منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 01 - 08 - 2023, 10:38 AM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,443

مزمور 103 | الله كلي الرحمة




الله كلي الرحمة

يحتوي هذا القسم على تأمل في العهد الموسوي
(خر 34: 6-7)، والكرازة النبوية
(هو 11: 1؛ إش 1: 2-4؛ إر 3: 4، 19؛ 4: 22).


الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَءُوفٌ،
طَوِيلُ الرُّوحِ، وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ [8].
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن الرب عرَّف موسى طرقه، وذلك حينما وقف على رأس جبل سيناء وحده، ونزل الرب في السحاب، واجتاز الرب قدامه ونادى الرب: "الرب إله رحيم ورءوف، بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوفٍ، غافر الإثم والمعصية والخطية... فيرى جميع الشعب الذي أنت في وسطه فعل الرب، أن الذي أنا فاعله معك رهيب" (خر 34). هذا ما عرّف الرب موسى به ليدرك أن الرب يأخذ جسدًا ويصير منظورًا، فيرجع الشعب إليه ولا يهلكون.
يقول القديس أغسطينوس إنه يليق بنا ألا نُسيء فهم طول أناة الله، فنكون مثل الغراب الذي خرج من فلك نوح ولم يرجع. لقد خرج وهو يصرخ "Cras! Cras!"، أي "غدًا، غدًا". لكن متى يأتي غدًا؟ يبقى هكذا يصرخ مؤجلًا رغبته في الرجوع إلى حضن الله، ولا يأتي هذا الغد!




لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ،
وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ [9].
الله ديان الأرض، وأب مملوء حنوًا،
يطيل أناته، ويفتح أبواب مراحمه
لكي تتهيأ النفوس الأمينة للمجد في يوم الرب العظيم.




لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا،
وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا [10].
إن كانت خطايانا كثيرة وثقيلة للغاية،
فإن الله بطول أناته حتى في تأديبه يطلب
راحتنا وسلامنا، لا مجازاتنا.
* شكرًا لله، إذ يهبنا هذا. لا ننال ما كنا نستحقه
"لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا".
القديس أغسطينوس





لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ،
قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ [11].
يؤكد الكتاب المقدس عظمة لطف الله وحنوه (مز 36: 5؛ 57: 10؛ 108: 4؛ إش 55: 7-9).
هذا التشبيه يكشف عن حنو الله الفائق غير المحدود، وقدرة الله للخلاص عظيمة، ترفع النفس كما من التراب إلى السماء.
* لاحظوا السماء، ففي كل جانب تغطي الأرض. ولا يوجد جزء من الأرض لا تغطيه السماء. يخطئ البشر تحت السماء، يصنعون الأعمال الشريرة تحت السماء، لكن السماء تغطيهم. من تلك السماء تنعم العيون بالنور، ومنها ننال الهواء، والنَفَسْ، والمطر على كل الأرض، من أجل الثمار، ومن السماء ننال الرحمة. انزع معونة السماء عن الأرض، فإن الأخيرة تنهار للحال. كما أن حماية السماء تحل على الأرض، هكذا حماية الرب تحل على الذين يخافونه. أنت تخاف الله، حمايته فوقك. قد تتألم وتظن أن الله ينساك. الله ينساك لو أن حماية السماء تترك الأرض.
القديس أغسطينوس

* صار غِنَى الله ظاهرًا عندما أظهر رحمته نحو أولئك الذين رذلهم الناس ووطأوا عليهم، هؤلاء الذين وضعوا رجاءهم لا في غناهم، ولا في قوتهم، بل في الرب.
العلامة أوريجينوس

* تحتوي كلمات النشيد المقدسة بعض الأفكار المخفية، وكأن عليها نقاب سميك تختفي وراءه، فتبدو صعبة في الفهم. لذلك يلزم أن نوجه اهتمامًا كبيرًا للنص. وفي الحقيقة نحن نحتاج مساعدة من خلال الصلاة وقيادة الروح القدس، حتى لا تضيع منا المعاني، مثل من يتطلع إلى معرفة أسرار النجوم. فعندما نتطلع إلى جمال النجوم البعيدة لا نعرف كيف خُلقتْ. ولكننا نتمتع بجمالها، ونتعجب للمعانها وأوضاعها في السماء، تضيء بعض النجوم التي ذكرت في الكتاب المقدس وتتلألأ، وتملأ عيني النفس بالضياء، كما يقول النبي: "لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض" (مز 103: 11). فإذا كان هذا مكان صعود نفوسنا، كما في مثال إيليا، حيث تُخطَف عقولنا إلى أعلى في المركبة النارية (2 مل 2: 11)، وترتفع إلى الجمال السماوي، نحن نفهم أن المركبة النارية هي الروح القدس الذي أتى ليمنحها للساكنين على الأرض، على هيئة ألسنة قُسمتْ على التلاميذ، سوف لا نيأس من الاقتراب من النجوم، أي من البحث في الأمور المقدسة التي تضيء نفوسنا بكلمة الله السماوية الروحية .
القديس غريغوريوس النيسي

* يجاوب النبي الذين اكتأبوا مرة، وأتوا قائلين: "قد تركني الرب، وسيِّدي نسيني"، قائلًا: "هل تنسى الأم رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟" (إش 49: 15-14) كأنه يقول: يستحيل على الأم أن تنسى رضيعها، فبالأولى لا ينسى الرب البشرية، وهو بهذا لا يقصد تشبيه حب الله لنا بحب الأم لثمرة بطنها، وإنما لأن حب الأم يفوق كل حبٍ، غير أن حب الله حتمًا أعظم منه... تأمل كيف تفوق محبة الله محبة الأم...؟
يؤكد رب الأنبياء وسيِّد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده، كما يفوق النور الظلمة، والخير الشر، كاختلاف الخير عن الشر، هكذا تعلو محبة الله عن عواطف الوالدين...
توجد أمثلة أخرى كحُب الحبيب لمحبوبته، ليس أن حب الله لنا يعادل هذا الحب، وإنما هو مثال من قبيل التشبيه مع الفارق..، لهذا يقول داود: "لأن مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض، قويت رحمته على خائفيه" (مز 103: 11).
كما أن الإنسان في حبه يراجع كلماته بجنونٍ، خشية أن يكون قد نطق بشيءٍ يجرح مشاعر محبوبته. هكذا يقول الرب: "ما أن تكلمت حتى ندمت على كلامي... رجع قلبي" (هو 11: 8). فلا يستنكف الرب من استخدام هذه الصورة القاسية لإعلان حبه لمحبوبته...
أعمال عناية الله أسطع من الشمس، إذ ذكر مَثَل الأب والأم والعريس... وشبَّه نفسه بالبستاني الذي يتعب من أجل عمل يديه... وبالحبيب الذي يحزن لئلاَّ يُحزن محبوبته ولو بكلمة... مؤكدًا لنا أن محبته مختلفة عن كل أنواع الحب هذه كاختلاف الخير عن الشر .
القديس يوحنا الذهبي الفم





كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ،
أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا [12].
كما لا يستطيع الإنسان أن يقيس البعد بين المشرق والمغرب، هكذا ينزع الله عنا معاصينا بطريقة يصعب علينا أن نصفها أو نضعها تحت حسابات بشرية.
كما أن المشرق والمغرب لن يلتقيا في نقطة واحدة، هكذا فإن مراحم الله قادرة أن تزيل عنا معاصينا أبديًا، كأن لا علاقة لها بنا، أو نحن بها.
جاء في التقليد الكنسي في الشرق كما في الغرب، أنه عند جحد الشيطان وكل قواته وأعماله الشريرة ينظر طالب العماد (مع اشبينه) نحو الغرب، وعندما يعترف بالثالوث القدوس ينظر نحو الشرق. لهذا يسألنا القديس أغسطينوس أن ننظر دومًا نحو المشارق طالبين نعمة الله أن تشرق علينا وتَثْبت فينا إلى الأبد، ونعطي ظهورنا للغرب، معلنين رفضنا التام لإبليس وأعماله، فتغْرُب عنا خطايانا كما بلا رجعة.
* يليق بك أن تتطلع إلى المشارق، وتترك المغارب. اتركْ خطاياك، وارجع إلى نعمة الله، فحين تسقط خطاياك ترتفع أنت وتنتفع... لتسقط خطايانا إلى الأبد، ولتثبت النعمة إلى الأبد.
القديس أغسطينوس

* لم يجد العقل البشري كيف يُقَدِّر رحمة الله على خائفيه أكثر من ارتفاع السماء عن الأرض، وأكثر من بُعْد المشرق عن المغرب. أيضًا تُشَّبه الفضائل بالسماء وبالمشرق بسبب ارتفاعها ونورها. أما الذنوب فعكس هذا. فكل من يخاف الرب ويتجنب المعاصي، يقترب مرتفعًا إلى السماء، ويبلغ إلى المشرق حيث أقام الله الفردوس، ويتمتع برؤية نور مجد الله، ويحصل على الابن ويتمتع برؤيته.
الأب أنسيمُس الأورشليمي

* ابتعدوا عن المغارب، واتجهوا إلى المشارق. انظروا إنسانًا، شاول وبولس؛ شاول في المغارب، وبولس في المشارق. مُضْطهِد في المغارب، وكارز في المشارق... في المغارب الإنسان العتيق، وفي المشارق الإنسان الجديد.
الأب قيصريوس أسقف آرل



كَمَا يَتَرَأَّفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ،
يَتَرَأَّفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ [13].
مخافة الرب لا تدخل بنا إلى حالة من الرعب، بل إلى تذوُّق أبوة الله الحانية، وكما يقول السيد المسيح: "أم أي إنسانٍ منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا، وإن سأله سمكة يعطيه حية. فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه" (مت 7: 9-11).
* ليغضب (الله) كيفما يريد، فإنه أبونا! ليؤدبنا ويسمح لنا بالحزن، ويجرحنا، فإنه أبونا. أيها الابن، إن كنت تولول، فلتفعل هذا تحت (عيني) أبيك. لا تفعل هذا بسخطٍ، لا تفعله بتشامخ الكبرياء. ما تعاني منه وأنت تحزن، إنما هو دواء لا عقوبة. لا ترفض التأديب، إن كنت تود ألا تُحرَم من ميراثك. لا تفكر في العقوبة وأنت تتألم من التأديب، بل في الموضع الذي لك في العهد.
القديس أغسطينوس

* يظهر لنا المحبة الأبوية إذ تٌبناه، لأنه يعرف بأنه جبلنا في البداية من التراب، وأنه أخذ على أقنوم لاهوته جبلتنا الترابية، واختبر ضعفنا.
الأب أنسيمُس الأورشليمي



لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا،
يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ [14].
الله في محبته يتعامل معنا حسب ضعفنا، فهو يعْلم أننا تراب نحتاج إلى من يقيمنا منه.
* فانه يليق به بالأكثر، أن يصلي النبي بهذه الكلمات: "اذكر أننا تراب نحن"، أي تعاطف معنا؛ فإنك تعرف (إذ تألمتَ) بخبرة شخصية المعاناة من ضعف الجسد. لذلك فإن الرب المُعَلِّم صالح للغاية موثوق فيه، ومتعاطف معنا؛ وذلك من قبل عظم محبته للطبيعة الخاصة بكل إنسانٍ.
القديس إكليمنضس السكندري

* لقد فعل إرميا نفس الشيء، محاولًا التماس المغفرة للخطاة، فقال: "وإن تكن آثامنا تشهد علينا يا رب، فاعمل لأجل اسمك" (إر 7:14). وأيضًا: "عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته" (إر 23:10)، "يذكر أننا تراب نحن" (مز 14:103).
من عادة المتضرعين عن الخطاة، أنهم إذ لا يجدون أمرًا صالحًا يقولونه في حقهم، يبحثون عن أي ظلٍ لعذرٍ لهم حتى وإن كان ليس صحيحًا حرفيًا أو لاهوتيًا. لأن ذلك يُحسَب نوعًا من العزاء للنائحين على عناد الخطاة. إذًا لا تفحص الكلام حرفيًا، لكن ضع في ذهنك أنها كلمات تصدر عن نفسٍ مُرَّة تسعى أن تجد فرصة لإنقاذ الخطاة، وحكمًا عادلًا لحسابهم .
القديس يوحنا الذهبي الفم

* "لأنه يعرف جبلتنا"، أي ضعفنا. إنه يعرف ما قد خلقه، كيف يسقط، وكيف يُصلح أمره، وكيف يتبناه، وكيف يغنيه[26].
* يستطيع في رحمته أن ينظر إلى ضعفنا ويرانا، كما قيل: "يذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14). إنه ذاك الذي صنع الإنسان من التراب وأحياه، من أجل صنعته الخزفية أسلم ابنه إلى الموت، من يستطيع أن يوضح، من يستحق أن يدرك مقدار محبته لنا؟

القديس أغسطينوس

* "لماذا نسيتني؟" (مز 42: 9) ولماذا رفضتني؟ (مز 43: 2)، والله لا ينسى، فمن المستحيل حقًا أن ينسى، لأن كل الأحداث الماضية والمستقبلة حاضرة عنده، لكن خطايانا جعلته يوقع عقوبةَ النسيان، لكي يمحو أولئك الذين يعرف أنهم غير مستحقين لافتقاده، لأن "الرب يعرف خاصته" (2 تى 2: 19). وعندما يقترف البعضُ شرًا، يقول لهم: "أنا لا أعرفكم" (مت 7: 23). فمن إذن يقدر أن يقول لله: "لماذا نسيتني؟" لكن هذا الشعور يشترك فيه القديسون ونحن الضعفاء. فالقديس يتحدث وكأنه واعٍ لاستحقاقه. لكنه كلما ازداد قداسةً، ازداد تواضعًا، لكن إن كان القديس يتحدث بمشقةٍ بالغة، فمن أنا الخاطئ حقًا، إلا أن أعود لتلك الشكوى: لماذا نسيتَ عملك؟ (قابل عب 6: 10). لماذا نسيت افتقادك؟ أجل لماذا نسيتَ ضعفي؟ لأنه من هو الإنسان حتى تفتقده؟" (قابل مز 8: 5 (4)؛ عب 2: 6). لهذا لا تنسَ من هو ضعيف، تذكرْ يا رب أنك خلقتني ضعيفًا، تذكرْ أنك جبلتني ترابًا" (قابل مز 103 :14، أي 10: 9)، فكيف أقوى على الوقوف إن لم تشملني برعايتك دائمًا لتقَّوىَ هذا الطين، متى تأتي قوتي من وجهك؟ "فحين تحجب وجهك يرتاعُ كل شيءٍ!" (مز 104: 29) إن مارستَ عنايتك فالويل لي! فأنت لا ترى فيَّ سوى أدرانَ الخطايا! وما من فائدة أن أُترك، أو يُعتنى بي، لأنه حتى ونحن موضع رعايتك، نقترف الآثام! لكن مع ذلك، لا أزال متيقن أن الله لا يرفض الذين يعتني بهم، لأنه يُطَهِّر الذين يراهم، ونار توقد أمامه تحرق الخطية (قابل يؤ 2:3) .
القديس أمبروسيوس

* بينما يُطلب منَّا التعمُّق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه، نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست بأقل من مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة، لذلك يقول الحكيم بولس: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها" (رو 2: 1)، فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة، وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة.
فلنُصَلِّ عن مثل هؤلاء البائسين القانطين، ولنَمِدْ لهم يدَ العون والمساعدة، ولنَسع ألاَّ نسقط كما سقطوا، فإنَّ "الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس" (يع 4: 11). وما ذلك إلا لأن واضع الناموس والقاضي بالناموس هو واحد، ولما كان المفروض أن قاضي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا، وجب علينا أن نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟!
إذن يجب ألا يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتك نفسك بمحاكمة الآخرين، فاعلمْ أن الناموس لم يُقِمك قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حُرمته.
فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه، هذا كان حال المرتل المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: "إن كنت تُراقب الآثام يا رب يا سيِّد، فمن يقف" (مز 130: 3). وفي موضع آخر يكشف المرتل عن ضعف الإنسان، ويتلمَّس له الصفح والمغفرة، إذ ورد قوله: "اذكرْ أننا تراب نحن" (مز 103: 14)...
سبق أن بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: "لا تدينوا لكي لا تدانوا"، والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة الآخرين، والحُكْم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا، ونُجَرِّدها من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا، سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا.
فإنَّ السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول: كيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم، وفحص أسقامهم وأمراضهم، وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟! وكيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير، وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟!
إنك لمتجاسر إذا قمتَ بذلك، فالأوْلى بك أن تنزع عنك مخازيك، وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبون فيما هو دون جرائمك.
أتريد أن تنجلي بصوتك، فتقف على مبلغٍ ما في اغتياب الآخرين من مقت وشرٍ؟
كان السيِّد يجول يعمل خلال الحقول النضرة، فاقتطف تلاميذه المبارَكون سنابل القمح وفركوها بأيديهم، ثم أكلوا ثمارها طعامًا شهيًا لذيذًا، وما أن وقع نظر الفريسيِّين على التلاميذ حتى اقتربوا من السيِّد وخاطبوه بالقول: انظرْ كيف أن تلاميذك يعملون في السبت ما ليس بمحلَّل مشروع، نطق الفرِّيسيُّون بهذا القول وهم الذين عبثوا بحُرْمَة القدس، وتعدُّوا على وصاياه وأوامره على حد نبوَّة إشعياء عنهم: "كيف صارت القرية الآمنة زانية؟! ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون، صارت فضتك زغْلًا، وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمرِّدون ولُغفاء اللصوص، كل واحدٍ منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم، ودعوى الأرملة لا تصلْ إليهم" (إش 1: 21-23).
بالرغم من هذه المُنكرَات المُخزيات التي ارتكبها هؤلاء الناس، تمادوا في خِزيهم ومكرهم، ودسُّوا لتلاميذ السيِّد المباركين، واتَّهموهم بالتعدِّي على يوم السبت المقدَّس، إلا أن المسيح ردَّ خِزيهم، إذ أجابهم بالقول: "ويلٌ لكم أيها الكتبة والفرِّيسيُّون المراءون، لأنكم تعشِّرون النعنع والشبت والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، أيها القادة العميان الذين يُصفُّون عن البعوضة، ويبلعون الجمل" (مت 23: 23-24).
كان الفرِّيسي كما ترى مرائيًا غادرًا، يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما يسمح لنفسه بارتكاب أشد المخازي نكرانًا، وأعظم الشرور فُجورًا، فلا غرابة أن دعاهم المخلِّص: "قبورًا مبيضَّة تَظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت 23: 27).
هذا هو شأن المرائي وهو يدين الآخرين، ويرميهم بأشنع المساوئ والعيوب، وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه.
إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نقي الصفحة، طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب، بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يَصحُ له أن يكون نموذجًا صالحًا يُحتذَى به، وله عند ذلك حق الحُكْم على الآخرين، إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة.
أما إذا كان المُرشِد مهمِلًا ومرذولًا، فليس له أن يدين غيره، لأن به نفس النقص والضعف الذي يراه في الآخرين، كذلك ينصحنا الرسل الطوباويون بالقول: "لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم" (يع 3: 1)، ويقول المسيح وهو يكلِّل هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة بشتَّى التأديبات: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم، فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات" (مت 5: 19) .
القديس كيرلس الكبير







الإِنْسَانُ مِثْلُ الْعُشْبِ أَيَّامُهُ،
كَزَهْرِ الْحَقْلِ كَذَلِكَ يُزْهِرُ [15].
تشبيه حياة الإنسان على الأرض وقِصَر مدتها بالعشب الذي سرعان ما يظهر وسرعان ما يذبل أمر شائع في الكتاب المقدس (مز 37: 2؛ 90: 5؛ إش 40: 6-8؛ يع 1: 10-11؛ 1 بط 1: 24).
* لماذا يتكبر الشعب، إن كان الآن ينتعش، وفي وقت قصير يجف...؟ حسن لنا أن تحل رحمته علينا، ونتحول من عشب إلى ذهب...
لا تدهش أنك ستشاركه أبديته، فإنه هو نفسه شارك أولًا في كونك عشبًا. هل ذاك الذي أخذ منك ما هو سفلي، يرفض أن يهبك ما هو ممجد؟

القديس أغسطينوس







لأَنَّ رِيحًا تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ
وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ [16].
يرى البعض أن تشبيه حياة الإنسان بالريح هنا، يقصد به الرياح المدمرة المعروفة في آسيا، بهبوبها سرعان ما تُدَمِّر مناطق كثيرة تمامًا، ولا تترك أثرًا للحياة عليها.
* "لأن ريحًا تعبر عليه فلا يكون، ولا يعرفه موضعه بعد" [16]. لا يتكلم عن العشب، وإنما يتكلم عن هؤلاء الذين من أجلهم حتى الكلمة صار عشبًا. أنت إنسان، ولحسابك صار الكلمة إنسانًا. "كل جسد عشب" "والكلمة صار جسدًا" (يو 1: 14). كم يكون الرجاء الذي للعشب عظيمًا مادام الكلمة صار جسدًا؟ هذا الذي يبقى إلى الأبد لم يستخف بأن يكون عشبًا، حتى لا ييأس العشب من ذاته.
القديس أغسطينوس





أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ عَلَى خَائِفِيه،ِ
وَعَدْلُهُ عَلَى بَنِي الْبَنِين [17].
إن كانت الحياة الزمنية زائلة، بل وسريعة الزوال، وبزوالها تبدو كأنها لم تكن، فإن مراحم الرب بالنسبة لخائفيه الذين يتمتعون بالدخول في عهد معه أبدية وخالدة. يتمتع خائف بها هنا، وتبقى آثارها على بنيه وبني بنيه، كما تُقَدِّم له شركة في الأمجاد الأبدية.
* إذ تتأمل في نفسك فَكِّرْ في وضعك السفلي، فكر في العشب، لا تتشامخ. إن كنت في حالٍ أفضل إنما تبلغ هذا بنعمته، تصير هكذا برحمته... يا من لا تخشاه ستصير عشبًا، وفي حال العشب الأليم، فإن الجسد سيقوم إلى العذاب. ليت الذين يخافونه يفرحون، لأن رحمته عليهم.
"وبرَّه (عدله) على بني البنين" [17]. إنه يتحدث عن المكافأة لبني البنين.
كم من خدام لله ليس لهم بنين، فكم بالأكثر يكون بنو البنين؟ إنه يدعو أعمالنا أبناءً لنا، فمكافأة الأعمال هي بنو البنين.
القديس أغسطينوس

* بدون شك تفوق الإلهيات البشريات، وتفوق الروحيات الجسديات، لذلك من يرغب في الحياة الحقيقية ينتظر ذاك الخبز الذي من خلال ممارسته غير الملموسة يقَّوي القلوب البشرية .
القديس أمبروسيوس



لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَذَاكِرِي وَصَايَاهُ لِيَعْمَلُوهَا .
الله بطبعه رحوم وعادل في نفس الوقت، وهو غير متغير. فإن تمتعنا برحمته يتوقف على قبولنا لمخافته، ورغبتنا في حفظ عهده والطاعة لوصاياه. إنه يُقَدِّم نعمته المجانية لبني البشر، لكنه لا يغصبهم على قبولها قسرًا. "فأعلم أن الرب إلهك هو الله الأمين، الحافظ العهد والإحسان للذين يحسبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل" (تث 7: 9).
يبدو أن القديس أغسطينوس لم يكن يحفظ الكثير من نصوص الكتاب المقدس عن ظهر قلب بل كان يهتم بالتأمل فيها وممارستها عمليًا. لهذا يقول للمستمعين إليه: [إنك تعتز منتفخًا بأنك تتلو المزمور لي عن ظهر قلب، الأمر الذي لا أفعله أنا، أو من الذاكرة لتتلو كل الناموس. بلا شك أنك أفضل مني من جهة الذاكرة، بل وأفضل من أي إنسان تقي لا يعرف الناموس كلمة بكلمة، بينما أنت تحفظ الوصايا.]
* كيف تحفظ (وصاياه)؟ ليس خلال الذاكرة بل خلال الحياة. هكذا يكون حفظ وصاياه في الذاكرة، لا تلاوتها بل بممارستها.
القديس أغسطينوس



رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
مزمور 119 | يبدأ بالحق ويليه الرحمة
مزمور 78 | الرحمة وسط السخط
مزمور 57 - الرحمة والحق تلاقيا
مزمور 33 - يحب الرحمة والحكم
السلام لك يا ام الرحمة.. يا أم الله ياحنونة يا كنز الرحمة والمعونة


الساعة الآن 09:15 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025