رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع والإرْشَاد الأخَوي المَسيحي الأحَد الثَّالث والعِشرون من السَّنة الإرْشَاد الأخَوي المَسيحي (متى 18: 15-20) النص الإنجيلي (متى 18: 15-20) 15 إذا خَطِئَ أَخوكَ، فَاذهَبْ إِليهِ وَانفَرِدْ بِه ووَبِّخْهُ. فإِذا سَمِعَ لَكَ، فقَد رَبِحتَ أَخاك. 16 وإِن لم يَسمَعْ لَكَ فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين، لِكَي يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة. 17 فإِن لم يَسمَعْ لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي. 18 ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء)). 19 ((وأَقولُ لكم: إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت، حَصلا علَيها مِن أَبي الَّذي في السَّمَوات. 20 فَحَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أَو ثلاثةٌ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم)). مقدمة يُسلط إنجيل الأحد الأضْواء على خِطاب يسوع الرَّابع والأخير في إنجيل متَّى، وهو يُسمَّى العظة الكنسية، لأنَّها تعالج موضوع العلاقات بين أعضاء الجماعة الجديدة التي وُلدت من فصح الرَّبّ. يدعو يسوع فيها تلاميذه إلى إصلاح المُخطئ بينهم عن طريق الإرْشَاد الأخوي، كون الإصْلاح من أهم ملامح طريق مَلكوت السَّماوات (متى 18: 15-20). والغاية من الإصْلاح أن يعود الأخ الخاطئ إلى الجَّماعَة المجتمعة باسم المسيح للصَّلاة وإيَّاه معًا. لذلك يقدّم يسوع هنا كافّة الوسائل لتأمين التواصل الأفضل مع الأخ المُخطئ مع مراعاة حريته واحترام إرادته وقراراته كي يكون أخًا يستحق التقدير وبذل الذات، لأن يسوع عارف بِضعفنا ومُتفهّمًا له. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 18: 15-20) 15 ((إذا خَطِئَ أَخوكَ، فَاذهَبْ إِليهِ وَانفَرِدْ بِه ووَبِّخْهُ. فإِذا سَمِعَ لَكَ، فقَد رَبِحتَ أَخاك. لا تشير عبارة "خَطِئَ" إلى إهانة أو ضرر شخصي فحسب، إنما أيضًا إلى خطيئة التي تُبعد الأخ عن الجَّماعَة، لأنّ الخاطئ ينغلق على نفسه في خطيئته الشَّخصية. وهناك ترجمة أخرى تستند إلى بعض المخطوطات التي وردت في إنجيل لوقا " إِذا خَطِئَ إِلَيكَ" (لوقا 17: 4). فان إضافة "إليكَ" تُفسِّر الفقرة بمعنى ذي طابع فردي متوافق مع ورد في العهد القديم " لا تُبغِضْ أَخاكَ في قَلبِكَ، بل عاتِبْ قَريبَكَ عِتاباً، فلا تَحمِلَ خَطيئَةً بِسَبَبِه"(أحبار 19: 17)؛ أمَّا عبارة " أَخوكَ" فتشير إلى الابن في علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تكوين 27: 6) أو نفس الأب فقط (تكوين 28: 2) أو نفس الأم فقط (قضاة 8: 19). كذلك أطلق على قريب من الأسرة الواحدة، ابن الأخ (تكوين 14: 16) أو من نفس الجنس (نحميا 5: 7) أو من أمّة قريبة (تثنية الاشتراع 23: 7) أو من أمة حليفة (عاموس 1: 9). (3) أو من نفس الدِّين الواحد (أعمال 9: 17)؛ أو إلى الصَّديق المَحبوب (2 صموئيل 1: 26)، وكذلك أطلق على إنسان غريب كنوع من حسن الخطاب فقد دُعي أخاب بنهدد أخًا (1 ملوك 20: 32). وكذلك أطلق على أيِّ إنسان من الجنس البشري مراعاة لأخوَّة البشر (تكوين 9: 5). وكثيرًا ما دُعي المسيحيون أخْوة (متى 23: 8). وهنا تشير خاصة إلى القريب وخصوصًا إلى الأخ المسيحي (أعمال الرسل 1: 15)، وكانت هذه التسمية معروفة في الدين اليهودي للدلالة على أعضاء شعب الله. أمَّا عبارة " فَاذهَبْ إِليهِ " فتشير إلى الذِّهاب للمُخطئ ولا ننتظر مجيئه. لماذا؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: "لأنه ليس بالأمر السهل أن يذهب من ارتكب الخطأ ليعتذر لأخيه أو للجماعة، وذلك بسبب خجله وارتباك وجهه"، فعلينا أن نذهب إلى أخينا المُخطئ اقتداءً بالسيِّد المسيح نفسه الذي جاء إلينا من السَّماء ليُعاتبنا بمحبةٍ ولطفٍ. وهذا الأمر عكس المنطق البشري أن يقوم من أخطأ باتِّخاذ الخطوة الأولى، لانَّ الأخ المُخطئ هو في خطر، ومطلوب مساعدته وليس عزله. إن ما يجب عزله هو الشَّر، وليس الأخ الذي ارتكبه. أمَّا عبارة "َانفَرِدْ بِه" في الأصل اليوناني μεταξὺ σοῦ καὶ αὐτοῦ μόνου (معناها بينك وبينه وحدكما) فتشير إلى البحث عن المُخطئ لتحذيره في سبيل إصْلاحه مع حفظ صِيته وشرفه وكرامته؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس "فإن أردت توبيخه أمام الجميع فأنت لا تكون مصلحًا لأمره بل فاشيًا للسر". وفي الواقع، الانفراد يُسهل إقناع الغير بالحق، في حين المعاتبة علنًا تؤدِّي إلى الغيض من التوبيخ، والخَجل من الإقرار بالخَطأ، بل يجتهد المُخطئ عندئذ من تبرير نفسه وزيادة قساوة قلبه وعناده في الخطأ. أمَّا عبارة " وَبِّخْهُ " في الأصل اليوناني ἔλεγξον (معناه عاتبه) فتشير إلى تفحُّص الأمر وتثْبيته أمامه وإقناعه بلطف ومحبة وحكمة بدل من مجرد لومه أو معاقبته أو الانْتقام منه أو الحَقد عليه، بالتالي إبقاء العداوة في القلب. وفي هذا الصَّدد يقول بولس الرَّسول "أَيُّها الإِخوَة، إِن وَقعَ أَحَدٌ في فَخِّ الخَطيئَة، فأَصلِحوه أَنتُمُ الرُّوحِيِّينَ بِروحِ الوَداعة" (غلاطية 6: 1). وهذا الفعل " وَبِّخْهُ" هو عمل الروح القدس بحسب إنجيل يوحنا، إذ "أَخْزى ἐλέγξει العالَمَ على الخَطيئِة"(يوحنا 16: 8). يعمل الرُّوح القدس على كشف الشّر الكامن في الخاطئ فيقرّ بخطئه الشخصي حيث أنَّ هذه الخطوة ضرورية لأية مصالحة ممكنة من اجل استعادة الوحدة؛ أمَّا عبارة "فإِذا سَمِعَ" فتشير إلى الإصغاء إلى كلمة الأخ ضمن جماعة تلاميذ يسوع الذي يتكرر في هذا النص الإنجيلي ثلاث مرات (متى 18: 15، 16، 17). والأصغاء الحقيقي يُغيّر النظرة والقلب لذاك الذي يسمع جيداً. من يستمع، حتى لو ارتكب أي خطأ، لا يُستبعد من الجماعة، بل "يسترد" إلى الرب وإلى جسده أي الكنيسة. أمَّا عبارة " رَبِحتَ " فتشير إلى الدافع الأول لإصلاح المٌخطئ، ولا يُراد به رِّبحه للإيمان، ولا المحافظة عليه في عداد الأصدقاء، بل استبقاءه بين أعضاء الجَّماعَة المسيحية التي أوشك أن يتركها أو يهجرها أو يُفصل عنها، وبالتَّالي هلاك نفسه. لأنَّك لو تُرك المُخطئ دون عتاب فربَّما يبقى في طريق شرِّه بلا توبة فيهلك في خطيئته، ولكن بمعاتبتك إياه بمحبة يشعر بخطئِه فيتوب " فاعلَموا أَنَّ مَن رَدَّ خاطِئًا عن طريقِ ضلالِه خَلَّصَ نَفْسَه مِنَ المَوت وسَتَرَ كَثيرًا مِنَ الخَطايا" (يعقوب 5: 20). في الأخوّة المسيحية، كل واحد مسؤول عن أخيه، فواجبه البحث عن أخيه الضَّال: لأن هذا البحث هو وسيلة لمحبته. إن الله يأمرنا بالسَّلام والوِفاق والاتِّحاد في بيته، حيث أن الناس ينجون من الخصومات والنزاعات الكثيرة من خلال إتباعهم لهذا القانون. 16 وإِن لم يَسمَعْ لَكَ فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين، لِكَي يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة. تشير عبارة "لم يَسمَعْ لَهما" إلى الرَّفض والعِناد وعدم تقبل النُّصح الأخوي؛ أمَّا عبارة "فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين" فتشير إلى الخطوة الثانية لإصلاح الغير وإزالة الشر، وهي توسيع دائرة الأشخاص المدعوين للتدخل في الإصلاح. وهذ الخطوة لا تقوم على تأكيد خطأ الغير والشِّهادة ضدّه، وإنما على إقناعه بخطيئته وتنبيه ضميره وجعله يخجل من عِناده بوجود شهود، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" ألا ترى كيف أنه يفعل هذا ليس من أجل العقوبة العادلة، وإنّما بقصد الإصْلاح". أمَّا عبارة "رجُلاً أَو رَجُلَين" فتشير إلى شاهدين يدلَّان على خطأ الخاطئ فيفهم أن شهادتهما صحيحة. لأنَّ إذا بقي المُخطئ في عناده، كان من أخذه معه، شاهدًا عليه عند رفع الدَّعوى إلى الكنيسة، وانَّه فعل كل ما امكنه لإزالة الخِصام عن طريق السَّلام. أمَّا عبارة "يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة" فتشير إلى ما ورد في شريعة موسى "لا يَقومُ شاهِدٌ واحِدٌ على أَحَدٍ في أَيِّ إثْمٍ وأَيَّةِ خَطيئَةٍ يَرْتَكِبُها، ولكِن بِقَولِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثَةِ شُهودٍ تَقومُ القَضِيَّة" (تثنية الاشتراع 19: 15). فهذا المبدأ العادل والمعقول في الشريعة الموسوية، نقله السيد المسيح إلى العهد الجديد، وأثبته لخير الجَّماعَة المسيحية. 17 فإِن لم يَسمَعْ لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي. تشير عبارة "فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه" إلى الخطوة الثالثة لإصلاح الغير وإزالة الشر وهي توسيع دائرة الأشخاص المدعوين للتدخل في الإصلاح، وهي تولي السلطة المسؤولية للتدخل والتصحيح، حيث أنَّ الكنيسة تدلُّ على سلطان المَفاتيح الذي منحه السيد المسيح لبطرس (متى 16: 19). وهذه الخطوة ليست بمثابة من يشتكيه أمام المحكمة، وإنّما كمن يُخبر الكنيسة للاهتمام به ومعالجته بحكمة، ويُعلق القدّيس أوغسطينوس "أنّه يجب السهر على نظام الكنيسة" (الإيمان الأعمال، 3-5)؛ أمَّا عبارة "الكنيسة" في الأصل اليوناني ἐκκλησία (معناها جماعة مختارة وبالعبرية הַקָּהָל) فتشير إمَّا إلى هيئة الرسل، أو التلاميذ الأولين حول يسوع، أو جماعة متّى (متى 16: 19) وإمّا إلى جماعة المؤمنين أو كنيسة الأمم في اورشليم؛ أمَّا عبارة " لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً " فتشير إلى "مرضه الذي قد صار غير قابل للشِّفاء" كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. أمَّا عبارة " فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي" فتشير إلى أولئك الذين لا يُقبلون في الكنيسة كشخص محتقر، بل مجرّد شخص خارج عن الجَّماعَة الكنسية. المطلوب هو تجنب مصاحبة المُخطئ العنيد لا معاداته أو إضمار له السُّوء بل تركه كإنسان غريب، لكن لا يجوز بغضه، كما جاء في تعليم بولس الرسول " إِذا كانَ أَحَدٌ لا يُطيعُ كَلامَنا في هذِه الرِّسالة فنَبِّهوا إِلَيه ولا تُخالِطوه لِيَخجَل، ولا تَعُدُّوه عَدُوًّا، بلِ انصَحوه نُصحَكم لأَخ"(2 تسالونيقي 3: 14-15). الإنسان المُتصَّلب في عناده وخطيئته يَحرم نفسه من العضويّة في جسد المسيح السِّري أي الكنيسة. وعندما يرفض الإنسان الكنيسة، يصير من حق الكنيسة أن تربطه، وعندئذٍ يُسلم أمره إلى رحمة الله. وهكذا لا تعد الكنيسة مسؤولة عنه. إن المُخطئ العنيد يُقطع على الأقل مؤقتاً من الشركة المسيحيَّة، ويُصبح خارج الكنيسة فلا تعود للكنيسة من سلطة عليه. هذا هو أساس الحرم والسَّبب نجده في تعليق القديس قبريانس " كيف يمكن أن يوجد اتِّفاق مع شخص لا يتّفق مع جسد الكنيسة نفسها والأخوة الجامعة؟". أمَّا عبارة " الوثَنِيِّ " فتشير منذ ترتليانوس (حوالي 160 إلى 220 م) إلى الذين ليسوا بمسيحيّين. وزاد أوغسطينوس: ليسوا مسيحيّين ولا يهودًا. أما في الأصل اليوناني واللاتيني فارتبطت اللفظة (في اللاتينيّة) بسكان الريف، لأنّ المسيحيّة انتشرت في البدء، شأنها شأن يهوديّة الشِّتات، في المُدن، ساعة ظلت "القرى" أمينة للعبادة الوثنيّة. إنّ لفظة "وثنيّ" لا تقابل تمامًا لفظة "أممي" التي تعني في التقليد اليهوديّ "غير اليهودي". أمّا العربية، فارتبط اللفظ بالأوثان. أمَّا عبارة "الجابي" فتشير إلى العشَّار الذي هو يجمع العُشْر؛ والعُشْر هو حق المرور والضريبة على المنتوجات أو المستوردات، عُرف منذ الحقبة الفارسيّة (عزرا 4 :13-20). ولكن لم تنظّم الضرائب بشكل متكامل إلاّ في الحقبة الرومانيّة. كانت كل مقاطعة رومانيّة تكوّن منطقة جمركيّة تجمع المال لصندوق الدولة الرُّومانيّة، وكان لليهود أيضًا مكتب لدفع الضَّرائب، (لوقا 19 :1، مرقس 2 :14). وبما أنّ نتاج الضَّرائب يجب أن يتعدّى ما تطلبه الدَّولة، وجب على العَشّارين أن يكونوا قُساة وظالمين، لهذا كانوا مبغوضين. ثمّ زاد البُغض عليهم، لأنّهم يتعاملون مع العدوّ (في زمن يسوع). ومن أجل هذا، فالعشَّار هو خاطئ: جُعل مع الخطأة (متى 9 :10)، مع الوثنيّين (متى 18 :17)، مع الزُّناة (متى 21 :31). وهو أيضا من عملاء الاحتلال الرُّوماني الجشعين المبتزّين المُختلسين! اجتذب يوحنا المعمدان العشّارين إلى التوبة (لوقا 3 :12) ثمّ اجتذبهم يسوع (لوقا 15 :1) الذي تحدّث عنهم تارة بشكل سلبيّ (متى 5 :46) وطورًا بشكل إيجابي (لوقا 18 :9-14). يذكر الإنجيل زكّا العشّار (لو 19 :2) الذي استقبل يسوع في بيته، ومتّى أو لاوي (مرقس 2 :14) الذي كان واحدًا من الرُّسل. 18 ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء)). تشير عبارة "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء" إلى سلطة موجّهة لكل الرُّسل، وهي السُّلطة التي أُوليت قبلاً إلى سمعان بطرس " وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات "(متى 16: 19). إن المقصود هو سلطان غفران الخطيئة أو رفضه، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسول "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم (يوحنا 20: 23)؛ وتلتزم الكنيسة أن تربطه ليس تشفيًا فيه، وإنما لحفظ بقيّة الأعضاء من فساده لئلا يتسرَّب إليهم. والجدير بالذكر أن السيِّد المسيح يتكلم عن الرَّبط أولًا، فالحَل، حتى يُعطي للمربوطين رجاءً في الحَل، إذ يتحدّث السَّيِّد عن ربط الإنسان الرافض للكنيسة وحلِّه متى رجع إليها بالتَّوبة. يعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك الإسكندريّة "من يمتلك هذه القدرة على الحل والربط أيضًا؟ هو وحده السيد المسيح أو نحن أيضًا؟ نحن أيضًا معه. فهو يغفر الخطايا لأتّه الإنسان والإله، وربّ الشريعة. أما نحن فقد تلقّينا هذه النعمة الرّائعة والعجيبة، لأنه أراد أن يعطي الإنسان هذه المقدرة"(شرح لإنجيل القدّيس لوقا، 5). أمَّا عبارة "في السَّماء" فتشير إلى منح الله الحلَّ من السَّماء ليؤيِّد الرُّسل في نظر شعبه. فرسالة الكنيسة ليست أن تراقب أخطاء أعضائها وتحسب عدد أخطائهم، بل هي أن تُظهِر لهم طريق الخلاص. 19 ((وأَقولُ لكم: إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت، حَصلا علَيها مِن أَبي الَّذي في السَّمَوات. تشير عبارة "إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت" إلى الصَّلاة الجماعية التي تتم ُّ داخل الكنيسة، وهي من وعود الإنجيل العظيمة بخصوص الصَّلاة، كما ورد في إنجيل يوحنا "إِذا ثَبَتُّم فيَّ وثَبَتَ كَلامي فيكُم فَاسأَلوا ما شِئتُم يَكُنْ لَكم" (يوحنا 15: 7). وتشير العبارة أيضا إلى كل عمل جماعي مثل الإصْلاح الأخوي، إن الوعد قد أعطي، بنوع خاص لجماعة المؤمنين والمسيح في وسطهم، وذلك من منطلق صلة هذه الآية (متى 18:19) بالآيات السابقة (متى 18:18 واللاحقة (متى 18: 20). ويُعلق القديس أمبروسيوس" إن كان الرب يقول إنه إذا اتّفق اثنان معًا على الأرض في أي شيء يطلبانه يُعطى لهما... فكم بالأحرى إن اجتمعت كل الجَّماعَة معًا باسم الرب؟". فالدافع الثاني لإصلاح المخطئ هو حضور الله في الجماعة، لأنَّ الآخر هو جزء من نفس الجماعة المسيحيَّة، أي الكنيسة، جسد المسيح السِّري. انفصال الآخر عن الجماعة يؤثِّر بالجميع. يُعلق الراهب اللاهوتي لانسبيرج الكرتوزيّ " من المناسب أن نخصّص لله مكانًا محدّدًا حيث يمكننا أن نلتقي، نحن المسيحيّين الذين نشكّل هذه الجماعة، لنمجّد الله ونصلّي له جميعًا، فنحصل بذلك على ما نريده بطريقة أسهل بفضل هذه الصلاة الجماعيّة "(عظة عن تكريس الكنيسة). أمَّا عبارة " طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت " فتشير إلى الإرْشَاد وسلطان الحكم لخير الكنيسة. فالوَعد هنا يرتبط بشكل خاص بالرسل لأجل تنظيم الكنيسة في زمن تأسيسها. وهذا الأمر لا ينفي فاعلية صلاة الإيمان انفرادية كانت أم جماعية. 20 فَحَيثُما اجتَمَعَ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم)). تشير عبارة "حَيثُما" إلى أي مكان. هذا كلام عام قاله يسوع لإثبات ما سبق من وعده الخاص للرُّسل. أمَّا عبارة " اجتَمَعَ " فتشير إلى المجتمعين باسم يسوع وليس إلى عددهم. أمَّا عبارة "بِاسمِي" فتشير إلى سلطان يسوع وأمره ونيابة عن الآب، باسم الابن، أي مُطالبين بسلطان السيد المسيح ومستخدميه. وهذا الاجتماع مطلوب أن يكون للصلاة والتَّسبيح وتأمل الكتاب المقدس (يوحنا 14: 13)، وان يكون الاجتماع مُستند على استحقاق المسيح وآلامه ووساطته. أمَّا عبارة "كُنتُ هُناكَ بَينَهم" فتشير إلى وعد يسوع قبل صعوده إلى السماء " كما قال:" هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العالَم " (متى 28: 20). وهذا النص قوي وهو تكرار لعبارة معروفة في الدين اليهودي، وردت في أقوال أحد الربانيين" إن اجتمع شخصان وتلا أقوال الشريعة، كانت שכינה) (حضور الله المقدس) بينهما ". هذه طريقة استعملها يسوع معلنًا أن "الله حاضر بيننا". يُعلق القدّيس قِبريانُس، أسقف قرطاجة " لقد أظهر بهذا القول أنّ عدد المصلّين غير مهمّ، إنّما ما يهمّ هو وحدتهم التي تستمطر عليهم النِّعَم. وضع المسيح وحدة النفوس في المقدّمة كما وضع السلام والاتفاق في المقام الأوّل" (عن وحدة الكنيسة). إن متى الإنجيلي يربط سلطان الحلِّ والرَّبط بحضور المسيح بين خاصته؛ إن الوعد قد أُعطي بنوع خاص لجماعة المؤمنين والمسيح بينهم، وذلك لتأديب أخٍ مخطئ "فإِن لم يَسمَعْ لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي" (متى 18: 17)، وان سلطتهم لعمل ذلك تكرَّرت "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء "(متى 18: 18). وتستند هذه الجَّماعَة في آخر الأمر إلى حضور المسيح في وسطهم. من المرجح أن المراد بكلمة يسوع هذه لا يقتصر على الوعد بحضوره لكل صلاة تُقام باسمه وهذا أمر بديهي، بل هو تشجيع جميع محاولات النصح والمصالحة بين الأخوة في حضن الكنيسة وهما لا يتحقّقان إلا باسمه. فوضع يسوع قوانين وأولى سلطات لتقى هذه الجَّماعَة المتماسكة إن عرّضتها الخطيئة للانقسامات أو للدمار. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 18: 15-20) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 18: 15-20)، نستنتج انه يتمحور حول الإرْشَاد الأخوي في الكنيسة وأهميته في صلاة الجَّماعَة. 1) الإرْشَاد الأخوي (متى 18: 15-20) في خطاب يسوع الرابع والأخير في إنجيل متى يوصي يسوع تلاميذه بعدم احتقار الخروف (الأخ) الضال، بل يجب القيام بالإصْلاح الأخوي (متى 18: 15-20) الذي هو من أهم قواعد الحياة المسيحية الأساسية. لانَّ الكنيسة ليست مكوًنة من جماعة أبرار فقط، بل من جماعة خاطئين أيضًا. والغاية من الإصْلاح أن تُعيد أخاك إلى الجَّماعَة المجتمعة باسم المسيح لتصلي وإيَّاه معاً. ومن هنا تأتي أهمية البحث في الإرْشَاد الأخوي، وأهميته في صلاة الجَّماعَة. ويقوم الإرْشَاد الأخوي بحسب تعاليم المسيح في إنجيل متى على ثلاثة خطوات: الخطوة الأولى: الإرْشَاد الفردي (متى 18: 15) "إذا خطئ أخوك، فاذهب إليه وانفرد به ووبّخه. فإِذا سمع لك، فقد ربحت أخاك" (متى 18: 15). يطالب يسوع في هذه الآية إلى التَّكلم شخصيًا مع الأخ المُخطئ وإخباره عن فعلته السيئة، بهدف مساعدته على إدراك أفعاله وتصرفاته: لان سلوكه الخاطئ، فهو لا يُسئ فقط إلى شخصٍ واحدٍ، بل إلى كل الجَّماعَة التي ستتأثَّر بشهادته السيِّئة. ويسوع يُبَرِّر ذلك كوننا "إخوة". نحن إذن أمام مسألة تخصُّ وَحدة الكنيسة وهويتها. انطلاقا مما سبق لا يطلب يسوع تشريح المُذنب، بل إصلاحَه، لا يطالب الفصل الفوري للخاطئ، بل توصية بألا نتحوّل عن المُسيء إلى بغض والأخذ بالثأر بذكر أخطائه في غيابه وتشهيره أمام الآخرين، أو أن نذيع عنه الإشاعات، لان هذا الأمر لا يُعتبر إصلاحًا ، بل نميمة واغتيابًا وكراهية؛ وهذه الأمور غير لائقة بتلاميذ المسيح، ويُعلق القديس أوغسطينوس " لكي نستطيع أن نتمِّم ما قد أُمرنا به يسوع اليوم يُلزمنا قبل كل شيء أن نبتعد عن الكراهية، لأنه عندما لا تكون هناك خشبة في عينك تقدر أن ترى حقًا ما بعين أخيك، كما جاء في تعاليم يسوع "كيفَ يُمكِنُكَ أَن تَقولَ لأَخيكَ: يا أَخي، دَعْني أُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الَّتي في عَينِكَ؟ أّيُّها المُرائي، أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً، وعِندَئذٍ تُبصِرُ فتُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك" (لوقا 6: 42). من المهم قبل أن نُقّدم النصح والإصْلاح للآخرين، لا بُدُّ للإنسان أن يفحص حياته ويرى فيها النواقص ويبدأ بإصلاح نفسه. مَن هو منقسم على ذاته ويَملك قلبًا "مزدوجًا" لا يمكنه إلا أن يخلق انشقاقًا حوله. أمَّا الذي قلبه مُوحّدٌ فانَّه يزرع الوَحدة. النور الذي فيك لا يسمح لك بإهمال نور أخيك. أمّا إن حمَلتَ فيك كراهيّة، وتريد إصلاحه، فكيف تصلح نوره وأنت فاقد النور! إذ يقول الكتاب المقدّس: "كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل" (1يوحنا 3: 15). كما يقول أيضًا من "مَن يُبغِضُ أَخاه لم يَزَلْ في الظَّلام إلى الآن" (1 يوحنا 2: 9). فالبغض إذن هو ظُلمة، فمن يكره الآخرين إنّما يُضر نفسه أولًا، مُفسدًا داخله". لقد أراد السيِّد أن يدخل بتلاميذه إلى حياة الإرْشَاد، بعيدًا عن روح الانتقام، لانَّ الانتقام ينزع عنا عطيّة الله العُظمى، والكراهيّة وتحجبنا عن ملكوت السَّماوات. وفي الوقت نفسه يتوجب علينا ألاَّ نتهرب من مسؤوليتنا مُجيبين الله بنفس جواب قايِن عندما سأله أين أخوك فأجاب "أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟" (التكوين 4: 9). وكأنّ قايِن يقول: لم أختر لي أخًا بل أنت يأرب اخترته، فلمَ يُطلب إليّ أن أعتني به؟ ومن هنا جاء قول الفيلسوف الجاحد جان بول سارتر "الآخر هو الجحيم". أمّا في الكتاب القدس يّقدِّم الأخ كطريق إلى الذات، ورجاء السَّماء. جعلني الله رقيبًا لأخي، لكي أحبّه وأصلحه، وحين أجتمع بأخي يكون الله معنا فتصير الأرض سماءً. من هذا المنطلق، يسوع يطالب الأخ الذي لاحظ "خطيئة" أخٍ آخرٍ، أن يذهب إليِّه ويُقابله وجهًا لوجهٍ على انفراد ويعاتبه "لأن العِتاب صابونُ القلب"، ولانَّ معاتبة الأخ خيرٌ من فقده. وجاء في الحديث الشريف "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا": إن كان ظالمًا فلينْهه، وإن كان مظلومًا فلينصره. فمن الضروري أن يتوصل الأخ المُخطئ أن يعرف أخطاءه ويستوعب حقيقة الشَّر الذي يسكن فيه، وهذا الأمر يُعد خطوة ضرورية للمصالحة وعودته للوحدة مع جماعته. لانَّ الشر يبقى مستترًا، وعمل الروح القدس من خلال الأخ المؤمن يسعى أن يفضحه ويكشفه أمام ضمير الأخ الخاطئ. لذلك يقوم بنصحه بسريَّة وتكتم ٍ للحفاظ على سمعته وشرفه، وليُتيح له فرصة لاستعادة العلاقة مع الجَّماعَة. السِّرِّيَّة هنا هامة لعودة الصَّفاء للمخطئ، أمَّا التشهير فيزيده عنادًا. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لم يقل السيد: اذهب اتَّهمه أو انصحه أو أطلب منه تصفية الحساب معه، وإنما (عاتبه) مخبرًا إيّاه بخطئه، وما هذا إلاّ تذكيره بما أخطأ به". ويقول البابا فرنسيس في زيارته إلى كولومبيا "إنّ المسامحة لا تُفرَض، بل يجب أن تُولد من القلب". فكلمة "أخوك" هو الأخ القريب وخاصة الأخ المُؤمن. وفعل "وبّخه" لا بمعنى أنه يودّ تأكيد خطأه، أو ينتظر أن يعتذر له، إنما يخاطبه لثقته بمحبته مُبيِّنًا الأمر أمامه مع لومه لخطيئته لكي يعطي له الفرصة لمراجعة نفسه بلا عناد؛ وذلك ليحمله إلى التَّوبة للرَّبّ لا للاعتذار ولكي يُنقذه من الخطأ ويربحه كعضوٍ معه في جسد المسيح السِري. وفي هذا الصدد قال بولس الرسول " وهذا كُلُّه مِنَ اللهِ الَّذي صالَحَنا بِالمسيح وأَعْطانا خِدمَةَ المُصالَحَة، ذلك بِأَنَّ اللهَ كانَ في المَسيحِ مُصالِحًا لِلعالَم وغَيرَ مُحاسِبٍ لَهم على زَلاَّتِهم، ومُستَودِعًا إِيَّانا كَلِمَةَ المُصالَحَة" (2 قورنتس 5: 18-19). أمَّا كلمة ربحت فلا يُراد به الرِّبح للإيمان، ولا المحافظة عليه في عداد الأصدقاء، بل استبقاؤه بين أعضاء الجَّماعَة المؤمنة التي أوشك أن يهجرها أو يُفصل عنها. فكل أخٍ هو أخ لك في الجَّماعَة المسيحية لا يقدّر ولا يعوّض، لذا لا يجوز فقدانه بكل سهولة وخِفَّة، فعودته إلى الجَّماعَة يحقِّق وعد المسيح القائم " فَحَيثُما اجتَمَعَ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم"(متى 18: 20). المسيحيون بحكم انتمائهم إلى الرب، هم رُقباء بعضهم على بعض للحفاظ على وحدة الجَّماعَة. والرقيب هو من راقب الناس إصلاح ما فسد. وكما أقام الله حزقيال النبي رقيباً لآل إسرائيل كذلك أقامنا يسوع رقباء كل واحد للآخر لكي ننذر المنافق للتوبة عن طريقه لئلا يموت بإثمه. " فإِذا قُلتُ لِلشَرير: يا شِرير، إِنَّكَ تَموتُ مَوتًا، ولم تَتَكَلَّمْ أَنتَ مُنذِرًا الشِّرِّيرَ بِطَريقِه، فذلك الشَريرُ يَموتُ في إِثمِه، لكِنِّي مِن يَدِكَ أَطلُبُ دَمَه. أَمَّا إِذا أَنذَرتَ الشَريرَ بِطَريقِه لِيَرجِعَ عنه ولم يَرجِعْ عن طَريقِه، فهو يَموتُ في إِثمِه، لكِنَّكَ تَكونُ قد خلَصتَ نَفْسَكَ." (حزقيال 33: 8-9). وجاء في رسالة القديس يعقوب ما يؤكد ذلك: " يا إِخوَتي، إِن ضَلَّ بَعضُكم عنِ الحَقّ ورَدَّه أَحَدٌ إِليه، فاعلَموا أَنَّ مَن رَدَّ خاطِئًا عن طريقِ ضلالِه خَلَّصَ نَفْسَه مِنَ المَوت وسَتَرَ كَثيرًا مِنَ الخَطايا" (يعقوب 5: 19-20). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إنّ المسيح لم يقل إنك تنال انتقامًا كافيًا بل تربح أخاك، مظهرًا وجود خسارة مشتركة لك وله بسبب العداوة، إذ لم يقل "يربح نفسه" بل "تربح (أنت) نفسه" مظهِرًا أن الخسارة قد لحقت قبلًا بالاثنين، الواحد خسر أخاه والآخر خسر خلاصه" كما يقول حزقيال النبي: "إِذا أَنذَرتَ الشَريرَ بِطَريقِه لِيَرجِعَ عنه ولم يَرجِعْ عن طَريقِه، فهو يَموتُ في إِثمِه، لكِنَّكَ تَكونُ قد خلَصتَ نَفْسَكَ " (حزقيال 33: 9). من كان عِدائيًّا تُجاه أخيه الّذي يعاني من صعوبات ما، ونصب له فخًّا لضعفه مهما كان نوعه، فإنّه يُخضع نفسه لشريعة الشَّيطان. يعلق الراهب إسحَق النجمة قائلاً: " لِمَا لا أتحمّله بصبر، لِمَا لا أعزّيه من كلّ قلبي حسب ما ورد في الكتاب " المحبة تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء"؟ (قورنتس 1كور13: 7). في كلّ الأحوال، هذه هي شريعة الرّب يسوع المسيح. في آلامه "قَد حَمَلَ هو آلاَمَنا " وبرحمته "احتَمَلَ أَوجاعَنا" (أشعيا 53: 4). أحبّ الّذين حمل وحمل الّذين أحبّ" (العظة 31). الخطوة الثانية: الإرْشَاد مع شهود (متى 18: 16) "وإِن لم يَسمَعْ لَكَ فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين، لِكَي يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة " (متى 18: 16). وإن لم يرتدع المخطئ، ولم يسمعْ لك فخذ معك رَجُلاً أو رَجُلين من ذوي السُّمعة الطيِّبة والخبرة والحكمة في حل المشاكل لكي يُحكم في كل قضية بناءً على كلام شاهدين أو ثلاثة" (متى 18: 16). هذه العبارة مقتبسة من العهد القديم "لا يَقومُ شاهِدٌ واحِدٌ على أَحَدٍ في أَيِّ إثْمٍ وأَيَّةِ خَطيئَةٍ يَرْتَكِبُها، ولكِن بِقَولِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثَةِ شُهودٍ تَقومُ القَضِيَّة" (تثنية الاشتراع 19: 15). فهذا المبدأ العادل نقله الرب إلى العهد الجديد وأثبته لخير الكنيسة. بعد المحاولة الأولى الفردية لإقناع الخاطئ لا بُدّ من محاولة أخرى أمام شاهدين حيث يُدرك أن شهادتهما صحيحة. تُعلِّمنا هذه الخطوة تُعلِّمنا ألاَّ نستسلم أمام الفشل، وألاّ نلجأ إلى الإجراءات التي تُدين الخاطئ بقسوة قبل استخدام كافة الطرق الأخرى، بل علينا أن نحترس من الحُكم على الشَّخص اعتباطًا وباطلاً، وان نواصل عملية إنقاذ "الأخ" بمساعدة الآخرين للعودة إلى شركة الجَّماعَة. وقد سبق السيد المسيح وقال للمخطئ لا تقدم قربانك على المذبح قبل أن تصطلح مع أخيك " إِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك"(متى 23:5-24). إن هذه الآيات تبدو مُوجّهة إلى تخفيف من حماسة بعض المسيحيين المُطالبين بالفصل الفوري للخاطئ وان نحترم إرادته عندما يصرّ على خطأه ونقوم نحن بالتواصل معه دون كلل ولا نتركه في الشَّر والفساد، بل أن نمضي في طلبه لكيلا يهلك، بل نُعيده إلى شركة الجَّماعَة، كما أعاد يسوع الخروف الضَّال إلى الحظيرة (متى 18: 12-14). الخطوة الثالثة: الإرْشَاد مع الكنيسة (متى 18: 17) "فإن لم يسمع لهما، فأخبر الكنيسة بأمره. وإِن لم يسمع للكنيسة أيضاً، فليكن عندك كالوثنيّ والجابي" (متى 18: 17). الخطوة الثالثة هي لفت نظر الكنيسة في حالة رفض الخاطئ الإرْشَاد مع الشهود وترك الأمر لحكم الجَّماعَة، أي الكنيسة لكي تَصفَح عنه وتُشَجِّعه" مَخافَةَ أَن يَغرَقَ في بَحْرٍ مِنَ الغَمّ" (2 قورنتس 2: 7). وتقوم الكنيسة بالإصْلاح بناءً على السلطة المفوَّضة لها من قبل سيدنا يسوع المسيح "الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء)). (متى 18: 18). ليس للكنيسة هدفٌ إلا إحقاقِ الحق وإنصاف المَظلوم ومُصالحةِ النَّاس. في هذه الحالة، من المفروض أن يقبل الطرف المُخطئ بالحَل ويتمَّ الصلح. وإذا رفض المخطئ إرشاد الكنيسة، عندئذٍ يتحملُ مسؤولية قراره، إذ يضع نفسه خارج الجَّماعَة برفضه المُتصلب. عندئذٍ تعتبره الكنيسة كالوثني والعشَّار، وهذا موقف قوي وقاسٍ جداً، إذ أن اليهود في عقلية ذلك الزمان كانوا يحتقرون الوثنيِّين، لأنَّهم "يقتفون الباطل"(ارميا 2: 2-5) ولا يتفقون مع الإيمان الذي ينتظره الله من ذويه (2 مكابين 6: 18)، كما أنَّهم كانوا يحتقرون العشَّارين، يصفونهم بالقسوة والظلم، فمنعهم الشَّعب من دخول هيكله أو مجامعه ومن الاشتراك في الصَّلاة والحفلات (لوقا 3: 12). وهكذا كانت الكنيسة تمنع الخاطئ العنيد من شركتها والاشتراك في الأسرار. وخير مثال على ذلك في تعليم بولس الرسول "كَتَبتُ إِلَيكُم أَلاَّ تُخالِطوا مَن يُدْعى أَخًا وهو زانٍ أَو جَشِعٌ أَو عابِدُ أَوثان أَو شَتَّامٌ أَو سِكِّيرٌ أَو سَرَّاق. بل لا تُؤاكِلوا مِثْلَ هذا الرَّجُل " (1 قورنتس 5: 11). ولا يُمكن اعتباره "كالوثني والجابي" إلاّ بعد تجربة كل الطُّرق لإرجاع الخاطئ. عندئذٍ يصبح خارج الكنيسة فلا يعود للكنيسة من سلطة عليه. هذا هو أساس الحرم التي تضرب بها الكنيسة خاصة الخيانة تجاه الله (تثنية الاشتراع 13: 13-18). إن الخاطئ العنيد يُفصل من الشركة المسيحية. إن سلطان المفاتيح الذي منحه يسوع إلى بطرس سلّمه أيضاً إلى هيئة الرسل والكنيسة. "الحقّ أقول لكم: ما ربطتم في الأرض رُبط في السماء، وما حللتم في الأرض حُلّ في السماء" (متى 18: 18) ؛ هذا الرَّبط والحلِّ يشيران إلى قرارات الكنيسة فيما يتعلق بالنِّزاع، فلا يوجد بعد الكنيسة، محكمة استئناف بين المؤمنين. ويجب أن تكون قراراتها بإرشاد الله ومبنية على التمييز حسب كلمته. ولذلك فهنالك مسؤولة كبيرة على المؤمنين أن يأتوا بمشاكلهم للكنيسة، وعلى الكنيسة أن تلجأ إلى إرشاد الله في حل المُنازعات، ومعالجة المشاكل بحسب طريق الله، لها أثرها في الأرض وفي الأبدية. الكنيسة هي مكان الرحمة المُميّز. والمسيحيُّون يلزمون الله بالرَّحمة، لأنَّه التزم بها وربط عفوه بعفو الكنيسة. لكنّنا نرى اليوم أناسًا لا يأخذون بعين الاعتبار سوى المبادئ القاسية، ويأمرون بقمع المُشاغبين، "وبالتعامل مثل العشّار" مع ذاك الّذي يحتقر الكنيسة، وببتر العضو الذي يشكّل حجر عثرة من الجسد (18: 17). حماستهم المفرطة تربك الكنيسة، وعماهم يجعلهم أعداء وحدة الرّب يسوع المسيح. ويذكرنا القدّيس أوغسطينوس: "لنحذر من السماح لهذه الأفكار إلى الدخول إلى قلبنا، ومن محاولة تشكيل قطيع من التلاميذ الأنقياء والقدّيسين. هذا سيؤدّي إلى وضع حدّ للوحدة بحجّة عدم معاشرة الأشرار. على العكس، فلنتذكّر أمثلة الكتاب المقدّس، وكلامه المُوحى، وأمثاله الواضحة، حيث يظهر لنا أنّ الأشرار سيبقون دائمًا مختلطين مع الأخيار في الكنيسة، حتّى نهاية العالم ويوم الدينونة، على شرط ألاَّ تكون مشاركتهم بالأسرار مسيئة للأخيار، طالما لم يشارك هؤلاء بخطاياهم" (الإيمان والأعمال، 3-5). المعلوم أنَّ رسالة الكنيسة هي عمل كل شيء لكي تُعيد الخاطئ إلى الله. الكل يتذكر مَثَل الخروف الضال. يقول لنا الإنجيل بأن الرَّاعي الصَّالح يعمل كل شيء للعثور عليه. إن رسالة الكنيسة هي الاشتراك بشكل فعَّال في عمل الله هذا. ولذلك عندما تفشل كل وسائل الكنيسة الإنسانية في تغيير تصرفات أخينا المُسيء، تكِلُه إلى نعمة الله إلهنا الذي هو كله محبة ورحمة لهذا الأخ. " فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13: 10). وفي هذا الصَّدد كتب اللاهوتي الكبير كارل راهنر " ألا نستطيع مرّة أن نقول لله: أنظر ذاك القريب، الذي لا أقدر أن أتفاهم معه، فهو منك ولك، أنت خلقته، وإن لم يكن كما تريد، تركته على حاله، فإن كنت تحتمله أنت يا إلهي، فأنا أيضا أريد أن أحمله وأحتمله، كما أنك تحملني وتحتملني". 2) أهمية الإرْشَاد في صلاة الجَّماعَة (متى 18: 19). يهدف الإرْشَاد الأخوي إلى العودة إلى الجَّماعَة للاتفاق لصلاة الطلب والاجتماع بحضور المسيح في الوسط. وما الكنيسة إلا اجتماع إخوة في محبة والمسيح حاضر في وسطها، " إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت، حَصلا علَيها مِن أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 18: 19). ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "حيث تكون المحبّة، فإنّ الله الابن يملك مع أبيه وروحه القدّوس. لقد قالها الربّ يسوع: "فَحَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أَو ثلاثةٌ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم" (متى 18: 20). محبّة أن نكون سويّة هو نمط صداقة قويّة وحقيقيّة" (العظة الثامنة عن الرسالة إلى أهل رومة). وفي الواقع، يشدِّد النص أولاً على الصَّلاة الجماعية التي تتم داخل الكنيسة، ووعد الرب بخصوص الصَّلاة. ولقد أكَّدت الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني على أهمية المشاركة الجماعية في الصَّلاة. قول الربّ "طلب أي حاجة كانت" لا يعني اتفاقا على كلّ حاجة، أية كانت، ولو غير نافعة بل أراد أن يعلّم أتباعه أن يطلبوا إلى الله كلّ ما يتّفقون عليه، أو "كلّ حاجة". وأتباع الربّ يعرفون أنّ هناك حاجات لا يوافق عليها أبوهم السَّماويّ، أو لا يراها ضروريّة لخلاص طالبيها. وهذا، بالتأكيد، يعني أنّ الله الآب يعطي أتباعه ما يتّفقون عليه، إن كان اتّفاقهم يحكمه رضاه وخلاصهم. ورضا الله أن يخضع المؤمنون به لمشيئته (متّى 6: 10)، وأن يطلبوا "أولاً ملكوته وبرّه" (متى 6: 33). وهذا، يعني أنّ المؤمنين الحقيقيِّين لا يفرضون شيئاً مخالفاً لإرادة أبيهم السَّماويّ. ولا يتذمّرون إن طلبوا وحسبوا أنّ طلبهم لم يتحقّق لهم. ولا يشكّون. أمَّا الوعد فقد أعطي لجماعة المؤمنين والمسيح في وسطهم. يكشف لنا يسوع هنا عن هويّة الكنيسة، ألا وهي حضور المسيح نفسه بين المُجتمعين باسمه "فحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم" (متى 18: 20)، عندما يجتمع اثنان من المؤمنين فهناك تكون الكنيسة، والكنيسة هي المسيح. إذا كان يسوع المسيح هو من يجمع ويوحّد المؤمنين به وبين بعضهم ويجعل منهم جسدًا واحدًا، أمَّا الذي رفض الكنيسة فإنَّه يتعرض للفصل والحرمان من شركة الكنيسة. إنّ كلّ انقسام في جماعاتنا يُشوّه وجه الكنيسة. فالمسيح ليس منقسمًا على ذاته. مسيحٌ منقسمٌ لا يتعرّف عليه أحد لأنّه مشوّه. ولكي نستحقّ حضور الرب بيننا علينا أن نكون متّحدين في إرادته. ونحن نعلم أنّه إذا عشنا "وصيّته" في المحبّة المتبادلة، يكون حضوره نورًا لمواجهة مشاكلنا والظروف الشَّخصيّة والاجتماعية، ويكون حضوره قوةً لكي نسير قُدمًا في اختياراتنا الجريئة، فنكون عندئذٍ خميرة للإنسانيّة جمعاء. "الحب هو الذي يحطِّم جميع الصعوبات. الحبُّ هو الذي يبنى كل نجاحكم. اللـه مُبدِّد الشر. اللـه خالق كل صلاح "اللـه محبة". فأن تحبوا بعضكم بعضا، معناه أن تجعلوا اللـه يعمل في حياتكم، وكون اللـه يعمل في حياتكم، معناه أن يتجلى فيكم كل التوافق، والانسجام، والجمال، والفرح، والسعادة (من كتاب – اللـه يدعو). الخُلاصة المسيح يدعو إلى إصلاح الخاطئين وردّهم إلى جماعة الكنيسة. والإصْلاح لا يخلو من التواضع. والتواضع هو الذي يردُّ الناس بلطف وأناة عن دروبهم الضالة وأخطائهم المألوفة وربحهم للمسيح. كلمات يسوع الأخيرة في هذا النص لا تقتصر على الوعد بحضوره لكل صلاة تقام باسمه، بل هو تشجيع لجميع محاولات الإرْشَاد والمصالحة بين الأخوة في حضن الكنيسة التي تتحقق باسمه. فالكنيسة تستمد قوتها من حضور المسيح في وسطها وهي تعمل باسمه القدوس دعاء أيّها الآب السماوي، يا من تستجيب طلب من يتّفقون في طلب أيّ شيء باسم ابنك الوحيد، أعطنا قلبًا محبًا وروحًا حكيمًا لكي نرشد من تاه عن الطَّريق المستقيم بشجاعة ومسؤوليّة فنساعده على اكتشاف أخطائه وإصلاح نقائصه فيعود إلى شركة الإخوة والصَّلاة في الكنيسة فلا" يَهلِكَ واحِدٌ من هَؤلاءِ الصَّغار" بحسب مشيئتك أيها الأب السماوي. (متى 18: 14). آمين. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
النِّعمَة كَلِمَة بارِزَة في التَّعليم المَسيحي، وتَعني الرَّحمَة |
إنَّ غَلَبَة المؤمِن المَسيحي هي في شَخص يَسوع المَسيح |
الحسد يضر الحاسد وليس المحسود |
الحاسِد و المحسود |
الإستيك المحشوي. |