معني الاستشهاد لغويا:
يقال في اللغة العربية استشهد بمعني قتل في سبيل الله هذا هو المعني الاصطلاحي، لكن المعني الاشتقاقي لكلمة الاستشهاد مشتق من الشهادة، فاستشهد بمعني سئل للشهادة، أو طلب للشهادة، والشهادة هنا الشهادة للإيمان الذي يدين به الإنسان ويزود عنه، هناك بعض الناس يقرؤها استشهد، لكنها استشهد. استشهد فلان أي طلب للشهادة، فشهد للإيمان الذي يؤمن به.
وشهداؤنا سئلوا عن إيمانهم فجهروا به، وأعلنوه في قوة وفي جرأة، وكانت شهادتهم كرازة للحكام، ولمن سمعوا شهادتهم، وكثيرا ما ربحت هذه الشهادة لملكوت السموات جموعا آمنوا بالمسيح، كان يترتب علي هذه الشهادة أن هناك أناسا غير مؤمنين عندما يسمعون هذه الشهادة يؤمنوا بالمسيح، وأيضا يطلبون أن يموتوا شهداء, هذا هو إذن معني الاستشهاد، أن يشهد المسيحي للحق الذي يؤمن به. ويدعو الآخرين إلي أن يؤمنون، شهادة حق في إخلاص للحق وحب للحق، شهادة صدق من قلب طاهر مستند إلي الحق ذاته، وهو شهادة لشرف الحق الذي يعتنقه في فخر واعتزاز, فقد كانوا الشهداء فخورين بدينهم وبتبعيتهم للمسيح, ولم يكن الصليب عندهم عارا وإنما لهم عزة وفخار، رسموه علي وجوههم وعلي أيديهم.
وهذا هو أساس دق الصليب علي اليد، وهي معروفة عندنا نحن الأقباط الدق بالإبرة وبنوع من الخضرة ليبقي في اليد ولا يمحي، لكن أساسه كان في عصور الاستشهاد، من حب المسيحيين للاستشهاد، الآباء والأمهات كانوا يخافوا علي أطفالهم الصغار غير القادرين علي أن يتكلموا، فلو فرضنا أن الأب والأم قتلا من أجل المسيح, وتركا ابنهما الطفل، فخوفا عليه وعلي مستقبله فيدقوا علي يد الطفل منذ أن يكون رضيعا علامة الصليب، حتي أن الطفل وإن كان لا يعرف الكلام فلو أوتي به أمام الحاكم فهذه العلامة التي علي يده تنطق أنه مسيحي. ولو فرضنا أن الأب والأم ماتوا والطفل بقي في الحياة، فعندما يكبر يعرف أن أصله مسيحي من علامة الصليب التي علي يده، وذلك من اعتزازهم وخوفهم علي ابنهم أو ابنتهم من أنها تحسب غير مسيحية، يكونوا فرحانين ومبسوطين أن أطفالهم يقتلوا من أجل المسيح، لكي يضمنوا مستقبلهم الأبدي، ولو فرضنا أن الأب والأم ماتوا فيكون الطفل فيما بعد لو ترك حيا يعلم أنه مسيحي من علامة الصليب، وهي الأثر الباقي الذي يذكره أنه مسيحي، وأنه تعمد بالمسيح وأصبح في حساب المسيحيين.
والاستشهاد أيضا معناه وفاء بالمعروف، لأن إنكار المسيح خيانة، والاعتراف به وفاء بحبه وتقدير لحبه وتكريم لدينه، نذكر كلمات المسيح له المجد من اعترف بي أمام الناس أعترف به أنا أيضا أمام ملائكة السماء، ومن أنكرني أمام الناس أنكره أمام ملائكة الله.
فالاستشهاد فيه اعتراف لتبعية الإنسان للمسيح ولاينكره في ساعة الاضطهاد, وساعة الآلام، لايتنكر لمعرفته للمسيح ولتبعيته له إنما يعترف به، أوقات الاستشهاد أوقات مرة وفيها يمتحن الإيمان، وفيها يكون فرصة للتعذيب.
لماذا الاستشهاد؟
الشجرة في أوقات معينة وخصوصا أوقات الخريف، تهتز هزة عنيفة، هذه الهزة العنيفة للشجرة تجعل الأوراق تسقط، لكن أية أوراق؟ الأوراق الصفراء الضعيفة، في الخريف تجد الأرض كلها مملوءة بالورق، ولكن الورق الذي سقط لصالح الشجرة, لأنه أنقذ الشجرة من هذا الورق الأصفر الضعيف، لأنه لولا سقوط هذا الورق الأصفر الضعيف لما كانت هناك فرصة للبراعم الجديدة الخضراء أن تظهر، في البلاد الباردة مثل إنجلترا وألمانيا أو روسيا وما إليها من البلاد، نري في الشتاء أن الشجرة كلها عبارة عن حطب أسود، كل الورق وقع لدرجة الواحد يقول الشجرة ماتت. والنجيل من كثرة ما يسقط عليه الثلج يتفحم ويتحول إلي لون فحم أسود، والواحد يقول خلاص الطبيعة ماتت. وهذا الكلام لا نحسه نحن في الشرق لأنه لايكون عندنا برد بهذه الشدة لدرجة يموت الورق والشجر، لكن في البلاد الباردة التي صل لدرجة البرودة أحيانا إلي 50,35,30 تحت الصفر فيحدث أن الورق يقع كله، وتنظر الأشجار عبارة عن حطب أسود، وفي الربيع في أواخر مارس تبدأ براعم خضراء ونوع من اللون الأخضر الخفيف يسموه Line Green تنبت البراعم الخضراء الجميلة والواحد يكون مبسوط جدا أنه يري البراعم الجديدة الخضراء وحينئذ يحس الإنسان بالأمل، ويفهم معني الأمل، ويفهم معني الموت ومعني الحياة بعد الموت لأن الحياة بعد الموت ممكنة، نري الشجر مات ومع ذلك تدب فيه الحياة من جديد، وبدلا من الأوراق الصفراء الزائلة التي سقطت نبتت براعم جديدة.
هذه سياسة ربنا في الطبيعة...لماذا؟ حتي لا يعطل الورق الزابل البراعم الجديدة، فالشجرة لازم تهز ولابد أن تمر عليها هذه التجربة الأليمة، لكي تقع الأوراق الصفراء الذابلة لكي تعطي فرصة للبراعم الجديدة الخضراء والمحصلة بعد كل هذا أن الهزة العنيفة لم تضر الشجرة وإنما أفادتها.
فهنا إجابة علي السؤال الذي نسأله أحيانا لماذا الله يسمح بالتجارب والاضطهادات والآلام؟ لماذا يسمح بهذا؟ ثم يكون هناك سؤال أكبر من هذا، لماذا يترك بعض الشهداء يعذبوا ويأخذوا مدد طويلة من العذاب، مثلا مارجرجس أخذ 7 سنين, أي واحد فينا تمر عليه تجربة صغيرة يقول لماذا...؟ لماذا صنع الله ذلك، ويكون حزين ومتضايق من ربنا ويجدف علي الله، لكن نري واحد مثل مارجرجس استمر 7 سنوات، لماذا تركه ربنا يعذب....هذا سؤال؟ أو أبي سيفين أو الأمير تادرس أو الست دميانة أو غيرهم، كل هؤلاء السؤال يقوول لماذا ربنا تركهم؟ لماذا من الأول ربنا لم يساعدهم أو ينصرهم علي الأعداء؟ الإجابة علي هذا السؤال أن ربنا يعطي الفرصة للامتحان أوقات الاستشهاد، أوقات الامتحان هذه يظهر العنصر الطيب فرصته لثبات الإيمان.
الكتاب المقدس يقول جملة مهمة، لابدأن يكون بينكم بدع ليكون المزكون ظاهرين، الذين تزكوا أي تطهروا بارزين, آباء الكنيسة الكبار العظماء ما الذي صنع عظمة هؤلاء؟ الآلام. لولا الآلام لما ظهرت عظمة هؤلاء الآباء الكبار، لما ظهر صبرهم، ولما ظهر عنصرهم القوي، ولما ظهر ثباتهم، ولما ظهر عنادهم في الحق، وهذه أمثلة ونماذج وأدلة علي المحبة للة وعلي الصمود والصبر وقوة الثبات وقوة الإرادة وقوة الإخلاص وعدم التزعزع وعدم التردد.
كل هذه الصفات كيف تبرز، كيف تظهر، كيف يتمرن الإنسان عليها؟ إلا إذا كانت هناك ظروف الآلام واضطهاد. فنحن كثيرا جدا نسمع من شعبنا هذا السؤال لماذا؟ لماذا يتركنا الله؟ لماذا لايمد يده وينقذنا؟ الله يصبر ويري ويرقب من السماء ويعرف من الثابت, من الذي يتزعزع؟ من الذي يصمد؟ من الذي تخونه قواه؟ من الذي يستمر ومن الذي يرجع؟ وهذه العملية تطهر الكنيسة من العناصر الضعيفة. وهي مؤلمة لأن سقوط الأوراق من الشجرة خسارة ثم أنه يلوث الأرض، ولكن هذه العملية مفيدة للشجرة، تطهر الشجرة من الأوراق الصفراء الضعيفة.
الكنيسة من وقت إلي آخر في حاجة إلي هذه الهزة لتطهيرها، لتطهيرها من العناصر الضعيفة، الله لكي يحفظ للكنيسة استمرارها وبقائها يعطي الفرصة لأن تتخلص الكنيسة من العناصر الضعيفة المعطلة، لكي تتنقي الشجرة وتصير سليمة وتحمل رسالتها إلي الأجيال الآتية، فالاضطهادات مفيدة، وفترات الاستشهاد مفيدة، من جهة لبيان الثبات والصمود، وبيان محبة الإنسان لله إن كان حقا يحبه من قلبه، هناك كثيرون يتبعوا الدين لأن تبعيتهم للدين تنفعهم، تنفعهم للدني، ويوجد آخرون يربحو، علي الأقل غير النفع المادي الذي عند بعض الناس في بعض المجالات، يكون هناك نفع أدبي، إن هذا الإنسان ينال كرامة أو ينال مدحا أو يمدح من الآخرين، فلان هذا رجل متدين أو إنسان متدين، هذه البنت متدينة، هذه تكسبهم شهرة وممكن يترتب عليها نوع آخر من الكسب من أي نوع، فنحن علي حساب المسيح نكسب، علي حساب الدين نكسب، هذه العناصر التي تستفيد من الدين عندما تأتي ساعة الشدة تسقط وتتخلي عن الدين وتتنكر للدين، فإذا هزت الشجرة وسقطت هذه الأوراق الضعيفة، فهذا خير للشجرة لكي تتخلص من هذه الأوراق الضعيفة حتي تبقي الشجرة وحتي تكون هناك فرصة للبراعم الجديدة.
وهذا ما قالوه بعض الآباءدماء الشهداء بذار الإيمان أي دم الشهداء يتحول إلي بذور تنبت منه نبت جديد، هذا ما لاحظناه علي مر العصور أن ثبات الشهداء ووقفتهم الشديدة، الأمانة لسيدهم بهر بها غير المؤمنين فآمنوا ويصبح هذا ضد ما أراده الحكام، أنهم يضطهدوا المسيحيين لكي يقل عدد المسيحيين وتتطهر البلاد منهم، فإذا بهذه الشهادة يولد مسيحيون جدد ومن أحسن طراز, لأن الشخص الذي يدخل المسيحية في أيام الاضطهاد يكون من العناصر الطيبة التي لم تأت للإيمان نتيجة أي إغراء مادي، إذن ما الذي دفعه أن يدخل المسيحية؟هي الفضيلة التي رآها متمثلة في هؤلاء الشهداء الأبرار، فتأثرت نفسه بصمودهم وصبرهم وجهادهم و فضيلتهم، فأراد أن يتمثل بهم، بهر بثباتهم فانجذب إلي المسيح عن طريقهم.إذن دماء الشهداء بذار الإيمان.
هنا نبين أولا أن الاضطهاد والاستشهاد لامفر منه ,وبعد ذلك هو مفيد لكيان الكنيسة، هزة عنيفة يترتب عليها أن تسقط بعض أوراقها الضعيفة، وإن كان هذا خسارة لكنه بالنسبة للشجرة فائدة ومكسب.
المتنيح الأنبا اغريغوريوس اسقف البحث العلمي