رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بين المسيح والكنيسة حين قرأنا رسائل بولس إلى رومة أو كورنتوس أو غلاطية، عنت الكنيسة جماعة أو جماعات مسيحيَّة في مدينة أو منطقة محدَّدة. كدت أقول رعايا تنضمّ بعضها إلى بعض. ولكن في الرسالة إلى أفسس كما إلى كولوسّي، اتَّخذ لفظ الكنيسة مفهومًا آخر. الكنيسة هي جماعة المؤمنين في كلِّ مكان. والرسول ينظر إليها من جهة المسيح. هو رأسها وهي جسده. هو يهتمُّ بها ويعتني ويضحّي بنفسه من أجلها لكي تكون مقدَّسة ولا عيب فيها. جاء الحديث عن الكنيسة هنا في معرض الكلام عن الزواج: علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة المرأة بالرجل: خضوع متبادل أوَّلاً، ثمَّ خضوع من جهة ومحبَّة وتضحية من جهة أخرى. ما الذي يُسند الخضوع؟ المحبَّة. فبدونها لا علاقة بين الرجل والمرأة. وينبغي هنا أن نقرأ هذا التوازي بين الخضوع والحبّ على أنَّه واجب على المرأة والرجل. فهي تحبُّ وتضحّي والرجل يحبُّ ويضحّي. وهي تخضع وهو يخضع أيضًا. فإن عدنا إلى مبدأ الخضوع والطاعة لأنَّ الرجل هو الأقوى، توقَّفنا عند عالم الخطيئة منذ البدء: »إلى زوجك يكون اشتياقك وهو عليك يسود« (تك 3: 16). هذا يعني أنَّنا لم نخرج من تفكير العهد القديم الذي ما زال ساريًا في أيّامنا. الرجل رأس المرأة إذًا هو السيِّد المطاع والقائد الذي يوجِّه الأمور كلَّها. ونتذكَّر الجدال المبنيّ على صُوّر لها معناها العميق، لا السطحيّ. يعود البعض إلى سفر التكوين أيضًا حيث المرأةَ »تولد« من الرجل، من ضلع الرجل، والمعنى الأساسيّ أنَّها جزء منه والقريبة إلى قلبه. ولكن جاء من يقول: إذًا، المرأة هي من الرجل وهو الأوَّل. بدَّل بولس هذا المنطق: »في الربِّ لا تكون المرأة من دون الرجل، ولا الرجل من دون المرأة« (1 كو 11: 11). كلاهما على صورة الله ومثاله. وردَّ على براهين قديمة: إذا كانت المرأة من الرجل (تك 2: 21-22). »فالرجل تلدُه المرأة« (1 كو 11: 12). وينهي: »والكلُّ من الله«. فالمبدأ البولسيّ الأساسيّ واضح: لا رجل ولا امرأة كما سبق وقلنا: لا عبد ولا حرّ. لا يونانيّ ولا عبرانيّ. في خلفيَّة النظرة إلى الكنيسة، فلسفة يونانيَّة نادى بها الرواقيّون (كانوا يجتمعون عند رواق من أروقة المعبد في أثينة) الذين اعتبروا الكون مدينة أو قرية. »كلُّهم من أصل واحد« (أع 17: 26). وكما في المدينة الواحدة يتشارك الأعضاء، كذلك يكون الأمرُ في العالم. وشبَّهوا المجتمع بجسد له أعضاء مختلفة. أخذ بولس هذه الصورة وطبَّقها على كنيسة كورنتوس (1 كو 12: 12-26) وانتهى إلى القول: »فأنتم جسدُ المسيح وكلُّ واحد منكم عضو منه« (آ27). أمّا الخلفيَّة الأعمق فهي أقوال الأنبياء بدءًا بهوشع وصولاً إلى إرميا وحزقيال وإشعيا. انطلق هوشع من حياته مع جومر امرأته، فتكلَّم على حياة الربِّ مع شعبه: الله هو العريس والشعب هو العروس. قال الربُّ بلسان نبيِّه: »لذلك سأفتنها وأجيء بها إلى البرِّيَّة وأخاطب قلبها... فتخضع لي هناك كما في صباها وفي يوم صعودها من أرض مصر... تدعوني زوجي... وأقطع لها عهدًا... وأتزوَّجكِ إلى الأبد، أتزوّجك بالصدق والعدل والرأفة والرحمة، أتزوَّجكِ بكلِّ أمانة، فتعرفين أنّي أنا الرب« (هو 2: 16-22). ويقول إرميا في الخطِّ عينه متوجِّهًا إلى »عروسه«، إلى جماعته المؤمنة: »أذكرُ مودَّتكِ في صباك، وحبَّك يوم خطبتك« (إر 2: 2). وقال إشعيا: »زوجُك خالقُك، اسمه الربُّ القدير«، ربُّ الأكوان (إش 54: 5). أمّا حزقيال فصوَّر لنا مسيرة العروس إلى عريسها في كلام نقرأه هنا في الرسالة إلى أفسس. قال: »نمَوتِ وكبرتِ وبلغتِ سنَّ الزواج... مررتُ.. دخلتُ معك في عهد فصرتِ لي. فغسلتك بالماء ونقَّيتك... وألبستُكِ ثوبًا مزخرفًا وجعلت الجلد الفاخر نعلاً لك والكتّان وشاحك والحرير كسوتك. زيَّنتك بالحليّ، ووضعتُ أساور في يديك...« (حز 16: 7-11). ذاك هو كلام الرسول عن الكنيسة وعلاقتها بالربِّ يسوع. »قدَّسها« أي فصلها عن العالم لكي تكون له ولا تخونه، لا في شخصها بل في أولادها الذين يمكن أن يعبدوا غير الله. ثمَّ »طهَّرها بماء الاغتسال«. هكذا تستعدُّ العروس للزواج. ولكن هنا، المسيح هو الذي طهَّرها، غسلها، وذلك في ماء العماد. فحين يعتمد المؤمن يعلن »الكلمةَ«، يعلن إيمانَه، ويواظب على هذا الإعلان مهما كانت الظروف والأخطار. بعد كلِّ هذا الحبّ »زفَّها الربُّ إلى نفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعُّد ولا ما أشبه ذلك، بل مقدَّسة لا عيب فيها« (أف 5: 27). وما توقَّف العمل في بداية الطريق، بل تواصل الاهتمام والعناية. فبعد العماد هناك الإفخارستيّا، فكما الشعب الأوَّل احتاج إلى الطعام والشراب في مسيرته عبر البرِّيَّة (المنّ، الماء)، كذلك الربّ يسوع: »يغذّي جسده (أي كنيسته) ويعتني به، كما يعتني بكلِّ واحد منّا لأنَّنا أعضاء جسده« (آ29). المرأة أمٌّ والكنيسة أمّ. والأمُّ تهتمُّ بأولادها بحيث يسيطر الحبُّ بينهم والسلام. اعتبر اليهود أنَّهم وحدهم شعب الله. أفهمتهم الكنيسة أنَّ البشريَّة كلَّها شعب الله. هم قريبون من الله لأنَّهم عرفوه. لا بأس. ودورهم أن يستقبلوا البعيدين. فبالإيمان والمعموديَّة صرنا كلُّنا قريبين من الله. ظنَّ اليهود أنَّهم وحدهم أهل البيت، فبيَّنتْ لهم الكنيسةُ أنَّ بيت الله واسع ليستقبل الآتين إليه، شرط أن يكون فيه نور يُرى من البعيد »فيستنير به الداخلون« (لو 8: 16). ولكنَّ المؤمنين الأوائل، ونحن أيضًا مثلهم حين يأتي »غريب« إلى كنيستنا، نسمع كلام الرب: »تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون ولا تتركون الداخلين يدخلون« (مت 23: 13). هل يدخل الأسود مع الأبيض ويجلسان الواحد قرب الآخر؟ هل تكون السيِّدة بجانب الخادمة وتصلِّيان معًا؟ والغنيّ مع الفقير؟ أم نسمع كلام يعقوب أخي الربّ: »الفقير يبقى واقفًا (في كنائسنا، عند الباب)، أمّا الغنيّ »فيجلس في صدر المكان« (يع 2: 2-3). والكنيسة راعية على مثال عريسها الراعي الذي يعرف خرافه وخرافه تعرفه. وهنا نعود إلى حزقيال الذي تكلَّم بفم الربِّ فقال: »أنا أرعى غنمي، وأنا أعيدها إلى حظيرتها، فأبحث عن المفقودة، وأجبر المكسورة، وأقوّي الضعيفة، وأحفظ السمينة والقويَّة، وأرعاها كلَّها بعدل« (حز 34: 15-16). ولماذا اتَّخذ الله المبادرة، لأنَّه رأى المسؤولين في شعبه »يرعون أنفسهم« لا الخراف. »يأكلون اللبن ويلبسون الصوف ويذبحون الخراف« (آ2-3). هم لا يُقوُّون الضعيفة ولا يداوون المريضة، ولا يجبرون المكسورة، ولا يردُّون الشاردة، ولا يبحثون عن المفقودة. وينتهي حكم الربّ: »تسلَّطتم على الخراف بقسوة وعنف فتبعثرت من غير راعٍ وصارت مأكلاً لكلِّ وحوش البرِّيَّة« (آ5). الخاتمة قالوا: الكلمة التي توجز الرسالة إلى أفسس هي »السر«. هذا البحر الذي ندخل فيه ونغوص، سرّ الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، تلك العيلة التي نُدعى للدخول فيها فنكون أبناء وبنات مع الابن الوحيد. هذا السرّ بقي مكتومًا وكُشف في يسوع المسيح الذي حقَّقه بدمه على الصليب وبقي على الكنيسة أن تعلنه للبشر، لا لفئة من الفئات ولا لشعب من الشعوب. تعلنه للبعيدين والقريبين، للغرباء ولأهل البيت. فمتى كان الله إلهنا وحدنا، لا إله الكون كلِّه؟ مثل هذا الإله يصبح »صنمًا« كما في الأيّام القديمة حيث كان للعمّونيّين إلههم والأدوميّين أيضًا والآراميّين. ونحن اليوم، كلُّ طائفة لها إلهها، وكلُّ طائفة لها مسيحها، وهكذا مزَّقنا المسيح كما قالت رسالة يوحنّا الأولى. والعلاقة بين المسيح والكنيسة سرّ، حيث تخضع الكنيسة لرأسها ويبذل الرأس حياته من أجل الجسد، من أجل الأعضاء، من أجل كلِّ واحد منّا بعد أن »أفاض غنى نعمته«. في هذه الكنيسة لا تمييز، لا محاباة الوجوه. كلُّنا إخوة وأخوات. هل نقبل أن ندخل في هذا السرّ، أم نبقى في الخارج ونكون مسيحيّين بحسب »إنجيل خاصٍّ بنا«؟ والزواج سرٌّ فيه الخضوع والحبُّ وبذل الذات. هو عقدٌ على المستوى البشريّ، وكلُّ عقد يمكن أن يحلّ: أمّا في المسيح فهذا »العقد« يشبه العقد بين الله وشعبه، بين المسيح وكنيسته. هو عقد يصل إلى الموت بل يتعدَّاه لأنَّ »الحبَّ أقوى من الموت« كما قال نشيد الأناشيد. والحياة العائليَّة سرٌّ حيث الأولاد يطيعون والديهم وحيث الوالدون يراعون أولادهم »فيربّونهم حسب وصايا الربّ وتأديبه« (أف 6: 1-4). وحيث يتآخى الأسياد والعبيد فيطيع العبيد (والخدم) أسيادهم »كما يطيعون المسيح« (آ5). ويعرف الأسياد أنَّ الله هو سيِّدهم وسيِّدُ العبيد »وهو لا يحابي الوجوه« (آ9). والحياة المسيحيَّة كلُّها سرّ نعيشه في الربِّ فنعرف أيَّ سلاح نأخذ: لا الدرع والترس والسيف والخوذة والسهام، بل إيمانًا نطفئ به جميع سهام الشرّير المشتعلة« فننال الخلاص بالروح الذي هو كلام الله«. لا حرب بعد اليوم، لا عداوة ولا حواجز في كنيسة الله، بين المؤمنين واللامؤمنين، ذاك هو السرّ الذي دخلنا فيه ونعيشه »إلى أن تكتمل الأزمنة فيجمع الله في المسيح يسوع كلَّ ما في السماوات وما في الأرض« (أف 1: 10). |
|