23 - 09 - 2024, 11:08 AM | رقم المشاركة : ( 173821 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
العبرانيين 4: 15-16 15 لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. 16 فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ. |
||||
23 - 09 - 2024, 11:10 AM | رقم المشاركة : ( 173822 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
رؤيا 14: 4 هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً ِللهِ وَلِلْخَرُوفِ. |
||||
23 - 09 - 2024, 11:12 AM | رقم المشاركة : ( 173823 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
زرعت أنا أشواك جوه أرض الهلاك ما حصدتش غير عذابي ولا جنيت من بعادي غير ألمي وعنادي ولقيتني بانادي عليك محتاج أنا إليك محتاج مدة إيديك محتاج نظرة عينيك محتاج أنا إيديك ولقيت وسط النهار عيون نايمين كتار مش شايفين غير ظلام شهوات وكتر كلام فصرخت وقلت ربي انجدني بانادي عليك وسامحنا يا إلهنا على اللي ضاع من حياتنا دي غربة متوهانا عنك كتير شغلانا لكن فيك رجانا ارحمني بانادي عليك |
||||
23 - 09 - 2024, 11:13 AM | رقم المشاركة : ( 173824 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
محتاج أنا إليك محتاج مدة إيديك |
||||
23 - 09 - 2024, 11:14 AM | رقم المشاركة : ( 173825 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
محتاج نظرة عينيك محتاج أنا إيديك |
||||
23 - 09 - 2024, 11:16 AM | رقم المشاركة : ( 173826 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ربي انجدني بانادي عليك وسامحنا يا إلهنا |
||||
23 - 09 - 2024, 11:17 AM | رقم المشاركة : ( 173827 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ربي فيك رجانا ارحمني بانادي عليك |
||||
23 - 09 - 2024, 11:20 AM | رقم المشاركة : ( 173828 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ربي محتاج انك تحطم باب المستحيل |
||||
23 - 09 - 2024, 11:21 AM | رقم المشاركة : ( 173829 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
محتاج لك يا يسوع خايف أنا وحدي تعال وخدني معاك لراحة وحب أبدي محتاج لك يا يسوع معايا بإيديك تشفيني بارك حياتي قلبي خطايا وبلمسة احييني خايف إبليس ييجي يقوللي إيه اللي مبكيني وأنا من ضعفي أقول ربي ناسيني في وسط الظلام بامشي وخوفي ماليني صرخت من غير كلام انقذني ونجيني |
||||
23 - 09 - 2024, 12:09 PM | رقم المشاركة : ( 173830 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الرؤى التسع بعد افتتاحه السفر بالدعوة للتوبة قدم لنا زكريا النبي الرؤى التسع التي شاهدها. في مجملها رؤى إنجيلية مبهجة تسند الشعب في عصره على إعادة بناء الهيكل تحت قيادة زربابل الوالي ويهوشع الكاهن، وتسند كل نفس في كل عصر على التمتع ببناء الهيكل الداخلي كمركز للمسيح الملك والكاهن الأعظم. وقد جاءت الرؤى متسلسلة ومترابطة تبدأ بالإعداد لمجيء المسيا بأنيّ البيت الداخلي، وإعلان إنجيله الذي يُحطم كل مقاومة روحية للبناء المقدس، والكشف عن المبنى ذاته فينا (أورشليمنا الداخلية) واستلامه العمل ككاهن أعظم، وإرسال روحه القدس ينير مقدسة فينا. بعد هذه الجوانب الطبية يحذرنا من الخطية مرة ومرتين وأخيرًا يعلن مجيء الرب الأخير ليدين الشر ويكلل السالكين ببره. رؤيتا الخيل والقرون الأربعة بعد أن افتتح السفر بدعوة للتوبة بكلمات مملوءة رقة تتناسب مع شعب انسحق بالذل في السبي قدم لنا في هذا الأصحاح رؤيتين مبهجتين تخصان إقامة هيكل الرب فينا. 1. دعوة للتوبة: 1 فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِدَارِيُوسَ، كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا بْنِ عِدُّو النَّبِيِّ قَائِلًا: 2 « قَدْ غَضِبَ الرَّبُّ غَضَبًا عَلَى آبَائِكُمْ. 3 فَقُلْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا إِلَيَّ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. 4 لاَ تَكُونُوا كَآبَائِكُمُ الَّذِينَ نَادَاهُمُ الأَنْبِيَاءُ الأَوَّلُونَ قَائِلِينَ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ الشِّرِّيرَةِ وَعَنْ أَعْمَالِكُمُ الشِّرِّيرَةِ. فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصْغُوا إِلَيَّ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. 5 آبَاؤُكُمْ أَيْنَ هُمْ؟ وَالأَنْبِيَاءُ هَلْ أَبَدًا يَحْيَوْنَ؟ 6 وَلكِنْ كَلاَمِي وَفَرَائِضِي الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا عَبِيدِي الأَنْبِيَاءَ، أَفَلَمْ تُدْرِكْ آبَاءَكُمْ؟ فَرَجَعُوا وَقَالُوا: كَمَا قَصَدَ رَبُّ الْجُنُودِ أَنْ يَصْنَعَ بِنَا كَطُرُقِنَا وَكَأَعْمَالِنَا، كَذلِكَ فَعَلَ بِنَا». حدد النبي تاريخ نبوته بالشهر الثامن في السنة الثانية لداريوس (520 ق.م.)، قائلًا: "في الشهر الثامن في السنة الثانية لداريوس كانت كلمة الرب إلى زكريا بن برخيا بن عدّو النبي، قائلًا" [1]. هنا يذكر النبي اسمه واسمي والده وجده، ولعل ذكر اسم جده لأنه هو الذي قام بتربيته بعد وفاة والده، ولأنه كان مشهورًا وسط العائدين من السبي (نج 12: 1، 4، 7). كانت دعوة الرب إليهم هي: "قد غضب الرب على آبائكم... هكذا قال رب الجنود ارجعوا إليَّ يقول رب الجنود فأرجع إليكم يقول رب الجنود" [2-3]. ويلاحظ هنا: أولًا: في هذه الدعوة لم يذكر تفاصيل خطايا آبائهم الماضية، إذ لم يرد أن يجرح مشاعرهم بعد دخولهم في ذل السبي... وإنما أراد حتى في حثهم على التوبة أن يسندهم ويشجعهم ويرفع من روحهم المعنوية. ثانيًا: لعله قصد هنا بآبائهم الأجيال السابقة للسبي التي لم تسمح للأنبياء الحقيقيين بل سارت وراء الأنبياء الكذابة فانتهى الأمر بسبي إسرائيل ثم يهوذا. وربما قصد بهم الذين رجعوا من السبي منذ حوالي 15 عامًا، الذين أهملوا في بناء الهيكل وانهمكوا في ملذاتهم الأرضية (حجي 1)، هؤلاء الذين في غيرتهم رجعوا من السبي إلى أورشليم مع زربابل، لكنهم إذ لم يرجعوا بقلوبهم للرب توقف العمل وخسروا حياتهم الروحية. لذلك يؤكد الرب: "ارجعوا إليَّ... فأرجع إليكم". إنه قبل الرجوع إلى المكان يطلب رجوع القلب إليه، أما من جهته فهو مستعد بل ومشتاق أن يرجع إلينا ويبني هيكله الروحي فينا. هذا هو نداء الله المستمر لنا، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله في طول أناته ينتظر الخاطئ، قائلًا: "ارجعوا إلى فأرجع إليكم"]. كما يقول: [برجوعنا الكامل إلى الله نجده مستعدًا كقول النبي: "نجده مستعدًا كالفجر" (هو 6: 3 الترجمة السبعينية). الله ليس بغائب بل هو حاضر في كل موضع ونحن بانحرافنا نفقده، إذ قيل: "في العالم كان والعالم به كُونَ والعالم لم يعرفه" (يو 1: 10) لقد كان في العالم والعالم لم يعرفه لأنه عدم نقاوة أعيننا تجعلنا لا نراه]. كما يقول: [لقد تركك الله بكونك أنت هو التارك. أنت الذي سقطت عنه أما هو فلا يسقط عنك...]. إذن الرجوع إلى الله ليس مجرد تغيير المكان، أي ترك بابل والذهاب إلى أورشليم، بل هو تغيير مركز النفس بالنسبة لله، فعوض أن تعطيه القفا بأعمالها الشريرة تعطيه الوجه مقتربة إليه روحيًا. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [يجب ألاَّ يُفهم هذا الافتراق وهذا الاقتراب أنه يتحقق في مكان معين، إنما خلال موقف الروح واستعدادها]. ثالثًا: يسألهم الاتعاظ بما حدث مع آبائهم: "آباؤكم أين هم؟! والأنبياء هل أبدًا يحيون؟!" [5]. ربما قصد أنه سبق فأنذر آباءهم بالأنبياء لكن إلى حين، فإذ رفضوا الإنذار هلكوا وخسروا الأنبياء. ويرى القديس ديديموس الضرير أنه يقصد بالأنبياء هنا الأنبياء الكذبة الذين خدعوا آباءهم بقولهم لهم: "سلام سلام ولا سلام" (أر 11: 8). هلكوا مع الأنبياء الكذبة الذين خدعوهم، فاختفى المضلون والذين تركوا أنفسهم ينخدعون بأكاذيبهم. رابعًا: في دعوته بالرجوع دعي الله "رب الجنود"، مكررًا اسمه ثلاث مرات في عبارة واحدة [3]. فمن ناحية يتقدم الرب إليهم كرب الجنود، ليعلن مسئوليته عن العمل فلا يخافون من المقاومين، إذ هو قادر أن يتمم العمل بهم إن خضعوا له كجنود روحيين لقائدهم. أما تعبير "رب الجنود" ثلاث مرات عند عودته للتوبة إنما هو تأكيد لعمل الثالوث القدوس في حياتهم، فلا يقدر الإنسان أن يرجع إلى الله ما لم يختبر محبة الآب الباذلة، ونعمة الابن خلال الصليب، وشركة الروح القدس واهب المغفرة. خامسًا: يؤكد هذا السفر المبدأ الهام الذي سبق فأعلنه الله في كتب الأنبياء قبل السبي أن ما يحل بهم هو تأديب من قبل الرب، ولكنه في نفس الوقت ليس إلاَّ ثمرة طبيعية للخطية... "كطرقنا وأعمالنا كذلك فعل بنا" [6]. فالإنسان هو الذي يلقى بنفسه تحت التأديب كثمرة أفعاله. سادسًا: إن كان آباؤهم قد هلكوا بسبب التصاقهم بالشر، فإن من يلتصق بالباطل يصير باطلًا؛ فالعلاج هو الالتصاق بالحق ليحيا أبديًا. هكذا يُقدم الله كلمته، أي الحق، لنلتصق به فلا نموت... "ولكن كلامي وفرائضي التي أوصيت بها عبيدي الأنبياء أفلم تدرك آباءكم؟!" [6]. وكما يقول أشعياء: "يبس العشب، ذبل الزهر، أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (أش 40: 8). 2. رؤيا الخيل: 7 فِي الْيَوْمِ الرَّابعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ الْحَادِي عَشَرَ، هُوَ شَهْرُ شَبَاطَ. فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِدَارِيُوسَ، كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا بْنِ عِدُّو النَّبِيِّ قَائِلًا: 8 رَأَيْتُ فِي اللَّيْلِ وَإِذَا بِرَجُل رَاكِبٍ عَلَى فَرَسٍ أَحْمَرَ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ الآسِ الَّذِي فِي الظِّلِّ، وَخَلْفَهُ خَيْلٌ حُمْرٌ وَشُقْرٌ وَشُهْبٌ. 9 فَقُلْتُ: «يَا سَيِّدِي، مَا هؤُلاَءِ؟» فَقَالَ لِي الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي: «أَنَا أُرِيكَ مَا هؤُلاَءِ». 10 فَأَجَابَ الرَّجُلُ الْوَاقِفُ بَيْنَ الآسِ وَقَالَ: «هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ الرَّبُّ لِلْجَوَلاَنِ فِي الأَرْضِ». 11 فَأَجَابُوا مَلاَكَ الرَّبِّ الْوَاقِفِ بَيْنَ الآسِ وَقَالُوا: «قَدْ جُلْنَا فِي الأَرْضِ وَإِذَا الأَرْضُ كُلُّهَا مُسْتَرِيحَةٌ وَسَاكِنَةٌ». بعد بدء نبوته بثلاثة شهور حلّ شهر شباط الذي فيه تفرخ الأشجار وتفوح رائحة شجر الآس الطيبة. ولعل النبي كان يقضي اليوم كله في واد قريب منه، يسقط راكعًا تحت ظلال شجر الآس، ودموعه لا تجف، صارخًا: "يا رب إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟!" [12]. كان وسط نحيبه يتجه بقلبه نحو الهيكل الذي صار خرابًا وإلى الشعب الذي جاء منذ حوالي 15 عامًا لبناء الهيكل لكن كل واحد انهمك في أعماله الخاصة ومصالحه الشخصية. كان النبي ككاهن يئن مشتاقًا إلى عودة الهيكل بطقوسه الروحية التي لم يمارسها منذ ولادته حتى تلك اللحظات. لذلك في الليل وهبه الله هذه الرؤيا: "رأيت في الليل وإذا برجل راكب على فرس أحمر وهو واقف بين الآس الذي في الظل، وخلفه خيل حمر وشقر وشهب. فقلت: يا سيدي: ما هؤلاء؟ فقال ليَّ الملاك الذي كلمني أنا أريك ما هؤلاء. فأجاب الرجل الواقف بين الآس وقال: هؤلاء هم الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض. فأجابوا ملاك الرب الواقف بين الآس وقالوا: قد جُلنا في الأرض وإذا الأرض كلها مستريحة وساكنة" [8-11]. بهذه الرؤيا يعلن الله عن تدبيراته الخلاصية واهتمامه ببيته الروحي هذا وقد أعطاه الله ملاكًا يكلمه، هذا الذي رافقه في كل الرؤى، يدخل معه في الحوار ويفسر له ما غمض عليه. كأن الرب أراد أن يؤكد مساندة السماء له وخدمة الملائكة للبشر (عب 1: 14). الآن، من هو هذا الرجل الراكب على فرس أحمر، الواقف بين الآس، الذي في الظل ويدعى: "ملاك الرب". تعبير "ملاك الرب" غالبًا ما يشير إلى الله نفسه(11) إذ يظهر كملاك أو مُرسل لأجل الإنسان، إذ كلمة "ملاك" تعني "رسول"، وقد جاء في التلمود البابلي: "هذا الرجل ليس إلاَّ القدوس المبارك، إذ قيل: "الرب رجل حرب". ويقول القديس ديديموس الضرير: [الراكب على فرس أحمر هو الرب المخلص المتجسد، والفرس الأحمر هو الجسد الذي لبسه. لقد رآه النبي "وهو واقف بين الآس الذي في الظل" أي بين الجبال المظللة. الجبال هي العهدان. معي جبال خصبة ومظللة بسبب غنى الأفكار وكثرة نصوص الكتاب عن المتجسد]. يمكننا القول بأن النبي نظر هذه الرؤيا "في الليل" [8]، أي خلال العهد القديم حيث لم يكن بعد قد ظهر السيد المسيح شمس البر الذي حوّل ليل العالم إلى نهار. رآه خلال النبوات، لذا رآه في الظل، لم يتحقق مجيئه بعد. رآه رجلًا راكبًا على فرس أحمر إذ تجسد فصار إنسانًا، يتقدم إلينا بعمله الإلهي خلال الصليب حيث الدم المبذول، وكما قال أشعياء: "من ذا الآتي من أدوم بثياب حُمر... ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة؟! قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 1-3). رأى النبي خلف السيد المسيح خيل حمر وشقر وشهب، قال عنهم السيد "هؤلاء هم الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض" [10]. بمجيء السيد المسيح إلينا للخلاص انفتحت السماء وتحول السمائيون إلى خدمة الإنسان لحساب العريس السماوي، وصاروا كمن يجولون في الأرض لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14). ولعل هؤلاء الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض هم الرجال العهد القديم الذين هيأوا الأرض لاستقبال الكلمة المتجسدة خلال تعاليمهم ونبواتهم، هؤلاء الذين سبقوه في الطريق لكنهم يبقون خلفه بكونه ربهم ومخلصهم أما إجابتهم: "قد جُلنا في الأرض وإذا الأرض كلها مستريحة وساكنة" [11]. فتُشير إلى تهيئة الأرض لاستقبال المسيا المخلص، إذ صار الطريق مُعدًا والزمن مناسبًا لنزوله. إن كان الراكب على الفرس الأحمر يرمز لكلمة الله المتجسد، فهذه الخيل المختلفة الألوان ربما تعني الأعمال الإلهية، وكأن النبي يعلن للشعب اليهودي في ذلك الحين أن الله قدم أعمالًا متنوعة وهيأ لهم بكل وسيلة جوًا من الهدوء، فالأرض كلها ساكنة ومستريحة ليس من يقاوم ولا من يدير مكائد ضدهم فعليهم أن يسرعوا في بناء بيت الرب. وبنفس المعنى نقول أن النبي يعلن بأن السيد المسيح قد أرسل لنا خيله الحمر والشقر والشهب، مقدمًا لنا كل موهبة سماوية وعطية إلهية لكي يجعل أرضنا أي جسدنا ساكنًا وهادئًا لا يقاوم الروح بل يعمل معها لحساب مجد الله. إنه وقت للعمل، فيه يليق بنا تكريس كل طاقتنا الروحية كما الجسدية للبناء الروحي أورشليمنا السماوية. هذه هي الرؤيا الأولى التي رفعت زكريا من دموعه اليومية في وادي الآس تحت الظلال لتدخل به إلى وادي عمل الله المُعلن خلال التجسد والصلب! بهذا نُزع زكريا من ضيقة نفسه إلى السلام الحقيقي والراحة، لذا قال: "الأرض كلها مستريحة وساكنة". ليتنا لا نفهم الأرض مستريحة وساكنة بمعنى الخمول والتراخي وإنما بمعنى التمتع بسلام الله الفائق وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [الروح العاقلة تحمل طاقة تحركها في نشاط مستمر، لكنها إذ تعمل من أجل الخير تظل هادئة ومستريحة بلا اضطراب وتمتع بالسلام الداخلي الذي تبعثه مخافة الله... وكما هو مكتوب: "وأما المستمع ليّ فيسكن آمنًا ويستريح من خوف الشر" (أم 1: ]. في المسيح يسوع ربنا تصير نفوسنا وأيضًا أجسادنا، أي سمواتنا الداخلية وأرضنا مستريحة، إذ تتقدس به وتفرح بالرغم من حملها صليبه والدخول معه قبره. 3. غيرة الرب على بيته: 12 فَأَجَابَ مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَالَ: «يَا رَبَّ الْجُنُودِ، إِلَى مَتَى أَنْتَ لاَ تَرْحَمُ أُورُشَلِيمَ وَمُدُنَ يَهُوذَا الَّتِي غَضِبْتَ عَلَيْهَا هذِهِ السَّبْعِينَ سَنَةً؟» 13 فَأَجَابَ الرَّبُّ الْمَلاَكَ الَّذِي كَلَّمَنِي بِكَلاَمٍ طَيِّبٍ وَكَلاَمِ تَعْزِيَةٍ. 14 فَقَالَ لِي الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي: «نَادِ قَائِلًا: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: غِرْتُ عَلَى أُورُشَلِيمَ وَعَلَى صِهْيَوْنَ غَيْرَةً عَظِيمَةً. 15 وَأَنَا مُغْضِبٌ بِغَضَبٍ عَظِيمٍ عَلَى الأُمَمِ الْمُطْمَئِنِّينَ. لأَنِّي غَضِبْتُ قَلِيلًا وَهُمْ أَعَانُوا الشَّرَّ. 16 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ بِالْمَرَاحِمِ فَبَيْتِي يُبْنَى فِيهَا، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، وَيُمَدُّ الْمِطْمَارُ عَلَى أُورُشَلِيمَ. 17 نَادِ أَيْضًا وَقُلْ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنَّ مُدُنِي تَفِيضُ بَعْدُ خَيْرًا، وَالرَّبُّ يُعَزِّي صِهْيَوْنَ بَعْدُ، وَيَخْتَارُ بَعْدُ أُورُشَلِيمَ». إن كان زكريا النبي قد قضى سنوات يتأمل خراب الهيكل بدموع لا تجف، يسأل الله من أجل إعادة بناء الهيكل، فإن ربنا يسوع المسيح هو الشفيع الكفاري وحده الذي يصرخ بدمه الكريم من أجل قيام مقدساته في البشرية، إذ قيل "فأجاب ملاك الرب وقال: يا رب الجنود إلى متى لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟!". لقد سقطت البشرية تحت سبي عدو الخير سنينًا هذه مقدارها ولم يكن يستطع أحد أن يشفع فيها إلاَّ ذاك الذي قدم دمه كفارة عن خطايانا، جالبًا الرحمة الإلهية بإيفائه دين العدل الإلهي بالصليب. ولم تكن شفاعته كلامًا مجرد بل عملًا مملوء حبًا وفعّالًا، أمكنه به أن ينزع عن المؤمنين به الغضب الإلهي ويدخل بهم إلى مراحم الله ليُقام فيهم هيكله المقدس السماوي. هذا هو الكلام الطيب وكلام التعزية الذي أعلنه الملاك المرافق له [13]. بالصليب يقول الرب: "غرت على أورشليم وعلى صهيون غيرة عظيمة، وأنا مغضب بغضب عظيم على الأمم المطمئنين، لأني غضبت قليلًا وهم أعانوا الشر. لذلك هكذا قال الرب: قد رجعت إلى أورشليم بالمراحم فبيتي يُبنى فيها يقول رب الجنود ويُمد المطمار على أورشليم. نادِ أيضًا وقل: هكذا قال رب الجنود: إن مُدني تفيض بعد خيرًا والرب يعزى صهيون بعد ويختار بعد أورشليم" [14-17]. فمن الجانب التاريخي تحقق ذلك حرفيًا، فبعد سبي يهوذا سبعين عامًا أعلن الله غيرته على مدينته وشعبه، وإذ كانت الأمم مطمئنة أنها أذلت شعب الله تمامًا وخربت أرض الموعد وحطمت الهيكل المقدس؛ بعضها قام بالدور الرئيسي كالبابليين والآخر شارك بالعمل كالأدوميين أو بالشامتة... لكن فيما هم مطمئنون رجع الرب إلى أورشليم ليقيم بيته من جديد ويسمح بمدّ المطمار (آلة قياس الحائط) لا للهدم كما كان عند السبي بسبب انحراف الحوائط وإنما لإقامة المباني والتعمير، وهكذا يفيض على شعبه بالخير ويعلن محبته ورعايته له. تحقق هذا حرفيًا في القرن السادس ق.م، لكنه تحقق بصورة أكمل وبفكر أعمق في العصر المسيانى، حيث صعد الرب على صليبه يبسط يديه بالبركة للبشرية محطمًا سبي إبليس واهبًا الخير الحق للمؤمنين به، وكما يقول القديس بولس: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء!؟" (رو 8: 32). رجع إلينا بمراحمه ليقيم هيكله فينا، قائلًا: "ملكوت الله في داخلكم". مدّ يده بالمطمار ليبني وينمي حياتنا الداخلية، فتفيض من ثمر روحه القدوس بركات وتعزيات (يو 15: 26) تكشف عن اختياره لأورشليمنا الداخلية عروسًا له. ما هو هذا البيت الذي يشغل قلب الله؟ أولًا: الكنيسة التي يقيمها الرب عروسًا له، هذه التي أشار إليها الرسول بقوله: "وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أُبْطِئُ، فَلِكَيْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِ اللهِ، الَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ اللهِ الْحَيِّ، عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ" (1 تي 3: 15). ثانيًا: يقول القديس ديديموس: [إن هذا البيت هو الجسد ربنا يسوع المسيح الذي قلبه مسكنًا له واحدًا مع اللاهوت بلا اختلاط ولا انفصال، هذا الذي قال عنه "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه... كان يقول عن هيكل جسده" (يو 2: 19، 21). هذا البيت الذي أعلن عنه سفر الأمثال: "الحكمة بنت بيتها" (أم 9: 1)]. ثالثًا: يختم القديس ديديموسحديثه عن هذا البيت بقوله: [كما يجب أن نضيف أن كل مؤمن هو أيضًا بيت مبني ليكون هيكلًا لله. يقول الكتاب: "أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (1 كو 3: 16). يقول المخلص نفسه بوضوح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلًا" (يو 14: 23)]. 4. رؤيا الأربعة قرون: 18 فَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِأَرْبَعَةِ قُرُونٍ. 19 فَقُلْتُ لِلْمَلاَكِ الَّذِي كَلَّمَنِي: «مَا هذِهِ؟» فَقَالَ لِي: «هذِهِ هِيَ الْقُرُونُ الَّتِي بَدَّدَتْ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلَ وَأُورُشَلِيمَ». 20 فَأَرَانِي الرَّبُّ أَرْبَعَةَ صُنَّاعٍ. 21 فَقُلْتُ: «جَاءَ هؤُلاَءِ، مَاذَا يَفْعَلُونَ؟» فَأَجَابَ: «هذِهِ هِيَ الْقُرُونُ الَّتِي بَدَّدَتْ يَهُوذَا حَتَّى لَمْ يَرْفَعْ إِنْسَانٌ رَأْسَهُ. وَقَدْ جَاءَ هؤُلاَءِ لِيُرْعِبُوهُمْ وَلِيَطْرُدُوا قُرُونَ الأُمَمِ الرَّافِعِينَ قَرْنًا عَلَى أَرْضِ يَهُوذَا لِتَبْدِيدِهَا». حسب القانون العبري يبدأ الأصحاح الثاني من هذا السفر بهذه الرؤيا الثانية الخاصة بظهور الأربعة قرون التي بددت يهوذا وإسرائيل وأورشليم حتى لم يرفع إنسان رأسه [21]، ثم ظهور أربعة صناع قاموا لبث الرعب وطرد هذه القرون التي للأمم. ربما كان زكريا النبي في خلوته يتطلع إلى كل اتجاه من اتجاهات المسكونة ليرى الأمم وكأنهم يضربون أورشليم بقرنهم بلا توقف ولا رحمة. لقد ألف اليهود رعاية الغنم وأدركوا ضربات القرون للوحوش القرنية كيف تقتل الغنم وتبدده، لهذا يقول المرتل: "خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب ليّ" (مز 22: 21). ويتحدث دانيال النبي عن القرن الذي حارب القديسين فغلبهم حتى جاء القديم الأيام (دا 7: 21-22). هكذا صارت القرون إشارة إلى القوة والسلطان، إذ يقول الرب في ميخا: "قومي ودوسي يا بنت صهيون لأني أجعل قرنك حديدًا، أظافرك أجعلها نحاسًا فتسحقين شعوبًا كثيرين وأحرم غنيمتهم للرب وثروتهم لسيد كل الأرض" (مي 4: 13). ويلاحظ في هذه الرؤيا الخاصة بهذه القرون الأربعة الآتي: أولًا: يرى البعض في هذه القرون الأربعة إشارة إلى الممالك التي أذلت الشعب وهي مملكة أشور وبابل، مملكة مادي وفارس، مملكة الكلدانيين، مملكة الرومان. وقد أرسل الله لكل مملكة صانع يبددها ويذلها، وها هي الممالك الأربع قد اندثرت تمامًا، إذ تحطمت قرونها وبقى عمل الله ناجحًا، وكما يقول المرتل: "لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل، قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه... الساكن في السماوات يضحك بهم والرب يستهزئ بهم" (مز 2). هذه المماليك أُشير إليها بالمعادن الأربعة والحيوانات الكبيرة الأربعة التي برزت من البحر الواحد تلو الآخر في رؤيا دانيال النبي. ثانيًا: يرى العلامة أوريجانوس والقديس أغسطينوس وكثير من آباء الكنيسة أن رقم 4 يشير إلى جهات المسكونة الأربع أي إلى محبة العالم كما يشير إلى الجسد بكونه من تراب هذا العالم. وكأن هذه القرون التي تبدد "يهوذا وإسرائيل وأورشليم" [19]، "حتى لا يرفع إنسان رأسه" [21]، تعني أن محبة العالم وشهوات الجسد تحطم يهوذا، أي اتحادنا بالسيد المسيح الخارج من سبط يهوذا، كما تحطم إسرائيل الجديد أي عضوتنا الداخلية ونقاوة قلبنا التي بها نعاين الله. بها لا يرفع الإنسان رأسه، بل ينحني بنفسه لتدفن في التراب كما حدث مع صاحب الوزنة الواحدة (مت 25: 18)، عوض أن يرتفع بجسده إلى السماء تنحني نفسه مع شهوات جسده إلى الأرض. ثالثًا: كما أثار الشيطان أربعة قرون ضد أورشليم أرسل الله أربعة صناع، وكأن الله يسند أولاده قدر ما يدخلون في تجارب أو ضيقات، كلما اشتدت حرب الشيطان أرسل بالأكثر عونًا. هذا هو عمل الله عبر العصور، فإذ كان فرعون عنيفًا أرسل الله موسى، وإذ كان آخاب شريرًا أرسل الله إيليا، وعندما ثار أريوس ضد الكنيسة أعدّ الله أثناسيوس الرسولي وهكذا. وما يدور على مستوى كنيسة العهد القديم أو العهد الجديد يتحقق كل يوم في حياة كل واحد منا. رابعًا: يرى بعض الآباء أن القرون الأربعة هي حرب إبليس من كل جانب، هذه التي تقول عنها الرسول بولس: "فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أف 6: 12)، وقد احتاجت الكنيسة إلى الأناجيل الأربعة بكونها الصناع الذين يفسدون عمل إبليس بقرونه الأربعة. حقًا لقد استخدم الشيطان حربًا عنيفة بقرونه الأربعة لكن الأناجيل قدمت لنا صناعة جديدة للغلبة على الشيطان هو طريق الحب والوداعة، فنار إبليس التي يلهب بها قلوب الناس ضد المؤمن إنما يغلبها الحب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن النار لا تُطفأ بالنار بل بالماء، هكذا لا يُقاوم الشر بالشر بل بالخير. والعجيب أنه بالرغم مما أتسم به الصناع الأربعة من وداعة ارتعبت القرون قدامهم، كما ارتعب هيرودس صاحب السلطان أمام القديس يوحنا المعمدان الأعزل (مر 6: 20)، وكما ارتعبت فيلكس الوالي أمام القديس بولس الأسير الواقف للمحاكمة أمامه (أع 24: 25)! قياس أورشليم الجديدة إن كان في الرؤيا الأولى قد ظهر المخلص في الظل يعد طريق الخلاص للمؤمنين، وفي الرؤيا الثانية ظهر إنجيل المسيح كصناع أربعة لتحطيم قوات الشر الروحية، ففي الرؤيا الثالثة يكشف لنا عن خطته للخلاص من السبي الحقيقي بإقامة أورشليم الجديدة الحرة بمقاييس روحية تحمل سمات الساكن فيها "الإله المتجسد". 1. قياس أورشليم ومجدها: 1 فَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا رَجُلٌ وَبِيَدِهِ حَبْلُ قِيَاسٍ. 2 فَقُلْتُ: «إِلَى أَيْنَ أَنْتَ ذَاهِبٌ؟» فَقَالَ لِي: «لأَقِيسَ أُورُشَلِيمَ، لأَرَى كَمْ عَرْضُهَا وَكَمْ طُولُهَا». 3 وَإِذَا بِالْمَلاَكِ الَّذِي كَلَّمَنِي قَدْ خَرَجَ، وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ لِلِقَائِهِ. 4 فَقَالَ لَهُ: «اجْرِ وَكَلِّمْ هذَا الْغُلاَمِ قَائِلًا: كَالأَعْرَاءِ تُسْكَنُ أُورُشَلِيمُ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ فِيهَا. 5 وَأَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ، أَكُونُ لَهَا سُورَ نَارٍ مِنْ حَوْلِهَا، وَأَكُونُ مَجْدًا فِي وَسَطِهَا. يتقدم السيد المسيح نفسه كرجل بيده حبل قياس ليبني بيته فينا بروحه القدوس حتى يكون مطابقًا لبيته السماوي الذي رآه القديس يوحنا المعمدان، أورشليم السماوية (رؤ 11: 1، 2؛ 15: 21 إلخ). يقول النبي "رفعت عيني ونظرت" مكررًا هذه العبارة في أكثر من موضع (زك 1: 18 ؛ 2: 1 ؛ 5: 1 ؛ 6: 1). فإذ يعلن هذا السفر الفكر الإنجيلي الخاص بخلاص العالم لم يكن ممكنًا لزكريا النبي أن يدركه ما لم يرفع الله عينيه الداخلتين بروح النبوة ليرى ويدرك فكر الله من نحو الإنسان. أقول إنها دعوة موجهة إلينا جميعًا أن نرفع أعيننا بالروح القدس حتى لا تقف مداركنا عند حدود الحرف إنما ندخل إلى أسرار الله المخفية ونتطلع إلى أعماله الخلاصية، الأمور التي لا يمكن اختبارها بعينين منطمستين في تراب هذا العالم. رأى "وإذا برجل بيده حبل قياس" [1]. لعل هذا الرجل هو كلمة الله الذي من أجلنا قد صار إنسانًا. إنه ذاك الذي سبق فرآه راكبًا على فرس أحمر واقفًا بَيْنَ الآسِ الَّذِي فِي الظِّلِّ (زك 1: 8)، قد جاء ليخطط مباني كنيسته المقدسة. يقول القديس ديديموس الضرير: [هو الرب المخلص الذي يشير إليه زكريا النبي بقوله: "هُوَذَا الرَّجُلُ «الْغُصْنُ» اسْمُهُ. وَمِنْ مَكَانِهِ يَنْبُتُ وَيَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ" [(زك 6: 12) الترجمة السبعينية]. إنه النور الحقيقي الذي يتحدث عنه يوحنا المعمدان: "هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي" (يو 1: 15). هو باني أورشليم، قد رسم الأساس ووضعه كمهندس معماري. إذ تهدمت أورشليم بواسطة الأعداء الذين حاصروها يقيس طولها وعرضها لكي يضع الأساسات التي تُقام عليها الأسوار في المواضع المناسبة بترتيب وتنسيق. ويكتب القديس بولس الرسول عن هذه المدينة التي كان ينتظرها كل الذين أرضوا الرب بإيمانهم "التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله" (عب 10: 11). كما يقول حزقيال النبي أيضًا: "وإذا برجل منظره كمنظر النحاس وبيده خيط كتان وقصبة القياس وهو واقف بالباب" (حز 40: 3)]. في سفر الرؤيا نرى الهيكل المقدس والمذبح يُقاسان شبه عصا، أما الدار الخارجية فتطرح خارجًا ولا تقاس (رؤ 11: 1، 2)، وكأن ربنا يسوع يود أن يطمئنا أن أولاد الله الحقيقيين الذين تقدسوا له محفوظون ومعروفون لديه أما الذين هم خارج الإيمان فهم خارج القياس لا يستحقون أن يكونوا موضوع معرفته... لهذا يوبخهم قائلًا: "لا أعرفكم من أين أنتم" (لو 13: 27). أما قصبة القياس فذهبية (رؤ 21: 15) أي سماوية، لأن الأمور الروحية والسماوية لا تقاس إلاَّ بما هو روحي. ما هو حبل القياس أو قصبة القياس الروحية التي يمسك بها مهندسنا المعماري لإقامة أورشليم المقدسة إلاَّ الصليب المقدس الذي يتكون من عارضتين: طولية وعرضية؟! بهذا الصليب يحدد أبعاد مدينته المقدسة فينا، قائلًا: "لأقيس أورشليم لأرى كم عرضها وكم طولها" [2]. على عارضة خشبه الصليب العرضية بسط السيد المسيح يديه ليضم بالواحدة اليهود وبالأخرى الأمم ليكون الكل معًا واحد فيه. وكما يقول القديس إيريناؤس: [علق على الشجرة ذاك الذي يجمع الكل فيه]. والبابا أثناسيوس: [كان لائقًا بالرب أن يبسط يديه... حتى يضم بالواحدة الشعب القديم وبالأخرى الأمم ويوحدهما معًا فيه]. هذا هو عرض أورشليم الجديدة، إذ يليق بالمؤمن أن يحمل سمة مخلصه المصلوب فيبسط بالحب يديه ليضم في قلبه كل البشرية إخوة له. أما بالنسبة للخشبة الطولية فسمر عليها جسد الرب المرتفع فوق الأرض، محققًا وعده "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع" (يو 12: 32)، عاملًا المصالحة بين الآب والإنسان في جسده المصلوب. وكما يقول القديس هيبوليتس: [الصليب هو سلم يعقوب؛ هذه الشجرة ذات الأبعاد السماوية ارتفعت من الأرض حتى السماء، أقامت ذاتها غرسًا أبديًا بين السماء والأرض، لكي ترفع المسكونة]. هذا هو طول أورشليم الجديدة حيث يليق بنا أن نُسمر معه على الخشبه لنقبل انفتاح السماء على الأرض وارتفاع الأرض إلى السماء. وكأن أبعاد أورشليمنا الجديدة هي في عارضها اتساع قلبنا لكل إنسان، وطولها هو انفتاحه على السماء، بمعنى آخر هو ممارسة وصية الحب في المسيح يسوع ربنا، حب للبشرية كلها في الله السماوي. يكمل زكريا النبي حديثه بالقول: "وإذا بالملاك الذي كلمني قد خرج، وخرج ملاك آخر للقائه. فقال له: إجرِ وكلم هذا الغلام قائلًا كالأعراء تسكن أورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها. وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها وأكون مجدًا في وسطها" [4-5]. يالها من رؤيا تبهج القلب إذ تكشف عن عمل الله معنا! أولًا: إرساله الملائكة، فيخرج ملاك ووراءه ملاك، أما موضوع حديثهما فهو أورشليمنا، مسكن الله مع الناس. وفي سفر الرؤيا نرى الملائكة في تحرك مستمر معلنين شوقهم لليوم الأخير أو الحصاد (رؤ 14: 15-20)، مشتاقين أن يروا العروس وقد تكللت بالمجد مع عريسها. لعل الملاك الأول يشير إلى السمائيين وقد انتظروا تحقيق النبوات ليفرحوا بخلاص الإنسان ورجوعه إلى شركته معهم في ليتورجياتهم وتسابيحهم الله، أما الملاك الثاني فيُشير إليهم وقد خرجوا في العهد الجديد يفرحون بتحقيق ما سبق لهم انتظاره. ثانيًا: غالبًا ما يقصد بالغلام هنا [4] زكريا النبي أو المؤمن بصفة عامة. فإن كان السيد المسيح قد شارك البشرية فصار جنينًا فطفلًا وصبيًا وشابًا ورجلًا لكنه لم يصر شيخًا حسب الجسد حتى تبقى عروسه دومًا في شباب متجدد روحيًا بلا شيخوخة العجز والضعف، فيترنم كل عضو فيها قائلًا: "وإن كان إنساننا الخارجي يفنى فالدخل يتجدد يومًا فيومًا" (2 كو 4: 16)، "وأما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتبعون، يمشون ولا يعيون" (إش 40: 31)، "يتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5). يقول القديس ديديموس الضرير: [الإنسان القديس في نظر ملائكة الله شاب، خاصة عندما يلبس الإنسان الجديد، فيمكن أن ينطبق عليه القول: "اَلْوَلَدُ أَيْضًا يُعْرَفُ بِأَفْعَالِهِ، هَلْ عَمَلُهُ نَقِيٌّ وَمُسْتَقِيمٌ؟!" (أم 20: 11)... ويقول يوحنا الرسول في رسالته عن الذين يسهمون في الفضيلة: "كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ، لأَنَّكُمْ أَقْوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ اللهِ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَقَدْ غَلَبْتُمُ الشِّرِّيرَ"(1 يو 2: 14). فمن كان شابًا في الروح يتلق تعاليم الملاك الذي يخرج ليكشف له الإعلانات التي نراها في بقية النبوة". ثالثًا: يكشف لنا عن أبعاد الكنيسة الجديدة، قائلًا: "كالأعراء تُسكن أورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها". إنها تصير كالأعراء التي لا يحدها سور مادي بسبب إكتظاظها بالناس والبهائم، إذ هي مدينة الحب الذي بلا حدود. تحمل النفس في داخلها ملكوت الله المتسع بالحب للجميع بفرح داخلي مجيد. أما اكتظاظها بالناس والبهائم فتشير إلى تقديس النفس بطاقات غير محدودة وتقديس الجسد الذي كان حيوانيًا بإمكانيات جديدة بغير حدود. وكأن أورشليمنا الداخلية تتسع لكل إنسان، خلال تقديس النفس والجسد معًا بكل إمكانياتهما ومواهبهما. رابعًا: إن كانت أورشليمنا الداخلية كالأعراء لا تحدها أسوار مادية، لكن لها سور فريد. "وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها" [5]. هذا هو السور الناري أرسله لنا الابن الوحيد الجنس من عند الآب بعد صعوده، فحلّ على التلاميذ على شكل ألسنة نارية في يوم العنصرة ليحوط الكنيسة من كل جانب يحفظها من كل سهم شرير ويلهبها بحرارة الروح المستمر. لهذا يسبح المؤمن قائلًا: "بإلهي تسوّرت أسوارًا" (مز 18: 29)، "الرب حصن حياتي" (مز 27: 1) وكما يقول القديس جيروم: [لقد حاصرني الأعداء فأنت إذن حصني.] لقد صوب الأعداء سهامهم النارية نحو قلبي، لكن النار الإلهية تحوط بيَّ كسور لتلتهم نار الشر وتبيدها كما التهمت عصا موسى التي صارت حيَّة حيات السحرة! هكذا عوض نار الشر القاتلة يلتهب بالنار الإلهية المقدسة. الله سور نار حولنا يلهب قلبنا بنار الحب فلا نصير كمن قيل عنهم "تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12). إذن بهذا السور الإلهي لا يطمع العدو فينا قائلًا: "إني أصعد على أرض أعراء، آتي الهادئين الساكنين في أمن، كلهم ساكنون بغير سور وليس لهم عارضة ولا مصاريع، لسلب السلب ولغنم الغنيمة..." (حز 38: 11-12). خامسًا: يقول الرب "وأكون مجدًا في وسطها" [5]. إن كان السيد المسيح هو اللؤلؤة الكثيرة الثمن التي نقتنيها فينا، فبنيرانه الإلهية المحيطة بنا لا يقدر أحد أن يتفرس في هذه اللؤلؤة المتلألئة داخلنا من أجل جمالها الفائق وإشعاعاتها التي لا يمكن التطلع إليها. يصير بهاؤه بهاءنا، ومجده لحسابنا، قائلًا لنا كما لعروسه: "وجملت جدًا جدًا فصلحت لمملكة، وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملًا ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب" (حز 16: 13-14). 2. هروبها من بابل: 6 «يَا يَا، اهْرُبُوا مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَإِنِّي قَدْ فَرَّقْتُكُمْ كَرِيَاحِ السَّمَاءِ الأَرْبَعِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 7 تَنَجَّيْ يَا صِهْيَوْنُ السَّاكِنَةُ فِي بِنْتِ بَابِلَ، 8 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: بَعْدَ الْمَجْدِ أَرْسَلَنِي إِلَى الأُمَمِ الَّذِينَ سَلَبُوكُمْ، لأَنَّهُ مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ. 9 لأَنِّي هأَنَذَا أُحَرِّكُ يَدِي عَلَيْهِمْ فَيَكُونُونَ سَلَبًا لِعَبِيدِهِمْ. فَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ أَرْسَلَنِي. إن كان الله قد قام بنفسه بقياس المدينة وأحاطها بروحه القدوس سور نار وتجلى في داخلها بمجده، هذا كله يدفعها بالأكثر إلى الجهاد هاربة من كل عثرة حتى لا تفقد عمل الله فيها. لهذا يناديها "يا يا اهربوا من أرض الشمال" [6]. من الجانب التاريخي الحرفي، هي دعوة إلهية للذين تمسكوا بأرض السبي بسبب مصالحهم الخاصة، لذا يدعوهم بالهروب من بابل "أرض الشمال" إلى أرض الموعد؛ وهنا لا يذكر اسمًا أو لقبًا لهم، لأنهم بسبب تمسكهم بالحياة الذليلة صاروا غير مستحقين لمعرفة الله بل يُدعون "يا يا" كمن هم مجهولين! ولكن من الجانب الروحي فالدعوة قائمة ومستمرة عبر العصور لكل إنسان. أما تكراره حرف النداء "يا" فلأن الدعوة موجهه إلى اليهود كما إلى الأمم أن يتركوا أرض السبي الشيطاني حيث تهب ريح الشمال الباردة (حكمة يشوع 43: 20) تطفئ لهيب الحب في القلب، ويذهبوا لا إلى أرض أخرى بل إلى السماء الروح خلال نيران الروح القدس الذي يرفعها عن أرض الشمال وينطلق بها من مجد إلى مجد ليدخل بها إلى حضن الآب في المسيح يسوع ربنا! إنها دعوة مكررة تضم الغني كما الفقير، الرجل كما المرأة ليتركوا أرض الشر وترابه ووحله ويعودوا بالروح القدس إلى المقدسات الإلهية. هذه الدعوة كما يقول القديس ديديموس الضرير معناها: ["اهربوا من الشر"، "حد عن الشر واصنع الخير" (مز 34: 14) ، وأيضًا: "اِغْتَسِلُوا. تَنَقَّوْا. اعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ" (إش 1: 16)]. الأمر الذي يتحقق بامتناعنا عن كل أنواع الشر والتمسك بما هو ممدوح كوصية الرسول بولس:" امتحنوا كل شيء وتمسكوا بالحسن، امتنعوا عن كل شبه شر" (1 تس 5: 21-22). فإن من يتطلع إلى الخير راغبًا فيه ومكملًا إياه يهرب من الشر". إن كان الله قد سمح بتفريقهم كرياح السماء الأربع بسبب شرهم، فإنه يدعوهم بترك مواضعهم والانطلاق إلى صهيون لتمتع بالنجاه (الخلاص)، قائلًا: "فَإِنِّي قَدْ فَرَّقْتُكُمْ كَرِيَاحِ السَّمَاءِ الأَرْبَعِ، يَقُولُ الرَّبُّ. تَنَجَّيْ يَا صِهْيَوْنُ السَّاكِنَةُ فِي بِنْتِ بَابِلَ" [6-7]. ويلاحظ في حديثه هنا الآتي: أولًا: الله يُريدنا أن ننطلق من بابل التي تعني البلبلة والاضطراب لندخل صهيون حيث السلام الداخلي وحياة الفرح والتسبيح. ويقول القديس ديديموس: [مكان الخلاص، هو صهيون المقدسة فيها يمكن أن يخلص من كانوا يسكنوا في بنت بابل سابقًا... وكما أن اسم "بابل" يعني (بلبلة) فكل روحه مضطربة فهو بابلي، لذا يلزمنا أن نتخلص من هذا الحال إن كنا نرغب في الرجوع إلى صهيون، عندئذ ننشد التسابيح ونضرب على القيثارات تكريمًا لله، فهناك يليق بنا أن نرتل الله ونعزف له، كما هو مكتوب: "لَكَ يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ يَا اَللهُ فِي صِهْيَوْنَ، وَلَكَ يُوفَى النَّذْرُ" (مز 65: 1)، وأيضًا: "رنموا للرب الساكن في صهيون، اخبروا بين الشعوب بأفعاله" (مز 9: 11). يستحيل علينا أن نسبح الله ونعزف له ونحن قاطنون في بنت بابل في الشمال، لهذا يصرخ الروح القدس بملء الصوت: يايا اهربوا من أرض الشمال يقول الرب، لتحتموا في صهيون يا سكان بنت بابل فإني أجمعكم من الأربع رياح، أي من أقاصي الأرض كلها]. إذن لنهرب من بلبلة الخطية ونلجأ إلى سلام صهيون حيث الحصن الإلهي فترتفع النفس لتوجد في بر الله تنعم بسلام الحق. وكما يقول القديس جيروم: [مادمنا في حالة النعمة تكون نفسنا في سلام، لكن إذ نبدأ باللعب مع الخطية تصير نفسنا في اضطراب كقارب تلطمه الأمواج]. ثانيًا: ما هي الرياح الأربع التي سمح الله بها لتفريقهم عن أورشليم إلاَّ الأرواح الشريرة التي يسمح الله أن يتركها لتأديب من يسلم نفسه بنفسه لها. لا نعجب من هذا فقد حكم الرسول بولس على الشاب الذي أخطأ مع امرأة أبيه "أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 5). فإن كانت محبة الله تحمينا من سلطان الشرير، لكن عنايته أحيانًا تسمح بتسليمنا لمرارة هذا العدو الذي سلمنا أنفسنا بأنفسنا له وقبلناه أبًا لنا عوض الله أبينا (يو 8: 44)، عندئذ ندرك في مرارة حاجتنا إلى أبوة الله الحقة. وربما يقصد بالرياح هنا التعاليم الغريبة التي تهز النفس لتقصفها، هذه التي لم تستطع أن تؤثر على القديس يوحنا المعمدان، إذ يقول عنه السيد المسيح: "ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا، أقصبة تحركها الريح" (مت 11: 7). وكما يعلق القديس هيلارى أسقف بواتيية: [هل ذهبتم لتنظروا إنسانًا فارغًا من معرفة الله، يستجيب لنسمات كل روح دنس؟]. وكما يعلق القديس أغسطينوس: [بالتأكيد لم يكن يوحنا قصبة تحركها الريح، لأنه لم يكن محمولًا بكل ريح تعليم]. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [(الرياح الأربعة) يمكن أن تكون التيارات المختلفة للتعاليم، هذه التي تجعل السالكين بغير لياقة في الفكر، فتكون لهم أفكار شريرة وأعمال باطلة، يتأرجحون هنا وهناك. يقول الرسول بولس: "كي لا نكون في ما بعد أطفالًا مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال" (أف 4: 14)]. وربما يقصد بالرياح الأربعة: التجارب والضيقات التي تُجَرِّف النفوس المبنيَّة على الرمل لا الصخر وتحطمها. ولعل الرياح الأربعة أيضًا تشير إلى محبة العالم وشهوات الجسد التي تهتز النفس، إذ رأينا أن رقم (4) يشير إلى هذه الأمور في تفسيرنا للقرون الأربعة. ثالثًا: لا يكفي الهروب من بابل بل يلزمنا الهروب إلى صهيون، بمعنى أنه لا يكفي الهروب من بلبلة الشر بل يليق بنا التحصن (صهيون) في بر المسيح ربنا. ففي إيجابية العمل يقول القديس بولس: "بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلى الله ديان الجميع وإلى أرواح أبرار مكملين وإلى وسيط العهد الجديد يسوع وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل" (عب 12: 22-24). هكذا ينطلق بنا ربنا يسوع بدمه من الشر ليدخل بنا إلى صهيون فنحيا على مستوى سماوي. أخيرًا، إذ يردنا الرب من سبينا الشيطاني ويدخل بنا إلى ملكوته الإلهي يعود فيعاقب إبليس الذي أذلنا، إذ يقول: "بَعْدَ الْمَجْدِ أَرْسَلَنِي إِلَى الأُمَمِ الَّذِينَ سَلَبُوكُمْ، لأَنَّهُ مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ. لأَنِّي هأَنَذَا أُحَرِّكُ يَدِي عَلَيْهِمْ فَيَكُونُونَ سَلَبًا لِعَبِيدِهِمْ. فَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ أَرْسَلَنِي" [8-9]. في دراستنا لبعض كتب الأنبياء لاحظنا أن الله الذي يستخدم الأمم للتأديب إذ تنتفخ الأمم على شعبه يعود فيعاقب هذه الأمم. هنا يقول "بعد المجد"، ربما قصد بعد الصليب حيث رد الإنسان عن السبي فتمجد الله فيه، وفي نفس الوقت ردّ لإبليس شره بتحطيم سلطانه. العدو الذي أذل أولاد الله وسلبهم صار بالمسيح يسوع تحت المذلة بلا سلطان عليهم (كو 2: 14-15). ماذا تعني "يمس حدقة عينه" إبليس الذي مدّ يده ألينا وأفقدنا بصيرتنا الروحية يرتد عمله عليه فيزداد عماه يومًا فيوم، وكأنه بشره المتزايد يمس حدقة عينه حتى يمتلئ كأس عماه! وما نقول عن إبليس نقوله عن الإنسان، فبصنعه الشر لأخيه إنما يمس حدقة عيني نفسه فيفقد البصيرة الروحية، وكأنه فيما هو يؤذي جسد أخيه أو ممتلكاته أو سمعته إذا به يصوب ضرباته على عيني نفسه الداخليتين. لا يرتد الشر عن فقدان البصيرة الداخلية فحسب وإنما أيضًا يمس كل كيانه بقول الرب: "يكونون سلبًا لعبيدهم" ففيما يظن أنه يحطم أخواته إذا بعبيده يسلبونه هو. من هم هؤلاء العبيد إلاَّ أحاسيس الجسد وعواطفه التي تصير بلا ضابط بسبب شره فتفقده كل بركة فيه. هذا ما نلاحظه عمليًا حينما نثور على إخوتنا تثور فينا شهوات الجسد داخلنا ونفقد كل عفة وانضباط، لأنه بثورتنا على إخوتنا نفقد سيطرتنا على أعماقنا وتتخلى نعمة الله الواهبة العفة والطهارة! 10 «تَرَنَّمِي وَافْرَحِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ، لأَنِّي هأَنَذَا آتِي وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 11 فَيَتَّصِلُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ بِالرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا فَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ، فَتَعْلَمِينَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ. 12 وَالرَّبُّ يَرِثُ يَهُوذَا نَصِيبَهُ فِي الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَيَخْتَارُ أُورُشَلِيمَ بَعْدُ. 13 اُسْكُتُوا يَا كُلَّ الْبَشَرِ قُدَّامَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ مِنْ مَسْكَنِ قُدْسِهِ». إن كانت هذه الرؤيا تملأ النفس بهجة حيث يظهر السيد المسيح كرجل بيده حبل قياس ليقيس فينا أورشليمه السماوية الجديدة فإن سر الفرح الحقيقي سكناه فيها، إذ يقول: "ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هأنذا آتي وأسكن في وسطكِ يقول الرب" [10]. يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [إن سمة الخطية الاضطراب والغم أما سمة بر المسيح فهي السلام الداخلي والفرح. هكذا علق اليهود قيثارتهم على الصفصاف في أرض السبي إذ ملأ الغم حياتهم قائلين: "كيف نسبح تسبحة الرب في أرض غريبة؟!" (مز 136). وبعودتهم إلى صهيون عاد إليهم الفرح وتحولت حياتهم إلى تسبيح. يقول القديس ديديموس الضرير: [كما أنه في زمن السبي كان النحيب والأنين عند العبرانيين لأن الرب قد ابتعد عن المسببين هكذا عند عودتهم إلى الأم الروحية المدعوة صهيون يهبهم أمرًا بالترنم والفرح (ترنمي وأفرحي)، لأن الرب أتى وسكن في وسطها، فقد أقيم الهيكل فعلًا وجعل الله مسكنه فيه... يتمتع المسبيون المخلصون بهذا الأمان، فيقولون: "عندما ردّ الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين، حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكًا وألسنتنا ترنمًا" (مز 126: 1-2)... كانوا يئنون عندما تفرقوا عن وطنهم في قيود السبي فمن الطبيعي يتهللون ويفرحون عندما يرجعون لأن الرب ينبوع الفرح والتهليل قد سكن في وسطهم]. ويرى القديس أغسطينوس أن التسبيح هنا لا يكون باللسان فقط وإنما بحياة الإنسان كلها. ولا يقف الفرح عند الإنسان الراجع من السبي، وإنما يمتد إلى إخوته الذين يجتذبهم معه إلى ملكوت الفرح، إذ يقول النبي: "فيتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم ويكونون ليّ شعبًا فأسكن في وسطك" [11]. هنا يتحدث عن رجوع الأمم إلى الإيمان وتمتعهم مع إخوتهم المؤمنين من اليهود بسكنى الله في وسطها. ولئلا يظن اليهود أنه بهذا أغلق باب الإيمان في وجههم أكدّ لهم: "والرب يرث يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد". فإن صاروا يهوذا الجديد بانتسابهم للخارج من سبط يهوذا وإن صاروا أورشليم الجديدة يصيرون ميراث الرب وموضع اختياره الإلهي. هذا العمل يبدو مستحيلًا في أعين الكل، كيف ينفتح الباب لكل الأمم وينعمون بسكنى الرب في وسطهم، لهذا يقول: "اسكنوا يا كل البشر قدام الرب، لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه" [14]. ليصمت كل لسان بشري بخوف ورعدة، فإن الله الذي أعلن رعايته للبشرية كلها عبر الأجيال يصنع عجبًا بفتح باب الإيمان للأمم حتى يبدو كمن استيقظ ليقيم البشرية من نومها! يهوشع الكاهن العظيم لكي يتحقق فرح بنت صهيون ظهر ربنا يسوع نفسه (يهوشع) رئيس كهنة في هيكله يحمل عنا ثيابنا القذرة، ثياب السبي، ليهبنا نفسه لباس البر وعمامة (تاجًا) طاهرة. 1. يهوشع والشيطان: "1 وَأَرَانِي يَهُوشَعَ الْكَاهِنَ الْعَظِيمَ قَائِمًا قُدَّامَ مَلاَكِ الرَّبِّ، وَالشَّيْطَانُ قَائِمٌ عَنْ يَمِينِهِ لِيُقَاوِمَهُ. 2 فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ يَا شَيْطَانُ! لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ الَّذِي اخْتَارَ أُورُشَلِيمَ! أَفَلَيْسَ هذَا شُعْلَةً مُنْتَشَلَةً مِنَ النَّارِ؟!»" [1-2]. ماذا تعني هذه الرؤيا؟ كان رئيس الكهنة رمزًا لخدمة الهيكل، وبسبيه إلى بابل ظهر تحطيم كل خدمة الهيكل. لكن وراء هذا تكمن عداوة خفية ليست بين بابل ورئيس الكهنة، وإنما بين إبليس والله. لقد وقف الشيطان عن يمين يهوشع ليقاومه ولكن يهوشع يدرك أن الحرب إنما هي ضد الله نفسه، لذا قال: "لينتهرك الرب". "لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم"، ليس عن فضل من جانبها أو برّ فيها من ذاتها، ولا لأنها لاقت مرارة السبي وإنما لأن الله في محبته اختارها. وكما أكد السيد المسيح لتلاميذه: "ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم" (يو 15: 16). إنه يغير علينا من أجل محبته لنا، خاصة وهو يرى الشيطان "شعلة منتشلة من النار"، عمله أن يلقي بذاته فينا ليجعل منا أتون لا ينطفئ. من هو يهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم؟ يرى الآباء في يهوشع رمزًا ليسوع المسيح الكاهن الأعظم وأسقف نفوسنا. فإن كلمة "يسوع" مختصرة عن يهوشع أي "يهو خلاص"، أما "يهو صادق" فتعني "الله بر". فقد جاءنا ربنا يسوع بكونه الله مخلصنا وبرنا، جاء يحمل طبيعتنا فلم يدرك الشيطان حقيقته بل تشكك في أمره خاصة أنه جاع وعطش وتألم... فوقف عن يمينه ليقاومه، فغلبه الرب وانتصر عليه لحسابنا. لقد حارب السيد المسيح الشيطان الذي هو "شعلة منتشلة من النار"، الشعلة المهلكة التي اختارها البشر لأنفسهم فألهبتهم بنار الشهوات المميتة. وكما يقول القديس أكليمندس السكندري: [لماذا يهرب الناس إلى هذه الشعلة المميتة فيموتون بها بينما في إمكانهم أن يعيشوا مكرمين في الله؟!]. ويرى القديس ديديموس الضرير أن الشيطان شعلة منتشلة من النار، كان يمكن لله أن يتركها تحترق دون أن ينتشلها، لكنه لم يسمح بعقابه كل العقاب حاليًا إنما انتشله ليستخدمه في أغراضه الإلهية دون أن يثمر الشيطان كالغصن الذي أصابته النار فلا تعود إليه الحياة. يستخدمه الرب أداة ليتمجد فيه بنصرة أولاده عليه. 2. يهوشع والعمامة الطاهرة: 3 وَكَانَ يَهُوشَعُ لاَبِسًا ثِيَابًا قَذِرَةً وَوَاقِفًا قُدَّامَ الْمَلاَكِ. 4 فَأَجَابَ وَكَلَّمَ الْوَاقِفِينَ قُدَّامَهُ قَائِلًا: «انْزِعُوا عَنْهُ الثِّيَابَ الْقَذِرَةَ». وَقَالَ لَهُ: «انْظُرْ. قَدْ أَذْهَبْتُ عَنْكَ إِثْمَكَ، وَأُلْبِسُكَ ثِيَابًا مُزَخْرَفَةً». 5 فَقُلْتُ: «لِيَضَعُوا عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةً طَاهِرَةً». فَوَضَعُوا عَلَى رَأْسِهِ الْعِمَامَةَ الطَّاهِرَةَ، وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابًا وَمَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفٌ. لا نعجب إن كان يهوشع قد ظهر لابسًا ثيابًا قذرة وظهر واقفًا قدام الملاك ليسمع الأمر الصادر: انزعوا عنه الثياب القذرة، فإن يهوشع يرمز ليسوع المسيح، كلمة الله المتجسد الذي حمل ثيابنا القذرة لكي بصليبه تُنزع عنا خطايانا لنحمل بره ونكلل. يقول القديس جيروم: [إن السيد حمل هذه الثياب فأعطى الفرصة للعدو أن يقف أمامه ليقاومه؛ إذ لبس خطايانا ففي ذلك يكون مقاومًا له]. يقول القديس ديديموس الضرير: [بعد أن نزعوا عنه الثياب القذرة وضعوا على رأسه العمامة الطاهرة وألبسوه ثيابًا. فمن أجل إعادة تأسيس المدينة والهيكل وبنائهما يرتدي رئيس المأسورين الذي أُعتقوا ثياب الخلاص ورداء البر، فيقول: "تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، وكساني رداء البر" (إش 61: 10). تُلقى عنه الثياب القذرة إذ يجب ألاَّ يحزن بعد بل يفرح ويتهلل بخلاص الذين تحملوا الأسر ولكن من هم الذين صدر إليهم الأمر بنزع ثياب الحزن عنه والتي وُصفت أنها قذرة..؟. يمكن القول أنهم الملائكة اللذين يحيطون بخائفى الله يحموهم ويمنعوهم من الشعور بالهم والحزن اللذين تقدمهما تجارب الحياة]. قيل ليهوشع: "قد أذهبت عنك إثمك وألبسك ثيابًا مزخرفة" [3-4]. كيف يقال له: "قد أذهبت عنك إثمك؟" يقول معلمنا بولس الرسول: "جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو 5: 21)، "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب: ملعون كل من عُلق على خشبه، لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح" (غل 3: 13-14). كأنه حمل مالنا من خطايا لكي بالصليب ينزعها فنحمل بره. أما الثوب المزخرفة الذي لبسه السيد عوض الثياب القذرة إنما يُشير إلى كنيسته المزخرفة بمواهب متعددة، وكأنها القميص الملون الذي أهداه يعقوب لابنه يوسف. كل واحد منا يمثل خيطًا في هذا الثوب، لو أُنتزع يفقد الثوب جماله ومتانته. هذا هو الثوب الذي يتجلى فيه السيد فيصير ناصعًا كالنور (مت 17: 2). وكما يقول القديس أغسطينوس: [ثيابه هي الكنيسة، لأنه إن لم يمسكها من يرتديها تسقط، في هذا الثوب كان بولس كما لو كان هدبًا، إذ قال عنه نفسه: "لأني أصغر الرسل" (1 كو 15: 9)... لذلك فإن المرأة التي كانت تعاني من نزف الدم إذ لمست هدب ثوب السيد المسيح برئت. هكذا الكنيسة التي جاءت من الأمم صارت صحيحة خلال تعاليم بولس الرسول]. ويرى القديس غريغوريوس أسقف نيصصأن خلع الثياب القذرة وارتداء الثوب المزخرف يُشير إلى خلع إنساننا القديم وتمتعنا بالإنسان الجديد خلال مياه المعمودية، إذ يقول: [بهذا نتعلم بطريقة رمزية أنه في عماد السيد المسيح إذ نخلع خطايانا كثوب فقير وقذر ونلبس ثوب التجديد المقدس اللائق جدًا]. أما العمامة الطاهرة فهي التاج الذي نكلل به في الرب القدوس. 3. يهوشع العامل في بيت الرب: 6 فَأَشْهَدَ مَلاَكُ الرَّبِّ عَلَى يَهُوشَعَ قَائِلًا: 7 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنْ سَلَكْتَ فِي طُرُقِي، وَإِنْ حَفِظْتَ شَعَائِرِي، فَأَنْتَ أَيْضًا تَدِينُ بَيْتِي، وَتُحَافِظُ أَيْضًا عَلَى دِيَارِي، وَأُعْطِيكَ مَسَالِكَ بَيْنَ هؤُلاَءِ الْوَاقِفِينَ. 8 فَاسْمَعْ يَا يَهُوشَعُ الْكَاهِنُ الْعَظِيمُ أَنْتَ وَرُفَقَاؤُكَ الْجَالِسُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّهُمْ رِجَالُ آيَةٍ، لأَنِّي هأَنَذَا آتِي بِعَبْدِي «الْغُصْنِ». 9 فَهُوَذَا الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعْتُهُ قُدَّامَ يَهُوشَعَ عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ سَبْعُ أَعْيُنٍ. هأَنَذَا نَاقِشٌ نَقْشَهُ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، وَأُزِيلُ إِثْمَ تِلْكَ الأَرْضِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. 10 فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، يُنَادِي كُلُّ إِنْسَانٍ قَرِيبَهُ تَحْتَ الْكَرْمَةِ وَتَحْتَ التِّينَةِ». صارت الوصية المقدمة إلينا موجهة إلى رأسنا وكاهننا الأعظم يسوع المسيح: "هكذا قال رب الجنود إن سلكت في طرقي وإن حفظت شعائري فأنت أيضًا تدين بيتي وتحافظ أيضًا على دياري وأعطيك مسالك بين هؤلاء الواقفين" [7]. أما سر تقديم الوصية إليه فهو أننا لن نستطيع تنفيذها إلاَّ من خلاله ولا يمكننا تحقيق شعائر الله بدون عمله فينا. إن كانت الكنيسة هي بيت الله فربنا يسوع هو الذي يدين الكنيسة، يسند القائمين ويقيم الساقطين، بهذا يكون أولاده واقفين أي قائمين فيه، ويجد هو لنفسه مسلكًا بينهم. أخيرًا يختم هذه الرؤيا بالكشف عن شخص هذا الكاهن العظيم: "لأني هأنذا آتي بعبدي الغصن، الشرق اسمه، فهوذا الحجر الذي وضعته قدام يهوشع على حجر واحد سبع أعين، هأنذا ناقش نقشه يقول رب الجنود يُنادي كل إنسان قريبه تحت الكرمة وتحت التينة" [8-15]. يمكننا أن نلخص حديثه هنا عن شخص ربنا يسوع المسيح بالآتي: أولًا: يدعوه: عبدي، الغصن، الشرق، الحجر، كل لقب يكمل بقية الألقاب. فخلال التجسد صار عبدًا إذ "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس" (في 2: 6-7). وبانتسابه لداود الملك خرج كغصن وهو خالق الكرمة (أش 11: 1-2)، أما دعوته بالشرق فبكونه شمس البرّ الذي يضيء على الجالسين في الظلمة. وأخيرًا دُعي بالحجر إذ رفضه البناءون فصار حجر الزاوية يضم اليهود والأمم معًا في المبنى الروحي السماوي الذي قال عنه الرسول: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف 2: 20). ثانيًا: يقول: "أزيل إثم تلك الأرض في يوم واحد" الذي هو ظهور ربنا يسوع المسيح بكونه الشمس التي أشرقت علينا بلا غروب، فحولت ليلنا إلى نهارًا بلا ليل، فيه نزعت آثامنا بالصليب. ثالثًا: في ذلك اليوم، يوم الصليب، ارتبطنا معًا "فيُنادي كل إنسان قريبه تحت التينة" أي ارتباطنا فيه بالحب خلال كنيسته الكرمة المقدسة والتينة المثمرة. في دراستنا لسفر هوشع رأينا كيف تُشير الكرمة إلى الكنيسة المتألمة التي تجتاز المعصرة مع عريسها، والتينة إلى وحدة الروح القدس الذي يُشار إليه بغلاف التين الذي يضم في داخله بذار كثيرة لا قيمة لها إلاَّ من خلال وحدة الروح. المنارة الذهبية بعد أن كشف عن دور السيد المسيح الكهنوتي وعمله الخلاصي يبرز دور روحه القدوس في استنارة كنيسته. في الأصحاح السابق كان يشجع يهوشع الكاهن العظيم للعمل أما هنا فيسند زربابل الحاكم للعمل بروح الله وليس بذراع بشري. 1. إيقاظ النبي: "فَرَجَعَ الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي وَأَيْقَظَنِي كَرَجُل أُوقِظَ مِنْ نَوْمِهِ." [1]. لعل نوم زكريا النبي يكشف عن ضيقة نفس زربابل الذي وجد مقاومة من الخارج والداخل وإذ لم يستطع زكريا النبي على مساندته نام. لعله بهذا قام بنفس الدور الذي قام به التلاميذ في البستان إذ لم يحتملوا الأحداث من مجرد السماع عنها فناموا وجاءهم السيد يعاتبهم مخاطبًا بطرس الرسول: "أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟! اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (مر 14: 37-38). 2. المنارة الذهبية: 2 وَقَالَ لِي: «مَاذَا تَرَى؟» فَقُلْتُ: «قَدْ نَظَرْتُ وَإِذَا بِمَنَارَةٍ كُلُّهَا ذَهَبٌ، وَكُوزُهَا عَلَى رَأْسِهَا، وَسَبْعَةُ سُرُجٍ عَلَيْهَا، وَسَبْعُ أَنَابِيبَ لِلسُّرْجِ الَّتِي عَلَى رَأْسِهَا. 3 وَعِنْدَهَا زَيْتُونَتَانِ، إِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِ الْكُوزِ، وَالأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ». 4 فَأَجَبْتُ وَقُلْتُ لِلْمَلاَكِ الَّذِي كَلَّمَنِي قَائِلًا: «مَا هذِهِ يَا سَيِّدِي؟» 5 فَأَجَابَ الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي وَقَالَ لِي: «أَمَا تَعْلَمُ مَا هذِهِ؟» فَقُلْتُ: «لاَ يَا سَيِّدِي». 6 فَأَجَابَ وَكَلَّمَنِي قَائِلًا: «هذِهِ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَرُبَّابِلَ قَائِلًا: لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. 7 مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الْجَبَلُ الْعَظِيمُ؟ أَمَامَ زَرُبَّابِلَ تَصِيرُ سَهْلًا! فَيُخْرِجُ حَجَرَ الزَّاوِيَةِ بَيْنَ الْهَاتِفِينَ: كَرَامَةً، كَرَامَةً لَهُ». إذ كان البيت يُعاد بناءه على يديّ زربابل كان فكر النبي وجميع الأمناء في خدمة الرب قد حلّق سابحًا في مجد هذا البيت وما يحويه من أثاثات خاصة الذهبية التي أمر الرب موسى أن يعدها من بينها المنارة الذهبية ذات السرج السبع. وفي هذه الرؤيا سحب الله قلب النبي ليرى عودة المنارة الذهبية التي تمثل استنارة الهيكل بزيت النعمة الإلهية وعمل الروح القدس. لكن هذه المنارة اختلفت في بعض تفاصيلها عن المنارة التقليدية (خر 37: 17-24)، وقد أحاط بها هنا زيتونتان، أحداهما عن يمين كوز المنارة والأخرى عن يسارها. ويلاحظ في هذه المنارة الآتي: أولًا: المنارة ذهبية، أي سماوية روحية، ترمز للكنيسة (رؤ 1: 20) وقد حملت السمة السماوية، فتحتاج إلى عريسها السماوي نفسه معينًا لها ومحافظًا عليها. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [عندما يقول أن المنارة كلها ذهب [2] يظهر لنا أن المنارة المشتملة بالنور بكليتها هي منارة روحية لا مادية. هذه المنارة الذهبية تمثل مسكن الله وهيكله كما هو مكتوب في سفر الرؤيا: "سر السبعة الكواكب التي رأيت على يميني والسبع المناير الذهبية، السبعة الكواكب هي ملائكة السبع كنائس والمناير السبع التي رأيتها هي السبع الكنائس" (رؤ 1: 20)]. ثانيًا: يقول: "كوزها على رأسها". كأن هذه المنارة تمثل الكنيسة المستنيرة بالروح القدس والتي يشبهها السيد المسيح بخمس عذارى حكيمات حملن زيتًا في آنيتهن، خرجن لاستقبال العريس (مت 25). يرى القديس أغسطينوس في هذا الزيت المحبة لله والقريب، التي يسكبها الروح القدس بفيض فينا. فمن كان فيه محبة الله حمل النور الإلهي وتمتع بالملكوت، أما من فقد المحبة فيصير في الظلمة ولا يقدر على معاينة الله. ثالثًا: "وسبعة سرج عليها وسبع أنابيب للسرج التي على رأسها" [2]. يقول القديس ديديموس الضرير: [كما أن الكوز فوق المنارة كذلك تظهر السبعة سرج فوقه، فيكون النور مضاعفًا سبع مرات، لأنه كما أن المعرفة الكاملة النورانية قد شُبهت بسبعة أعين [9]، وكما تحمل السبعة أعمدة مسكن الحكمة: "الحكمة بنت بيتها نحتت أعمدتها السبعة" (أم 9: 1) هكذا تحمل المنارة سبعة سرج. والمنارة تمثل الرب المخلص إذ كلها ذهب، لأن الرب "لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر" (1 بط 2: 22)، ويستقر عليه مثل سبعة سرج: روح الحكمة والفهم، روح المشورة الإلهية والقوة والمعرفة والتقوى ومخافة الرب (أش 11: 2)]. والكنيسة أيضًا إذ تحمل سمات عريسها وتتمتع ببره تصير منارة ذهبية لا دنس فيها ولا غضن (أف 5: 27)، نورها ليس من عندياتها إنما هو نور عريسها "شمس البر" الذي يشرق بلا غروب، هذا الذي أرسل إليها روحه القدوس ينيرها وسط العالم. أما الأنابيب السبع فهي وسائط الخلاص التي يعمل خلالها الروح القدس في الكنيسة خاصة الأسرار السبعة. هذا هو جوهر الرؤيا: تأكيد عمل الروح القدس في الكنيسة، إذ يقول: "لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود. من أنت أيها الجبل العظيم؟! أمام زربابل تصير سهلًا" [6-7]. من الجانب التاريخي كانت المقاومة ضد زربابل تمثل جبلًا عظيمًا لا يمكن لذراع بشري أن يحركه حتى تشكك زربابل في إتمام العمل لكن الرب أكد له أنه سيتمم العمل بنفسه [8]. لقد حوّل الله هذا الجبل العظيم أمامه إلى سهل. أما من الجانب الروحي فكان التلاميذ أيضًا في حاجة إلى الروح القدس ليتحول جبل الكرازة العظيم إلى سهل، إذ قال لهم الرب: "لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون ليّ شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع 1: 4-8). إن جاز لنا القول بأن الكرازة بالمصلوب بين اليهود كانت عثرة وجهالة (1 كو 1: 23)، وكأنه جبل عظيم فبالروح القدس صار هذا الجبل سهلًا أمام الرسل والتلاميذ. لذلك يكمل الرب حديثه: "فيخرج حجر الزاوية بين الهاتفين كرامة كرامة له" [7]. كأن عمل الروح القدس فيهم هو الشهادة للسيد المسيح حجر الزاوية الذي ربط اليهود والأمم معًا فيه وصار الكل يهتف "كرامة كرامة له". أما تكرار كلمة "كرامة" فتُشير إلى الشعب الذي من أصلين يهودي وأممي، كما تُشير إلى طبيعة الحب التي للشعب الجديد إذ يرى القديس أغسطينوس أن رقم 2 يشير للحب، فلا يقدر أحد أن يشهد للمصلوب ويمجده إن لم يحمل فيه هذه الطبيعة المُحبة. يقول القديس ديديموس الضرير: [بخلاف التفسير الذي عرضناه هناك وجهة نظر أخرى تقول أن الجبل يرمز إلى العذراء مريم، والحجر الخارج منه يرمز إلى المسيح الذي ولدته بلا زواج، ويعلمنا دانيال النبي هذه الأسرار، إذ يقول: "كنت تنظر إلى أن قُطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقها" (دا 2: 34).يقول أن الحجر الذي يضرب الممالك المختلفة والتمثال الذي كوّنته قد قُطع من الجبل دون معونة الأيدي، يُعمل بدون عمل الوالدين... والمسيح وحده هو الذي وُلد من عذراء. أمام زربابل قطع الحجر من الجبل بدون معونة الأيدي]. إن كان هذا الجبل العظيم هو السيدة العذراء التي حملت السيد المسيح بدون زرع بشر، الأمر الذي كان يبدو مستحيلًا فتحقق ؛ فإنه يُشير أيضًا إلى النفس التي تحمل في داخلها السيد المسيح روحيًا، وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [خلال الروح يتشكل المسيح فينا ويطبع سماته علينا، وهكذا يصير جمال لاهوته حيًا في طبيعة الإنسان من جديد]. رابعًا: "وعندها زيتونتان إحداهما عن يمين الكوز والآخر عن يساره" [3]. لعل هاتين الزيتونتين تشيران إلى زربابل ويهوشع الممسوحين لإعادة بناء الهيكل، إذ هما "ابنا الزيت" [14]. إحداهما يقوم بالدور المادي والآخر بالعمل الروحي دون ثنائية، وإنما كل يكمل الآخر ويسنده. إن كان الزيت يُشير إلى عمل الروح القدس الذي يُنير النفس بالمعرفة الحقة فإن الزيتونة التي على اليمين في رأى القديس ديديموس تُشير إلى المعرفة بالإلهيات، أما الثانية فتُشير إلى دراسة العالم ونظامه وتدبير العناية الإلهية له. ويرى القديس ديديموس أيضًا أن الزيتونتين تُشيران إلى موسى وإيليا اللذين ظهرا عن يمين الرب ويساره في لحظات التجلي (لو 9: 30) بكونه الناموس روحي ابن المسحة وكلمة النبوة روحية أيضًا؛ والاثنان يشهدان لمجد السيد ولاهوته. ولعل الزيتونتين تشيران إلى الكتاب المقدس بعهديه، فالروح القدس يستخدمه في إنارة قلبنا بنور المعرفة وتجلي الرب في داخلنا. 3. إتمام العمل: 8 وَكَانَتْ إِلَيَّ كَلِمَةُ الرَّبِّ قَائِلًا: 9 «إِنَّ يَدَيْ زَرُبَّابِلَ قَدْ أَسَّسَتَا هذَا الْبَيْتَ، فَيَدَاهُ تُتَمِّمَانِهِ، فَتَعْلَمُ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ». 10 لأَنَّهُ مَنِ ازْدَرَى بِيَوْمِ الأُمُورِ الصَّغِيرَةِ. فَتَفْرَحُ أُولئِكَ السَّبْعُ، وَيَرَوْنَ الزِّيجَ بِيَدِ زَرُبَّابِلَ. إِنَّمَا هِيَ أَعْيُنُ الرَّبِّ الْجَائِلَةُ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا. 11 فَأَجَبْتُ وَقُلْتُ لَهُ: «مَا هَاتَانِ الزَّيْتُونَتَانِ عَنْ يَمِينِ الْمَنَارَةِ وَعَنْ يَسَارِهَا؟» 12 وَأَجَبْتُ ثَانِيَةً وَقُلْتُ لَهُ: «مَا فَرْعَا الزَّيْتُونِ اللَّذَانِ بِجَانِبِ الأَنَابِيبِ مِنْ ذَهَبٍ، الْمُفْرِغَانِ مِنْ أَنْفُسِهِمَا الذَّهَبِيَّ؟» 13 فَأَجَابَنِي قَائِلًا: «أَمَا تَعْلَمُ مَا هَاتَانِ؟» فَقُلْتُ: «لاَ يَا سَيِّدِي». 14 فَقَالَ: «هَاتَانِ هُمَا ابْنَا الزَّيْتِ الْوَاقِفَانِ عِنْدَ سَيِّدِ الأَرْضِ كُلِّهَا». لقد جاءت هذه الرؤيا تعطي لزربابل طمأنينة من جهة الآتي: أولًا: إن العمل لا يتم بذراع بشري بل بروح الله [6-7]. ثانيًا: إن الله يؤكد إتمام العمل على يد زربابل حتى وإن بقى سنوات مُعطلًا بسبب المقاومة [9]. ثالثًا: الله يفرح بالعمل الذي استخف به كثيرون عندما قارنوه بالهيكل الأول، حاسبين ذلك "أمورًا صغيرة" [10]... إنها في أعينهم عملًا صغيرًا بل وكلا شيء (حج 2: 3)، لكن الله يفرح به إذ تتطلع إليه أعينه السبعة الجائلة في الأرض كلها لا لتنتقد وتدين وإنما لتفرح بعمل أولاد الله وتشدد أيديهم (2 أي 16: 9). ترى أعين الرب الزيج بيد زربابل [10]، أي تراه ممسكًا ميزان قياس استقامة البناء (كان عادة من الرصاص على شكل ثقل مربوط بخيط). الدرج الطائر والإيفة الخارجة في الرؤى الخمس السابقة أعلن الله عمله المفرح لخلاص الإنسان بإقامة هيكله فيه مقدمًا له كل إمكانيات فائقة سماوية... والآن يعود فيحذر من التهاون مع الخطية أو مهادنتها خلال الرؤيتين التاليتين: 1. الدرج الطائر: 1 فَعُدْتُ وَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِدَرْجٍ طَائِرٍ. 2 فَقَالَ لِي: «مَاذَا تَرَى؟» فَقُلْتُ: «إِنِّي أَرَى دَرْجًا طَائِرًا، طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ عَشَرُ أَذْرُعٍ». 3 فَقَالَ لِي: «هذِهِ هِيَ اللَّعْنَةُ الْخَارِجَةُ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. لأَنَّ كُلَّ سَارِق يُبَادُ مِنْ هُنَا بِحَسَبِهَا، وَكُلَّ حَالِفٍ يُبَادُ مِنْ هُنَاكَ بِحَسَبِهَا. 4 إِنِّي أُخْرِجُهَا، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، فَتَدْخُلُ بَيْتَ السَّارِقِ وَبَيْتَ الْحَالِفِ بِاسْمِي زُورًا، وَتَبِيتُ فِي وَسَطِ بَيْتِهِ وَتُفْنِيهِ مَعَ خَشَبِهِ وَحِجَارَتِهِ». رفع النبي عينيه فنظر درجًا (قرطاسًا) طائرًا، وكما جاء في الترجمة السبعينية "منجلًا طائرًا". الدرج غالبًا ما يُشير إلى إعلان القضاء (حز 2: 9-10؛ رؤ 5: 1؛ 10: 2). إن كان شعب الله قد ظهر في الرؤيا سابقًا كمنارة كلها ذهب، تحمل نور المسيح بزيت الروح القدس، لكن فرحها بهذا العمل الإلهي يرافقه الحذر من كل خطية أو استهتار. أما كونه طائر فلأن الشر الذي نرتكبه هنا يصعد أمام الله رائحة فاسدة، فيسكب لعنة "على كل وجه الأرض" [3]. هنا يعلن الله مسئولية المؤمن كعضو في الجماعة الإنسانية كلها، يتفاعل إما للبركة أو للعنة. ما يفعله له أثر في حياة الكل، فبسبب يوسف تبارك بيت فوطيفار وتباركت مخازن مصر، وبسبب هروب يونان هاج البحر وخسر الكثيرون مالهم. والعجيب أن النبي يرى الشر كقرطاس يطير مفتوحًا، طوله عشرون ذراعًا وعرضه عشر أذرع. على الأرض كان مطوّيًا لا يعرف أحد خفاياه لكنه لن يبقى هكذا بل ينفضح، ويستطيع الكل أن يقرأه. أما أبعاده فمتناسبة مع أبعاد المسكن أو القدس، وكأن ما يرتكبه الإنسان إنما يفسد مقدسات الله فيه. أما في الترجمة السبعينية فيرى النبي منجلًا طائرًا وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [إذ يفصل الديان الصديق عن الشرير ويجازي كل واحد حسب أعماله لذلك يسمي الكتاب المقدس الجزاءات التي يسقط تحتها الظالمون والأشرار تارة سيفًا وسهمًا (تث 32: 42؛ 22: 23؛ أش 34: 5؛ عا 9: 10؛ مز 7: 12-13 ؛ أر 47: 5-6) وتارة فأسًا ومنجلًا... فالأشجار التي لا تعطي ثمرًا جيدًا تكون موضع غضب وقصاص (تُضرب بالفأس والمنجل)... فيُقال: "والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتلقى في النار" (مت 3: 10). هكذا تحل اللعنة على النباتات التي من هذا النوع. وهكذا يُستخدم المنجل أيضًا في قطع من يثمرون ثمارًا فاسدة، الذين قيل عنهم: "لأنه ليس كصخرنا صخرهم ولو كان أعداؤنا القضاة، لأن من جفنة سدوم وعمورة جفنتهم ومن كروم عمورة عنبهم عنب سم ولهم عناقيد مرارة، خمرهم حُمة الثعابين وسم الأصلال القاتل" (تث 32: 31-33). هكذا تشبه الإرادة الشريرة بالكرمة الفاسدة التي تُعطي ثمارًا رديئة ويلزم قطعها بمنجل حاد وانتزاع عنبها وعناقيدها... يراه النبي منجلًا طائرًا وليس منجلًا عاديًا بل روحيًا دون شك... يقطع "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي" (مت 15: 13)، أي "يقطع كل ما هو نجس".] ويعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على هذا المنجل الحاد بقوله: [ربما يمكن للإنسان أن يهرب من سيف طائر، أما من منجل ينزل على رقبته ويلتف حولها كحبل يربطها فلا يستطيع الهروب. وإن أضيف للمنجل أجنحة فأي رجاء في الإنقاذ يمكن أن يوجد؟!]. كما يقول: [إنه طائر، إشارة إلى سرعة مجيء الانتقام... أما كونه طوله وعرضه أذرع كثيرة فيعني شدة الويلات وضخامتها. إنه طائر من السماء بمعنى قدوم الانتقام من كرسي الدينونة من الأعالي، وفي شكل منجل لحتمية القضاء. فكما أن المنجل الذي يحل بالرقبة ويمسك بها لا يرجع فارغًا بل يقطع الرأس هكذا يكون الانتقام قاسيًا وأكيدًا]. يُكمل النبي حديثه: "فقال ليّ: هذه هي اللعنة الخارجة على وجه كل الأرض، لأن كل سارق يُباد هنا بحسبها، وكل حالف يُباد من هناك بحسبها. إنيّ أخرجها يقول رب الجنود فتدخل بيت السارق وبيت الحالف بأسمى زورًا وتبيت في وسط بيته وتفنيه مع خشبه وحجارته" [3-4]. حمل العهد الموسوي معه لعنة تحل بالعصاة (تث 27: 15-26؛ 28: 15-68)، هذه اللعنة تحلق في الهواء وتهدد سكان الأرض الذين أخذوا العهد ولم يحفظوه بل خانوه. وقد ركز هنا على خطيتين: السرقة والقسم الباطل. بالأولى يسلب الإنسان أخاه وبالثانية يستهين بالله وكأن الخطيتين تضمان كسرًا للناموس كله: انتهاك حق الأخوة والله. ولعل الوصية الخاصة بعدم السرقة كانت في منتصف اللوح الثاني، والخاصة بعدم القسم باطلًا في منتصف اللوح الأول، بمعنى أن الإنسان يكسر اللوحين في أعماقهما. إن كانت اللعنة تمس كل وجه الأرض لكنها وهي طائرة تصيب سهمها على بيت المخطئ نفسه لتبيت هناك وتحطمه هو وخشبه وحجارته إنه ينال الثمر الطبيعي لعمله. يقول القديس ديديموس الضرير: [يطير هذا المنجل ويجوب كل الأرض بسرعة فيصيب ليس فقط الخطاة الذين على الأرض وإنما الذين في الهواء (الشياطين) والأشرار أينما وجدوا. إنه يهدم ما في وسط البيت أي القلب والعقل، ويحطم ما بداخل الإنسان كالسيف الذي شق قاضي إسرائيل المحترق بشهوة الزنا بسوسنة من الوسط: "فها هوذا ملاك الله قد أخذ القضاء من الله ويشقك نصفين" (تتمة دانيال 2: 55)، فشق الزاني من الوسط يعني انقسام عقله. ويعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على تحطيم بيت الشرير قائلًا: [يصير بيته كومة حتى أن كل من يعبر به ويتطلع إليه ويعرف السبب يتجنب الامتثال به]. 2. الإيفة الخارجة: 5 ثُمَّ خَرَجَ الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي وَقَالَ لِي: «ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مَا هذَا الْخَارِجُ». 6 فَقُلْتُ: «مَا هُوَ؟» فَقَالَ: «هذِهِ هِيَ الإِيفَةُ الْخَارِجَةُ». وَقَالَ: «هذِهِ عَيْنُهُمْ فِي كُلِّ الأَرْضِ». 7 وَإِذَا بِوَزْنَةِ رَصَاصٍ رُفِعَتْ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ جَالِسَةٌ فِي وَسَطِ الإِيفَةِ. 8 فَقَالَ: «هذِهِ هِيَ الشَّرُّ». فَطَرَحَهَا إِلَى وَسَطِ الإِيفَةِ، وَطَرَحَ ثِقْلَ الرَّصَاصِ عَلَى فَمِهَا. 9 وَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِامْرَأَتَيْنِ خَرَجَتَا وَالرِّيحُ فِي أَجْنِحَتِهِمَا، وَلَهُمَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ اللَّقْلَقِ، فَرَفَعَتَا الإِيفَةَ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. 10 فَقُلْتُ لِلْمَلاَكِ الَّذِي كَلَّمَنِي: «إِلَى أَيْنَ هُمَا ذَاهِبَتَانِ بِالإِيفَةِ؟» 11 فَقَالَ لِي: «لِتَبْنِيَا لَهَا بَيْتًا فِي أَرْضِ شِنْعَارَ. وَإِذَا تَهَيَّأَ تَقِرُّ هُنَاكَ عَلَى قَاعِدَتِهَا». مرة أخرى يُحذرنا الله من الخطية إذ رأى النبي إيفة خارجة [6]. الإيفة هي أكبر وحدة قياس (للكيل) عند اليهود، أما كونها خارجة فيعني أن المعايير أو المقاييس غير مضبوطة، أو ما نسميه "عدم التمييز". رأى النبي: "وإذا بوزنة رصاص رُفعت وكانت امرأة جالسة في وسط الإيفة فقال هذه هي الشر، فطرحها وطرح ثقل الرصاص على فمها" [7-8]. تشبه الخطية بالرصاص الذي يثقل النفس لينزل بها إلى أعماق الهاوية، وكما جاء في تسبحة موسى النبي: "غاصوا كالرصاص في مياه غامرة" (خر 15: 10). يقول العلامة أوريجانوس: [قيل عن الأشرار أنهم غاصوا في مياه غامرة... أما القديسون فلا يغوصون بل يمشون على المياه... إذ ليس فيهم ثقل خطية ليغوصوا]. ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يرحل كل واحد حسب وضعه، فيسير الواحد خفيفًا والآخر يغطس في المياه. فالفضيلة شيء خفيف يطفو والذين يعيشونها يطيرون كالسحاب والحمام كقول أشعياء (إش 60: 8)... أما الخطية فثقيلة تجلس على الإنسان كالرصاص]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء يهبها أجنحة ويرفعها مثل التمتع بالبر والفضيلة]. رأى النبي الوزنة الرصاصية قد رُفعت، أي فُضحت الخطية أمام الجميع، فظهر الشر كامرأة جالسة وسط الإيفة الخارجة. يُعلق القديس ديديموس الضرير على تشبيه الشر كما الفضيلة بامرأة، قائلًا: [ليس غريبًا أن يدعو الكتاب المقدس السلوك الشرير والفكر الفساد والقوة الغاشمة التي تولدها اسم "امرأة" كما يدعو الشر هنا امرأة كذلك في سفر الأمثال يسمي الجنون امرأة.هذا هو النص، فالحكيم يُعلم تلميذه، قائلًا: "يا ابني أصغ إلى حكمتي، أمل أُذنك إلى فهمي، لحفظ التدابير ولتحفظ شفتاك معرفة، لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلًا وحنكها أنعم من الزيت لكن عاقبتها مرة كالأفسنيتن حادة كسيف ذي حدين، قدماها تنحدران إلى الموت، خطواتها تتمسك بالهاوية" (أم 5: 1-5). وفي نفس سفر الأمثال تشبه النجاسة بامرأة (أم 7: 7-27)... وكما تشبه الرذائل بامرأة هكذا أيضًا الفضائل، فيقول الحكيم عن الحكمة: "أحببت جمالها وأخذتها لتعيش معي" (حك 8: 2)]. نعود إلى الرؤيا لنجد ثقل الرصاص قد طُرح في فم المرأة، وكأن الخطية غالبًا ما تتركز في الفم، فيحمل الإنسان لسانًا ثقيلًا على النفس، يُحطم به نفسه ويهين الآخرين، على خلاف الصديق الذي قيل عنه: "لسان الصديق فضة مختارة" (أم 10: 2). كأن الشرير يحمل في فمه لسانًا من رصاص يُخرج الشرور، أما الصديق فيحمل لسانًا من فضة نقية ينطق بكلمة الله المصفاة كالفضة سبع مرات (مز 12: 6). يكمل النبي حديثه: "وإذ بامرأتين خرجتا والريح في أجنحتهما ولهما أجنحة اللقلق فرفعتا الإيفة بين الأرض والسماء" [9]. يكنى بالمرأتين عن رذيلتين ربما السرقة والقسم باطلًا كما في الرؤيا السابقة أي سلب حق الأخوة وحق الله. أما قوله: "الريح في أجنحتهما" أي أن أجنحتهما مملوءة ريحًا أو روحًا كذلك الروح الذي تحدث عنه الرسول: "الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أف 2: 2)، الروح الرديء الذي قال عنه السيد المسيح متى طُرد من إنسان يعود فإذ يجد الموضع الذي طرد منه فارغًا من كل صلاح ومكنوسًا من كل ما هو جميل يأتي ومعه سبعة أرواح أشر منه ليسكن فيه، فتصير أواخر هذا الإنسان أشر من أوائله (مت 12: 35 ؛ لو 11: 26). ولئلا يظن بالأجنحة انطلاق المرأتين نحو السماء أكد أن أجنحتهما كأجنحة اللقلق وليس كأجنحة الحمام كما يقول القديس ديديموس الضرير: [فاللقلق حسب الشريعة طائر نجس (لا 11: 19؛ تث 14: 18) يسكن السرو (مز 104: 17). من الطيور المهاجرة (أر 8: 7). اللقلق نوعان الأبيض Ciconia alba تقضي الشتاء في وسط أفريقيا وجنوبها ويهاجر في الربيع في أعداد ضخمة إلى أوروبا وفلسطين وشمال سوريا. والأسود Ciconia higra يوجد في فلسطين وشائع في وادي البحر الميت. يقتات اللقلق على الضفادع والزحافات الصغيرة، وإن لم يجد فيبحث عن الجيف والأوساخ. ويعلق القديس ديديموس الضرير على ذلك بقوله أن المرأتين وهما تمثلان الشر وترمزان للشيطان أو المسيح الدجال وكلام الهراطقة تعيشان بجوار القبور لتقتاتان على الجيف، فتكونا كالقبور المُبَيَّضَةً من الخارج وفي الداخل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ (مت 23: 27). وكما أن اللقلق يقيم عشه بالأوساخ فتخرج صغاره وسط الروائح الدنسة القذرة هكذا من يسلك في الشر يعيش في اهتمامات الجسد الفارغة. من له أجنحة اللقلق ينجذب إلى القبور والأوساخ أما من له أجنحة الحمام، أي عمل الروح القدس الذي ظهر في شكل حمامة عند عماد السيد، فيرتفع إلى السماويات وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [من هذا المطوّب الذي يحمل جناحي حمامة ترفعه إلى السماء فوق هذا العالم]. أما ذهاب المرأتين إلى شنعار (المرتبطة ببابل تك 10: 10) لبناء بيت لهما فيُشير إلى رغبتهما في الاستقرار في الموضع الذي فيه اتفق البشر قديمًا على الثورة ضد الله نفسه فتبلبلت ألسنتهم ودخلوا في اضطراب داخلي. ليتنا نحمل جناحي حمامة لا جناحي اللقلق فنهرب من بابل (أش 48: 20) حيث الشر لنجد راحتنا في الرب نفسه، نسكن في أحضانه الأبدية! المركبات وتتويج يهوشع ختم زكريا النبي القسم الخاص بالرؤى بهاتين الرؤيتين الثامنة والتاسعة، واحدة خاصة بالمركبات الأربع تكشف عن دينونة الشر، والأخرى خاصة بتتويج يهوشع أي تكليل البر في المسيح يسوع. 1. رؤيا المركبات الأربع: 1 فَعُدْتُ وَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِأَرْبَعِ مَرْكَبَاتٍ خَارِجَاتٍ مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، وَالْجَبَلاَنِ جَبَلاَ نُحَاسٍ. 2 فِي الْمَرْكَبَةِ الأُولَى خَيْلٌ حُمْرٌ، وَفِي الْمَرْكَبَةِ الثَّانِيَةِ خَيْلٌ دُهْمٌ، 3 وَفِي الْمَرْكَبَةِ الثَّالِثَةِ خَيْلٌ شُهْبٌ، وَفِي الْمَرْكَبَةِ الرَّابِعَةِ خَيْلٌ مُنَمَّرَةٌ شُقْرٌ. 4 فَأَجَبْتُ وَقُلْتُ لِلْمَلاَكِ الَّذِي كَلَّمَنِي: «مَا هذِهِ يَا سَيِّدِي؟» 5 فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِي: «هذِهِ هِيَ أَرْوَاحُ السَّمَاءِ الأَرْبَعُ خَارِجَةٌ مِنَ الْوُقُوفِ لَدَى سَيِّدِ الأَرْضِ كُلِّهَا. 6 الَّتِي فِيهَا الْخَيْلُ الدُّهْمُ تَخْرُجُ إِلَى أَرْضِ الشِّمَالِ، وَالشُّهْبُ خَارِجَةٌ وَرَاءَهَا، وَالْمُنَمَّرَةُ تَخْرُجُ نَحْوَ أَرْضِ الْجَنُوبِ». 7 أَمَّا الشُّقْرُ فَخَرَجَتْ وَالْتَمَسَتْ أَنْ تَذْهَبَ لِتَتَمَشَّى فِي الأَرْضِ، فَقَالَ: «اذْهَبِي وَتَمَشَّيْ فِي الأَرْضِ». فَتَمَشَّتْ فِي الأَرْضِ. 8 فَصَرَخَ عَلَيَّ وَكَلَّمنِي قَائِلًا: «هُوَذَا الْخَارِجُونَ إِلَى أَرْضِ الشِّمَالِ قَدْ سَكَّنُوا رُوحِي فِي أَرْضِ الشِّمَالِ». يبدو أن هذه الرؤيا هي امتداد للرؤيا الأولى الواردة في الأصحاح الأول، حيث رأى الراكب على فرس أحمر بين شجر الآس في الظل وخلفه خيل حمر وشقر وشهب، أما هنا فرأى "أربع مركبات خارجة من بين جبلين والجبلان جبلا نحاس، في المركبة الأولى خيل حمر، وفي المركبة الثانية خيل دهم (سوداء) وفي المركبة الثالثة خيل شهب (بيضاء)، وفي المركبة الرابعة منمرة شقر" [1-3]. لكن الرؤيا الأولى تُشير إلى خطة الله الخلاصية بتجسد الكلمة القادم على فرس أحمر بعد أن أعدت له بقية الخيل الطريق، أما هنا فتُشير الرؤيا إلى خطة الله التأديبية للشر خارج أورشليم ومساندة الله للمؤمنين ضد إبليس وحروبه. لقد رأى أربع مركبات خارجة من بين جبلين، غالبًا ما يقصد بهما جبل المريا وجبل الزيتون، وكأن المركبات قد خرجت إلى وادي يهوشفاط، الذي يعني: "وادي يهوه يقضى. أو يدين" وهو الوادي الذي يجمع فيه الرب كل الأمم ليحاكمهم هناك بسبب إذلالهم لشعبه (يوئيل 2: 3). لقد تهيأت المركبات الأربع الإلهية هذه التي هي: "أرواح السماء الأربع خارجة من الوقوف لدى سيد الأرض كلها" [15]. لتحقيق خطة الله التأديبية خارج أورشليم حتى لا يُعاين الأشرار مجد أورشليم ولا يدخلوا إليها بل يؤدبون خارجًا -في هذا العالم- أو يحرمون أبديًا من أورشليم بينما ينعم أولاد الله بالمجد الأبدي الداخلي. ولعله لنفس السبب يأتينا رب المجد في اليوم الأخير على السحاب فلا يلتقي معه الأشرار في مجده إنما يرونه مرهبًا ومخيفًا، أما الأبرار فيدخلون معه إلى العرس الأبدي. الجبلان المحيطان بالوادي هما: "جبلا نحاس" [1]، لا يقدر أحد أن يفلت منهما. وقد قيل عن السيد المسيح "رجلاه شبه نحاس النقي كأنهما محميتان في أتون" (رؤ 1: 15)، من يختفي فيه ويتحد معه يدك الأرض تحت قدميه ولا تقدر أشواكها وحسكها أن تمسه (تك 3: 18) محطمًا اللعنة تحته بالمسيح يسوع ربنا. هكذا يكون رجال العهد القديم والجديد كجبلين من نحاس يدكون الشر في وادي يهوشفاط ويدينونة بالرب. ويرى القديس ديديموس الضرير أن النحاس يُشير إلى تعاليم السوفسطائيين والهراطقة التي ليست إلاَّ نحاسًا يطن أو صنجًا يرن (1 كو 13: 1)، ليس لهم المحبة الإلهية فينطبق عليهم قول الرسول: "إن كنت أتكلم بلسان الناس والملائكة ولكن ليس ليّ محبة فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن". وكما أن الحديد يُشير إلى التمرد والجمود فإن النحاس يُشير إلى إخفاء الخطأ وراء المظهر كجبلين من نحاس- وكأنه يليق بنا أن نهرب من هذا الوادي، وادي الهراطقة المخادعين بكلماتهم الفاقدة للحب الحقيقي لئلا ندخل تحت دينونة الله الرهيبة. أما ألوان المركبات الإلهية فتُشير إلى تأديبات الله ضد الشر ومعاونته لشعبه ضد إبليس وأعماله الشريرة: أولًا: المركبة الأولى بخيلها الحمر تمثل الحروب الروحية التي فيها يُجاهد المؤمن ضد الشر حتى الدم (زك 12: 4)، فيهلك الشر لحساب بنيان الملكوت الداخلي. ثانيًا: المركبة الثانية بخيلها الدهم (السوداء)، علامة ما تسببه الحرب من موت لإبليس وهلاك لأعماله الشريرة. ثالثًا: المركبة الثالثة بخيلها الشهب (البيضاء) وهي تتبع المركبة السابقة فموت الشر هو حياة للفضيلة الطاهرة. \أو كما يرى القديس ديديموس الضرير أن الخيل السوداء تُشير إلى آلات غضب الله "حيث ينفتح الشر على كل سكان الأرض" (أر 1: 14) لتليها الخيل البيضاء علامة الفرح بعد التجربة، فيقول المؤمن: "لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي، إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي الظُّلْمَةِ فَالرَّبُّ نُورٌ لِي. أَحْتَمِلُ غَضَبَ الرَّبِّ لأَنِّي أَخْطَأْتُ إِلَيْهِ، حَتَّى يُقِيمَ دَعْوَايَ وَيُجْرِيَ حَقِّي. سَيُخْرِجُنِي إِلَى النُّورِ، سَأَنْظُرُ بِرَّهُ" (مي 7: 8-9). هكذا إذ ينتفع بتأديبات الرب يسبح قائلًا: "أباركك يا رب لأنك مارست غضبك عليَّ لخلاصي، أرددت وجهك ورحمتني" (إش 12: 1). رابعًا: الخيل المنمرة الشقر القادمة من الجنوب تُشير إلى الثمر المتنوع الذي تفيض به النفس في داخلها بممارستها التوبة بعد التأديب، إذ تقول العروس: "تعالي يا ريح الجنوب هبي على جنتي فتقطر أطيابها" (نش 4: 16). هذه هي المركبات الأربع بخيلها التي صدر إليها الأمر الإلهي: "اذهبي وتمشي في الأرض، فتمشت في الأرض، فصرخ عليَّ وكلمني قائلًا: هوذا الخارجون إلى أرض الشمال قد سكنوا روحيّ في أرض الشمال" [7-8]. الله في محبته يطلق مركباته للعمل في الأرض خطته الإلهية، وإذ تسقط أرض الشمال (بابل) رمز إبليس تحت العقوبة تسكن روح الله من جهة أولاده. يا للعجب سمح لأرض الشمال أن تكون أداة تأديب قاسية لهم لا تسكن روحه ويستريح قلبه حتى يرى شعبه قد رجع إلى الراحة في أورشليم الجديدة تحمل ثمارًا متنوعة وفيض خيرات بلا كيل. وكأن الله الذي يؤدب يسمع أنيننا وكأنه يئن مع أنيننا، ولا يستريح حتى نستريح نحن فيه. وقد لاحظنا في دراستنا لسفر هوشع كلمات الرب نفسه الذي يسمح بالضيق، قائلًا: "قد انقلب عليَّ قلبي، قد اضطرمت مراحمي جميعًا لا أجرِ حمو غضبي، لا أعود أخرب أفرايم، لأني الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط" (هو 11: 8-9). 2. رؤيا تتويج يهوشع: 9 وَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلًا: 10 «خُذْ مِنْ أَهْلِ السَّبْيِ مِنْ حَلْدَايَ وَمِنْ طُوبِيَّا وَمِنْ يَدَعْيَا الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَابِلَ، وَتَعَالَ أَنْتَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَادْخُلْ إِلَى بَيْتِ يُوشِيَّا بْنِ صَفَنْيَا. 11 ثُمَّ خُذْ فِضَّةً وَذَهَبًا وَاعْمَلْ تِيجَانًا وَضَعْهَا عَلَى رَأْسِ يَهُوشَعَ بْنِ يَهُوصَادَقَ الْكَاهِنِ الْعَظِيمِ. 12 وَكَلِّمْهُ قَائِلًا: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلًا: هُوَذَا الرَّجُلُ «الْغُصْنُ» اسْمُهُ. وَمِنْ مَكَانِهِ يَنْبُتُ وَيَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ. 13 فَهُوَ يَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ، وَهُوَ يَحْمِلُ الْجَلاَلَ وَيَجْلِسُ وَيَتَسَلَّطُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَيَكُونُ كَاهِنًا عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَتَكُونُ مَشُورَةُ السَّلاَمِ بَيْنَهُمَا كِلَيْهِمَا. 14 وَتَكُونُ التِّيجَانُ لِحَالِمَ وَلِطُوبِيَّا وَلِيَدَعْيَا وَلِحَيْنِ بْنِ صَفَنْيَا تَذْكَارًا فِي هَيْكَلِ الرَّبِّ. 15 وَالْبَعِيدُونَ يَأْتُونَ وَيَبْنُونَ فِي هَيْكَلِ الرَّبِّ، فَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. وَيَكُونُ، إِذَا سَمِعْتُمْ سَمَعًا صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ». في الأصحاح الثالث صدر الأمر بخلع الثياب القذرة ليلبس يهوشع ثوبًا مزخرفًا وعمامة طاهرة (زك 3: 4-5) وكان في ذلك إعلان لتتويجنا فيه، بالصليب مزق خطايانا مقدمًا لنا ذاته سرّ البر والغلبة، أما هنا فيتوج يهوشع بإكليل من فضة وذهب ويتوج معه القادمون من السبي، وكأن غاية هذه الرؤيا إبراز تتويج الكنيسة التي كان أعضائها قبلًا تحت السبي فصاروا في أورشليم الجديدة. يمكننا القول أن الرؤيا الأولى تُشير إلى السيد المسيح قبل صعوده فقد كلل على الصليب وتكللت الكنيسة فيه، والرؤيا الثانية بعد الصعود فقد صار للكنيسة أن تتكلل به ويتكلل المسيح فيها داخليًا. وكما قال القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كان يعمل قبل الصعود باسم الكنيسة المختفية فيه ولحسابها، أما بعد الصعود فاختفى هو فيها لتعمل لحسابه وباسمه. ويلاحظ في هذه الرؤيا الآتي: أولًا: لم يُذكر اسم يهوشع بين أسماء القادمين من السبي، قد توج هو أولًا بمفرده، بكونه رمزًا لربنا يسوع الذي حلّ بيننا على أرضنا دون أن يسقط تحت سبي الخطية، ولا أن يجد إبليس موضعًا له فيه. لقد غلب أولًا وكلل كبكر الراقدين وارتفع إلى بيته السماوي لكي به وفيه ننعم نحن بالإكليل. ثانيًا: طلب الرب من زكريا النبي أن يأخذ فضة وذهبًا من حلداى وطوبيا ويدعيا أهل السبي ويعمل تيجانًا ويضعها على رأس يهوشع الكاهن العظيم، هذه الفضة والذهب سبق فاستولى عليها العدو من أورشليم وبيت الرب وحُملت إلى السبي مع المسبيين لتستخدم لحساب مملكة بابل، والآن مع عودة المسبيين تُرد الفضة والذهب لاستخدامها في بيت الرب لمجد الله. وكأن الإنسان إذ تسبيه الخطية تتحول طاقاته الجسدية والنفسية والمادية لحساب الشر، وبعودته إلى حضن الله يتقدم بكل هذه الأمور لتكون آلات برّ لمجد الله. ثالثا: أسماء الرجال الذين يقومون بجمع الفضة والذهب من المسبيين هي: أ. حلداى أو خلداى وتعني "خالد"، ويدعى أيضًا "حالم" [14]، وتعني "صحة" أو "قوة". ب. "طوبيا" وتعني "الله طيب". ج. "يدعيا" وتعني "يهوه يعرف"، وهو زعيم الكهنة الراجعين من السبي (نح 12: 6). هكذا عمل الثلاثة معًا ليرد للرب الفضة والذهب لتكون تيجان مجد للكنيسة في عريسها الواحد يهوشع. بمعنى آخر إن كانت فضتنا وذهبنا غير مقدسين فلنتطلع إلى "الخلود" أو الحياة الباقية لتهبنا صحة النفس وقوة الروح فننطلق بكل طاقتنا لتقديمها قربانًا للرب. أما سر تقديس هذه الطاقات والمواهب والإمكانيات فهي طيبة الرب وحنانه الذي يترفق بنا ويقبل عطايانا، إنه يعرفنا كأولاد له ويقبلنا إليه فنتعرف نحن عليه ونقبله فينا. في اختصار نحن في حاجة إلى إدراك الخلود والأبدية وقبول حنان الله ومعرفته! رابعًا: جاءوا بالفضة والذهب إلى بيت يوشيا بن صفنيا [10] قبل تحويلها إلى تيجان. ولما كانت كلمة "يوشيا" تعني "الذي يخلص" وكلمة "صفنيا" تعني "يهوه يخفى أو يكنز(43)"؛ وكأن تقديس طاقتنا يلزم أن يتحقق في بيت " لذي يخلص" أي الكنيسة هيكل الرب مخلصنا، هذا الذي يعمل فينا سريًا في داخل القلب، فيكنزنا كجواهر ثمينة معدة للحياة الأبدية. الله لا يريد لنا المظاهر الخارجية التي تفقدنا بهاءه فينا، إنما يُريد لنا الحياة الخفية المجيدة فنحسب كنوزًا ثمينة في عينيه! خامسًا: إذ جُمعت الفضة والذهب صارت تيجانًا وليست تاجًا واحدًا، وضعت جميعها على رأس يهوشع... وكأن كل تاج ينعم به مؤمن يلبسه العريس نفسه. يقول العلامة أوريجانوس عن الشهداء أن يسوع المسيح هو الذي يدعوهم للإكليل وهو الذي يحارب معهم، وهو الذي يتسلمه فيهم. هكذا يتجلى السيد في كنيسته فيحسب كل إكليل لنا إكليلًا له. ويقول القديس ديديموس الضرير: [أنظر كيف يمكن للسيد المسيح الكاهن العظيم أن يأخذ على رأسه تيجان الكل، فإن المؤمنين جميعهم يمثلون جسد السيد المسيح وأعضاؤه، فقد قيل بالحق، للذين يكونون جماعة الكنيسة: "أما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (1 كو 12: 27)، بين هذه الأعضاء البعض هم أياد نشيطة ؛ وآخرون "غير متكاسلين في الاجتهاد" (رو 12: 11) وهم الأرجل؛ وآخرون لهم عقل زكى هم الأعين، ومنهم من يدبر حسنًا ويتممون مسؤليتهم كما يجب فيمثلون الرأس رمزيًا... إذن من المعقول أن رأس الكاهن العظيم تأخذ كل التيجان]. وللقديس ديديموس الضرير تفسير آخر لهذه التيجان الكثيرة التي توضع على رأس السيد المسيح، إذ يقول: [تأمل كيف يأخذ يسوع وحده تيجان كثيرة، إذ حارب كل الحروب حتى النهاية "مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية" (عب 4: 15)]. سادسًا: هذه التيجان التي وضعت على رأس عريسنا وحده يقدمها لنا، فيهب لكل واحد أكاليل فضائل كثيرة، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [ليس عجيبًا أن توضع تيجان كثيرة على رأس واحد، فلكل فضيلة تاجها، أو بالأحرى كل فضيلة هي في ذاتها تاج، فالإنسان الكامل يملك تيجان كثيرة... طالما الفضائل مترابطة معًا فإن من يمتلكها يتزين بتيجان كثيرة]. سابعًا: مادة التيجان هي الفضة والذهب، أما الفضة فتُشير إلى كلمة الله (مز 12: 6) والذهب إلى الروح أو الحياة السماوية، وكأنه يليق بنا أن نتهيأ لهذه الأكاليل خلال كلمة الله العاملة فينا والفكر الروحي السماوي. ثامنًا: ما هو التاج الذي نلبسه في جوهره إلاَّ التقاء بالرب نفسه، وكما قيل بإشعياء النبي: "في ذلك اليوم يكون رب الجنود إكليل جمال وتاج بهاء" (إش 28: 5) وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [الرب هو نفسه مكافأة المجد، يوهب للذين مجدوا الله في أجسادهم (1 كو 6: 20)، الذين لهم روح الخضوع للآراء المحفوظة (كنسيًا) والتقاليد التقوية]. تاسعًا: يدعى السيد المسيح في هذه الرؤيا بالرجل والغصن الشرق في نفس الوقت، ففي الترجمة السبعينية قيل: "هوذا الرجل الغصن الشرق اسمه". وقد سبق لنا الحديث عن هذه الألقاب في الأصحاح الثالث. وفيما يلي تعليق القديس ديديموس الضرير على هذه العبارة: [هكذا قال رب الجنود: هوذا الرجل الغصن الشرق اسمه، يخص مخلصنا الآتي إلى هذا العالم، فهو الرجل بكونه ابن مريم... لكنه النور الحقيقي وشمس البر (الشرق). في اتفاق مع هذا النص يقول إرميا: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلًا في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا وهذا هو اسمه الذي يدعوه به: "الرب برنا" (أر 23: 5-6). بالحق هو غصن البرّ الذي ينبت من داود... هذا الغصن هو شمس البر وقد ارتفع من داود، هذا الذي وُلد من أرض داود حسب الجسد (رو 1: 3)، كما قيل بإشعياء النبي: "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا" (إش 10: 11)... "هوذا الرجل...". هنا يعلن عن العريس الذي له العروس، فيدعوه "الرجل". هذا ما يظهره الرسول عندما يكتب إلى أهل كورونثوس: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)... عن هذا الرجل يشهد يوحنا المعمدان أعظم مواليد النساء (مت 11: 11) قائلًا: "يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي" (يو 1: 30) وقد أعلن هذا الرجل بقوله: "من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح من أجل صوت العريس" (يو 3: 29). هذا الذي يظهره النبي أنه "الغصن"... إنه الغصن من الأعالي، غصن من النور الحقيقي، شمس البر (ملا 3: 20) أشرق للذين كانوا في الظلمة وظلال الموت (لو 1: 78) لكي يبدد الظلمة وينزع الموت فنعبر إلى الحياة (يو 5: 24). إذ نصير نورًا في الرب، وكما هو مكتوب "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة وأما الآن فنور للرب" (أف 5: 8). ويعلق العلامة أوريجانوس على تسميته "الشرق" بقوله أن الشرق نوعان: شرق حق يضئ لنا، هذا الذي يقول: "أنا نور العالم"، وشرق مضلل مثل نور الأشرار الذي ينطفئ (أي 18: 5). وكنور الشيطان المخادع الذي يظهر في شبه ملاك نور (2 كو 11: 4). عاشرًا: قيل عن السيد المسيح "ومن مكانه ينبت" [12]، فإن كان من أجلنا صار الغصن، فإنه ينبت واهبًا إيانا حياة حقيقية. وكما يقول المرتل: "الحق من الأرض ينبت" (مز 85: 11). جاء إلى أرضنا وهو الحق القادر أن يحملنا فيه فيرفعنا عن الأرض ويقيم فينا بيته السماوي، لذا يكمل القول: "ويبني هيكل الرب" مكررًا هذه العبارة مرتين، من ناحية لأن رقم 2 كما سبق فقلنا يُشير إلى "الحب"، فبالحب يرفعنا عن الأرض ويقيمنا بيتًا سماويًا وهيكلًا حيًا له، ومن ناحية أخرى يعلن عمله مع اليهود كما مع الأمم فيقيم الكل معًا. حادي عشر: الهيكل الذي يبنيه هنا من المؤمنين سواء من أصل يهودي أو أممي يجلس فيه كملك وكاهن في نفس الوقت، الأمر الذي لم يكن ممكنًا في هيكل سليمان ولا في الهيكل الذي أقامه زربابل إذ كان الملوك من سبط يهوذا والكهنة من سبط لاوي، أما الهيكل الجديد فحلّ فيه الرب ليملك علينا ويكهن لحسابنا. "وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلط على كرسيه ويكون كاهنًا على كرسيه وتكون مشورة السلامة بينهما كليهما" [13]. بملكوته وكهنوته يحطم إبليس ويهب السلام لشعبه. يقول القديس ديديموس الضرير: [إنه كرسي مضاعف: كرسي المملكة وكرسي الكهنوت أيضًا... كرسي كلي القدرة كما جاء في الأمثال: "الملك الجالس على كرسي القضاء يذرى بعينيه كل شر" (أم 20: 8)، وأيضًا: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب الاستقامة قضيب ملكك" (مز 44: 7؛ عب 1: 8)، "يجلس الرب ملكًا" (مز 29: 10). أما من جهة الكرسي الكهنوتي فجاء في الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر" (عب 7: 26) وأيضًا: "لنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عونًا في حينه" (عب 4: 16). ما يسميه "عرش النعمة" هو عرش الكاهن القدوس البار بلا دنس. إذن يقصد أنه أخذ عرش داود أبيه لكي يملك كل الدهور ولا يكون لملكه نهاية (لو 1: 33) وفي نفس الوقت كهنوته لا يزول (عب 7: 24)... فيحكم على الكرسي المضاعف؛ إنه الوحيد الذي له كرسي الملك والكهنوت معًا]. ثاني عشر: يتحدث عن التيجان التي يتمتع بها هؤلاء الرؤساء أنها تكون "تذكارًا في هيكل الرب" [14]، وفي الترجمة السبعينية يقول: "يقتنون تسبحة في هيكل الرب". فالنصرة بربنا يسوع المسيح تولد فينا طبيعة التسبيح الداخلي وفرح الروح، فتتحول حياتنا كلها إلى تسبحة. يقول القديس ديديموس الضرير: [نقدم تعاليم الأعمال الصالحة تسبحة ننشدها، وتنبعث فينا الأفكار اللذيذة كمن يضرب على العود وبالدف. نلعب على العود باستلامنا تعاليم الزهد: "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية" (كو 3: 5)، "حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع" (2 كو 4: 10)، خلالها يصير الإنسان مرفوضًا وعبدًا فيكون كالدف المصنوع من جلد الحيوانات الميتة. بهذا الدف يضرب العذارى الخمس الحكيمات الحاملات سرجًا مضيئة كقول المزمور: "من قدام المغنون، ومن وراء ضاربو الأوتار، في الوسط فتيات ضاربات الدفوف" (مز 68: 25). هذه الدفوف التي استخدمتها العبرانيات بعد الخروج من مصر وعبور بحر سوف وعلى رأسهن مريم (النبية) أخت موسى وهرون... لم يكن ممكنًا في مكان صحراوي كهذا أن تجد العبرانيات عددًا من الدفوف يكفي لآلاف الفتيات لكن المؤكد والحق أنهن وجدن دفوفًا رمزية هذه التي نتحدث عنها، وهي ممارسة التقوى لسنين طويلة]. ثالث عشر: إذ يبني الرب هيكله الجديد يفتح أبواب العمل للجميع، إذ يقول: "والبعيدون يأتون ويبنون هيكل الرب" [15]، مشيرًا إلى الأمم الذين كانوا بعيدين وغرباء، قد صاروا بحياتهم الجدية في الرب بناءً روحيًا في الهيكل الجديد. وكما جاء في إشعياء: "وبنو الغريب يبنون أسوارك وملوكهم يخدمونك... وتنفتح أبوابك دائمًا، نهارًا وليلًا لا تغلق، ليؤتى إليَّ بغنى الأمم وتُقاد ملوكهم" (إش 60: 10-11). تساؤل حول الصوم درس حول الصوم كان العمل في إعادة بناء الهيكل يسير بقوة فأرسل أهل بيت إيل يسألون الكهنة إن كانوا يمارسون الأصوام التي سبق لهم أن فرضوها على أنفسهم بسبب السبي. 1. سؤال أهل بيت إيل: 1 وَكَانَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِدَارِيُوسَ الْمَلِكِ أَنَّ كَلاَمَ الرَّبِّ صَارَ إِلَى زَكَرِيَّا فِي الرَّابعِ مِنَ الشَّهْرِ التَّاسِعِ فِي كِسْلُو. 2 لَمَّا أَرْسَلَ أَهْلُ بَيْتِ إِيلَ شَرَاصِرَ وَرَجَمَ مَلِكَ وَرِجَالَهُمْ لِيُصَلُّوا قُدَّامَ الرَّبِّ، 3 وَلِيُكَلِّمُوا الْكَهَنَةَ الَّذِينَ فِي بَيْتِ رَبِّ الْجُنُودِ وَالأَنْبِيَاءَ قَائِلِينَ: «أَأَبْكِي فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ مُنْفَصِلًا، كَمَا فَعَلْتُ كَمْ مِنَ السِّنِينَ هذِهِ؟» في السنة الرابعة لداريوس الملك، أي عام 518 ق.م.، كان الشعب يعمل بهمة عظيمة في إعادة بناء الهيكل وقد ظهر ثمر هذا العمل واضحًا كما بدأت علامات الخراب تختفي من أورشليم، فأرسل أهل بيت إيل مندوبين هما شراصر ورجم ملك ورجالهم يستشيرون الكهنة الذين في بيت الرب والأنبياء إن كانوا بعد ظهور هذه الحياة الجديدة توجد حاجة لممارسة الصوم والبكاء في الشهر الخامس (اليوم العاشر) تذكارًا لحرق بيت الرب (أر 52: 12-13؛ 2 مل 25: 8-10) أم يتوقفون عنه؟ وكان هذا السؤال يحمل صورتين مؤلمتين هما: أن الصوم يمثل ثقًلا في حياتهم يودون الخلاص منه، وأنه كان غاية في ذاته فلم يكن يمارس بروح التوبة الداخلية والتغيير الحقيقي. لهذا جاءت الإجابة تحمل توبيخًا من ناحية وكشفًا عن مفهوم الصوم الروحي الحق. 2. صوم بلا روح: 4 ثُمَّ صَارَ إِلَيَّ كَلاَمُ رَبِّ الْجُنُودِ قَائِلًا: 5 «قُلْ لِجَمِيعِ شَعْبِ الأَرْضِ وَلِلْكَهَنَةِ قَائِلًا: لَمَّا صُمْتُمْ وَنُحْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ وَالشَّهْرِ السَّابعِ، وَذلِكَ هذِهِ السَّبْعِينَ سَنَةً، فَهَلْ صُمْتُمْ صَوْمًا لِي أَنَا؟ 6 وَلَمَّا أَكَلْتُمْ وَلَمَّا شَرِبْتُمْ، أَفَمَا كُنْتُمْ أَنْتُمُ الآكِلِينَ وَأَنْتُمُ الشَّارِبِينَ؟ 7 أَلَيْسَ هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي نَادَى بِهِ الرَّبُّ عَنْ يَدِ الأَنْبِيَاءِ الأَوَّلِينَ، حِينَ كَانَتْ أُورُشَلِيمُ مَعْمُورَةً وَمُسْتَرِيحَةً، وَمُدُنُهَا حَوْلَهَا، وَالْجَنُوبُ وَالسَّهْلُ مَعْمُورَيْنِ؟» إذ حمل السؤال علامة ضيق وتبرم من جهتهم بسبب الصوم كما حمل نوع من الرياء لهذا أجابهم الرب أنه ليس في حاجة إلى أصوامهم، هم حددوا هذا الصوم باختيارهم ومن حقهم التوقف عنه دون سؤال، إنما كان يليق بهم في صومهم أن يمارسوه بروح صادق وإن توقفوا عنه أن يفرحوا بعمل الله معهم... بمعنى آخر إن صاموا أو أكلوا لم يقدموا تقدمات حب لله بل مجرد ممارسات خارجية. هذا ما عناه بتوبيخه لهم: "لما صمتم ونحتم في الشهر الخامس والشهر السابع وذلك هذه السبعين سنة فهل صومًا ليّ أنا؟ ولما أكلتم ولما شربتم أفما كنتم الآكلين وأنتم الشاربين؟" [5-6]. هم سألوا عن صوم الشهر الخامس فأجابهم أيضًا عن صوم الشهر السابع الذي أقاموه تذكارًا لقتل جدليا والي اليهودية الأمر الذي أدى إلى تشتيت البقية الباقية من اليهود بعد السبي (أر 41: 1-3) وأكد أنهم صاموا هذين الصومين وغيرهما مثل صوم الشهر العاشر تذكار أول حصار لأورشليم بالمجانق وصوم الشهر الرابع تذكار الاستيلاء على المدينة في عهد صدقيا (أر 39: 2؛ 52: 6-7)، وكأنه يقول لهم أنا عارف أصوامكم طوال هذه المدة لكنني لا أطلب كثرة الأصوام بل نوعيتها. أنتم مارستوها دون الرجوع إلى الرب ولا في طاعة للوصايا إنما لمجرد تهدئة ضمائرهم. كان الصوم في ذهنهم مجرد امتناع عن الطعام وليس عن الشر، وتمتع بالبر لذا يقول القديس ديديموس الضرير: [يلزمنا أن نضبط البطن برباطات المطانيات metanoia مع الدموع! لكن كم هو مدمر للإنسان أن يكون صومه كالرافضين التمتع بخبز الحياة (يو 6: 35)، أي التمتع بجسد يسوع الخبز الحقيقي النازل من السماء؟!]. يعود القديس ديديموس فيميز بين نوعين من الصوم مقدمًا شهادة الكتاب المقدس، قائلًا: [فيما يخص الصوم الجيد جاء في يوئيل: "قدسوا صومًا نادوا باعتكاف" (يؤ 1: 14؛ 2: 15). وفي موضع آخر يعلن: "صالحة هي الصلاة مع الصوم والصدقة فإنها تنجي من الموت" (طوبيت 12: 8-9). أما عن الصوم الرديء، فنجد الأشرار والكافرين يتهمون الرب قائلين: "لماذا صمنا ولم تنظر؟! ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟!" (إش 58: 3)؛ ويجيبهم الرب بقوله: "أمثل هذا يكون صوم أختاره؟" (إش 58: 5). فَمَنْ يتفادى الطعام الرديء يلزمه مضاعفة الأعمال الصالحة. بالحق يقول الكتاب: "إن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك، إذا رأيت عريانًا أن تكسوه وأن لا تتغاضي عن لحمك، حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك وتنبت صحتك سريعًا" (إش 58: 7-8)]. 3. الصوم العامل بالتوبة: 8 وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا قَائِلًا: 9 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلًا: اقْضُوا قَضَاءَ الْحَقِّ، وَاعْمَلُوا إِحْسَانًا وَرَحْمَةً، كُلُّ إِنْسَانٍ مَعَ أَخِيهِ. 10 وَلاَ تَظْلِمُوا الأَرْمَلَةَ وَلاَ الْيَتِيمَ وَلاَ الْغَرِيبَ وَلاَ الْفَقِيرَ، وَلاَ يُفَكِّرْ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَرًّا عَلَى أَخِيهِ فِي قَلْبِكُمْ. 11 فَأَبَوْا أَنْ يُصْغُوا وَأَعْطَوْا كَتِفًا مُعَانِدَةً، وَثَقَّلُوا آذَانَهُمْ عَنِ السَّمْعِ. 12 بَلْ جَعَلُوا قَلْبَهُمْ مَاسًا لِئَلاَّ يَسْمَعُوا الشَّرِيعَةَ وَالْكَلاَمَ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّ الْجُنُودِ بِرُوحِهِ عَنْ يَدِ الأَنْبِيَاءِ الأَوَّلِينَ. فَجَاءَ غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْجُنُودِ. 13 فَكَانَ كَمَا نَادَى هُوَ فَلَمْ يَسْمَعُوا، كَذلِكَ يُنَادُونَ هُمْ فَلاَ أَسْمَعُ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. 14 وَأَعْصِفُهُمْ إِلَى كُلِّ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوهُمْ. فَخَرِبَتِ الأَرْضُ وَرَاءَهُمْ، لاَ ذَاهِبَ وَلاَ آئِبَ. فَجَعَلُوا الأَرْضَ الْبَهِجَةَ خَرَابًا». يؤكد لهم الرب أن حديثه عن الصوم بعد فترة السبعين عامًا من الذل هو بعينه حديثه لهم على يد الأنبياء قبل السبي، لا يطلب الأصوام أو الأكل والشرب (الأعياد) كهدف في ذاتها... "أليس هذا هو الكلام الذي نادي به الرب عن يد الأنبياء الأولين حين كانت أورشليم مغمورة ومستريحة ومدنها حولها والجنوب والسهل معمورين؟!" [7]. كلمة الرب لا تتغير في وقت الضيق أو وقت الرخاء، إذ هو يطلب الحياة المقدسة عندئذ يقبل أصوامهم كما أعيادهم ويشتم عبادتهم رائحة سرور. هكذا لا يفصل الله بين السلوك الروحي والعبادة الروحية لذا يطالبهم بالآتي: أولًا: "إقضوا قضاء الحق" [9]. إن كنا نقدم الصوم لكي ننعم بمراحم الله، فلا يليق بنا أن نحكم بالظلم على إخواتنا، لئلا نسمع كلمات الرب: "حتى متى تقضون جورًا وترفعون وجوه الأشرار؟! إقضوا للذليل واليتيم، انصفوا المسكين والبائس" (مز 82: 2-3). لقد صرخ حبقوق إلى الرب، قائلًا: "قدامي اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها، لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم البتة، لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجًا" (حب 1: 3-4). بدأ بالقضاء بالحق، أي وجه الحديث إلى الرؤساء الروحيين، إذ يليق بهم قبل أن يقرروا الصوم أو يتوقفوا عنه الاحتفال بالعيد المفرح يلزمهم مراجعة حساباتهم في حياتهم العلمية هل يمارسون العدل فيسمع الله لهم ويقبل مشورتهم أم يمارسون الظلم فلا ينتفعون بالصوم ولا بالأعياد! ليتهم يتمسكون بالعدل والحق منصتين لكلمات القديس جيروم على لسان الرب: [أعطيتكم سلطانًا على قطيعي وعلى شعب الله، فكونوا قضاة لا ذئاب]. ثانيًا: "اعملوا إحسانًا ورحمة كل إنسان مع أخيه، ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير" [9-10]. مع الالتزام بالعدل والحق يلتزم أيضًا بالإحسان والرحمة كل إنسان مع أخيه. يليق بنا أن نحمل روح ربنا يسوع المصلوب حيث أعلن على الصليب تعانق العدل والرحمة معًا. لقد وفي الدين الإلهي عنا معلنًا عدله ورحمته بلا تعارض. فلكي يشتم الله عبادتنا بما فيها من أصوام وأعياد يليق بنا أن نسلك بروح الحق بلا استهتار، وبروح الحب والرحمة بلا قساوة أو تجبّر. يقدم لنا القديس جيروم مثالًا للتصرف الحسن قائلًا: [بإن الشرير يقوم بأدوار كثيرة كمن يمثل على مسرح عندما يكون جائعًا يلبس قناع أسد ليفترس، وعندما يغتصب ممتلكات الآخرين يلبس قناع ذئب وعندما يقتل يلبس قناع قاتل إلخ... هكذا مع الفارق يليق بالقديسين أن تكون لهم أقنعة مختلفة لكنها صالحة. عندما أُعطى صدقة أكون كمن يلبس قناع الإنسان الحنون، وعندما أحكم بالحق ألبس قناع القاضي الصالح، وعندما أحتمل الضرر باتضاع أحمل قناع المتضعين... مسكين هو الإنسان الذي له أقنعة الشر، وسعيد هو الذي له الصلاح المتنوعة. وبنفس الفكر أقول إننا في الحياة نعيش كمن يقوم بأدوار متعددة وقصيرة، ألبس ربنا يسوع المسيح فيداخلي فيكون هو قناع الحق عندما أقضي، وقناع الأبوة الصادقة عندما ألتقي بالأيتام وقناع الحب المترفق عندما أتعامل مع الفقير إلخ ... إن أردنا ممارسة صوم مقبول لدى الله أو الاحتفال بعيد مفرح له، لنهتم بكل إخوتنا خاصة الأرملة واليتيم والغريب والفقير، نحمل حبًا بلا بغضة في القلب حتى نحو إخوتنا المضايقين لنا.] يقدم لنا القديس ديديموس الضرير مفاهيم روحية للأرملة واليتيم والغريب والفقير، فالأرملة الممتدحة هي التي فقدت رجلها الشرير الذي هو الشيطان، لتطلب عريسها الحق ربنا يسوع، واليتيم الصالح هو الذي فقد أباه الذي أنجبه في الخطية إذ يسمع الصوت "إنسيّ شعبك وبيت أبيكِ" (مز 45: 10)، ليكون له الرب نفسه أبًا يقوده إلى الأعالي. فقد قيل عن الله: "يعضد اليتيم والأرملة" (مز 146: 9)، "أبو اليتامى وقاضي الأرامل" (مز 68: 5). إنه يهتم أيضًا بالغريب الذي ترك "عبادة الأصنام" موطنه القديم لينطلق نحو أورشليم العليا، كما يهتم بالفقير الذي ترك كل شيء وحسبه نفاية ليربح المسيح. هكذا ليتنا ننطلق مع هذه الجماعة المقدسة، النفوس التي ترملت لتربح العريس السماوي، وتيتمت لتقبل الله أبًا لها، وتغربت لتنطلق إلى السماويات، وافتقرت لتقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن! ثالثًا: "ولا يفكر أحد منكم شرًا على أخيه في قلبكم" [10]. يقول القديس ديديموس الضرير: [بعد هذا التعليم الخاص بعدم ظلم المحرومين من العناية والحماية يؤكد الكتاب بشدة أنه يليق بنا أننسي الإهانات لا بالكلام فقط وإنما من عمق القلب... بنفس المعنى نذكر قول المخلص في الإنجيل: "فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي" (مت 6: 14)]. لقد قدم لنا السيد المسيح مثل الخادم المدين بعشرة آلاف وزنة (مت 18: 23-35)، فإذ سامحه سيده على دينه كان يليق به أن يعفو عن أخيه، لكنه إذ لم يعفو عنه فقد نعمة سيده. قد علق السيد على المثل بقوله: "هكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته" (مت 18: 35). رابعًا: الطاعة للوصية وسماع صوت الرب، إذ يقول: "فأبوا أن يصغوا وأعطوا كتفًا معاندة وثقلوا آذانهم عن السمع، بل جعلوا قلبهم ماسًا لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء الأولين، فجاء غضب عظيم من عند رب الجنود" [11-12]. هذا هو ملخص شرهم كله "عناد القلب الداخلي"، الذي يغلق باب مراحم الله في وجههم ليسقطوا تحت غضبه. من جهة السماع للشريعة أو الوصية يقول القديس ديديموس الضرير: [أوصى الرب الذي أعطاهم الناموس بهذه العبادة: "اصغ يا شعبي إلى شريعتي" (مز 77: 1)، وأن يتبع هذه الدعوة: "يلهج في ناموس الرب نهارًا وليلًا" (مز 1: 2)... لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك وقصها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك وأكتبها على قوائم أبواب بيتك وأبوابك" (تث 6: 6-8). بطاعتنا للوصايا المعطاة لنا نحسب أوفياء وسامعين للناموس. كيف لا يكون بالحق وافيًا وسامعًا ما دام يحفظ الكلام المقدس في نفسه وقلبه فيتكلم بها في بيته كما في الطريق، في نومه كما في يقظته؟! ففي نومه يقول للعالم بكل شيء، "إذا ذكرتك على فراشي في السهد ألهج بك" (مز 63: 6). وفي يقظنه ينطق ذات الشيء، إذ يذكر في فكره كلام ربنا قائلًا بجسارة: "يا الله، إلهي أنت، إليك أبكر" (مز 63: 1). وبنفس الاشتياق يقول مع النبي إشعياء: "بِنَفْسِي اشْتَهَيْتُكَ فِي اللَّيْلِ" (إش 26: 9)]. من لا يسمع للشريعة تكون له "كتفًا معاندة"، أي يعطي ظهره للشريعة في عناد وكما يقول القديس ديديموس: [يحدث هذا عندما نكون مغروسين في الشر فنستحق توبيخات المزمور 49: "للشرير قال الله: مالك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك وأنت قد أبغضت التأديب وألقيت كلامي خلفك؟!" (مز 49: 16-17)... من يعطي ظهره لكلام الرب يتجاهله بدون إحساس حتى أنه يدير ظهره لواهب هذا الكلام. إنهم مجانين ومملوئيين حماقة إذ يشتمون الرب واضع الشريعة بمخالفتهم لناموسه، وكما يقول الرسول: "الذي تفتخر بالناموس أبتعدى الناموس تهين الله؟!" (رو 2: 23)... إنهم يعطون ظهرهم للذي يكلمهم "حولوا نحوي القفا لا الوجه" (أر 2: 27)، مع أنه كان يجب على العكس أن يقدموا الوجه لخالق كل شيء... "إليك رفعت عيني يا ساكنًا في السموات" (مز 123: 21)، وأيضًا: "عيناي دائمًا إلى الرب لأنه هو يخرج رجلي من الشبكة" (مز 25: 15)]. من لا يسمع للشريعة تكون له أيضًا آذان ثقيلة عن السمع، وكما يقول القديس ديديموس: [إن الكتف المعاندة هي ثمرة الأذن الثقيلة عن السمع، وليس أُذن الجسد بل أُذن النفس. لقد قيل: "زاغ الأشرار من الرحم، ضلوا من البطن متكلمين كذبًا، لهم حمة مثل حمة الحية، مثل الصل الأصم يسد أُذنه الذي لا يستمع إلى صوت الحواة الراقين رقي الحكيم" (مز 58: 4-6). "كيف لا يكون عنيدًا وأصم من يثقل أذنه ويسدها، الذي من ولادته هو غريب عن الرب متكلمًا بالكذب وهو في البطن؟! يمكن أن ينطبق هذا أيضًا بطريقة رمزية على الذين صاروا غرباء منذ ولادتهم عن الكنيسة أمهم، ابتعدوا عنها مفضلين الأكاذيب منذ خروجهم من البطن، سدوا آذانهم مثل الحية فصارت طاقتهم في عمل الشر وبث السم]. يرى أيضًا القديس ديديموس أن إشعياء النبي يشهد عن هذه الآذان الثقيلة عن السمع الخاصة بالنفس، فيقول: "غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأُذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيُشفى" (إش 6: 10). "فإنهم إذ يتلذذون بدوامة الشر والكفر التي اختاروها لأنفسهم فتثقلت آذانهم وإنطمست أعينهم وغلظ قلبهم فلا يسمعون الحديث عن الفضيلة ومعرفة الحق القادرة أن تجعلهم فضلاء وتردهم إلى ذاك الذي ابتعدوا عنه، هذا الذي يستطيع أن يشفيهم من العمي وعدم السمع ..."]. ويلاحظ في الحديث الذي بين أيدينا تأكيد الحرية الإنسانية، فبكامل إرادته أبوا أن يسمعوا، وثقلوا آذانهم إلخ... الأمر الذي يؤكده الكتاب المقدس بعهديه. خامسًا: يرد الله عدم سماعهم له بعدم سماعه لهم، إذ يقول: "فجاء غضب عظيم من عند رب الجنود، فكما كان ينادي هو فلم يسمعوا كذلك ينادون هم فلا أسمع قال رب الجنود وأعصفهم إلى كل الأمم الذين لم يعرفوهم فخربت الأرض وراءهم لا ذاهب ولا آئب فجعلوا الأرض البهجة خرابًا" [12-14]. الله في محبته يهدد بالغضب حتى إذ نصرخ إليه: "لا تسخط كل السخط يا رب" (إش 64: 8)، "هل إلى الدهر تسخط علينا؟! هل تطيل غضبك إلى دور فدور؟! (مز 85: 6)، نجد نعمة في عينيه. فالرب في غضبه كما يقول: القديس ديديموس الضرير لا ينتقم لنفسه وإنما يعاقب لكي يجعلنا فضلاء، واضعًا نهاية للخطية كمرض أصابنا أو جراحات فينا، فإنه "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (2 تي 2: 4). فبغضه يكشف عن اهتمامه بخلاصنا، لذا قيل: "عندما يأتي غضبي أشفيه من جديد" (إش 7: 4)، كما يقول من شُفي من جراحاته: "أحمدك يا رب لأنه إذ غضبت عليَّ ارتد غضبك فتعزيني" (إش 12: 1). يقول القديس ديديموس الضرير: [إن غضب ربنا إذ يأتي معه حصاد الخير ليس بشر بل هو لازم. إنه عمل طبيب الأرواح الذي "يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب" (مت 4: 23)... كطبيب فهيم صانع الخيرات يستخدم علاجًا مؤلمًا وبغيضًا، كما يشهد النبي... "هو أيضًا حكيم ويأتي بالشر ولا يرجع بكلامه" (إش 31: 2)]. إنه يؤدبهم معلنًا "وأعصفهم إلى كل الأمم الذين لم يعرفوهم" [14]، مع أنه لم يُشتتهم في ذلك الحين في كل العالم وإنما سمح بأسرهم بواسطة أشور وبابل وهما أمتان معروفتان لهم في ذلك حين، مما يدل على أن التهديد قد حمل نبوة واضحة لما يحدث لهم برفضه السيد المسيح وعصيانهم له فيتشتتوا في العالم كله، بين أمم لم يكونوا بعد قد عرفوها. ما هذه الأمم التي يسقط تحت أسرها الإنسان برفضه الإيمان بالله إلاَّ الشرور المتنوعة كقول الكتاب: "أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلبهم النجاسة" (رو 1: 24)، "أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض لأنهم لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم" (رو 1: 28). فبرفض البشر معرفة الله تتخلى عنهم نعمة الله فيسقطون تحت أسر الخطايا ويقال عنهم: "مملوئين من كل إثم" (رو 1: 29)، هذه هي الأمم الغريبة عن طبيعة الإنسان التي خلقها الله على مثاله! بسبب العناد تُخرب الأرض وتتحول بهجتها إلى خراب، ولا يكون بها ذاهب ولا آئب، هكذا بالخطية يفسد الجسد (الأرض) وتتحول حياة الإنسان إلى حياة غمّ وعقم، فاقدًا السلام الداخلي والبهجة القلبية والثمر الروحي. |
||||