم، رُفع إلى المجد».. هذا هو التجسد العجيب الذي مهدت له السماء قبل ظهوره بالكثير من أحداثها وأحاديثها والتي حفل بها تاريخ الفداء وهو يستعرض أساليب الصفح والغفران. فالله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. هذا هو الإله المخلص وهذا هو الخلاص في قصده الإلهي وتدبيره الأزلي والذي هو ملازم للحياة ولا نهاية له، فهو أبدي. وللمخلص ولادة زمنية عاصرتها الإنسانية يسجل الكتاب المقدس أحداثها الرائعة وأحاديثها الجامعة وكم يطيب لنا أن نتذكرها في تأمل عميق مدى الحياة وعلى امتداد الطريق. ففي ملء الزمان وعند اكتمال الميعاد، حمل رئيس ملائكة من السماء إلى مريم العذراء بشارة الحبل بالمسيح المخلص رب الفداء، ومن بعدها بشرى ميلاده تولاها نجم من لوامع الكواكب مع هتاف ملائكة في مشهد من روائع المواكب وهكذا انتهى زمن الرموز والظلال، لتواجه البشرية عهد المسيح الفادي الذي يمنح المؤمنين به الخلاص بفدائه ويهب المغفرة بسفك دمائه. لقد قدمت السماء للأرض المسيح في صورة إنسان ولهذا دعي ابن الإنسان، واستودعته بين يدي أمنا العذراء الطاهرة طفلاً في حجرها ورضيعاً على صدرها. هذا هو المسيح الذي قبل ميلاده قيل عنه ليوسف البار في حديث الملاك إليه عن مريم العذراء أن الذي ستحبل به هو من الروح القدس وستلده ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم وأيضاً بعد ميلاده قال الملاك للرعاة «ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب».
* عاش المسيح على الأرض داعياً إلى هذا الخلاص كما قال بنفسه «لم أت لأدين العالم بل لأخلص العالم». ولأنه له المجد أكمل عمل الخلاص وفداؤه للبشرية بموته على الصليب نيابة عنها فقد أصبحت دعوته لجميع الناس للإيمان به هي دعوة إلى حياة الحرية والخلاص ويقول الرسول بولس آمن بالرب يسوع فتخلص. المسيح هو مخلص العالم وما كان العالم يعرف غيره مخلصاً رحيماً وديعاً ومتواضعاً، يصفح غافراً، ويغفر قادراً وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص. إنه الفادي الوحيد وفدائه ما كان قاصراً على الذين كانوا في زمنه وعايشوا عهده الجديد ولكنه امتد إلى الأجيال التي سبقته كما وامتدت آثاره إلى المستقبل القريب والبعيد. وواجه المسيح مع عائلته المقدسة حياة مضطربة في عالم آثم ودنيا شريرة وذلك منذ طفولته فقد انزعج هيرودس أن يولد المسيح في عهده، ظناً منه أنه جاء ملكاً على عرشه، فأسرع بإصدار أمراً بالقضاء عليه طفلاً في مهده، ولكن من المستحيل أن يتأتى له ذلك!؟ وماذا لو قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما .. الساكن في السموات يضحك، الرب يستهزئ بهم. حينئذ يتكلم عليه بغضبه ويرجفهم بغيظه.. وبينما نام المسيح في حضن الأمومة يظهر الملاك في الليل ليوسف البار ويقول له خذ الصبي وأمه واهرب إلى أرض مصر، لكي يبعد عنه كيد الأشرار، وبغض المبغضين.
* ويجيئ المسيح إلى مصر ضيفاً عليها بل هو رب المجد وملك الملوك فهنيئاً لك مصرنا العزيزة وأنت تستقبلين مسيح الدهور في أمن وسلام وترحاب ولك بركة الرب الأمس واليوم وإلى الأبد وأنت تفتحين أمام وجهه القلوب والأبواب، وكما عاش المسيح في بلادنا مصر مدة محدودة كما يتردد النزلاء والغرباء هكذا كان لابد أن يعود من مصر إلى وطنه فلسطين التي اختارتها له السماء تاركاً وراءه طائفة من أطيب وأقدس الذكريات ومن ذا الذي يغفل آثار هذه الزيارة أو يتجاهل مسيرتها وأخبارها أنها ملء العيون والأسماع بعد أن تجاوزت صفحات الكتب التي ترويها إلى صفحات مصر الحبيبة واديها وصحاريها .. وإذا كان العالم المسيحي يشاركنا تعاليم المسيحية وإيمانها فإن بلادنا المصرية تنفرد بالمعالم الخالدة لزيارة مسيحها وفاديها والتي تركت أعظم الآثار فوق أراضيها وعلى امتداد واديها هذه التي تنبعث عنها الروحانية في حاضرها كما في سابق عهدها وماضيها.. من هذه المعالم الخالدة دير العذراء بجبل أسيوط إنه الدير الذي يحدثنا بلغته الخاصة عن بركات مجيء المسيح إليه، وقد تجليت ناطقة في الجبال الراسية العذراء وهي تحمل السيد على صدرها وتجليت في مغارتها بكنيستها وهيكلها في الأنوار المتلألئة وكالشمس التي عادت بعد غروبها وكالمياه التي تنساب من ينابيعها، وكالطبيعة الصامتة وهي مستغرقة في تسبيح خالقها ومبدعها وهي أيضاً البركات التي تتجلى فيما يجرى من العجائب والمعجزات وفي النذور معبرة عن شكر مقدمها وواضعها ومباني الدير الواسعة والمنائر والقباب فوق قواعدها وتحت صلبانها كما وفي الصوامع والقلالي المعاصرة براهباتها ورهبانها.. إنها البركات التي تجدد ذكريات هذه الزيارة الفريدة. وكيف أن المسيح وعائلته المقدسة كانوا نعم الضيوف بل ونعم النزلاء وهو ما يبعث الإيمان بالقلوب ويدعنا نحس بأن هذه الإقامة لازالت دائماً فيما بيننا وإلى غير انقضاء. إن كل ما في هذا الدير وما يضاف على هذا الزمن إنما يحدد مجد الله ويخبر بعمل يديه. إنها قوة الله التي تعمل في أديرته وكنائسه، كما أنها الرسالة المنظورة والمسموعة في خدمة ملكوت الله.
* فلاسمه القدوس الكرامة والعظمة إلى الآبد. آمين. وفي هذه المناسبة الطيبة من دير العذراء ترفع الكنيسة الصلاة والدعاء سائلة الله من أجل سلامة بلادنا وشعبها، وسلام من السماء. آمين.
صلاة
علمني يا رب كيف أحبك.
توبني يا رب فأتوب
أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك
بفم نيافة أنبا ميخائيل – مطران أسيوط