الله كلي الوجود
في هذه الأيام الأخيرة، التي وقعت قرعتنا فيها، والتي طغت عليها الأنانية والمادية، وأصبح السعي وراء الوفرة والشهرة والنفوذ هو الشغل الشاغل للبشر، وتحوَّل المال إلى معبود يستحوذ على الاهتمام، ويسيطر على القلوب والعقول، أصبح الناس يتأثرون بالأخبار الكاذبة أكثر من كلمة الله الصادقة، وصار الحق الإلهي أقل إقناعًا من إعلانات الغرائز والأكاذيب. في هذه الأيام نحتاج أن نعرف الله ومن هو في الحقيقة، أو كمن هو الحقيقة، حتى ما يأخذ المكان الذي يستحقه في قلوبنا وبيوتنا واجتماعاتنا.
ومعرفتنا بالله وصفاته مطلب يُسرّ قلبه، عبَّر عنه لإرميا قديما قائلاً: «لاَ يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. بَلْ بِهَذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ، لأَنِّي بِهَذِهِ أُسَرُّ يَقُولُ الرَّبُّ» (إر9: 23، 24).
ومعرفتنا بالله وصفاته أمر عظيم الأهمية والفائدة ولكنه ليس سهلاً. بادئ ذي بدء علينا أن نعترف ونقر بأن الله وصفاته هما أكبر بما لا يُقاس من إمكانياتنا وقدرتنا المحدودة على الفهم، والكتابة في هذا الموضوع هي محاولة للسباحة في محيط لا يُعبر، ولكن المحاولة ستجعلنا نتحرك في الاتجاه الصحيح، آملين أن تنفتح شهيتنا الروحية حتى ما نُفتن ونُبهر ونُعجب بالله وصفاته، فتتكرَّس حياتنا بالكامل لنعرفه أكثر ونعرفه أفضل.
”كلى الوجود“: هي إحدى صفات الله التي بها يملأ الكون بكل أقسامه. والمعنى اللغوي البسيط هو أن الله موجود في كل مكان من خليقته البديعة، والكون الوسيع الذي خلقه بعلمه وسلطانه لا توجد فيه بقعة أو نقطة تخلو من وجوده. هو موجود في كل مكان، في كل وقت، وفى كل الظروف.
الله كلى الوجود: لم يرد هذا التعبير بحصر اللفظ في أي مكان في الكتاب المقدس، ولكن معناه ذُكر في أماكن عديدة، فقد قال الله لإرميا: «أَلَعَلِّي إِلَهٌ مِنْ قَرِيبٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلَسْتُ إِلَهًا مِنْ بَعِيدٍ. إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟» (إر23: 23، 24)، وقال سليمان في صلاته في يوم تدشين الهيكل: «هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُكَ، فَكَمْ بِالأَقَلِّ هَذَا الْبَيْتُ الَّذِي بَنَيْتُ؟» (1مل8: 27). ولقد طرح داود سؤال وأجاب عنه بطريقة مباشرة عبرت عن هذه الحقيقة بوضوح شديد فقال: «أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ» (139: 7-10).
ومن هذا الإعلان نستخلص حقيقة، هي أنه أمر عديم الجدوى أن يبحث الانسان عن مكان ليختبئ فيه بعيدًا عن الله، وليس من الحكمة أن تحاول كما حاول يونان وفشل «في كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَيْنِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِينَ» (أم15: 3) وأيضًا «مِنَ السَّمَاوَاتِ نَظَرَ الرَّبُّ. رَأَى جَمِيعَ بَنِي الْبَشَرِ. مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الأَرْضِ» (مز33 :13، 14).
وما هي الفوائد الروحية التي نجتنيها بمعرفتنا لهذه الحقيقة؟
1- توبة الخاطئ وإيمانه بالمسيح ونواله الحياة الأبدية لا تتطلب أن يتواجد في مكان معين، أو إلى استعداد يحتاج إلى وقت معين، بل كما قال الكتاب: «فَاللَّهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (أع 17: 30). هذا تشجيع، ولكن هناك أيضًا تحذير خطير يجب أن ننتبه إليه لئلا نفوته، وهو أن الخطايا تفصل الإنسان الخاطئ عن الله، تفصله زمنيًا إلى أن يتوب، وإن لم يتُب، تفصله إلى أبد الآبدين «هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ. بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ» (إش59: 1، 2). وأيضًا «وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوبًا فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ» (رؤ20: 15).
2- في اجتماع المؤمنين معًا إلى اسم المسيح، مهما كان عددهم، اثنان أو ثلاثة، في أي مكان وأي وقت يتفقون عليه معًا، يحضر المسيح وسطهم «لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (مت18: 20).
3- أنت لست وحيدًا؛ في أي مكان توجد فيه، وفي أي موقف تتعرَّض له، ثق أن الله معك، بجانبك ولن يتركك. هو يراك حتى عندما لا تقدر أن تراه، قالت له هاجر: «أَنْتَ إِيلُ رُئِي» أي “الله يرى”، وشهد عنه أيوب قائلا: «هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلاَ أَرَاهُ، وَيَجْتَازُ فَلاَ أَشْعُرُ بِهِ» (أي9: 11). وقيل عن المسيح «وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ» (مر6: 47، 48). وكان مع الرجال الثلاثة في وسط أتون النار (دا3 )، ومع يعقوب وهو هارب من بيت أبيه (تك28)، وهو خائف من غضب أخيه (تك32)، وهو الآن معك في تجربتك أو مرضك. قد تُترك من الجميع ولكنه وعد قائلاً: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت28: 20). هو معك ليضمك إلى صدره، يكفكف دموعك ويضمِّد جروحك، لذلك حتى وأنت مخطئ، لا تهرب منه بل اهرب إليه، واختبئ فيه، لأنه حصن أمانك الوحيد.
4- لا تخف؛ فليس فقط لا تشعر بالوحدة أو الوحشة، بل أيضًا لا داع لأن تخاف. ولماذا تخاف وهو معك؟ قال المرنم: «اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِب؟» (مز27: 1) و«أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي» (مز23: 4).
5- عليك أن تتصرف بمسؤولية: وأنت تفكر في أمر ما أو تريد أن تقوم بعمل ما، إذ أردت أن تنتصر على الخطية مهما كانت قوتها، أو العالم مهما كانت شهوته، أو الشيطان مهما كانت غوايته أو شراسته، ثق أنه موجود معك لينصرك، كن مثل يوسف وقل: «كَيْفَ أَصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟» (تك39: 9).
6- تخلَّص من خطية الرياء، واسلك في النور، سواء في البيت أو في الاجتماع، في بلدك بين معارفك، أو بعيدًا وسط الغرباء.
7- مخافة الرب ومهابته: بالحرص على ألا نفكر في شيء يتعارض مع مطاليب قداسته، أو نقول شيئًا يحزنه، أو نفعل شيئًا لا يرضيه. لماذا؟ لأنه يرى قلوبنا تمامًا كما يرى أيادينا، ويعرف أفكارنا قبل أن نُعبِّر عنها بكلماتنا: «أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا» (مز139: 2-4).
8- تشجيع على الصلاة: يقول الكتاب «الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ» (مز145: 18)، و«اُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ يُوجَدُ. ادْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ» (إش55: 6). وأيضًا يقول: «لِهَذَا يُصَلِّي لَكَ كُلُّ تَقِيٍّ فِي وَقْتٍ يَجِدُكَ فِيهِ. عِنْدَ غمارة الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ إِيَّاهُ لاَ تُصِيبُ» (مز32: 6). كما توجد في العهد الجديد وصية صريحة موجهة لكل المؤمنين تقول: «فَأُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ الرِّجَالُ فِي كُلِّ مَكَانٍ رَافِعِينَ أَيَادِيَ طَاهِرَةً، بِدُونِ غَضَبٍ وَلاَ جِدَالٍ» (1تي2: 8).