البناء
تطورت المهارة في البناء عند بني إسرائيل على نحوٍ بطيء. فلما كانوا عبيداً في مصر اشتغلوا بصنع اللبن لإقامة المباني الضخمة. ولكن لما دخلوا أرض كنعان لم يُبدوا اهتماماً كثيراً بالبناء. وقد أفاد الكشافة الذين استطلعوا أحوال الأرض أن "المدن حصينة عظيمة جداً" (عدد 13: 28). إلا أن بني إسرائيل هدموا كثيراً من هذه المدن، ولم تكن المباني التي أقاموها محلها ضخمة مثلها.
لم تستعمل المهارة الحقيقية قبل زمن داود وسليمان، وربما كان السبب في معظمه يعود إلى المساعدة والخبرة اللتين قدمهما البناؤون الفينيقيون ومعاونوهم الذين أرسلهم حيرام ملك صور (راجع 1 أخبار الأيام 14: 1). ولكن المباني التي أُنشئت لاحقاً بعد انهيار التحالف مع الفينيقيين عادت إلى الأسلوب البدائي القديم أما المباني الأكثر إتقاناً والتي تعود إلى زمنٍ تالٍ، فهي تدين بالكثير للتأثيرات الفارسية واليونانية والرومانية.
وكانت المواد المتوافرة للبناء هي الطين والحجارة والكلس والخشب.
كما كان اللِّبْن يُستعمل حيث تقل الحجارة. فكان يُخلط الطين والقش ويُخبط ويُشكل قطعاً مربعة أو مستطيلة، باليد أو بواسطة قوالب من خشب، ثم يجفف تحت الشمس. وكان الطين يُستعمل أيضاً للتمليط حتى تصير الحجارة متماسكة والجدران خالية من الشقوق.
والحجارة الكلسية في فلسطين ملساء وسهلة القطع، إلا أنها لم تكن تُستعمل كثيراً في إنشاء المباني العادية.
وقد اكتُشفت مواقع مقالع قديمة تظهر فيها آثار ضربات المعاول وقطع حجارة غير مكتملة. وكانت أدوات البناء هي المطارق والمناشير والمعاول والفؤوس. ولقطع جزء من الصخر، كانت المطارق الضخمة تستخدم بالضرب على شقوقه الطبيعية ثم تُدقُّ فيه أسافين خشب وتبلل بالماء، حتى إذا تمدد الخشب يتصدّع الصخر.
وكانت الحجارة تُسوّى بطريقة غير نهائية على أرض المقلع ثم تُنقل إلى موقع البناء حيث تُشذب وتُصقل. وهذا هو ما يفسر وجود كوم من شظايا الحجارة وجدها المنقبون في قصر لخيش والقلعة المتأخرة في أورشليم. أما هيكل سليمان، بحسبما ما ورد في 1 ملوك 6: 7، فقد أُعدت حجارته في المقلع بحيث لم يُسمع في الموضع المقدس صوت مطرقة أو معول أو أية أداة من حديد.
وكانت الغابات كثيرة في فلسطين آنذاك، خصوصاً في الجليل. وقد كثر استعمال خشب الأشجار الصنوبرية لأغراض البناء.
اشتمل عمل البناء في الأساس على إنشاء البيوت وأسوار المدن، وحفر الآبار والخزانات، وشق مجاري الري وإقامة مخازن للحبوب. وقد كانت أعمال التعمير هذه في العادة جهداً فردياً أو جماعياً تشترك فيه قرية بكاملها. (قارن بناء أسوار أورشليم بجهد موحد بقيادة نحميا- سفر نحميا 3- 6). فلم يكن وارداً أن يتولى القيام بالعمل كله صُنّاع مهرة.
كانت البيوت تُشاد على أساس صخري، والجدران تبنى باللِّبْن، وتُكسى بالطين من الداخل والخارج. وأحياناً، كانت الأحجار المستطيلة أو الأعمدة الخشبية تستعمل للتدعيم وتوسيع رقعة المبنى. بعدئذٍ كانت تبنى الجدران الحجرية بين هذه الدعائم لتنشأ حجرات صغيرة تُفضي إلى دارٍ مكشوفة. إلا أن البيوت كانت في العادة غرفة واحدة. ومن ثم كانت العوارض الخشبية توضع على أعلى الجدران لتحمل السقوف التي تُصنع بمد حُصر يُفرش فوقها القش ثم التراب والكلس. وكانت الأبنية عادةً مؤلفة من طبقة واحدة، إلا أن السطح كان يوفر مساحة إضافية يُستفاد منها في أيام الصحو. كما كانت سلم من خشب أو حجر، من الداخل أو الخارج، تستخدم للوصول إلى السطح. وكان يُبنى حول السطح سياجٌ اتقاءً للحوادث.
أما أسوار الدن فكانت تبنى بقطع الحجارة الضخمة وتملط أحياناً وتعزز بالأبراج. ولم تكن الأحجار تسوى جيداً، إلا أنها كانت تُرصف بكل عناية. وقد بنيت البيوت على طول هذه الأسوار من الداخل، ولكن بطريقة تفتقر إلى التخطيط العام. فكانت البيوت تشاد حيث يتسع لها المجال.
ومع تقدم الزمن، صار لبيوتٍ كثيرة خزانات لحفظ ماء المطر، وهي محفورة في الصخر ومطلية بالكلس المطفأ لمنع التسُّرب. وكانت البرك المعدة لخزن الماء تقطع أيضاً من الصخر، وقد كشف التنقيب في مدنٍ عديدة عن قنواتٍ حفرت لتسهيل وصول الماء، وجدت إحداها في مجدو، وتعود إلى زمن بني إسرائيل.
كذلك أيضاً صنع البناؤون والنجارون أشياء كثيرة للاستعمال اليومي: أحواض وأجران حجرية، جرار للماء، أنوال، أحجار رحى، أنيار خشبية، محاريث، نوارج (لدرس الحبوب)، عربات، قطع الأثاث.
مشاريع خاصة: من المشاريع العمرانية الخاصة في أزمنة الكتاب المقدس: قصر الملك داود؛ تحصينات سليمان؛ الهيكل وما حوله من مبانٍ في أورشليم؛ قصر أخآب في السامرة؛ قناة حزقيا لجر الماء في أورشليم؛ إعادة بناء أورشليم بعد السبي؛ ثم المباني العديدة التي شادها هيرودس الكبير وخلفاؤه (الهيكل، قصرهيرودس، حصن مكايروس، الهيروديوم، مسّادا، مرفأ قيصرية)، وعلى عهد بُنطيُوس بيلاطس، أنشئت قناة لجر الماء إلى أورشليم.
وأول مشروعٍ رائع هو، بلا شك، الهيكل الذي بناه سليمان في أورشليم. وقد أرسل خشب الأرز حيرامُ ملك صور أحد حلفاء سليمان. كذلك أيضاً بعث حيرام بنّائين ونجارين مهرة. وهنا نجد، أول مرة منذ دخول بني إسرائيل الأرض، حجارة بناء مربعة ومنحوتة بكل دقة، حيث الزوايا مشكلة ومحددة جيداً والحجارة المكعبة المستطيلة مرصوفة جنباً إلى جنب دون ملاط، وهي مبنية طولاً وعرضاً بالتبادل لتوفير أقصى المتانة.
كان في جدران هيكل سليمان ثلاثة مداميك من الحجارة المنحوتة المصقولة وفوقها طوبٌ على صفٍّ من الروافد الخشبية، وقد عمل الخشب على امتصاص الصدمات في حال وقوع الهزّات الأرضية. أما السقف والأبواب فكانت من خشب، وقد وضعت للأرضية والحيطان والسقف حواشٍ من خشب السرو والأرز مزينة بالنقوش (راجع 1 ملوك 6).
أما حصون الملك سليمان في حاصور ومجدو وجازر فكان لها حيطان أشبه بأسوار المدن مبنية على طاقين (كلين) بحيث تتألف من جدارين متوازيين يُملأ ما بينهما دبشاً (حجارة كبيرة بلا شكل معين) أو يترك كغرفات للخزن. وكان للحصون أبوابٌ كأبواب المدن على كِلا جانبيها ثلاث حُجرات للحراس. وتحت أرضية الأبواب المرصوفة مصرف للماء من حجر.
أما قناة حزقيا فقد بنيت لجر الماء من نبع جيحون إلى مدينة أورشليم. وقد وجد في 1880 نقشٌ هام خلفه العمال، فيه وصفٌ لمجموعتين من الحفارين تعملان على عمق 45 متراً تحت الأرض على أن تتلاقيا في الوسط بعد حفر نفقٍ متعرج وطويل من كلا الجانبين (530 متراً). وقد كان بوسع كل مجموعة أن تسمع ضربات معاول الأخرى... "وفي يوم الحفر الأخير، ضربت كلتا الجماعتين ضرباتها الأخيرة ليُلاقي كل حفارٍ زميله، وفأس هذا مواجهةٌ لفأس ذاك. ثم تدفق الماء من النبع إلى البركة..."
وقد كان لصناعة البناء شأن مهمٌّ في أيام المسيح بسبب مشاريع الملك هيرودس العمرانية. فيقال إن هيرودس أعد ألف عربة لنقل الحجارة التي قد يكون قسمٌ منها اقتلع من الكهوف تحت المدينة نفسها. وكانت تنتج أحجار يراوح وزنها ما بين خمسة أطنان وعشرة، ثم تنقل إلى مواقع البناء، ربما على اسطوانات تتخذ من جذوع الشجر. أما القناطر والقبب فكانت تُبنى على الطريقة الرومانية.
أيضاً كانت أورشليم في أيام هيرودس مدينة نموذجية من مدن الإمبراطورية الرومانية. فقد كشفت التنقيبات فيها بيوتاً كبيرة مبنية على طراز فخم وتعود إلى القرن الأول للميلاد، وفيها تدفئة تحت أرض الغُرف وقد جُرت إليها المياه بأنابيب. كما اكتُشفت في قرية مجاورة طريقٌ رومانية مرصوفة نُشرت على كلا جانبيها أعمدة حجرية لحمل المشاعل للإنارة. وفيها استمرت بيوت الفقراء على بساطتها، ربما كان أكثرها مؤلفاً من طبقتين أو أكثر.