الاكتشافات الأثرية في وادي قمران - 2
لم تُلفت خرائب قمران النظر قبل اكتشاف المخطوطات، التي أثار اكتشافها اهتمام الباحثين وعلماء الآثار. وتساءلوا لابد أن يكون هناك من استعمل هذه المخطوطات، فأين أقاموا؟ والآن وقد اشتهرت منطقة قمران وذاع صيتها، اختلفت حول طبيعة المكان أراء العلماء. اعتقد البعض قبل الاكتشاف أنها بقايا غامورة؛ في حين اعتبرها البعض الآخر بقايا حصن روماني. واعتبر الباحث الشهير F.M. Abel ابيل المدافن مقابراً للمسلمين. لا نعرف بالتحديد أصل اسم قمران؛ الذي يُطلق على الوادي وعلى الخرائب وعلى كل المنطقة المجاورة. لم يهتدِ العلماء إلى أي اسم شبيه، سواء في الكتاب المقدس أو في تاريخ بني إسرائيل. يقترح Martin Northأنها بقايا مدينة الملح التي يرد ذكرها في يش 61:15-62.
بدأت حملات التنقيب تحت إشراف العالمين R.De Vauxدي فو G.L. Harding.وهاردينج بعملية جس سريعة في ديسمبر 1951. وتلت عملية الجس هذه أربع حملات استكشافية ما بين 1953و1956 وتوصلت إلى النتائج العامة الآتية:
1-الحقبة الإسرائيلية
لا شك أنه كان في المكان حصن يهودي في الفترة ما بين القرنين السابع والثامن قبل الميلاد ثم تعرض الحصن للهدم. ويُطلق على هذه الحقبة اسم الحقبة الإسرائيلية. ورأى أحد الباحثين أنه أحد الأبراج التي بناها غزيا ملك يهوذا (2أخ 10:26) وقد يجد هذا الرأي دعماً في حملات CrossكروسMilekوميليك الاستكشافية.
أ-الحقبة الأولى أ
سكنت جماعة بشرية أخرى نفس المكان، بعد ذلك بفترة طويلة، بعد توسيع هذه الرقعة. يشير تواضع مواد البناء المستعملة وقلة العناصر الأركيولوجية الموجودة أن المباني لم تستمر طويلاً، كما يرى دي فو، وأنها سرعان ما استُبدلت بمباني الفترة اللاحقة. وأكثر التواريخ احتمالاً للصحة هو فترة يوحنا هرقانوس (135-104 ق.م) أو قبل ذلك بقليل.
ب-الحقبة الأولى ب
تمتاز هذه الحقبة باتساع رقعة المباني وارتفاعها (مبانٍ من دورين) وحولها سور ضخم وأبراج وحصون للمراقبة. كما بُنيّ خزان لجمع مياه الأمطار من وادي قمران ، وتم توصيله بالحفر في الصخر أو بناء قناة إلى المساكن ليصب ماءه في الآبار المحفورة وأمام كل بئر حوض ماء. ولا تشير المباني من حيث التقسيم والاستعمال أنها أقيمت لحياة جماعية أو لسكن العائلات، إنما على الأرجح لوحدة عسكرية. ووجد علماء الآثار غرفاً أطلقوا عليها: غرفة الطعام ، معمل الكتابة، قاعة الاجتماعات، المطبخ. إنها تسميات ما زالت قابلة للجدال.
انتهت هذه الفترة بزلزال وحريق، ظلت أثارهما واضحة. استدل العلماء على تاريخ الزلزال من كتابات يوسيقوس فلافيوس: ربيع عام 31 قبل الميلاد ما زال تحديد تاريخ الحريق موضع جدال؛ إذا ما كان في نفس فترة الزلزال أو بعدها. يرى دي فو مثلاً أن الحريق كان في فترة الزلزال بينما يؤكد ميليك أن الحريق تم على أيدي البارتيين أو على أيدي حليفهم أنتيجونوس الحشمناوي سنة 40/39 ق.م. ثم تلا ذلك الزلزال، والمكان مهجور.
2-الحقبة الثانية
أصبح المكان بعد عام 31 قبل الميلاد مهجوراً ولكن سكانه عادوا سريعاً في بداية حكم هيرودس أرخيلاوس ما بين 4-1 ق.م، وأُعيد تعمير معظم الأماكن واستعملت لنفس الأغراض التي كانت تستعملها قبل هجرها بفعل الزلزال والحريق وأدخلت عليها بعض التعديلات المحدودة: لم تعمر الأماكن التي تعرضت للهدم الشديد.
وتنتهي هذه الحقبة في السنة الثالثة لثورة اليهود الأولى أي 68/69م. على أيدي القوات الرومانية، التي كانت قد استولت على أريحا وأخضعت منطقة البحر الميت كلها. تشهد بذلك قطع العملات المعدنية الموجودة في المكان.
بعد سقوط أورشليم سنة 70م. لم يتبق للمتمردين سوى ثلاثة جيوب هي: قلعة ماكيرونيت، في الضفة الغربية للأردن، والهيروديون في سهل بيت لحم وقد استولى عليه Lueilius Bassus لوشيليوس باسوس، والجيب الثالث هو قلعة مسادا التي حاصرها Flavius Silva فلافيوس سيلفا إلى أن سقطت سنة 73. ولا يوجد أي مبرر لربط سقوط وهدم مباني قمران بهذه الأحداث.
3-الحقبة الثالثة
أقامت في المكان فرقة عسكرية رومانية. وتمتد فترة إقامتها بين الاستيلاء على المكان وسقوط أورشليم. ولا توجد أدلة تثبت أن إقامة الفرقة دامت حتى سقوط مسادا سنة 73م.
4-الحقبة الرابعة
وتتميز هذه الحقبة أيضاً مثل سابقتها بالفقر، حيث أصبح المكان مخبأ مؤقتاً لفترة قصيرة، لبعض اليهود أثناء الثورة الثانية (132-135م). ولا تترك هذه الإقامة أية آثار في المباني إذ يقتصر الأمر على وجود بعض العملات المعدنية. يقبل كل العلماء هذه النتائج ما عدا نقطتين يدور حولهما الجدال:
- تاريخ بداية الحقبة الأولى
- فترة الانقطاع ما بين 31-4 ق.م
ونظراً لأهمية هاتين النقطتين بالنسبة لتاريخ جماعة قمران نتوقف لمناقشتهما واستيضاح الغموض الذي يلفهما.
ينسب العلماء 5 قطع من العملات المعدنية للحقبة الأولى أ. والعملات للسلاجقة، وبالتحديد لأنطيوخوس الثالث والرابع والسابع. إنها أقدم العملات الموجودة في المكان وأمر تحديد تاريخها صعب للغاية. ولكن إذا أخذنا في الاعتبار تواضع البداية الذي تؤكده نتائج المقارنة بين جرار قمران والجرار المصرية والتي يرجع تاريخ أحدثها إلى سنة 104 ق.م؛ وكذلك نشاط الجماعة في "عين فشكا" لتوصلنا إلى تحديد بداية تعمير الحقبة الأولى أثناء مُلك أنطيوخوس الرابع أو بعد ذلك بقليل. أما عن النقطة الثانية فالأدلة التي يسوقها سواء "دي فو" أو "ميليك" فهي أدلة غير مقنعة.
يشهد يوسيفوس فلافيوس بأن هيرودس الكبير كان ميالاً للأسينيين. ولذلك ليس من المقبول أن يكون هؤلاء قد أجبروا على هجر المكان أثناء ملكه، إلا إذا افترضنا أنه ساعدهم في إقامة مكان آخر، وبعد موته عاد المحافظون منهم إلى مكانهم الأول "قمران". لقد وجدت 11 قطعة معدنية لهيرودس الكبير (37-4ق.م)، ومن المؤكد أن معظم أفراد الجماعة لم تكن تقيم في الأماكن التي هدمت وحُرقت بفعل الزلزال، إنما أقاموا في خيام أو عشش أو مغاور. كما أنه من المؤكد أن الجماعة نفسها هي التي كانت تمارس الزراعة وتربية المواشي في "عين فشكا". ولا يمكن أن نتصور أنها هجرت كل شيء في فترة حكم هيرودس الأكبر، وهي فترة مؤاتية لها.
لذلك نعتقد أن الجماعة لم تهجر الأماكن، وإن إعادة بناء المهدوم منها تم أيام هيرودس الكبير ومسألة ندرة العملات أثناء فترات البناء كان وما زال أمراً عادياً جداً. ينطبق هذا على البناء الأول وإعادة البناء. بالاستناد على تتابع الأحداث يمكن إدخال تعديل على رأي "دي فو"، الذي ترك الباب مفتوحاً:
الحقبة الأولى أ: تبدأ من السنوات الأخيرة لملك أنطيوخوس الرابع، الذي حكم من 175 إلى 164ق.م وحتى يوحنا هرقانوس الأول (134-104ق.م).
الحقبة الأولى ب: تمتد من موت يوحنا هرقانوس الأول إلى سنة 31ق.م
الحقبة الثانية: تمتد من سنة 31ق.م إلى 68م.
الحمامات: أدت الحفريات إلى نتائج هامة لا يمكن إغفالها، لأهميتها بالنسبة لحياة الجماعة وهي: وجود عدد من خزانات المياه يثير الدهشة لكثرته. وكانت الخزانات متصلة بالخزان الأساسي الذي يغذيها كلها وذلك لتوفير المياه لجماعة كبيرة. كل الخزانات- ما عدا اثنين منها- مزودة بدرج. أمام هذين الخزانين خطوط تقسيم، لتنظيم عملية دخول وخروج عدد كبير من المستعملين. أدى ذلك إلى اعتقاد البعض أنها حمامات خاصة بطقوس التطهير والغسولات الشرعية. ولكن تم اكتشاف خزانات مشابهة في أماكن أُخَر، في أورشليم مثلاً حيث يصعب تصور طقوس تطهير شرعية. ولكن المؤكد أن خزانين أصغر من الآخرين كانا معدين كحمامات. لا نستطيع البت إذا كانت حمامات طقسية أو غير طقسية. ويؤكد آخرون أنه لا يمكن تصور كمية من الحمامات هذا عددها وطريقة إعدادها لمجرد الاستعمال العام.
مخزن حفظ الأدوات: ويجد علماء الحفريات منظراً فريداً في إحدى الغرف: 38 طبقاً من الفخار لتناول الحساء، 210 صحفة، 11 بلاصاً، 31 جرة صغيرة في ناحية، وفي الناحية الأخرى 708 إناءً فخارياً و 75 فنجاناً. ومن المدهش أن وحدات كل صنف متطابقة تماماً. تأكد العلماء أن هذه الغرفة لم تكن مخزناً للخزف، لأنه تنقص أصناف كثيرة كانت مستعملة آنذاك (أغطية الأواني، المصابيح، أنية الطبخ...) وكذلك لم تكن خزفاً لأنه يوجد في مكان آخر: إنه مكان حفظ أدوات الأكل الخاصة بالجماعة.
وفي قاعة أخرى وجدت بعض الألواح الفخارية الغريبة، لم يعثر على مثيل لها حتى الآن في الحفريات، ومحبرتان: واحدة من النحاس والثانية من الفخار، وفي أحدهما مداد جاف؛ فكر العلماء أنها قاعة مخصصة للكتابة، باعتبار أن الجماعة كانت تحتاج إلى مكان خاص بنسخ المخطوطات، كما هو الحال في الأديرة في القرون الوسطى. وقبل الفكرة عدد كبير من الدارسين (كمية المخطوطات المكتشفة والمنقولة في قمران كبيرة جداً. التساؤل الآن كيف كان الناسخ يستعمل القرص الفخاري، وفي أي وضع كان يكتب؟!!
جرار العظام: وهناك مسألة معقدة لم يجد لها العلماء والباحثون حلاً حتى الآن وُجد عدد كبير من الجرار والآنية الفخارية مملوءة عظام حيوانات مدفونة حول منطقة خرابة قمران. يوجد معظمها على مستوى الحقبة الأولى ولكن الظاهرة استمرت أيضاً في الحقبات التالية. إنها عظام: خرفان، ماعز، جداء، حملان، عجول، وبقر. وحتى عندما يحتوي الإناء على عظام حيوان واحد، لا يوجد هيكله العظمي كاملاً. والعظام منفصلة بعضها عن بعض. وقد وضعت في الآنية بعد إزالة اللحم عنها. والحيوانات كانت مسلوقة وأحياناً مشوية. ويرى "دي فو" أنها بقايا وجبات غذائية وأن العناية التي حُفظت بها تدل على أنها استخدمت لأغراض دينية. وواضح أن لهذه الوجبات طابعاً دينياً. وهنا يختلف العلماء معاً: يرى البعض أنها بقايا محرقات وذباح. ولكن الحفريات لم تكشف لا عن مذابح ولا عن أماكن خاصة لنحر الذبائح. ويرى آخرون أن الذين تركوا هذه البواقي يؤمنون بقيامة الحيوانات. وهذا رأي غريب وبعيد الاحتمال. الواقع أن هذا الاستعمال فريد وغير معروف لـ"ميليك" و Bardatke"باردتك" ورأى آخرون أن هذه العظام هي بواقي العشاء الفصحي، حيث للعظام معنى رمزي، إما أنها بقايا ولائم الاحتفال بتجديد العهد.
المقابر: كشفت الحفريات عن 3 مقابر حول مباني قمران. يقع أحدها شمال المبنى وبها 12 قبراً، والأجساد مرصوصة فيها مثل المقبرة الكبرى، والثانية جنوب المبنى وبها حوالي 30 قبراً والأجساد فيها غير موحدة الوضع، وعلى بعد 50 متراً شرقي المبنى توجد المقبرة الكبرى وبها حوالي 1100 قبر والقبور منظمة في 3 صفوف وبين كل 4 صفوف ممر.
لا يتفق هذا النظام والتنسيق مع حالة المقابر القديمة المكتشفة في فلسطين. يوجد على كل قبر كوم من الحجارة. وأحياناً يعلوها حجران أكبر من الحجارة الباقية: واحد عند الرأس والآخر عند القدمين. ويُسجى الميت على ظهره من الشمال إلى الجنوب، أي أن وجهه متجه للجنوب، يصل عمق الحفرة ما بين 1.20و 2م. والأجساد مغطاة بالحجارة (أو بقوالب الطوب) ثم بالتراب. تم العثور في الجزء الأكثر تنظيماً، على جسد امرأة في حين أن الباقين كلهم رجال وفي الطرف وجدت أيضاً أجساد أطفال ونساء. لم يتم فحص جميع الأجساد: وُجدت بعض الحلي من جواهر وأقراط في قبور النساء. وفي أحد القبور تم العثور على مصباح سليم. والمقابر الثلاثة معاصرة للحقبتين الأولى والثانية، أي فترة سكن جماعة قمران للمكان.
نشاط الجماعة : ويؤكد العلماء الذين قاموا بالحفريات- وهم على حق- أن عدد سكان المباني محدود جداً، وكانت تقوم بتدبير أمور الجماعة. والسؤال: أين سكن الباقون؟ فهناك تفاوت شديد بين عدد القبور الكبير وبين اتساع المبنى المحدود. يفترض الباحثون أن أعضاء الجماعة سكنت في خيام أو عشش وبعض المغاور، التي استعملت مخابئ ومخازن فيوقت الحاجة. وبالفعل أثبتت الأبحاث أن بعض المغاور كانت مسكونة والبعض الآخر قابل للسكن، في الفترة التي تهمنا.
اعتقد البعض باستحالة الحياة في مكان هكذا مهجور، مهمل وعلى ارتفاع 340م تحت مستوى البحر. لدرجة أن قال أحدهم مازحاً: حتى الحيوانات لا تستطيع الحياة في ظل هذه الظروف. ولكن من يرى ذلك بنفسه يقتنع بعكس ذلك. لقد أثبتت الأبحاث والحفريات في منطقة "عين فشكا" التي تقع على بُعد 2.5كم جنوب خرابة قمران وجود آثار معلف كبير لتربية المواشي وآثار بعض الصناعات شمال عين الماء الكبرى. ويعود زمنها إلى نفس زمن سكنى جماعة قمران في المنطقة. الفارق الوحيد هو أنه لا توجد آثار الزلزال في "عين فشكا" ولا توجد إشارات إلى انقطاع الحياة ما بين الحقبتين الأولى والثانية. يعتبر العلماء الآن وبحق أن "عين فشكا" هي المزرعة التي كانت تقوت جماعة قمران وتوفر لها احتياجاتها من المنتجات الزراعية والحيوانية. ويمتد اسم قمران حتى 500م من رأس فشكا.
ونشير مرة أخرى إلى نشاط الجماعة في إعداد ونسخ المخطوطات. ولا يستبعد العلماء أن تكون الجماعة قد مارست تجارة المخطوطات بمعنى أنها كانت تنسخها لبيعها.
لقد أثبتت الدراسات أن المنطقة، بالرغم من فقرها، كانت تتمتع بالاكتفاء الذاتي لا بل كان إنتاجها يفيض عن احتياجاتها.
نكتفي بهذا القدر من الاستنتاجات عن حياة جماعة قمران انطلاقاً من الآثار التي كشفتها الحفريات ونلتقي في العدد القادم مع مخطوطات قمران.