![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
![]() الصوت اللطيف هزَّ كيان المتكلم والسامع في مقارنة القديس يوحنا الذهبي الفم لشخصية داود بشخصية الملك شاول، يبرز قوة صوت داود، فيرى في صوته قاهرًا لكل مشاعر استياء أو بغضة في قلبه، كما يراه قاهرًا لروح العداوة التي في قلب شاول وفكره. يُعَلِّق القدِّيس على كلمات شاول: "أهذا صوتك يا ابني داود" (1 صم 24: 16)، فإنه لم يقل: "أهذه كلماتك"، بل "أهذا صوتك؟!" فقد ينطق الإنسان بكلمات لينة ولطيفة، لكن صوته لا يحمل روح الحب والحنو، فلا يكون لهذه الكلمات فاعليتها، لا في حياة المتكلم ولا في حياة المُستمِع. صوت داود أصلح أعماق داود نفسه، فضربه قلبه حين قطع طرف جبة شاول صارخًا إلى الله أن يهبه روح الحُبِّ والقوة، كما أصلح أعماق شاول الذي لم يكن قادرًا أن ينطق اسم داود ببنت شفتيه، الآن بانسحاق يقول له: "يا ابني داود". صوت داود فتح بابًا للمنافسة بين قلبي داود وشاول، كل منهما يود أن يُكْرِمَ الآخر. فداود الذي رفض الانتقام من شاول حين كان بين يديه نائمًا يقول له "أنا عبدك، يا سيدي الملك"، حاسبًا نفسه عبدًا لمن أنعم عليه بالعفو عوض الانتقام لنفسه. وفي انسحاق، قال شاول له: "أنت أبرَّ منيّ". إن كان الجواب الليِّن يصرف روح الغضب، فإن الصوت اللطيف يدعونا أن نَتَمَتَّع بقوة الصوت المقدس: موسى بصوته المُتفاعِل مع الصليب (عصا الرب)، شق البحر لتقف المياه من هنا وهناك عاجزة عن الحركة، وبصوته أعاد للمياه طبيعتها. وتلميذه يشوع بن نون بصوته أمر الشمس والقمر أن يتوقفا فأطاعاه. وإيليا النبي بصوته توقفت السماء عن أن تُمطر، وبصوته أنزلت مطرًا. طلب من السماء أكثر من مرة نارًا فسمعت له. والتلاميذ والرسل بأصواتهم باسم يسوع المسيح أخرجوا الشياطين وطردوا الأمراض. ما أحوجنا أن نحمل صوت ابن داود في داخلنا، العامل في قلوبنا فتصير أيقونة لقلب ربِّنا يسوع مُحِب البشرية، والعامل في قلوب من نلتقي بهم، فيتمتَّعون بملكوت الله في أعماقهم معنا! يُمَيِّز الذهبي الفم بين كلمات داود الرقيقة، وصوته الذي يعلن بنبرته عن روح التواضع وحب السلام. لم يقل شاول: "أهذه كلماتك يا ابني داود"، إنما قال: أهذا صوتك يا ابني داود؟" (1 صم 24: 16)، وقد علَّق القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا عن فاعلية صوت داود. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن داود وهو أصغر سنًّا من شاول الملك، بصبره وطول أناته تعامل مع الملك كأبٍ نحو ابنه، فلم يَقْبَلْ أن ينتقم منه، حتى وإن بذل الملك جهده لمرات كثيرة أن يتخلَّص منه. كان من ثمرة هذا العمل التقوي الوديع، أن شاول عند سماعه صوت داود انجذب إليه بروح التوبة في دموعٍ لتثور في أحشائه مشاعر أُبوَّة نحو داود، فدعاه ابنه. v عندما تخلَّلَتْ كلمات داود (قلب شاول) نزعت عنه العداوة، وتعرَّف عليه كقدِّيس، واستبعد عن نفسه الألم (الغضب) الذي وُجِدَ فيه تحت تأثير الآخرين... كما أنه في الليل لا نتعرَّف حتى على الأصدقاء، وعندما يطلع النهار، نعرفهم متى تَطَلَّعنا إليهم من بعيدٍ، هذا هو أيضًا الطريق الطبيعي بالنسبة للعداوة. مادمنا في خصامٍ مع آخرين، نسمع أصواتهم بطريقة مختلفة، ونَتَطَلَّع إلى وجوههم باشمئزاز، لكن عندما نترك الغيظ، فإن صوتهم الذي كان قبلاً يبدو فيه عداء، ونحسبه معاديًا، يضربنا باللطف والمَسَرَّة، ونظرتنا لهم التي كانت قبلاً فيها عداء وغير مُحَبَّبَة تَحْمِلُ اشتياقًا ونعمة. هذا ما يحدث عند هبوب عاصفة أيضًا، فإن السحاب الكثيف لا يسمح بظهور جَمَالَ السماء. فإنه حتى إن كانت لنا نظرة ثاقبة فائقة، لا نستطيع أن نخترق السحب لنرى البهاء السماوي... لكن عندما يَحِلُّ دفء الشمس إلى لحظات، ويُبَدِّد الغيمة، تَظْهَرُ الشمس وتكشف عن جَمَالِ السماء. هذا أيضًا ما يحدث عند شعورنا بالغيظ، فإن العداوة تعمل كغيمةٍ أمام أعيننا وفي آذاننا، وتجعل الصوت والرؤية بشكلٍ مختلفٍ. أما متى استخدم إحدى القِيَم السليمة، ينزع جانبًا العداوة، ويُبَدِّد غيمة الوصمات، عندئذ تصير الرؤية والسمع صادقيْن. هكذا كانت خبرة شاول، عندما اخترق غيمة العداوة، تعرَّف على صوت داود، قائلاً: "أهذا صوتك يا ابني داود؟" أي نوع من الصوت كان هذا؟ إنه الصوت الذي طرح جليات، واختطف المدينة من الخطر، وأعاد كل شخصٍ كان في خطر العبودية والموت إلى السلام والحرية، وقمع جنون الإنسان، وكسب لحسابه منافع كثيرة عجيبة. في الواقع، هذا هو الصوت الذي طرح المُتَوَحِّش المُرعِب (جليات)؛ فقوة الصلاة قهرته أمام الحَجَرِ. لم يطلق الحَجَرَ فحسب، إنما قال أولاً: "أنت تأتي إليَّ بآلهتك، وأما أنا فآتي إليك باسم رب الجنود هذا الذي أنت تَسِبُّه اليوم"، وبعد ذلك صوَّب الحَجَرَ. وجَّه الصوت الحَجَرَ، فأصاب المُتَوَحِّش، فقتل وقاحة العدو. لماذا تتعجَّب، إن كان صوت الشخص البار يُقمِعُ السخط ويُحَطِّم الأعداء، إن كان يطرد حتى الشياطين؟ يشوع بن نون كمثال مُجَرَّد، قال: "لتقف الشمس والقمر"، ففعلا ذلك (يش 10: 12-13). بنفس الطريقة جعل (موسى) البحر يتوقَّف، وردَّه مرة أخرى (خر 14: 21، 26). هكذا الثلاثة فتية أطفأوا قوة النار، بتسابيحهم وصوتهم (دا 3: 24، 50) LXX. هكذا تشجَّع شاول عند سماعه هذا الصوت، وقال: "أهذا صوتك يا ابني داود؟!" بماذا أجابه داود؟ "أنا عبدك يا سيدي الملك". عندئذ حدثت منافسة ومباراة، من الذي يُقَدِّم كرامة أعظم للآخر. واحد جعل من الآخر قريبًا له (ابنه)، والثاني دعاه سيده. ما يقصده هو مثل هذا: إني مهتم بأمرٍ واحدٍ فقط؛ سعادتك وتَقَدُّمك في الفضيلة. أنت تدعوني ابنك، وأنا أُحِبُّك ومُغرَم بك، إن قبلتني كعبدٍ لك، بشرط أن تنزع عنك استياءك مني. فلا تشك فيَّ من جهة أي شر، ولا تظن إني أتآمر ضدك، وأُحارِب ضدك. بهذا تَمَّمَ الوصية الرسولية التي تأمرنا أن نتفوَّق في تكريم بعضنا البعض (رو 12: 10)، على عكس ما يجري عامة بين البشر الذين هم أشر من الوحوش، والذين لا يحتملون أن يبدأوا هم بمديح إخوتهم، مُعْتَقِدِين أنه من العار والإهانة أن يمدحوا أحدًا. أي شيء يحمل سخرية أكثر من هذه الغباوة؟ أي شيء مُخْجِل أكثر من هذا الغرور وهذا الجهل؟... إن كنتَ تبدأ بالمديح، فالله يَمْدَحك، وهو أعظم من الكل... ليتنا لا ننتظر أن ننال الكرامة أولاً، بل نسرع لنكرِّم القريب، ودائمًا نبادر نحن بالمديح، ولا نظن أن هذه الفضيلة تافهة وقليلة، إن كنا لطفاء ومُحِبِّين في مديحنا للغير. إن أهملنا هذا، نُحَطِّم الكثير من الصداقات ونخلق عداوات كثيرة... ليتنا لا نوجد ناقصين أيها الأحباء الأعزاء، بل نفعل هذا في غيرة. إن أمكن لنكون نحن المُبادِرين بالاهتمام بالذين نلتقي بهم، أيّا كانوا هم، وذلك بمدحهم، والاهتمام بهم في كل شيءٍ. وإن بادر أحد فرد له التكريم بطريقة أعظم. هذا ما يحثنا عليه بولس بقوله: "حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" (في 2: 3) القديس يوحنا الذهبي الفم |
|