الرحمة والعطاء هي نوع من الادخار (عظة في مارس 1986)
السبت 25 فبراير 2012
للمتنيح الأنبا غريغوريوس أسقف عام
اليوم هو الأحد الأول من الصوم الكبير وإنجيل القداس هو من الأصحاح السادس من إنجيل متي ومن العدد 19- 33.
ويبدأ بالكلام: لا تكنزوا لأنفسكم كنوزا علي الأرض حيث يفسد السوس والصدأ, وحيث ينقب السارقون ويسرقون, بل اكنزوا لأنفسكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ, وحيث لا ينقب السارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا.
نجد هنا إلحاح وتركيزا علي أهمية البذل بسخاء, والعطاء, والقربان الذي يقدمه الإنسان, باعتباره كنزا لا يضيع إنما يحفظ في السماء.
والسيد المسيح ينبهنا إلي نوع من الادخار, والادخار واجب لينفع الإنسان لمستقبل الأيام. هنا السيد المسيح يتكلم عن الادخار, لكن يرفع نظرنا إلي نوع آخر من الادخار, أعظم وأهم وأبقي للإنسان من الادخار في البنوك أو الادخار في أماكن معينة.
هنا النقلة الروحية عندما يكون الواحد كنزه في السماء يكون قلبه في السماء, وعندما يرسل الإنسان عطاء إلي السماء هذا نوع من الادخار, وهذا الادخار باق وينفع الإنسان في حياته الأخري.
وهذا هو السبب أن السيد المسيح له المجد عندما يتكلم عن يوم الحساب أو يوم الدينونة يتكلم عن أعمال الرحمة.
البولس الذي يقرأ علينا اليوم وهو من الأصحاح الثالث عشر من رسالة بولس الرسول إلي رومية يقول: أعطوا الجميع حقوقهم, الجزية لمن له الجزية, الإكرام لمن له الإكرام, المعطي بسخاء, الراحم فبسرور, إن جاع عدوك أطعمه, إن عطش اسقه, لأنك بذلك تجمع جمر نار وتضعه علي رأسه.
فمن صفات المسيحي أن يعطي الجميع حقوقهم, أي حقوق الدولة, والضرائب, والمجتمع له حق علي الفرد, وكما أن الإنسان له حقوق بالنسبة للمجتمع, عليه واجبات والتزامات, فمثلا ما نسميه بالضرائب هذه حقوق اجتماعية لابد أن أشعر أن منها يصرف علي نفقات عامة, وعلي منشآت عامة لصالح المجتمع الإنساني, فلابد أن أساهم فيها وأشعر أنني عندما أعطي لا أعطي فضلا, إنما هذا واجب, واجب لأن الدولة تأخذ هذا وتسدد به احتياجاتها وهي احتياجات عامة لصالح المواطنين جميعا.
من هنا كان واجب الفرد فيما يتصل بالضرائب أن لا يتهرب منها, ولا يشعر أن إعطاء الدولة حقوقها ناتج عن إرغام الدولة له وإجباره علي ذلك, ففي المسيحية لابد أن نغير هذه النظرة, ونشعر أن العطاء للدولة في صورة الضرائب المفروضة, هذا واجب وخير, وأشعر أن الله يتطلبه مني. لأن في هذه الدولة من هم قائمون علي خدمة المجتمع بصفة عامة, فينبغي أن أعينهم وأن أسهم معهم في هذا.
كذلك أيضا عندنا في المجتمع الحديث, الكنيسة لها احتياجات لازمة مثل الكهرباء والمياه وما إلي ذلك, وأيضا هناك خدمة الفقراء والمحتاجين والغرباء, فلابد أن أقدم العشور, وأقدم العطاء للكنيسة والكنيسة تتولي الإنفاق, وكلكم تعرفون أن درجة الشماسية عندما وجدت فإنها وجدت لهذا الغرض الذي يسمونه الخدمة الاجتماعية, لذلك وظيفة الشماس الأولي, أو اختصاصه الأول هو الخدمة الاجتماعية.
إن كان واحد منكم يعرف إنسانا فقيرا ومحتاجا المفروض أن تعطيه مباشرة, لكن في حالة عدم معرفتكم لأحد من المحتاجين, وخصوصا في المدن الكبيرة, فالأضمن أن آتي بهذه العشور والبكور والنذور وما إليها وأقدمها للكنيسة. للشخص المختص بهذه الناحية الاجتماعية أو إن كان أكثر من شخص, وهم بعد ذلك يتولون توزيعها.
والمسألة اليوم لا يوجد فيها ظلم لأحد ولا يوجد خطأ غير مقصود, لأن الكنيسة تقوم بعمل بحث اجتماعي عن طريق بعض الأشخاص من الرجال ومن السيدات, لكي يكون هناك عملية تنظيم. فالناحية الاجتماعية في غاية الأهمية بالنسبة للكنيسة.
الكنيسة ليست مكانا للصلاة فقط, لذلك سيدنا له المجد عندما كان علي الأرض, كان بعد أن يعظ يعطي الناس الطعام ليأكلوا, فالمسيح كان يجمع بين الاثنين معا.
كان يتهم بالنواحي الروحية والنواحي الاجتماعية, فكان يشفي المرضي ويحل مشاكل الناس, ولذلك ورد في الإنجيل أنه كان يصرف تلاميذه ويبقي هو ليتفرغ لمشاكل الجموع. فاحتياجات الناس ليست روحية فقط وليست مادية فقط, والكنيسة لابد أن يكون فيها كل احتياجات الناس من الناحية الروحية من الصلاة والعبادة وأيضا الناحية الاجتماعية.والناحية الاجتماعية تشمل أشياء كثيرة, موضوع الأكل والشرب وأيضا المرض. ولذلك الكنيسة أنشأت المستشفيات والمستوصفات ودور الإيواء لليتامي والأطفال اللقطاء, كل هذا نتيجة تعليم المسيح, فالكنيسة لابد أن تهتم بأولادها من كل وجه روحيا وماديا واجتماعيا وما إلي ذلك.
لذلك يقول مار يعقوب الرسول في الكاثوليكون اليوم الديانة الطاهرة النقية عند الله هي هذه, افتقاد اليتامي والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم.
فهنا إلحاح الكنيسة علي الرحمة وعلي أعمال العطاء والقرابين, من جهة أنها كنز وإدخار تدخره في السماء ينفعنا فيما بعد, ينفعنا بعد أن خرج من هذا العالم, نقبل هناك علي أساس أننا بنينا هناك وأرسلنا إلي العالم الآخر ما ينفعنا, لأن هذا ادخار. وأيضا بعمل الرحمة نمجد الله حقيقة لأن الله صانع الخيرات, وأنا كإنسان مدعو أن أكون علي صورة سيدي, وأنشر الخير بأعمال الرحمة.
فأول عناصر الديانة الطاهرة وبرهان علي أنها ديانة حقيقية, وأنها ليست ديانة كاذبة بشكلية توهم الآخرين, برهان هذه الديانة هي إفتقاد اليتامي والأرامل في ضيقتهم, وبعد ذلك حفظ الإنسان نفسه من دنس هذا العالم, إذن المسيحية أبرزت هذه الفضيلة لتكون أمام المؤمنين, بيانا عن الديانة الحقيقية وما تتطلبه هذه الديانة من واجبات عملية, تعد صورة واضحة للديانة الصادقة وللديانة الحقة, ماذا يستفيد العالم من الإنسان إلا إذا كان هذا الإنسان متدينا بحق, واضحا في معاملاته وبارزا في أعماله. ما هي قيمة الخير الذي ننادي به إذا لم نعمله؟ إن من عمل وعلم فهذا يدعي عظيما في ملكوت السموات, من عمل أولا وعلم, وهذا ما قيل أيضا عن مخلصنا نفسه, عندما ابتدأ بدأ يعمل أولا ثم يعلم, فالعمل أولا وبعد ذلك التعليم, وهذا ما سماه الرسول بولس لكي تزينوا تعليم مخلصنا الصالح تزينوه.. التعليم إذا كان تعليما بالكلام فعلي قول بعض الصديقين فإنه سفر طويل, وأما التعليم بالمثال فطريق سهل النموذج, العمل هو برهان تبعيتنا الصادقة للمسيح واستحقاقنا لأن نحمل الاسم الكريم الذي أطلق به علينا بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي بأن يحب بعضكم بعضا بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي, هذا هو البرهان للتلمذة والبرهان للتبعية, بهذا يعرف الجميع ليس بالكلام, بل بأن يحب بعضكم بعضا, وما هي المحبة؟ هل هي عواطف نظهرها؟ يقول الرسول: إذا كان أخ أو أخت معتازين ومحتاجين إلي القوت اليومي, فقلتم لهما اذهبا واستدفئا ولم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة, يقول الرسول يوحنا: نحن لا نحب بالكلام واللسان بل بالعمل والحق وإلا تكون ديانتنا كاذبة, ويكون تعليمنا كلاما, مرهقا لا جدوي منه ولا غناء فيه, قيمة الكلام أن يرشد وأن يوجه للعمل, ولكن إذا لم يكن هنا عمل فلاجدوي من هذا الكلام. يقول مخلصنا: ليس كل من يقول يارب يارب يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات, إذن العمل أولا: لهذا تبدأ الكنيسة في الأحد الأول من الصوم الكبير بأن تبين لأبنائها أن أول ما ينبغي أن تنبههم إليه, في هذه المسيحية العلمية فضيلة الرحمة, التي تفتخر علي الحكم, ولهذا تخيرت الكنيسة أيضا عبارة نرددها في هذا الصوم بالذات وهي: طوبي للرحماء علي المساكين. هذا القرار نردده علي الدوام إلحاحا من الكنيسة علي أهمية الرحمة كفضيلة أساسية, ينبغي أن تتوفر أولا قبل الصوم وقبل الصلاة. لأن الرحمة بها نصبح شبيهين بالله, الله رحيم ومن يصنع الرحمة لهو شبيه بالله. ويقول بعض القديسين إن الإنسان في المراحل العليا في الفضيلة يصبح شبيها بالله, في الشفقة علي الناس وعلي الطبيعة وحتي علي الحيوانات والطيور, يصبح شبيها بالله في الشفقة علي المظلومين وعلي المجربين والمتعبين, ويعطي أذنا صاغية لبكاء الباكين, ويشعر أن مهمته أن ينشر الخير ما أمكنه ذلك, نتشبه بالله في ذلك الأمر, الله هو الخير, ومهمة الذين معه أن ينشروا الخير وأن يبسطوا الرحمة وأن ينشروا البر, الله الذي يشرق شمسه علي الأشرار والصالحين ويمطر علي الأبرار والظالمين, يصبح الإنسان شبيها بالله عندما يفعل الخير للجميع ولا سيما أهل الإيمان, ولا سيما أفراد الأسرة والعائلة, يقول الرسول إن من لا يكرم أهل بيته فقد أنكر الإيمان وصار شرا من غير المؤمن.