همسات روحية
لنيافة الأنبا رافائيل
النعمة
w ما هي النعمة:
النعمة هي عطية الله المجانية للإنسان وللخليقة.. ولأن الله صالح وخيّر لذلك فنعمته ممنوحة للجميع مجانًا وبدون سبب. وتظهر نعمة الله جليًا في الخلق.. فالله خلقنا نعمة من فيض حبه، وللبشر أعطى نعمة إضافية هي صورته ومثاله، فصار لنا الحياة والخلود والعقل والإرادة والحرية نعمة من فيض حبه للبشر. وعندما خالفنا وصيته وطردنا من حضرته، خلَّصنا أيضًا بنعمته، وأخيرًا سيدخلنا إلى ملكوته بنعمته المُخلّصة.
w مشاكل الفهم:
هذه النعمة المجانية في الخلق والمواهب والخلاص وميراث الأبدية لا تلغي حرية الإنسان وإرادته ومشاركته في قضيته، بل لا بد من مشاركة الإنسان بمجهود ولو ضئيل لينال هذه النعمة. وهذا المجهود البشرى هو ما يسمى (بالجهاد الروحي)، فالبركة الرسولية التي يعطيها الكاهن للشعب في نهاية كل ليتورجية، تحمل هذا التعليم فيقول: "محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد.. وشركة وموهبة الروح القدس تكون معكم".
فمحبة الآب بذلت نعمة الابن للبشر، وهذه النعمة تتفاعل معنا بشركة الروح القدس.. لا بد من الشركة.. "الله الذي خلقك بدونك لن يخلصك بدونك" (القديس أغسطينوس).
هذه الشركة بين الله والإنسان (النعمة والجهاد) أسيء فهمها، ودخلت في صراع لاهوتي استنفذ جهدًا كبيرًا من الكنيسة لتشرح وتقنن الأمور في نصابها.
أولاً: التطرف الأول
يركز جهدًا على العنصر البشرى في الخلاص مُتجاهلاً الدور الإلهي (النعمة)، وزعيم هذا التطرف كان "بيلاجيوس"، صاحب البدعة (البيلاجية)، الذي انبرى له القديس أغسطينوس ليدحض فكره وبدعته وتطرفه.. ولكن الفكر لم يمت بدفاع أغسطينوس، ولم ينتهِ عند حد البيلاجية، بل قد تسرب خلسة إلى فكر الكنيسة الغربية (الكاثوليك)، وظهر متغلغلاً في عدة عقائد منها:
w فكرة التكفيرات:
التي يعطيها الكاهن للمعترف من ميطانيات وأصوام وتداريب روحية... التي عندنا لا تتعدى كونها تهذيبية أو تنموية أو تأديبية، لكنها عندهم لها بُعد كفاري، وهذا يضعف من قيمة كفارة السيد المسيح بدمه الثمين.
w فكرة زوائد القديسين:
وفيها يمكن للكنيسة (البابا) أن يحيل بعض ما يزيد عن حاجة القديسين من فضائل وبر إلى حساب أحد المؤمنين، لينال الخلاص الأبدي بفضل قديس آخر.. هذا أيضًا يركز على العنصر البشرى متجاهلاً بر السيد المسيح.
w فكرة صكوك الغفران:
وهى فضيحة فكرية بكل المقاييس.. فما لا يستطيع الإنسان اقتناؤه بمجهوده سيقتنيه بماله.
w فكرة المطهر:
وهي أن الأنفس بعد انتقالها من الأرض تعبر أولاً بالنار قبل دخول الفردوس، لتتنقى من شوائبها وقاذوراتها.. وهذا إغفال واضح لعمل السيد المسيح في تطهير النفس.
إذًا في الفكر الغربي العقلاني الذي يُؤله الإنسان ويمجد العقل.. يصير كل الدور للإنسان بجهاده، وجهاد رفقائه القديسين، وبأمواله، وبعذابات أخرى في المطهر.. يصفي بها حسابه أيضًا بمجهوده، ولا دور إطلاقًا لنعمة الله الغنية.
ثانيًا: التطرف الثانى
في المقابل قامت الثورة البروتستانتية الإصلاحية بسبب هذا التطرف الفكري والسلوكي وغيره من الانحرافات. لكن هذه الثورة كغيرها من الثورات لم تستطيع أن تزن الأمور وتعيدها إلى نصابها الصحيح، بل تطرفت بمقدار مساو، ولكن في الاتجاه الآخر (لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه).
فخرج الفكر البروتستانتي يتجاهل الدور البشرى تمامًا ويلغي الكنيسة، ويخليها من محتواها، فلم يعد هناك قديسون (أعضاء الجسد)، ولا كهنوت (خدام الجسد)، ولا أسرار (إهمال المادة)، ولا جهاد.. بل نعمة.. نعمة خالصة.
وهذا ليس تمجيدًا للنعمة، ولكنه مجرد رد فعل عنيف ضد التطرف الأول، ونتج عنه تحقير للإنسان، وإهانة أيضًا للنعمة (الغير قادرة أن تعطى دورًا ولو ضئيلاً للإنسان).
ثالثًا: الخلفية اللاهوتية لهذا التطرف
نعلم أن الفكر اللاهوتي الغربي يقوم على فصل الطبيعتين في شخص السيد المسيح، وبلغ هذا الفصل حده الأقصى في فكر نسطور المبتدع، الذي استبعد تمامًا أن يكون اللاهوت متحدًا بالناسوت (العنصر الإلهي مع العنصر البشرى).
وقد تأثر الفكر الغربى كثيرًا بنسطور، حتى إنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا فكرة الطبيعة الواحدة لله الكلمة المتجسد، التى علّم بها آباء الأقباط الأرثوذكس.
هنا الذهن الذي لم يستوعب اتحاد الله بالإنسان في شخص ربنا يسوع المسيح، كيف يتسنى له أن يستوعب اتحاد عمل الله (النعمة) بعمل (الجهاد) في قضية خلاصي!!
إن الفصل بين الطبيعيتين هو بكل تأكيد سبب مأساة الغرب في عدم إدراك إمكانية الشركة بين الجهاد والنعمة، أي بين ما هو إنساني وما هو إلهي.
ماذا عن كنيستنا؟
لقد أدركت الكنيسة منذ الوهلة الأولى حقيقة تجسد السيد المسيح.. التي تعنى أن المسيح شخص واحد هو الله الكلمة، وقد اتحد بطبيعتنا البشرية، فصار فيه كل ما هو لللاهوت، وكذلك كل ما هو للناسوت، في وحدة وانسجام بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تلاشى.
وصارت أعمال السيد المسيح كلها منسوبة له بصفته الله، ولا يمكن بعد الاتحاد أن نتكلم عن أعمال إنسانية وأخرى إلهية في شخص السيد المسيح.. بل بعد الاتحاد صار لنا أن نتكلم عن موت الله (بموتك يارب نبشر)، لأنه ذاق الموت بالجسد، لنا أن نتكلم عن دم الله.. "اقتَناها بدَمِهِ" (أع20: 28)، ولنا أن نتكلم عن الجسد (الجسد المُحى للابن الوحيد) "الاعتراف".
هذه الخلفية اللاهوتية الواضحة البسيطة في آن، صبغت الفكر النسكي القبطي، ففهم الآباء أن النعمة مع الجهاد يعملان في سيمفونية وسينرجية Synergy... وأنه لا يمكن أن نتخيل الإنسان يعمل بمفرده "بدوني لا تقدِرونَ أنْ تفعَلوا شَيئًا" (يو5:15)، وكذلك مستحيل أن الله يعمل فينا بدون إرادتنا وبدون مشاركتنا "كمْ مَرَّةٍ أرَدتُ... ولم تُريدوا!" (لو34:13)، و"هأنذا واقِفٌ علَى البابِ وأقرَعُ. إنْ سمِعَ أحَدٌ صوتي وفَتَحَ البابَ، أدخُلُ إليهِ وأتَعَشَّى معهُ وهو مَعي" (رؤ20:3).
إننا نؤمن أن كل حياتنا الروحية هي حصيلة عمل الله فينا، (عمل الله يعنى: النعمة.. وفينا تعنى: العنصر البشرى أي الجهاد) فمثلاً:
أ- الصلاة:
w "يارب افتح شفتي، فيخبر فمي بتسبيحك" (التسبحة اليومية).
w "عندما نقف أمامك جسديًا، انزع من عقولنا نوم الغفلة، اعطنا يقظة لكي نفهم كيف نقف أمامك وقت الصلاة" (التسبحة اليومية).
إن الصلاة عندنا دعوة من نعمة الله واستجابة من الإنسان. فلا يمكن أن أنهض للصلاة دون تحريك النعمة.. ولا يمكن للنعمة أن تعمل دون أن أستجيب لها.
ب- التوبة:
"توبني يارب فأتوب"، "اُردُدنا يا رَبُّ إلَيكَ فنَرتَدَّ" (مراثي5: 21). هل يمكن للإنسان أن يتوب دون أن تحركه النعمة وتحرك ضميره؟ وهل للتوبة قوة أو قيمة لو لم يكن فيها العنصر الإلهي؟
ج- التطهير:
"اجعلنا كلنا مستحقين يا سيدنا أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأروحنا.." (القداس الإلهى).
هل لنا أن نتطهر بدون دم السيد المسيح على المذبح؟ كيف يتسنى لإنسان بمجهوده وبمعزل عن المذبح أن يتطهر؟
د- الفضائل:
هل الفضائل شئ آخر غير ثمار الروح القدس "مَحَبَّةٌ، فرَحٌ، سلامٌ، طولُ أناةٍ، لُطفٌ، صَلاحٌ، إيمانٌ، وداعَةٌ، تعَفُّفٌ" (غل22:5-23).
هذه مجرد نماذج لعمل الله فينا، لكن يعوزنا الوقت أن نتكلم: عن النمو الروحي، والخدمة وحمل نير الإنجيل، وتنفيذ الوصية، والرهبنة الشهادة، ومواهب الخدمة، والثبات في الإيمان إلى النفس الأخير، وأيضًا دخول الملكوت.
إننا لا نستطيع - بعد التجسد والاتحاد - أن نتكلم عن الله منفصلاً عن الإنسان.. "إذ لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين" (الاعتراف)، "لاهوته لم ينفصل قط لا من نفسه ولا من جسده" (القسمة). أو بلغة أخرى - ليس لنا أن نتكلم عن النعمة معزولة عن الجهاد أو الجهاد بدون مساندة النعمة.
إننا "عامِلانِ مع اللهِ" (1كو9:3)، بل بالأحرى "اللهَ هو العامِلُ فيكُم أنْ تُريدوا وأنْ تعمَلوا" (في13:2)، ونهتف أيضًا مع معلمنا بولس الحكيم:
w "ولكن بنِعمَةِ اللهِ أنا ما أنا، ونِعمَتُهُ المُعطاةُ لي لم تكُنْ باطِلَةً، بل أنا تعِبتُ أكثَرَ مِنهُمْ جميعِهِمْ. ولكن لا أنا، بل نِعمَةُ اللهِ التي مَعي" (1كو10:15).
w "فأحيا لا أنا، بل المَسيحُ يَحيا فيَّ" (غل20:2).
w "فإذ نَحنُ عامِلونَ معهُ نَطلُبُ أنْ لا تقبَلوا نِعمَةَ اللهِ باطِلاً" (2كو1:6).
w "ليس أنَّنا كُفاةٌ مِنْ أنفُسِنا أنْ نَفتَكِرَ شَيئًا كأنَّهُ مِنْ أنفُسِنا، بل كِفايَتُنا مِنَ اللهِ" (2كو5:3).
w "وأنواعُ أعمالٍ مَوْجودَةٌ، ولكن اللهَ واحِدٌ، الذي يَعمَلُ الكُلَّ في الكُل" (1كو6:12).
w "لكن شُكرًا للهِ الذي يُعطينا الغَلَبَةَ برَبنا يَسوعَ المَسيحِ" (1كو57:15).
المعمودية كنز النعمة:
كإنما إنسان ملك، وقد رصد في البنك باسم ابنه يوم مولده أموالاً تكفيه وتغنيه في كل احتياجاته ومصروفاته منذ الميلاد وحتى الوفاة.. هكذا يرصد السيد المسيح باسمنا كل النعمة اللازمة لحياتنا وبنياننا، وخدمتنا وفهمنا للإنجيل، والطاقة اللازمة لتوبتنا، وحمل الوصية والخدمة.. كل هذا يدعه السيد المسيح في بنكنا الداخلي يوم أن نعتمد باسمه بالماء والروح.
إنك - كمسيحي - قد نلت كل ما تحتاجه مسبقًا:
w فليس لنا عذر في تكاسلنا.. "وَصاياهُ ليسَتْ ثَقيلَةً" (1يو3:5)، لأننا سبق أن نلنا النعمة اللازمة لحملها وتنفيذها، "لأنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ (بالمعمودية) يَغلِبُ العالَمَ" (1يو4:5).
w "التوبة ليست عسيرة".. لأننا نحمل نعمة الله المحركة المؤازرة.
w "الخدمة ليست تباهيًا".. لأنه "أي شئ لك لم تأخذ، وإن أخذت فلماذا تفتخر؟" إذا كما هو مكتوب: "مَنِ افتَخَرَ فليَفتَخِرْ بالرَّب" (1كو31:1).. ويقول مع مُعلِّمنا بولس: "لا أنا، بل نِعمَةُ اللهِ التي مَعي" (1كو10:15).
الإفخارستيا اضرام لنعمة المعمودية:
إن الإفخارستيا للمعمودية كمثل وقود يضاف بثبات واستمرار، ليحفظ الشعلة متوهجة، وكمثل تغذية لعضو قد زرع في الجسد، سيموت لو لم يتغذى، وستنطفئ النعمة فينا لو لم نشعلها ونضرمها يوميًا بالإفخارستيا.
نداء:
طوبى لمَنْ يكتشف النعمة التي فيه، وينهضها بالحب... "قم يارب لماذا تنام"... طوبى لمَنْ يسمع ويعمل.
ليست الطريق خطرة ولا وعرة، فالرفيق فيها قدير والنعمة فيها غنية، والجهاد فيها ميسور "نيري هَينٌ وحِملي خَفيفٌ" (مت11: 30)، لأن الرب نفسه يحمل معنا العبء الأكبر.
في الحقيقة إن جهادنا لا يخلصنا، ولكننا لن نخلص بدون جهادنا. فالنعمة في حالة انتظار فينا وليست غريبة عنا... تنتظر استجابتنا لنتشارك معًا، فنتمم قضية خلاصنا بـ "محبة الله الآب. ونعمة الابن الوحيد. وشركة وموهبة الروح القدس". آمين.