شهادة يسوع
8: 12- 20
أنا نور العالم. من تبعني فلا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة.
ما زلنا في إطار عيد المظال، وسنبقي فيه حتى آ 59 حين "توارى يسوع وخرج من الهيكل".
الأشخاص هم هم والأمكنة هي هي كما تركناها في ف 7. وفي خطبة يسوع هذه التي يدلّ عليها تضمين (في آ 12: كلّمهم يسوع. في آ 20: كلّمهم يسوع بهذه الكلمات)، تتركّز الكلمة بقوة متزايدة على يسوع. سنجد 17 مرّة ضمير المتكلّم (إني أنا، أشهد أنا). وسنجد الفعل 11 مرة في صيغة المتكلّم المفرد: أدين، أذهب، دنتُ...
ويبدأ الخبر بإعلان إحتفالي (آ 20): "أنا هو نور العالم". ففي هذا الهيكل الذي تشعّ فيه الأنوار بمناسبة عيد المظال، قدّم يسوع نفسه كالنور الحقيقي، الذي لا يتوجّه فقط إلى اليهود، بل إلى العالم كلّه (رج 1: 4؛ 3: 19). فمن سار وراءه، فمن كان تلميذه، أفلت من عالم الظلمة.
قدّم يسوع نفسه "نوراً للعالم" فشهد شهادة قوية. في 5: 32- 37، وُضعت الشروط من أجل شهادة ذات قيمة قانونية (شهادته هي حقّ).
أما هنا فقد أراد يوحنا أن يشدّد على أن الضغوط القانونية لا ثقف بوجه حضور الكلمة: فحين يشهد يسوع لنفسه، يعرّفنا بسرّ علاقته بالآب. لقد أعلمنا ثلاث مرّات أنه "يهوه، الكائن". قال في آ 24: "إن لم تؤمنوا أني هو، تموتون في خطاياكم". وقال في آ 28: "إذا ما رفعتم ابن الإنسان، تعرفون أني أنا هو". وفي آ 58: "قبل أن يكون ابراهيم، أنا هو".
لقد أخطأ اليهود حول أصل يسوع البشري (7: 42: لم يعرفوا من هو). ولم يكتفوا بذلك. بل تجاهلوا موطنه الحقيقي (موطن الآب الذي أرسله، 8: 18). فالنص يؤكّد هنا مرّة ثانية على الرباط بين الآب والابن. فالآب والابن يشهدان معًا على هوية يسوع. وهكذا نفّذت متطلبة شريعة موسى التي تفرض وجود شاهدين (تث 19: 15).
في آ 15 أ نقرأ: "أنتم تدينون بحسب الجسد"، تدينون كبشر، تدينون بحسب اللحم والدم (أي بالضعف). وقد يعني الجسد بشرية يسوع، هذا الجسد الذي صار الكلمة (1: 14). وهذا يعني أنكم تحكمون علّي كإنسان وحسب، وتنسون أصلي الإلهي.
هنا نتساءل: من يتكلّم؟ أين ومتّى يتكلّم؟ إلى من يتكلّم؟ إن آ 13 تقدّم اعتراضًا أول جاء من "الفريسيين". وهم الذين يطرحون أيضًا سؤالاً في آ 19. قالوا له: "أين أبوك"؟
نحن لا نرى بوضوح إن كان يسوع يكلّمهم (أي: الفريسيين) في آ 12. فمحاوره الأخير قبل مشهد المرأة الزانية، وأمام المجلس الأعلى، هو الجمع (7: 40). في 8: 22 صار "الفريسيون" من جديد "اليهود". وإن 8: 31 سيحدّثنا عن "الذين آمنوا به". إن سمات المتكلّمين ظلّت غامضة، فظهر يسوع وحده ظهوراً واضحًا. ولكن ما نشاهده بصورة خاصة هو أن يسوع ما زال في حرم الهيكل (ق 7: 14 مع 8: 59).
يرتبط ف 7 وف 8 بوحدة المكان. ويقال عن المقطع الذي ندرس الآن أن يسوع كان يتكلّم في غرفة الخزانة (حيث تُلقى التقادم لنفقات الهيكل). ويتحدّث النص أيضاً في مر 12: 41، 43 (فلس الأرملة) ولو 21: (فلس الأرملة) عن "الخزانة". إلى هذا المكان يأتي الرجال والنساء. ولهذا اعتاد يسوع أن يأتي إليه فيعلّم الجميع.
وفي عيد المظال، كانوا ينظّمون احتفالات مفرحة مع "ألعاب" نارية. لهذا، كان الشعب اليهودي في زمن المسيح يرى وحدته الروحية في الماء والفرح والنور. على ما قال زك 14: 7- 8: "سيكون نهار دائم. لن يكون نهار وليل، بل يكون نهار حتى عند المساء. وتخرج مياه حيّة من أورشليم...".
إن الحكمة المتجسّدة (7: 37) التي دعت البشر العطاش لكي يأتوا إليها، تكشف الآن عن نفسها: "نور العالم". وما نقرأ في 7: 38 (من يؤمن بي) يقابل 8: 12 ج (من يتبعني). ففي المرتين يعد يسوع تلميذه بشيء ما. هناك: "أنهار مياه حيّة". هنا: "نور الحياة". وينمو الوعد كما تنمو المتطلّبة. "تبع" (أو: إقتدى) يعبّر أكثر من فعل "آمن" على المشاركة في مصير الرب، على الاقتداء به في الألم من أجل الوصول معه إلى المجد (12: 26: من يخدمني فليتبعني. وحيث أكون أنا...؛ 17: 24: "أريد أن يكونوا حيث أكون أنا").
وفي دائرة الحكمة التي تكشف عن نفسها "نور العالم"، لم يفهم الفريسيون شيئاً. فأعلنوا: لا قيمة لشهادتك: لأنك تشهد لنفسك. لقد فهموا كلام الله بشكل يقدّم لهم "برهاناً مادياً" يدعوهم إلى الإيمان. نستخلص من آ 13، 19 أن المتسائلين مرّوا بجانب النقطة الحاسمة. لهذا عاد يسوع إلى عرض الموضوع وتعمّق فيه.
رأى الفريسيون في الأقوال الواردة في آ 12 ب ج (أنا نور العالم. من تبعني لا يمشي في الظلام) شهادة. في الحقيقة هي شهادة، ولكنها شهادة الله الذي يعلمنا من هو. سنسمع فيما بعد: "أنا وأبي واحد" (10: 30). ونرى هنا أن الله يكلّمنا في يسوع.
في 5: 31، حدّثنا يسوع كإنسان وضيع يشهد له آخرون. وهنا في آ 14، يقول يسوع عكس ذلك بدون التباس: "شهادتي صادقة، لأني أعلم من أين جئت والى أين أذهب". فيسوع يتكلّم في هذه الآية كشخص متّحد بالآب دون أن يكون هو نفسه الآب.
لم يرَ الفريسيون أمامهم إلاّ إنساناً (آ 15 أ: تدينون بحسب الجسد، بحسب بشريتي). والحكم السطحي الذي يثبتونه عليه يحمل آثار الدمار. لقد عثروا الآن بما حذّرهم منه يسوع (7: 24: لا تحكموا بحسب الظاهر). أما يسوع فيعرف أنه واحد مع الآب. أنه لا يحتاج أن يقضي لنفسه. في 5: 30 تميّز حكم الإنسان يسوع بأنه "عادل". وهنا يقول عن دينونة النور الإلهي الذي يحمل القرار الحاسم، أنه "حق" (آ 16) إلى الأبد.
في آ 17، يتجنّب يوحنا لفظة "شاهد" مع أنها موجودة في النصين اللذين يستشهد بهما (تث 17: 6؛ 19: 15). إن كلمة "شاهد" لا تظهر أبداً في مجمل الإنجيل الرابع. فهي قد تخفي مفهوم "الشهادة" اليوحناوية وفعل الشهادة الذي هو إعلان نبوي، إعلان وحي. وهكذا لم يتحدّث هذا المقطع عن "شاهدين اثنين"، بل عن "رجلين" (أو: شخصين). فالآب والكلمة "يشهدان" لكرامة ابن الانسان. لهذا لا نستطيع أن نتجاهل الوحي الإلهي الذي نسمعه. لا في آ 18 أ (أنا أشهد لنفسي) ولا في آ 12 (أنا هو نور العالم).
إن آ 18 ب (أبي الذي أرسلني يشهد لي) تقود إلى السؤال التالي، فتقدم بلفظة "الآب" الأساسية، موضوع سوء تفاهم جديد. طُرح السؤال على الشكل التالي: "أين أبوك" (آ 19 أ)؟ وهكذا نخطو خطوة واسعة في التوسيع الداخلي للإنجيل. في 6: 42، ظن اليهود أنهم يعرفون أب يسوع وأمه. في 7: 27، كانوا متأكّدين أنهم يعلمون "من أين" جاء. في 7: 52، أكّدوا أن الجليل هو موطنه. والآن، وللمرة الأولى، يطرحون السؤال: "أين" هو أبوك؟
إن الجواب على هذا السؤّال وعلى السؤّال حول الطريق الذي يقود إلى الآب، يقودنا إلى أعمق معرفة ستعطى لنا (في خطبة الوداع، بعد العشاء السري) حول طبيعة يسوع (ق آ 19 ج مع 14: 4- 10).
تكلّم يسوع. أي: أعلن تعليماً إلهياً. وسر هذا التعليم يكمن في أن شخصاً قال: "أنا هو نور العالم". قال هذا الكلام في موضع محدّد في العالم. والكلمة صار بشراً (جسداً) حقاً. والذكرى التاريخية هي في حدّ ذاتها مهمّة أهمية لاهوتية كبيرة. لقد كتب يوحنا إنجيلاً لا نفهمه إن لم ندرك أنّه يجب أن نعلن يسوع كالمسيح "الذي جاء حقاً في الجسد" (2 يو 7؛ 1 يو 4: 2).
حين كان يسوع يعلّم في الهيكل، تلفّظ بهذا الإعلان: "أنا هو نور العالم". إنه هذا النور، لأنه "شمس البرّ" (ملا 4: 2) الذي يتعدّى حدود إسرائيل فينير العالم كلّه. وهذا النور الجديد يعطي للذين يتبعونه سلطاناً به يصبحون نوراً بدورهم (11: 36: لتكونوا أبناء النور). فالحياة الأبدية قد بدأت فيهم.
وبجانب كلمة يسوع عن نفسه، نستطيع أن نضع الكلمة عينها على تلاميذه. فهم أيضاً "نور العالم" (مت 5: 14). والجديد في المسيحية هو أننا نشارك في النور لأن لنا شركة في حياة يسوع وأبيه، ولأننا نحبّ أخوتنا (1 يو 1: 1- 7).