رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أفتيخوس وبولس الواعظ كان أفتيخوس أسعد حظاً من القديس أوغسطينوس الذى كان يتمنى أن يرى بولس واعظاً ، .. ومع أن أجيالا كثيرة كانت ترغب ذات الرغبة إلا أننا يمكن أن نتصور هذا الواعظ الذى لا شك كان من أقدر وعاظ العصور والأجيال ، وذلك لأنه يحمل سمات الواعظ الناجح العظيم المقتدر ، وقد يكون من المناسب أن نأخذ القارئ بعض الوقت مع طلبة كليات اللاهوت ، ونحن نتحدث معهم عن « إلقاء العظة » وكيف يظهر هذا الإلقاء على أروع صورة ، عندما يتحلى الواعظ بالسمات الخاصة به، ... ومن المعتقد أن بولس كان من أقدر الوعاظ فى إلقائه للعظة ، .. وإذا كان ديموستينس الخطيب اليونانى الأشهر كان يؤمن أن الإلقاء هو الشئ الذى يأخذ المرتبة الأولى والثانية والثالثة فى خطابات البلاغة،.. فإن العظة تسمو عن ذلك بمضمونها القوى الفعال، فإذا صدرت عن واعظ ممتلئ بروح اللّه ، فإنها ستفيض بالقوة والجلال والفاعلية ، .. والواعظ المسيحى الناجح كبولس يستطيع أن يضيف إلى الخطابة حسب قواعدها البليغة ، قوة المضمون فى الرسالة التى يؤديها ، وأكثر من ذلك قوة الحياة التى يحياها ، لأنه من الصعب الفصل بين الواعظ والعظة ، وإن كان من اللازم أن نفعل ذلك فى بعض المواطن لأنه : « على كرسى موسى جلس الكتبة والفريسيون . فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه . ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لانهم يقولون ولا يفعلون» ( مت 23 : 2 و 3 ) .. أو كما يقول توماس كارليل بعبارة أخرى : « لا تكلمنى فإن صوت أعمالك يدوى فى أدنى أكثر من صوت كلامك » ... وفى كل جيل وعصر ظهر أمراء المنابر الذين عاشوا عظاتهم قبل أن ينادوا بها .. فكان الذهبى الفم ذهبى الحياة ، قبل أن يكون واعظ العصور والأجيال ، ... وربما كانت أعظم عظة وعظها اسبرجن لا تلك العظة التى ألقاها من فوق المنبر ، بل تلك التى ألقاها بسلوكه وحياته ، ... عندما اكتشف ذات يوم أن رجلا مأخوذاً بسحر عظاته ، ترك كل ثروته له ، ... وتبين لأمير الوعاظ أن أهل هذا الرجل فقراء جداً وأكثر حاجة إلى التركة ، أعادها اسبرجن بالكامل لهم !! .. ولا نشك قط فى أن أعظم عظة لبولس كانت بولس نفسه ، ولندع خيالنا يرسم صورة لبولس فى الليلة التى سقط فيها أفتيخوس من العلية ، عندما كان بولس يعظ !! .. كان بولس يملك مظهر الواعظ المقتدر روحياً ، ونفسياً ، وطبيعياً ، .. ونقصد بالمظهر الروحى تلك المسحة التى تبدو عليه ، والتى لابد أنها تركت أثرها العميق فى نفوس المسامعين... غداة الحرب الأهلية الأمريكية كان هناك واحد من القواد الذين خاضوا المعركة ، ورشح نفسه فى الانتخابات بعد نهايتها ، ... وقد حدث أن أحدهم ، وكان لا يحب الرجل،آلى على نفسه أن يعطى صوته لآخر ، ... ولما دخل مكان الانتخاب تطلع إلى الوجوه، وكان من بينها وجه القائد المذكور ، وما أن استقرت عيناه عليه ، حتى أبصر وجهه وقد اكتسى بالألم الذى طبعته الحرب عليه ، ولم يستطع أن يقاوم فى داخله مشاعر العطف والحنان والحب التى ولدتها هذه النظرة ، وأعطى صوته له ، .. ومن المعتقد أن بولس كان ممتلئاً بهذه المسحة الروحية التى تأسر سامعيه ، .. وكان بولس يحمل إلى جانب ذلك المظهر النفسى ، ... والمظهر النفسى يعنى أن يظهر الواعظ فى الحالة النفسية التى ينبغى أن تكون عليها العظة ، إذ يلزم أن يكون صادقاً مع نفسه ، ومن نفوس سامعيه ، إذ لا يجوز أن يعظ عن الشجاعة وهو مرتعب ، وعن التعفف وهو دنئ ، ... إن العظة أساساً هى الصدى النفسى الداخلى للواعظ ، ونحن نشكر اللّه لأن داود - وحسناً فعل - لم يترنم بأى مزمور أمام اللّه فى خلال سقطته الشنيعة ، وعندما تغنى بالمزمور الحادى والخمسين ، غناه ، للأجيال كلها ، وهو يستعيد مركزه الصحيح أمام اللّه والتاريخ والأجيال ، ... وكان بولس فى العادة يتكلم من أعماق نفسه وبخلجات مشاعره ، .. وكان بولس يتحلى إلى جانب ذلك بالمظهر الطبيعى ، والمقصود بالمظهر الطبيعى هنا ، هو أن الواعظ ينبغى أن يكون أقرب إلى الطفل أو الصبى عندما يتكلم أو يعبر أو يلعب مع غيره دون أن يلاحظ أنه موضوع تحت ملاحظة أو رقابة أحد من الناس ، ... فانك تجد مظهره عادياً من غير تكلف أو تصنع على الاطلاق ، .. ويقال إن السر فى ذلك هو أن الطفل أو الصبى ينسى فى العادة نفسه ، الأمر الذى يصعب على الكبير عندما يواجه الناس ، أو يبدو أمام الآخرين ، وبولس عندما كان يعظ كان ينسى نفسه تماماً ، ولا يذكر إلا الرسالة التى كان عليه أن يؤديها ويكشفها للسامعين !! .. يعتمد الإلقاء ، كما رأينا ، على مظهر الواعظ ، كما أن حركته علىالمنبر تلعب دوراً مهما فى لفت الأنظار ، ولست أعلم كيف كان يتحرك بولس ، وهو يعظ ، ... وقد أطلق على الحركة فى المنبر « كلام الجسد » فالجسد يتكلم على المنبر قبل أن يبدأ الواعظ وعظه ، وينتهى بعد أن يلقى آخر كلماته ، ولعلنا نذكر ذلك الواعظ الشاب الذى جهز عظة تصور أنها ستهز السامعين هزا ، وصعد إلى المنبر مندفعاً بخفته واستهتاره وألقى العظة ، وأحس هو قبل غيره بفشلها ، فنزل من المنبر بطيئاً منكمشاً ، وإذ تحدث باختباره إلى واعظ أكثر خبرة وأعمق إدراكاً ، قال له الواعظ التقى: لو أنك يابنى صعدت كما نزلت ، لنزلت كماصعدت !! .. على أن الأمر يعتمد أكثر من ذلك على الصوت ، ولست أعلم كيف كان صوت بولس ، وهل كان يملك الصوت الساحر ذا الرنين ، أو الصوت الفخم الضخم ، وإن كان من الواضح أنه كان من النوع الذى ينفعل بكل قوة حتى تصوره فستوس لفرط القوة والانفعال ، نوعاً من الهذيان : « أنت تهذى يا بولس . الكتب الكثيرة تحولك إلى الهذيان » !! ( أع 26 : 24 ) .. على أية حال كان بولس الواعظ من أبرع وعاظ التاريخ وقد حسبوه فى لسترة هرمس إله الفصاحة والخطابة ، مما يدل على قوته العجيبة فى تملك ناصيـــة البيان والقدرة على التأثير فى الآخرين !! .. فإذا حاولنا أن نتعرف على قدرة بولس الوعظية ، فإننا يمكن أن نرى هذه القدرة فى النماذج الوعظية المسجلة لنا فى كلمة اللّه ، فلنره فى أريوس بـــاغوس ، وأمام أغريباس ، وعندما تحدث إلى قسوس أفسس مثلا ، وهل ترى استهلالا ومقدمة أروع من استهلاله ومقدمته !! ؟ .. وإن المقدمة هى ذلك الجزء الأول من العظة الذى يقصد منه شد انتباه السامع وتحريك أفكاره وعواطفه لمتابعة الواعظ طوال العظة كلها ، ... ومن المسلم به أنه إذا نجح الواعظ فى المقدمة فإن الطريق سيكون مفتوحاً أمامه طوال العظة كلها للتأثير القوى البليغ على موعوظيه ، .. ومن المعروف أن السامعين ليسوا من صنف واحد ، بل هم فى العادة على أصناف متعددة ، فإلى جانب السامع المؤمن الذى هو من حظ الواعظ وينجذب بسرعة وسهولة إلى تيار العظة ، هناك السامع الملول الذى يتبرم ويتذمر إذا لم يسترح إلى العظة أو إذا تجاوزت صبره واحتماله،.. وهناك أكثر من ذلك ، السامع البليد ، أو السامع المعادى الذى قد يأتى متحفزاً بروح قاسية من العداء .. كان الكثيرون الذين يذهبون لسماع جورج هويتفيلد تمتلئ جيوبهم بالأحجار التى يحملونها استعداداً لضرب الواعظ بها ، ولكن المقدمة الساحرة ، كانت تسقطها من جيوبهم وأيديهم .. وشتان بين واعظ يحسن المقدمة وآخر لا يحسنها ، .. فى الحرب الأهلية الأمريكية كان هناك واعظ يضع الكتاب على المنبر ويضع إلى جواره المسدس ، وكان يعتذر للموعوظين بأنه مضطهد من أعدائه الذين يحاربونه ، وأنه ينبغى أن يكون مستعداً للدفاع عن نفسه ، وعلى العكس من ذلك كان هناك ضابط يقوم بالخدمة الدينية بين المحاربين ، ... وقد طلب إليه أن يعظ فى وسط جماعة كانت روحها مشبعة بالعداء لتحرير العبيد ، ... وكانوا ملزمين على حضور الاجتماع بأمر عسكرى ، ... وعندما بدأ الضابط الخدمة بين الجماعة قال لهم : أيها الأصدقاء ليس لى اختيار فى المجئ إلى هذا المكان ، لقد جئت إلى مدينتكم كضابط إلى مدينة ، لأهتم بنفوس أقربائى الذين هم أنتم الحاضرين هنا ، وأنا أقف فى مكان راعيكم الموقر بأمر عسكرى عال ، .. لكن أنا واعظ للمسيح نفسه الذى هو لكم ، وأنا أرجو أن تسمعونى لأجل اسمه !! ... » وقد قيل أن هذه المقدمة ملكت على قلوبهم فاستمروا يستمعون بشوق إلى هذا الواعظ طوال ثلاثة شهور قضاها بينهم !! .. ونحن لا نستطيع أن نحدد ماذا تكلم بولس فى تلك الليلة وما نوع موضوعه أو الموضوعات التى طرقها ، ... وإن كان من المؤكد أنه لم يكن من عادته إطالة الكلام إلى مثل هذا الحد ، إذ كان الخطاب كما هو مفهوم خطاباً وداعياً ، ولا يصلح أن يكون قياساً للمواعظ العادية لبولس ، وطول العظة موضوع متنازع عليه فى كل التاريخ ، فبينما كان عصر البيورتان هو العصر الذى كان يرى العظة قصيرة ومبتورة ، إذا لم يتكلم الواعظ على الأقل ساعتين من الزمن ، ولا يمكن أن يلام بولس إذا أطال الكلام فى الليلة الوداعية ، ومن المتصور أنه تناول مواضيع جوهرية أساسية ، كان يلزم أن يثبتها فى أذهان الجميع ، وإذا كان أفيتخوس قد نام ، لهذا السبب أو ذاك ، فإن قدرة بولس على الإطالة فى الكلام ، وإثارة انتباه الجميع حتى منتصف الليل شهادة من الجانب الآخر ، له ، وليست عليه ، ... قال دافيد هيوم إن السفر عشرين ميلا لسماع هويتفيلد يعتبر أمراً هيناً ميسوراً أزاء قدرته الساحرة على جذب الانتباه إلى كلامه ، ومن المعتقد أن بولس رغم أنه تكلم فى ذلك اليوم ربما عشرين ساعة دون ملل من الآخرين ، فإن الاستماع إليه كان يشهد على ما فيه من قوة وجلد وجاذبية قل أن توجد بين الوعاظ جميعاً فى مختلف العصور والأجيال !! .. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
انظروا إنسانًا، شاول وبولس؛ شاول في المغارب، وبولس في المشارق |
كفاك وعظاً يا بولس فقد نام أفتيخوس...يا أفتيخوس كيف تنام وبولس هو الذى يعظ؟ |
أفتيخوس وبولس الواعظ |
أغريباس وبولس الواعظ العظيم |
أفتيخوس |