رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إرميا ومن هو !! ؟ وقد تباينت أفكار الشراح حول معنى الاسم ، فبينما يراه جيروم « مرفوع الـــرب » وجسينيس « معين الرب » يعتقد جنجستنبرج أن الاسم يعنى « اللّه يرمى » ، أو الذى أخرجه إلى الممالك والشعوب ، وقذف به ليقلع ويهدم ويهلك وينقض ويبنى ويغرس ، ويوجـد من اعتقـــــــد أن المعنى « اللّه يؤسس » .. وعلى أية حال ، فإن هذا الأفكار جميعاً تحدثنا عن ذلك الإنسان الذى صوره اللّه من بطن أمه ، وأخرجه من الرحم ، وأقامه : « مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض ، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض . فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك » " إر 1 : 17 - 19 " أو كما وصفه ماكرتنى : « إن الأمم تنجب أبطالها فى بداءة أو نهاية تاريخها ، أى فى مخاض الولادة أو غصص الموت ، وكان إرميا هو نبى إسرائيل ، لما دنت شمس أورشليم للغروب . فنراه واقفاً كعمود من فولاذ، فى وسط الدخان والظلام ، والحريق والدمار الذى ألم بها » ... وكان إرميا بن حلقيا الكاهن ، والذى يعتقد كثيرون أنه كان الكاهن العظيم فى أيام يوشيا الملك ، والذى وجد سفر الشريعة فى بيت الرب ، وإن كان آخرون يعتقدون بأن حلقيا أبا إرميا لم يكن رئيس الكهنة ، بل كان واحداً منهم فقط ، وأنه غير حلقيا رئيس الكهنة العظيم،... وعلى أية حال ، فإن إرميا كان من الكهنة الذين ولدوا فى عناثوث الواقعة فى سبط بنيامين ، والتى كانت تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من أورشليم !! .. وكان يتنقل بين المدينتين ، وإن كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته فى أورشليم !! .. ولعلنا لا نستطيع أن نفهم الرجل حق الفهم ، قبل أن نعرف العصر الذى عاش فيه ... كان عصره من أقسى العصور ، وأكثرها ازدحاماً بالصراع ، إذ كانت هناك ثلاث ممالك تتنازع السلطة العالمية ، ونعنى بها آشور ، ومصر ، وبابل . وقد ظلت لآشور السيادة قرابة قرنين من الزمان وكان لها القدح المعلى فى أيام إشعياء فى القرن الثامن قبل الميلاد ، وكان آشور بنيبال بن أسرحدون وحفيد سنحاريب آخر الملوك العظماء فى تلك الدولة القديمة ، وقد حكم أسرحدون - خلال حكم منسى - اثنى عشر عاماً بيد قوية ، وقد غزا مصر فيها مرتين ، كما استطاع أن يقضى على المقاومة الآتية من الشعوب الغربية ، ولكنه عجز عن السيطرة على صخرة صيداء ، وقد كانت حياة ابنه آشور بنيبال حافلة بالحروب ، وهو الذى أخذ منسى إلى بابل وأطلق سراحه بعد ذلك،.. على أن مصر وبابل أخذتا بععد ذلك فى النهوض ، وابتدأ الضعف يخيم على آشور، والأرجح أن أرميا أضحى نبياً للّه فى سنة وفاة آشور بنيبال ، الذى أعقبه ملك ضعيف غير معروف ، ومن ثم أخذت بابل الدولة الفتية طريقها لا إلى التخلص من آشور فحسب ، بل إلى السيطرة والقوة ، .. وقد تحالفت مصر مع آشور ضد بابل حتى سقطت نينوى فى عام 612 ق. م ، وانتهت الدولة الأشورية تماماً فى عام 506 ق.م. بظهور نبوخذ ناصر فى الميدان ، وقد أخطأ يوشيا كما علمنا فى تصديه لفرعون نخو ملك مصر عندما ذهب للحرب فى مجدو ، وسقط يوشيا قتيلا فى المعركة ، وتولى ابنه يهوحاز الملك ، ولكن فرعون أسره وأخذه إلى مصر وملك أخاه يهوياقيم أحد عشر عاماً اتسمت بالأنانية والظلم والقسوة ، وكانت النتيجة أن نبوخذ ناصر ملك بابل جاء واستعبد الشعب استعباداً مريراً ، ودمر أورشليم والهيكل تدميراً رهيباً !! .. ومن المعتقد أن إرميا صار نبياً ، وهو ما يزال غضاً صغيراً ، وفى الغالب ، فى العشرين من عمره وكان ذلك فى السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا أو عام 626 ق.م.، أو ما يقرب من خمس سنوات ، قبل اكتشاف سفر الشريعة وقيام يوشيا بإصلاحه العظيم ، وقد استمرت نبوته أكثر من أربعين عاماً ، وشاهد بعينيه تحقيق الكثير من نبواته ، إذ رأى خراب أورشليم ، وقد كان بداخلها وهى محاصرة ، وعندما دمرت عام 586 ق.م. ، وكانت معاملة نبوخذ ناصر لأرميا طيبة ، إذ سمح له بالبقاء فى المدينة المخربة ، مع المندوب الملكى جدليا المعين من قبل بابل . لكن الأحداث تتابعت بعد ذلك إذ قتل جدليا ، ... ومن الغريب أن الهاربين من المدينة إلى مصر ، رغم ارتدادهم عن اللّه ، كانوا فى حاجة إلى من يرشدهم إلى الحقيقة والمصير ، ولذا أمسكوا بإرميا وأجبروه على الذهاب معهم إلى مصر رغم عدم رغبته ، وفى مصر كانت آخر نبواته فى تحفنحيس ، ويقول التقليد إن اليهود هناك أيضاً لم يطيعوا صوت اللّه فيه ، ورجموه ، فمات فى مصر !! .. عاش إرميا طوال حياته ، وهو أشبه الكل بالجندى الذى يعيش فى أتون المعركة وقعقعة السلاح فيها ، ... والجندى فى العادة ليست له الفرصة الهادئة المريحة ، التى يسكن فيها إلى بيت وولد ، ثم أمر الرب إرميا أن يعيش أعزب دون زوج أو ولد : « ثم صار إلى كلام الرب قائلا : لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات فى هذا الموضع ، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين فى هذا الموضع وعن أمهاتهم اللواتى ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم فى هذه الأرض ، ميتات أمراض يموتون . لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الأرض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض . لأنه هكذا قال الرب : لا تدخل بيت النوح ولا تمضى للندب ولا تعزهم لأنى نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الإحسان والمراحم . فيموت الكبار والصغار فى هذه الأرض . لا يدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم ... ها أنذا مبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفى أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح ، صوت العريس وصوت العروس » " إر 16 : 1 - 9 "... وكان إرميا هنا أشبه بالرسول بولس الذى عاش حياته أعزب ، ولم يكن له متسع ، فى زمن الضيق والتعب والاضطهاد أن يتزوج . ... بل إن الرسول أوصى : « فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر ، أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا ، أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال . أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة » "1 كو 7 : 27 : 28 " .. كان إرميا - فى حد ذاته - رمزاً ومثالا الكلام الذي ينادى به ، وكان من أكثر الأنبياء الذين صوروا الحياة فى صور عملية رمزية ، فالعلاقة بين اللّه وإسرائيل أشبه بالمنطقة التى يتمنطق بها الرجل ، وستبقى المنطقة سليمة وجميلة ، طالما هى على الحقوين ، .. لكن يطلب إليه أن يذهب بهذه المنطقة إلى نهر الفرات ويطمرها هناك ثم يرجع ليأخذها . وإذا بها قد فسدت لا تصلح لشئ ، ... ولعلنا نلاحظ أن هذه المنطقة كما صورها فى الأصحاح الثالث عشر ، كانت جديدة ولكنها لم تغسل ، .. وكانت بهذا المعنى كإسرائيل الذى تميز على الشوب بالعلاقة التى تربطه باللّه ، ... ولكنه رفض أن يغتسل وفى عقاب اللّه له على خطاياه ، لم يرعو أو يتعظ من هذا العقاب ، ففسد ، ولم تكن النتائج التى جاءت من السبى - وكان يمكن أن تقوده إلى حياة أفضل - إلا مخيبة للأمل ، ... وعلى الإنسان دائماً أن يلتصق بالرب ويبقى نظيفاً ، ... وقد أعطى إرميا صورة أخرى عندما ذهب إلى الفخارى فى الأصحاح الثامن عشر ليتخذ عظته مما يفعله الرجل وهو على الدولاب ، فإذا فسد الطين ، فإنه يمكن تشكيل الوعاء من جديد ، ... ولكن لا يمكن إصلاح الوعاء ، إذا اجتاز فى النار ، فإن الإبريق من الفخار لا مجال لإصلاحه إذا تحطم ، بل لا مكان له إلا الطرح فى وادى ابن هنوم ، أمام شيوخ الشعب ، وشيوخ الكهنة ، الأمر الذي يرمز إلى أمة إسرائيل ، وقد ضاع الرجاء فيها ، ولا يمكن إلا أن تكون بقايا من الخزف فى وادى ابن هنوم ، والذى أضحى رمزاً لجهنم ، مكان العذاب الأبدى ، حيث كان ترمى النفايات جميعها خارج مدينة أورشليم ، وكان مباءة للديان والجراثيم ، يجمع بين الظلمة الدائمة ، والنار التى لا تطفأ ، ومن ثم قيل : « حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ » " مر 9 : 44 " . ولا يمكن أن ننسى الخمر التى قدمها إرميا فى بيت الرب للركابيين ، الذين رفضوا شربها بناء على وصية قديمة من أبيهم يوناداب بن ركاب ، وجعلهم اللّه مثلا أمام الشعب ، مما عرضنا له بافاضه عندما تحدثنا عن شخصية يازنيا بن إرميا كبير بيت الركابيين أيام إرميا ... وما أكثر ما رؤى إرميا يتجول فى شوارع أورشليم يحمل نيراً على كتفه ، نير الثور ، الذى سيصل إليه إسرائيل فى بعده عن اللّه ، ... وفى مصر ، فى أخريات حياته ، أخذ حجارة كبيرة وطمرها فى الملاط فى الملبن الذى فى تحفنحيس رمزاً لاختفاء مصر فى مواجهة بابل القوة الصاعــــدة ، والتى لا جـــــدوى من مقاومتها ولا أمل فى الانتصار عليها !! .. ولعل العصر الذى عاش فيه ، والظروف التى أحاطت به، يمكن أن تعطينا الصورة الصحيحة للرجل ، الذي صوره كثيرون بأنه نبى الدموع ، وآخرون نبى الفشل ، وغيرهم نبى الأحزان ، .. أو نبى التناقض ، أو فى الصورة الأدق والأصح « النبى الممزق » إذ أن الصراع الذى أحاط به ، وبعصره ، إنعكس فى أعماق نفسه صرعاً رهيباً مهولا !! .. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنسان كلما ازداد عظمة ، ازداد اتساعاً ، ويعتقد هيجل الفيلسوف الألمانى أن حياة العظماء تمتلئ فى العادة بالتناقضات ، وقد كان إرميا من هذا النوع ، فقد جمع ، على أعظم صورة |
|