نشأتها: غالبًا ما ولدت في بلاد بيثينية في القرن الثامن. كانت هذه القديسة ابنة رجل غني جدًا وكانت تسمى مريم. تيتّمت من أمها سارة، وهي صغيرة جدًا فربّاها أبوها أوجاتيوس (أو أوجانيوس) وأدّبها بكل أدب، ولما أراد أن يزوجها ويمضى هو إلى أحد الأديرة ليترهب هناك، إذ قال لها: "الآن قد بلغتِ سن الزواج، وسيؤول كل هذا المال والأملاك والخدم والماشية إليكِ... لقد خطر ببالي أن أودِعكِ ومالكِ وخدمكِ عند أحد أقربائنا، أو تتزوجين بإنسانٍ مبارك يخاف الله وترزقين منه أولادًا مباركين. فإني زهدت في العالم الزائل وجميع مقتنياته ولذّاته ونعمته التي ليس لها دوام. وسأتوجّه إلى أحد الأديرة لكي ألبس الإسكيم الملائكي وأبكي علي خطاياي الكثيرة، لعلّي أقدر أن أخلّص نفسي الشقية وأنجو من سائر الأفكار الرديئة". فلما سمعت مريم ذلك بكت بمرارة ثم ألقت نفسها بين يدي أبيها قائلة له: "لماذا يا والدي تخلّص نفسك وتُهلك نفسي؟" فأجابها: "ماذا أصنع بكِ وأنتِ امرأة؟" فقالت له: "انزع عني زي النساء وألبسني زي الرجال". ونهضت في الحال وحلقت شعر رأسها وخلعت ما عليها ولبست زي الرجال. فلما رآها أبوها قوية في عزمها، مجتهدة في إتمام غرضها، صرف جميع الخدم، ووزّع كل ماله على الفقراء والمساكين والضعفاء والأرامل والأيتام والمأسورين، وأوْقف علي الكنائس بعض أملاكه، ولم يبقِ شيء له أو لابنته. وقفا يصلّيان معًا وخرجا من منزلهما طالبين رحمة الله ومغفرة خطاياهما. ثم أخذها والدها بيدها وانطلقا معًا سيرًا علي الأقدام حتى بلغا إلى الدير. قبلهما الأب المسئول بفرح بعد أن قدم الأب ابنته علي أنها ابنه مارينا، وأعطاهما قلاية ليعيشا معًا. جاء في كتاب مروّج الأخيار بأن الأب ترهب أولًا وإذ خاف علي ابنته طلب من رئيس الدير أن يُحضر ابنه الصغير فسُمح له فالتقى بابنته وأتي بها إلى الدير بكونها ابنًا له، وكان الرهبان يدعونه "الأخ مارينا". قال الرهبان للأب رئيس الدير: "لقد أوصيتنا يا أبانا أن نختبرهما ونعلّمهما، ونحن يلزمنا أن نتعلم منهما، ولا سيما من الشاب الصغير الذي ليس له لحية. إن ذكرنا له وصايا من الكتب وجدناه يحفظها، وإن ذكرنا نبوّات وجدناه يتلوها، وإن ذكرنا الأناجيل الأربعة فهو يستوعبها..." الناسكة القديسة مارينا الراهب، أيقونة قبطية حديثة بعد الاختبار البسهما الأب إسكيم الرهبنة. عاشا معًا قرابة عشرة سنوات ثم مرض الشيخ المبارك. أوصي ابنته ثم طلب من رئيس الدير أن يهتم بابنه مارينا، وأسلم الروح. الأب مارينا: بقيت القديسة وحدها فضاعفت صلواتها وأصوامها وزادت في نسكها، ولم يعرف أحد أنها امرأة بل كانوا يظنّون أن رقة صوتها إنما هو من شدة نسكها وسهرها في صلواتها. وذاع صيتها في بقاع كثيرة، وأخذ كثيرون يتردّدون علي الدير بسببها. إيفاد مارينا في خارج الدير: اتفق أن رئيس الدير أرسلها مع ثلاثة من الرهبان لقضاء مصالح الدير فنزلوا في فندق للمبيت، وكان أحد جنود الملك فيه تلك الليلة فأبصر الجندي ابنة صاحب الفندق فاعتدى على عفافها، ولقّنها بأن تقول لأبيها أن الأب مارينا الراهب الشاب هو الذي فعل ذلك. فلما حبلت وعرف بها أبوها سألها فقالت: "أن الأب مارينا هو الذي فعل بي هذا الفعل". فغضب أبوها لذلك وأتى إلى الدير وبدأ يسب الرهبان ويلعنهم. ولما اجتمع به الرئيس طيّب خاطره وصرفه، ثم استدعى هذه القديسة ووبّخها كثيرًا، فبكت عندما وقفت على الخبر وقالت: "إني شاب وقد أخطأت فاغفر لي يا أبى". فحنق عليها رئيس الدير وطردها من الدير، فبقيت على الباب زمانًا. ولما ولدت ابنة صاحب الفندق ولدًا حمله أبوها إلى القديسة وطرحه أمامها فأخذته وصارت تتنقل بين الرعاة وتسقيه لبنًا. ثم زادت في صومها وصلاتها مدة ثلاث سنين وهى خارج الدير إلى أن تحنّن عليها الرهبان وسألوا رئيسهم أن يأذن بدخولها، فقَبِل سؤالهم وأدخلها الدير بعد أن وضع على القديسة قوانين ثقيلة جدًا، فصارت تعمل أعمال شاقة من طبخ وكنس وسقى الماء خارج عن الفروض الرهبانية والقوانين التي وضعت عليها. الابن أفرآم: الناسكة القديسة مارينا الراهب طلبت مارينا من رئيس الدير تعميد الطفل بعد أن صنعت مطانية وقالت: "أرجوك يا أبتِ أن تعمد هذا الطفل ولا تؤاخذه بخطية أبويه". وإذ كبر الطفل لبس زي الرهبنة ودعي "أفرآم"، وحلّت نعمة الله عليه. وكان أفرآم يشفق علي مارينا، فكثيرًا ما كان يقول له: "استرح يا أبي، فإني شاب وأستطيع أن احتمل التعب ولا أخور بسرعة". وكان مارينا يحبه حبًا جمًا، وتعزّي به. محبتها للغرباء: اعتادت مارينا أن تملأ جرتها ماء وتحملها إلى شجرة بجوار الدير وتضعها بالليل ومعها نصيبها من الطعام إذ لم تكن تترك لنفسها إلا القليل جدًا. وتترك الماء والطعام لعابري الطريق الذين يستظلّون تحت الشجرة فيجدون ماءً وطعامًا يوميًا. لاحظ راهب قس ما تفعله مارينا فانتظر إلى عودتها، وإذ أغلقت الباب بدأت تصلي من أجل الأخوة الذين توسّلوا عنها لدي رئيس الدير لإنقاذها من البقاء في الصحراء مع طفلها، كما كانت تصلي من أجل رئيس الدير الذي قبلها. شعر القس بأن مارينا حتمًا راهب مظلوم، فانطلق إلى رئيس الدير يروي له ما رآه كل ليلة وهي تقدم طعامها لعابري الطريق، وتصلي بحرارة من أجل رئيس الدير وكل الرهبان. قال له: "يا أبي إني أري أن مارينا برئ من هذه التهمة". أما الأب الرئيس فقال له: "لقد اعترف مارينا علانية أنه أخطأ، وهو يقدم توبة يومية عن ذنبه". بقيت مارينا في هذه السيرة الحسنة لمدة 40 سنة (ربما بما فيها مدة بقائها مع والدها في الدير). وكان الشاب يعمل بمحبة وبشاشة وصار محبوبًا جدًا في كل الدير. تمثال القديسة مارينا الناسكة (الأب مارين) في حديقة معهد التعليم اللاهوتي البطريركي في فينيسيا، مع ابنها المزعوم على يمينها - من كتاب ليون إليوجي، باريس، 1905نياحتها: مرضت مارينا حتى لم تستطع الذهاب إلى كنيسة الدير، وكان أفرآم يخدمها وهو يبكي. أما هي فكانت تعزّيه من الكتاب المقدس. عرف الرهبان بمرض مارينا فجاءوا إليه ليعزوه ويصلّوا من أجله. وإذ أخبروا الأب الرئيس بذلك ظن أن المرض بسبب القوانين الصارمة التي وُضعت علي مارينا، فأرسل طعامًا وشرابًا. بعد ثلاثة أيام من مرضها أوصت أفرآم بالطاعة للوصية الإلهية والأب الرئيس والرهبان. ثم أسلمت روحها الطاهرة بهدوء، فصرخ أفرآم بمرارة وجاء الأخوة وبكوا. أمر الرئيس أن يحملوا مارينا إلى الموضع الذي يُغسل فيه كل من يتنيّح. وعندما نزعوا ثيابها وجدوها امرأة فصاحوا جميعًا قائلين: "يا رب ارحم". وأعْلَموا الرئيس فأتى وتعجب وبكى نادمًا على ما فعل، ثم استدعى صاحب الفندق وعرّفه بأن الراهب مارينا هو امرأة. فذهب إلى حيث هي وبكى كثيرًا. وبعد الصلاة على جثتها تقدموا ليتباركوا منها، وكان بينهم راهب بعين واحدة فوضع وجهه عليها فأبصر للوقت. ولما دُفنت أمر الله شيطانًا فأخذ ابنة صاحب الفندق والجندي صاحبها وظل يعذبهما إلى أن أتى بهما إلى قبرها وأقر الاثنان بذنبهما أمام الناس. وقد أظهر الله من جسدها عجائب كثيرة، صلاتها تكون معنا آمين.