07 - 04 - 2023, 01:58 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
سعادته السابقة في الرب
وَعَادَ أَيُّوبُ يَنْطِقُ بِمَثَلِهِ فَقَالَ: [1]
يَا لَيْتَنِي كَمَا فِي الشُّهُورِ السَّالِفَةِ،
وَكَالأَيَّامِ الَّتِي حَفِظَنِي اللهُ فِيهَا [2].
هنا نرى الإنسان المريض الحزين والحائر يتذكر أيام نجاحه وراحته، ويخبرنا كيف أن الله حفظه، وكان جميع الناس يحترمونه، ويقفون له عند خروجه، وجعلوه رئيسًا عليهم. أما الآن فإن الناس حتى أدناهم - في نظر المجتمع - يحتقرونه ويستهزئون به. يؤكد أنه لم يكن مذنبًا بارتكاب خطايا شهوانية، كما لم يظلم المسكين والأرملة، ولم يمسك الطعام عن اليتامى، ولم يفعل أية خطايا سرية. كان يرفض الكذب والغش والظلم والبخل والطمع وعبادة الأصنام والشماتة والشح والرياء والاستغلال إلخ. بهذا يعلن عن براءته. لكن هذا ليس عن فضلٍ منه، وإنما بسبب رعاية الله له. فإن سرّ استقامة حياته هو حفظ الله له.
تطلع أيوب إلى ماضيه وقارنه بما هو عليه، فاشتهى لو عاد الزمن، وبقي حاله كما كان عليه. وهو في هذا لا ينسب سعادته وغناه ونجاحه لمجهوداته الخاصة، ولا لقدراته ومواهبه، بل لمراحم الله، قائلًا: "حفظني الله". لم يكن يرى في ثروته حصنًا له (أم 15:10)، ولا اتكل على كثرة غناه (مز 7:52)، بل كان له "اسم الرب برجًا حصينًا" (أم 10:18). يعترف أيوب أن الله هو سور نار محيط به وسياج يحفظه، الله هو سرٌ أمانه.
* "عندئذ استأنف أيوب مقاله الافتتاحي: آه لو كنت على حالي السابق لمدة شهر". ماذا يقول؟ أود لو أنني أحيا لمدة شهر في الحياة الصالحة التي كانت لي في الأزمنة السابقة لكي أسد أفواهكم، وأظهر لكم ما كنت عليه. يطلب شهرًا واحدًا مثل الشهور والأيام السابقة. لم يطلب شيئًا غير عادي، بل أن يحيا لمدة ثلاثين يومًا في سعادة الأزمنة الأخرى، ويتمتع بالخيرات التي لم يقدمها له أحد...
لاحظوا تقوى الرجل، فإنه ينسب كل شيء لله. لا يستطيع إنسان محروم من العون العلوي أن يبقى في حياة مستقيمة. يقول: "حفظني الله فيها"، فإن بحثه عن حياته الصالحة السابقة، إنما للشهادة عن عناية الله.
* يريد (الرسول بولس) أن يقول إن الله هو ينبوع كل الخيرات ومصدرها، ليس في حاجة إلى شريك أو مشير. هو بدء كل الخيرات وأساسها وموجدها؛ هو الخالق. دعا غير الموجود موجودًا. يدير كل شيء ويرتبه ويحفظه حسب إرادته!
حِينَ أَضَاءَ سِرَاجَهُ عَلَى رَأْسِي،
وَبِنُورِهِ سَلَكْتُ الظُّلْمَةَ [3].
كان النور المشرق منه هو نور الله الذي أضاء سراجه على رأسه، وكأن أيوب أشبه بمنارة، لا قيمة لها بدون السراج الإلهي. إنه مدين لله "النور الحقيقي"، الذي قاده وسط الظلمة، يهبه تعزيات إلهية وسط الأحزان، ويحفظه من العثرات.
يقدم أيوب بروح التواضع مع الشكر لله نفسه منارة، مهما كان معدنها، وأيا كان شكلها، فإن سرّ قوتها في النور الذي يُوضع على القمة لكي تهتدي به السفن على بعد أميالٍ كثيرة. يعترف أيوب أنه وإن كان منارة، فإن النور الذي على رأسه، هو نور الله، وليس نوره هو. إنه سراج الرب، النور الحقيقي.
يرى داود النبي في كلمة الله "سراجًا لرجله" (مز 119: 5: 1) يضيء له، فيسير وسط ظلمة هذا العالم، أما أيوب فيرى في كلمة الله نورًا إلهيًا مثبتًا كما على رأسه ليقود سفنًا كثيرة نحو الميناء!
يليق بالمؤمن أن ينحني أمام الله ليملأ حياته بعمل روحه القدوس واهب الاستنارة، فيترنم قائلًا: "بنورك نرى نورًا" (مز 26: 9). لم يقل "أعاين"، بل "نعاين"، فإذ يستنير المؤمن يجتذب الكثيرين معه للتمتع بالنور الإلهي.
*عندما شرح أيوب صلاح أعماله، أضاف:"عندما أضاء السراج على رأسي" (أي 29: 3). هذا السراج الذي يُضاء بزيت الأعمال الصالحة لكل واحدٍ منا. لكننا إن مارسنا شرًا، وصارت أعمالنا شريرة، ليس فقط لا نضيء، بل ونطفئ ذاك السراج الذي لنا، ويتحقق قول الكتاب: "من يصنع الشر يسلك في الظلمة، ومن يبغض أخاه فهو في الظلمة" (راجع 1 يو 2: 11). ألا يظهر لكم من يطفئ نور المحبة أنه أطفأ السراج؟ أما من يحب أخاه (راجع 1 يو 4: 21)، فيثبت في نور الحب، ويمكنه في يقينٍ أن يقول: "وأما أنا فشجرة زيتون مثمرة في بيت الله" (مز 25: 8)، "بنوه مثل غروس الزيتون حول مائدته" (مز 128: 3).
* "بتعبير "سراج" يقصد نور الكتاب المقدس، هذا الذي يقول عنه (بطرس الرسول): "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضعٍ مظلمٍ، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بط 19:1). ويقول المرتل: "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (مز 105:119). الآن لأن الجزء العلوي هو الذهن، والذهن بحق يُلقب بالرأس، لذلك قيل بالمرتل: "تدهن رأسي بدهنٍ" (مز 5:23)، وكأنه يقول بوضوح: تملأ نفسي بدسم الحب. والآن يشرق السراج على رأس الكنيسة، حيث تنير الوصايا المقدسة ظلمة عقولنا، ففي ظلمة هذه الحياة الحاضرة نتقبل نور كلمة الله.
البابا غريغوريوس (الكبير) * ينير الكتاب أعين النفس، فاقرأه أيها العاقل، وامتلئ من حبّه. فمن قراءة الأسفار المقدسة تشرق الشمس على العقول التي تتغذى منها بتمييزٍ.
لقد وضع الله الأسفار المقدسة في العالم كسراج نورٍ يضيء ظلمته. فالذي يحبّ نفسه يستنير بالقراءة، ويسير على هداها.
اقترب من الكتاب بحبٍ، تأمل جماله. فإنك لن تستفيد بدون الحب، لأن الحب هو مدخل الفهم.
يفرض الكتاب حبَّك، فإن كنت لا تحبه فلا تقرأه.
إنه يكلمك، فإن ضجرت من قراءته حرمك من إيماءاته.
يجب أن تحبَّه وتفتحه وتقرأه وتتأمل جماله، وإلا فلا تقرأه، لأنك إن كنت لا تحبَّه لن تستفيد منه.
كَمَا كُنْتُ فِي أَيَّامِ خَرِيفِي،
وَرِضَا اللهِ عَلَى خَيْمَتِي [4].
جاء النص كما ورد في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير): "وكان الله يجالسني في خيمتي". عبارة تكشف عن تواضع الله الفائق، وحبه العجيب نحو الإنسان! لعلها تشير إلى تجسد الكلمة الإلهي الذي صار كمن في خيمتنا، إذ قبل الناسوت.
تطلع أيوب إلى أيام شبابه، فحسبها أيام خريفه، وقد لمس فيها رضا الله على خيمته. بمعنى آخر أدرك أنه في شبابه لم يسلك حسب أهواء الجسد، بل دخل كما في صداقة مع الله، فوجد الله مسرته في خيمة أيوب، يجتمع معه ويرعاه ويقوده حتى يعبر به إلى المسكن الأبدي.
* "كما كنت في أيام صباي، وكان الله يجالسني في خيمتي" [2]... من يفكر في صمت في وصايا الله، هذا يسكن الله سريًا في خيمته.
البابا غريغوريوس (الكبير) لم يقل أيوب إنه كان يتمتع بعذوبة الحياة في أيام صباه حين كان يجلس مع زوجته وأطفاله الصغار، أو حين كان العظماء يزورونه في خيمته ويكرمونه، لكن ما كان يذكره أن الله كان يظلل على خيمته كابنٍ خاص مدلل، ينزل إلى خيمته ليجالسه. صورة رائعة لإنسان الله الذي كل ما يشغله رضا الله عليه، وحبه له، وتنازله ليجلس معه، يتكلم معه وينصت إليه!
إن كان الله قد أقام من أيوب منارة تحمل شعلة نور إلهي تهدي السفن إلى الميناء السماوي الآمن، فإنه من جانب آخر قد جعل من خيمته سماء ثانية. كأن الله يُسر بأن ينزل ليجلس مع محبوبه أيوب!
إن كنا نتطلع إلى أجسادنا كخيامٍ تقطنها النفوس أثناء رحلتها في هذا العالم، فإن الله خالق الجسد لن يستنكف منها ولا يزدري بها، لأنها من عمل يديه. إنه يقدس أجسادنا بكل عواطفها وأحاسيسها وطاقاتها، يسكن فيها ويهديها لنتمتع بالأمجاد الأبدية الخالدة.
وَالْقَدِيرُ بَعْدُ مَعِي،
وَحَوْلِي غِلْمَانِي [5].
في شبابه شعر أيوب بمحبة الله، وهذا كان سرٌ كفايته وشبعه. شعر كمن كان في قصرٍ سماويٍ، لا يشغله الغنى ولا الجاه ولا السلطان، لكن مع غلمانه كان الكل في شركة مع الله رب البيت الحقيقي.
* لماذا ترفضون الإقتداء برجال ونساء العهد القديم القديسين؟ اخبروني! خاصة أنتن أيتها الأمهات، فلتفكرن في حنة كمثال، أنظرن ماذا فعلت. لقد أحضرت ابنها الوحيد صموئيل إلى الهيكل حينما كان لا يزال طفلًا!
من منكن لا تريد أن يكون ابنها مثل صموئيل الذي هو أفضل من ملكٍ على العالم كله ربوات المرات؟ تقولين: "هذا مستحيل! فإن ابني لن يكون عظيمًا هكذا مثله! لماذا هذا الأمر مستحيل؟ لأنكِ بالحقيقة لا تريدين هذا. أودعيه في يديْ ذاك القادر أنيجعله عظيمًا. ومن هو هذا؟ الله! فقد أودعت حنة صموئيل في يدي الله.
لم يكن رئيس الكهنة عالي قادرًا بالحقيقة أن يشَّكله، فقد فشل في تشكيل ابنيه. إنه إيمان الأم وغيرتها جعلا كل شيء ممكنًا. لقد كان ابنها البكر والوحيد. لم تكن تعرف هل سيكون لها ابن آخر غيره، ومع هذا لم تقل قط: "سأنتظر حتى يكبر، ويذوق مباهج العالم، على الأقل في صبوته". لا، فقد رفضت مثل هذه الأفكار كلها. كان لها هدف واحد، كيف استطاعت من البدء أن تكرس بهجة قلبها لله.
لتخجلوا أيها الرجال أمام حكمة هذه المرأة. لقد قدمت صموئيل لله، وعند الرب تركته. بهذا تبارك زواجها بالأكثر، لأن غايتها الأولى هي الأمور الروحية. كرست بكر رحمها لله، فنالت بعد ذلك أبناء كثيرين. لقد رأت صموئيل مكرمًا حتى في هذه الحياة.
إن كان الناس يردون التكريم بالتكريم، أما يرد الله بالأكثر لمن يكرمه؟ إنه يعطي الكثير جدًا حتى للذين لا يكرمونه نهائيًا!
إلى متى نبقى هكذا ككتلٍ جسدية؟ إلى متى نلتصق بالأرض؟ ليصر كل شيء في المرتبة التالية بعد اهتمامنا بأولادنا، فنربيهم في تعليم الرب وإنذاره (أف 6: 4).
إِذْ غَسَلْتُ خَطَوَاتِي بِاللَّبَنِ،
وَالصَّخْرُ سَكَبَ لِي جَدَاوِلَ زَيْتٍ [6].
وهبه الله كل شيء بفيضِ، فمن كثرة الأغنام خُيل إليه أنه كمن يغسل قدميه باللبن، ومن فيض ثمار أشجار الزيتون حسب كأن الصخور المحيطة به تفيض زيتًا.
إلى أي شيء يشير غسل خطوات الإنسان باللبن أو الدسم، وسكب الصخور له جداول زيت، سوى إلى شعور بالمؤمن بالشبع الداخلي، فتصير له جداول لبن يغسل فيها قدميه، وجداول زيت، فلا يدهن بمسحة زيت أعضاء نفسه فحسب، بل ويصير كمن غطست نفسه وسُحبت في جداول زيت مقدس. يشير هنا إلى معصرة الزيت الحجرية، حيث يفيض منها الزيت كنهرٍ. "وأجرى أنهارهم كالزيت يقول السيد الرب" (حز 32: 14). جاء في نشيد موسى قبل انتقاله: "وأرضعه عسلًا من حجر، وزيتًا من صوان الصخر" (تث 32: 13).
يترنّم المرتّل قائلًا: "أعيُن الكل تترجّاك، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يديك فتُشبع كل حيّ من رضاك" (مز 145: 15-16).
هذا وإذ يشير أيوب إلى الكنيسة، فإنها إذ تكرز بإنجيل المسيح تقدم للعالم فيضًا وشبعًا داخليًا. إنها كرازة بالمصلوب المرفوض من العالم، لكن فيه كل كنوز العلم والمعرفة، فيه كل كنوز السماء!
* "إذ غسلت قدميٌ بالزبدة" [6]... تُغسل الأقدام بالزبدة حيث يمتلئ الكارزون القديسون بدسم الأعمال الصالحة.
"والصخر يفيض بي أنهارًا من الزيت" [6]. يقصد بالصخرة المسيح، حيث يؤكد الكارز العظيم "والصخرة كانت المسيح" (1 كو 4:10). هذه الصخرة تفيض الآن أنهار زيت، تستخدمها الكنيسة المقدسة، إذ يتكلم فيها الرب، ويقدم الكرازة بالدهن الداخلي.
البابا غريغوريوس (الكبير) * أما تريدون الشبع؟ وكيف يكون ذلك؟! يشتاق الجسد إلى الشبع، لكن يعود إليه الجوع مرّة أخرى بعد الهضم، لذلك يقول السيّد المسيح: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا" (لو 4: 13).
إذن ليتنا نجوع ونعطش إلى البرّ، لكي نشبع منه... ليت إنساننا الداخلي يجوع ويعطش حتى يكون له الطعام والشراب المناسبان له. لقد قال (الرب): "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء" (يو 6: 41). هذا هو خبز الجياع!
ليتنا نشتاق أيضًا إلى الشرب كالظمأى، "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز 36: 9).
* آه! إنَّني لن أشبع إلاَّ عندما يتجلّى مجدك قدّامي!
نعم يا إلهي. فأنت وحدك القادر أن تعيد لي حياتي السعيدة.
لك اَعترف ببؤسي، وذلك عند رحيل اليوم الذي كنت فيه غارقًا بين أباطيل العالم المتعدّدة، محرومًا منك أنت موضوع حبّي الوحيد. ذلك اليوم الذي فيه كانت أشواقي الجسديَّة مشتّتة في المباهج الخادعة. وما أكثر هذه المباهج تلك التي تحمل في بهجتها أتعابًا لا حصر لها؟! هذه المباهج وعدتني بأمورٍ كثيرة، ومع ذلك فهي لم تجلب عليَّ سوى الفقر. انتقلت من واحدة إلى أخرى لعل إحداها تقدر أن تشبع نفسي، لكنّها عجزت، إذ لم تكن نفسي تحيا بعد إلاَّ فيك!
حقًا، إن فيك الجمال، يا من وحدك سرمدي، وسام، وكامل على الدوام!
من يقتفي آثارك لن يضل قط! من يبلغ إليك لا يلحقه يأس!
من يمتلكك تشبع كل رغباته! لكن يا لبشاعة بؤسي! ويحي يا إلهي، فإن قلبي يميل إلى الهروب منك؛ أنت أيّها الغنى الحقيقي والفرح الحقيقي، لكي يتبع العالم الذي ليس فيه إلاَّ الحزن والألم.
|