منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 06 - 04 - 2023, 12:27 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,711

أيوب | الحكمة: من يدركها؟

الحكمة: من يدركها؟



يبدأ أيوب في هذا الحديث الختامي بالإعلان عن الله الخالق بكونه وحده الكلي الحكمة، وأن خليقته تكشف عن سمو حكمته، وأن دور الإنسان في الحكمة هو أن يخاف الرب، ويحيد عن الشر.
تختلف نغمة هذا الأصحاح تمامًا عن نغمة سائر الإصحاحات الأخرى، حيث نرى قدرًا كبيرًا من الفلسفة الطبيعية والفلسفة الأدبية. يُعتبر هذا الأصحاح أقدم وثيقة عن التاريخ الطبيعي في العالم. هنا نراه يبين الآتي:
1- كيف يسعى بنو البشر وراء الثروة العالمية، ويكدون ويتعبون في البحث عنها. فالإنسان يبحث عن الكنوز المخفية تحت الأرض في المناجم. يبحث عما لا تستطيع الطيور والوحوش البلوغ إليه.
2- فيما يختص بالحكمة يقول إن الحكمة بصفة عامة ثمنها عظيم، وقيمتها لا تُقدر، ومكانها خفي جدًا. توجد حكمة خاصة بالله لا يعلم مكانها أحد سواه، وتوجد حكمة معلنة لبني البشر. علينا ألا نبحث عن الأولى، بل نجتهد في طلب الثانية، لأن هذا من اختصاصنا. الحكمة موهبة ثمينة للغاية،
من يحصل على الحكمة يصير أكثر غنى وسعادة ممن يحصل على الذهب والحجارة الكريمة. يستطيع الإنسان بواسطة الطاعة لله والتمتع بمخافة الرب الحصول على الحكمة اللازمة للتمييز بين الخير والشر، ورؤية ما هو حق وصحيح، والعبادة لله والاتكال عليه، فإن مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم (أي 28:28). هذه هي الحكمة التي جعلها الله من نصيب الإنسان.




1. الحكمة الإلهية تفوق الفكر البشري

لأَنَّهُ يُوجَدُ لِلْفِضَّةِ مَعْدَنٌ،
وَمَوْضِعٌ لِلذَّهَبِ حَيْثُ يُمَحِّصُونَهُ [1].
يجاهد البشر لمعرفة أسرار الطبيعة مثل اكتشاف المعادن الثمينة من ذهب وفضة، وقد أمكنهم ذلك. فمن أجل الغنى يجاهد الإنسان في هذه الأمور وما أشبهها، لكنه في غباوة لا يهتم بالتعرف على أسرار ملكوت السماوات. من أجل الغنى الزمني وحب الاستطلاع يبحث عما هو مدفون في الأرض ولا يبحث عن خلاص نفسه ومجده الأبدي.
*"لأنه يوجد موضع، منه تأتي الفضة، وموضع للذهب حيث يمحصونه؛ الحديد يُستخرج من التراب، والنحاس يُسكب مثل الحجارة" [راجع 1-2 LXX]. يعني بهذا أنه وإن كان الله قد وضع نظامًا خاصًا بالأمور العامة، فبالأكثر يضع نظامًا بخصوص الحقائق البشرية... إنه يسبق فيرى الأمور ويهتم بنفسه بها، ولا يحدث شيء ما مصادفة. أو بالحري يقصد أن تجميع الحقائق (الطبيعية) أمور منظورة بوضوح، أما خطة الله نفسه فغير منظورة. فللفضة والنحاس موضعهما المعروف، أما موضع الحكمة فلا يعرفه أحد، بل الله وحده يعرفه. يقول (الله) للإنسان: "التقوى هي الحكمة"، وأن تصنع الصلاح هو الفهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كما أن الفضة غالبًا ما تُنقى، هكذا يُمتحن البار، فيصير عُملَة الرب، تتقبل الصورة الملكية. سليمان أيضًا يدعو "لسان الصديق ذهبًا ممحصًا بالنار" (راجع أم 20:10)، مظهرًا أن التعليم الذي يُمتحن وتثبت حكمته يُمتدح ويُقبل، حيث يُمحص على الأرض عندما تتقدس نفس الغنوصي (الإنسان الروحي صاحب المعرفة) بعدة طرقٍ، منسحبة من النيران الأرضية. أما الجسد الذي تسكنه (هذه النفس) فيتطهر وتصير له النقاوة اللائقة بهيكل مقدس.
القديس إكليمنضس الإسكندري
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لهذه العبارة، وهو إن كان الإنسان يبحث عن الفضة والذهب ليستخرجهما من الحجارة، يليق بالكارزين أن يعملوا بلا توقف ليكون لهم الفضة الروحية أي كلمة الله الممحصة بالنار سبع مرات كالفضة (مز 12: 6). وأن يكون لهم الذهب الذي يشير إلى الحياة البهية الحكيمة السماوية.
ويميز البابا بين الكرازة الصادقة التي تقدم الفضة والذهب النقيين من الأسفار المقدسة، مفسرين إياها حسب فكر الآباء، كما عاشتها الكنيسة الأولى، وبين الهراطقة. فإن الأخيرين لا يقدمون فضة وذهبًا مُنقّى بالنار، بل تعاليم من ذواتهم لأجل كرامتهم الخاصة ولمجدهم البشري.
* "الفضة بدايتها في العروق (في الحجارة)، وللذهب موضع حيث يمحصونه" [1]. تشير الفضة إلى قوة الكلام، والذهب إلى بهاء الحياة أو بهاء الحكمة... وكأنه يقول بوضوح: من يهيئ نفسه لكلمات الكرازة الصادقة يلزمه أن يستخلص أصول عَرْضِه (للمواضيع) من الأسفار المقدسة، فيجلب كل شيءٍ ينطق به على أساسٍ إلهيٍ، وذلك لنفع الذين يكلمهم.
غالبًا ما يسعى الهراطقة في مساندة ما يقدمونه من أمور خاطئة من عندهم، فيستخرجون أمورًا بالتأكيد لا سند لها من صفحات الأسفار المقدسة.
لهذا ينصح الكارز العظيم تلميذه، قائلًا: "يا تيموثاوس، احفظ الوديعة، مُعرضًا عن الكلام الباطل الدنس، ومخالفات العلم الكاذب الاسم" (1 تي 20:6). إذ يشتاق الهراطقة أن يتمجدوا كأنهم بارعون في الفكر، يقدمون أمورًا جديدة لم ترد في الكتب القديمة للآباء القدامى، إذا بهم يلقون بذور الجهل إلى البائسين الذين يستمعون إليهم، رغبة في الظهور أنهم حكماء.
إنه كمن يقول بوضوح: "الحكمة الحقيقية للمؤمنين، لها موضع في الكنيسة الجامعة، وهي تعاني من متاعب تصدر عنكم ومن اضطهادكم لها، لكنها تتنقى من كل شوائب الخطايا بنار اضطهادكم. هكذا مكتوب: "يُختبر الذهب في النار، والناس المقبولون في أتون المحنة" (ابن سيراخ 5:2)...
يعلمنا الرسول بولس إذ يقول: "إن سلمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا" (1 كو 3:13). فإن أفكار البعض عن الله خاطئة، وآخرون أفكارهم صادقة من جهة الخالق، لكنهم لا يحفظون الوحدة مع إخوتهم. الأولون يُقطعون بسبب خطأهم في الإيمان، والآخرون بسبب انشقاقهم. لهذا فإن أول جزء في الوصايا العشرة منع الخطية التي للفريقين، إذ جاء القول بالصوت الإلهي: "حب الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك وكل قوتك". وفي الحال أضاف "حب قريبك كنفسك" (تث 5:6؛ مر 30:12-31). فمن يعتقد بما هو خطأ بخصوص الله بالتأكيد لا يحب الله، ومن له مفاهيم صادقة نحو الله ويشق وحدة الكنيسة المقدسة واضح أنه لا يحب قريبه، إذ يرفض أن يأخذه رفيقًا له.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* كلام الرب كلام نقي (مز 12: 6)... يقول "نقي"، ليس فيه زغل المظهر المزيف. فإن كثيرين يكرزون بالحق في غير نقاوة، إذ يبيعونها من أجل نوال رشوة لنفع زمني.
القديس أغسطينوس
* (الانشقاق) هو سلاح الشيطان يقلب كل شيء رأسًا على عقب. مادام الجسد متحدًا معًا لا يقدر أن يجد الشيطان له مدخلًا، أمّا العثرة فتأتي بسبب الانقسام. من أين يأتي الانشقاق؟ من الآراء المخالفة لتعاليم الرسل. ومن أين تأتي هذه الآراء؟ من عبوديّة الناس للبطن والأهواء الأخرى... هذا ما قاله عندما كتب إلى أهل فيلبي: "الذين إلههم بطنهم" (في 3: 19) .
القديس يوحنا الذهبي الفم
يليق بالكارز بالحق، بل وبكل مؤمن أن يقدم فضة وذهبًا من قبل الله، أي سلامه السماوي الفائق، لا سلام هذا العالم الزائل، يقدم الله المخلص هو السلام الحقيقي.
* سيكون السلام هو ذهبك؛ السلام هو فضتك؛ السلام هو أرضك. السلام هو حياتك، إلهك هو السلام. يكون لك السلام في كل ما تشتهيه!
القديس أغسطينوس


الْحَدِيدُ يُسْتَخْرَجُ مِنَ التُّرَابِ،
وَالْحَجَرُ يَسْكُبُ نُحَاسًا [2].
إن كان استخراج الفضة والذهب يتطلب جهدًا أعظم من استخراج الحديد والنحاس، إلا أن المعدنين الآخيرين أكثر نفعًا للإنسان، ولوفرتهما فإن ثمنهما أقل بكثير من الفضة والذهب. يمكن لإنسانٍ أن يعيش بدون الفضة والذهب، لكنه يصعب عليه جدًا، وحاليًا يستحيل عليه أن يعيش بدون الحديد والنحاس. إنها حكمة الله الفائقة جعلت ما هو ضروري للإنسان أكثر وفرة واستخراجه أكثر سهولة، بينما ما هو للترف أقل في الكمية وأصعب في استخراجه.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن استخراج هذه المعادن جميعها من فضةٍ وذهبٍ وحديدٍ ونحاسٍ هو من التراب والحجارة، إشارة إلى رجال الله القديسين - مع اختلاف مستواهم الروحي ودورهم في العمل الكرازي والشهادة لله، لكن الكل مُستخرج من التراب والحجارة. كنا ترابًا وحجارة، مشغولين بالزمنيات، قساة القلوب. لكن نعمة الله أقامت منا أناسًا شهودًا لله، ننعم بالشركة في الطبيعة الإلهية من حبٍ وحنوٍ ووداعةٍ وتواضعٍ وطهارةٍ وقداسة إلخ. هذه كلها ليست من عندنا، لكنها عطايا الله المجانية للمؤمنين الجادين في طلب خلاص نفوسهم وخلاص إخوتهم في البشرية.
* "الحديد يستخرج من الأرض" [2]. كأنه يقول في وضوحٍ: رجال القوة الذين بألسنتهم الأحد من السيوف، صاروا حديدًا في هذه المعركة العنيفة في الدفاع عن الإيمان، هؤلاء الذين كانوا وقتًا ما "أرضًا"، في مجال الأعمال الدنيا. فعندما يخطئ الإنسان، يقال له: "أنت تراب وإلى تراب تعود". وأما "الحديد فيُستخرج من الأرض"، عندما ينفصل محارب الكنيسة الصارم من السلوك الأرضي...
ألم يُستخرج حتى من الأرض، إذ كان مشغولًا بالأمور الأرضية، ذاك الذي كان يخدم في جمع الجزية (مثل زكا العشار)؟ لكنه إذ استخرج من الأرض، تقوى بقوة الحديد، ألزمه الرب بالإنجيل، ممزقًا بلسانه قلوب غير المؤمنين كما بسيفٍ حادٍ. هذا الذي كان قبلًا ضعيفًا ومرتبكًا بالأعمال الأرضية صار فيما بعد قويًا بالكرازة السماوية.
"والحجر يُسكب بالحرارة، فيصير نحاسًا" ينحل الحجر بالحرارة، عندما يكون القلب قاسيًا وباردًا يتلامس بنار الحب الإلهي، وينسكب في نار الروح المتوهجة. عندئذ تصير له الحياة الملتهبة بحرارة في العمل. بقدر ما كان قاسيًا من قبل في محبته للعالم، يصير قويًا في حبه لله.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يرى القديس غريغوريوس النزينزيأن فكر المؤمن التقي يشبه الحديد المستخرج من الصوان أو الحجارة.
* إنهم يشبهون الحديد المستخرج من الصوان يشع نارًا من الذهب الخصب المتأهل للنور، فإن شرارة صغيرة يمكنها أن تشكل شعلة الحق في داخلها بسرعة .
القديس غريغوريوس النزينزي
إذ يتحدث القديس كيرلس الأورشليمي عن قيامة الجسد يقول إنه يصير كالحديد المُحمي بالنار. إنه ذات الجسد الذي لنا في هذه الحياة، لكن بطبيعته نارية تليق بالأبدية.
* لقد دّون هذا خصيصًا، كيف يقول بولس بصراحة: "لأن هذا الفاسد لا بُد أن يلبس عدم فساد" (1 كو 15: 53). إذن هذا الجسد سيقوم ويلبس عدم الفساد ويشكل جديدًا. وكما يمتزج الحديد بالنار ويصبح نارًا، أو الأفضل كما يعرف الرب الذي يقيمنا: هذا الجسد سيقوم لكنه لن يمكث كما هو الآن.
إنه جسم أبدي. لا يحتاج تغذية لحياته كما هو عليه الآن، ولا إلى درجات لصعوده لأنه سيكون روحيًا. إنه لأمر عجيب لسنا جديرين بالكلام عنه، إذ قيل في إنجيل القديس متى البشير: "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت 13: 43)، "وكالقمر وكضياء الجلد" (دا 12: 3).
القديس كيرلس الأورشليمي


قَدْ جَعَلَ لِلظُّلْمَةِ نِهَايَةً،
وَإِلَى كُلِّ طَرَفٍ هُوَ يَفْحَصُ.
حَجَرَ الظُّلْمَةِ وَظِلَّ الْمَوْتِ [3].
إذ يتحدث أيوب عن استخراج المعادن من بطن الأرض، أي من المناجم المظلمة، فإن الإنسان من أجل حصوله عليها يدخل إلى المناجم ليفحص ما فيها مستخدمًا المشاعل ليضع للظلمة حدًا فلا تعوقه عن تحديد هدفه. إنه يغامر بحياته، ويدخل إلى الوعر من أجل استخراج المعادن.
من ليس له دراية بفن استخراج المعادن يسخر بالباحثين عنها. يتطلع إليهم كمن يعرضون أنفسهم للمخاطر والموت دون هدفٍ. هكذا يستخرج الله من ترابنا وحجارتنا معادن نفيسة في عينيه. لكن كثيرين يجهلون خطة الله فيحسبونه كمن يدخل إلى ظلمةٍ ويفحص أمورًا لا قيمة لها. بمعنى آخر يليق بنا أن نثق في خطة الله وعنايته وعمله من أجلنا. إنه يقدم لنا الخلاص، مهما تكن تكلفته، إذ يرى بسابق معرفته ما سنتمتع به من أمجاد. يرانا ذهبًا وفضة ونحاسًا وحديدًا مستخرجًا من الأرض والحجارة! يستخرج منا نحن الذين كنا ظلمة نورًا. وكما يقول الرسول: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، والآن فنور في الرب" (أف 5: 8).
* يقول "جعل للظلمة موضعًا" [3] كمن يقول إن للعقل أيضًا موضع، فإن الظلمة تعرف أن تتراجع خطواتها، وتطمس ذاتها (قبل بزوغ النهار)... إنه يحثنا ألا نطلب محاسبة (الله). يقول: "لماذا توجد الظلمة؟ ألا تعرف الله أنه الكلي القدرة، يفعل كل شيءٍ بحكمةٍ؟"
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "قد جعل للظلمة زمانًا، وهو نفسه يفحص كل شيءٍ، وكل أحدٍ" [3]. لقد وضع بنفسه زمانًا للظلمة، أي وضع حدًا للأشرار، حيث يتوقفون عن كونهم أشرارًا. هكذا يُقال لهم بالرسول: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب" (أف 8:5). يقول ذات الرسول العظيم لتلاميذ آخرين: "قد تناهى الليل، وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور. لنسلك بلياقةٍ كما في النهار" (رو 12:13-13). لهذا جاء في نشيد الأناشيد عن مجيء الكنيسة: "من هذه المشرقة مثل الصباح؟" (نش 10:6). تُشَّبه الكنيسة بالصباح، أي بمعرفة الإيمان، تتحول من ظلمة الخطايا إلى بهاء نور البٌر...
إذ يفعل الله ما هو صالح، ويقوم بالتدبير، ولا يفعل ما هو شر، يضبط الأمور التي يفعلها الأشرار حتى لا تسير الأمور إلى ما هو رديء، بل يفحص نهاية كل الأمور ونهاية كل أحدٍ، ويحتمل كل الأشياء في طول أناةٍ، ويرى نهاية المختارين، إذ يتحول الشر بالنسبة لهم إلى الخير...
لقد رأى الله نهاية ما يصل إليه شاول حتى وهو يضطهد (الكنيسة)، يراه يسقط على الأرض يقول: "يا رب ماذا تريد أن أفعل؟" (أع 6:9)...
رأى أهل نينوى يعصون، لكنه تطلع إلى نهاية عصيانهم في ممارستهم الإصلاح (التوبة).
أيضًا رأى نهاية سدوم العاصية، وتطلع إلى نهاية احتراق الشهوة في نار جهنم.
رأى نهاية عالم الأمم، حيث انشغل في ظلمة الشرور، كيف أنه يومًا ما يتلألأ بنور الإيمان.
البابا غريغوريوس (الكبير)
الله الخالق العجيب في أعماله خلق الأرض وأوجد عليها الزحافات والوحوش، كما خلق الإنسان من ترابها. إنه لا زال طبيعة جديدة تليق بالحياة الأبدية.
* من أرض واحدة تخرج الزحافات والوحوش المفترسة والقطيع وعليها تثبت الأشجار، وتوجد الأطعمة والذهب والفضة والنحاس والحديد والحجر!
القديس كيرلس الأورشليمي


حَفَرَ مَنْجَمًا بَعِيدًا عَنِ السُّكَّانِ.
بِلاَ مَوْطِئٍ لِلْقَدَمِ.
مُتَدَلِّينَ بَعِيدِينَ مِنَ النَّاسِ يَتَدَلْدَلُونَ [4].
جاء النص في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير)"حجر الظلمة أيضًا وظل الوادي (الجارف) ينقسم من الشعب في رحلة".
إذ يحفر البعض في أرض صخرية غير آهلة بالسكان، يسمع عنهم البعض أو ينظرونهم وهم يفعلون هكذا، فيسخرون منهم. يحسبون أنهم يريدون استخراج ماء من باطن الأرض، لكن لماذا يختارون مناطق حجرية بعيدة عن السكان؟ إنهم كمن يدلدلون أرجلهم في حفرة لا نفع منها. هكذا يسخر البعض من خطة الله وعمله الخلاصي، وذلك كما سخر اليهود بالرسل والتلاميذ الذين خرجوا يكرزون بين الأمم الوثنية، كمن يحفرون مناجم في أرضٍ صخرية بلا ماء، بلا هدف ولا رجاء!
* "حجر الظلمة أيضًا وظل الوادي (الجارف) ينقسم من الشعب في رحلة" [3-4]. ماذا كان ذلك الشعب اليهودي، القساة في عدم إيمان، الذين رفضوا قبول الإيمان الذي سبق فأعلن لهم عنه واهب الحياة خلال النبوات، إلا أنهم حجر الظلمة؟ يتحقق هذا بقسوة عنفهم والتحافهم بعدم الإيمان....
ربما يشير بالسيل الجارف إلى الارتواء بالكرازة المقدسة، كما قيل بسليمان: "العين المستهزئة بأبيها، والمحتقرة عذاب أمها، تقورها غربان الوادي (الجارف)" (أم 17:30). فإن الأشرار إذ يجدون خطأ في أحكام الله، يستهزئون بأبيهم، والهراطقة من كل نوع الذين يزدرون بكرازة الكنيسة المقدسة، ويسخرون بثمرها، ليسوا إلا محتقرين لعذاب أمهم؟ ليس بغير لياقةٍ ندعوها أمهم أيضًا، إذ خرج منها هؤلاء الذين يتكلمون ضدها، كما يشهد يوحنا، قائلًا: "منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا" (1 يو 19:2). ولكن "غربان الوادي تأتي" عندما يخرج الكارزون الحقيقيون يدافعون عن الكنيسة المقدسة من مجاري الأسفار المقدسة.
البابا غريغوريوس (الكبير)




أَرْضٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الْخُبْزُ،
أَسْفَلُهَا يَنْقَلِبُ كَمَا بِالنَّارِ [5].
يرى البعض أن الأرض التي تُخرج حنطة لنقتات بها، هي أيضًا تخرج وقودًا (بترول) لتقتات بها النار. بالحكمة التي وهبت لنا من الخالق نجد ما يشبعنا من ذات الأرض التي نخرج منها ما نستخدمه كوقودٍ.
ويرى آخرون أن أيوب يشير إلى سدوم وعمورة، الأرض التي تتسم بأنها خصبة للغاية، فتنتج حنطة بفيض يقتات بها الكثيرون، تحولت بسبب شرور سكانها إلى أتون نار، حيث أنزل الله عليها نارًا وكبريتًا.
كما يرى آخرون أنه إذ يتحدث عن اهتمام الإنسان باستخراج المعادن النفيسة من مناجم تحت الأرض، حولوا الأرض التي تفيض عليهم بالغذاء إلى مناجم، يهلك فيها كثيرون بسبب المخاطر التي يتعرضون لها، فتحولت إلى أشبه بأتون نار تحت الأرض.
* يرى البابا غريغوريوس (الكبير) هنا نبوة عن اليهودية التي كان يليق بها عند مجيء السيد أن تشهد له وتكرز، فتقدم للعالم المسيح خبز الحياة، لكن بحسب حسد القيادات اليهودية تحولت إلى نارٍ خفية مهلكة للنفوس."الأرض يخرج منها الخبز، تنقلب في موضعها بالنار" [5]. كان ما يشغل اليهودية أن تعطي خبزًا، إذ اعتادت أن تعد كلمات الناموس أمام الناس. لم يعد أبناء الهلاك قادرون على تفسير هذا الناموس عينه، كما ينتحب إرميا النبي في مراثيه، قائلًا: "الأطفال يسألون خبزًا، وليس من يكسره لهم" (مرا 4:4). لكن هذه "الأرض تنقلب في موضعها بالنار"، إذ تهلك نفسها بجمرة الحسد، عندما ترى معجزات المؤمنين... ألم تكن ملتهبة بلهيب جمر حسدها عندما رأت معجزات مخلصنا، فقال بعض رجالها: "ماذا نصنع، فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة" (يو 47:11)؟ أو "انظروا، إنكم لا تنفعون شيئًا. هوذا العالم قد ذهب وراءه" (يو 19:12)
البابا غريغوريوس (الكبير)


حِجَارَتُهَا هِيَ مَوْضِعُ الْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ،
وَفِيهَا تُرَابُ الذَّهَبِ [6].
كان يليق برجال اليهودية أو قياداتها الدينية أن يقدموا المسيح خبز الحياة، فيصيرون حجارة حيَّة في هيكل الرب، من ياقوتٍ أزرق، أي يحملون السمة السماوية، فيتحول، التراب إلى ذهب، حيث يتحول الترابيون إلى سمائيين إن صح التعبير.
يرى البعض أن الله بحكمته الفائقة جعل الكثير من الأمور الثمينة كالفضة والذهب والبترول مخفية تحت الأرض، أو في الحجارة، حتى لا يركز الإنسان عينيه على هذه الأمور، بل يرفع عينيه إلى السماء. إنه يطأها بقدميه مستخفًا بها، ليكون كل قلبه ملتصقًا بالله.
يُعتبر الياقوت في قيمته يلي الماس، وهو من أثمن الحجارة الكريمة، منه الأحمر والأزرق والأصفر، لكن غالبًا ما يكون أزرق اللون.
* "حجارتها هي موضع الياقوت الأزرق، وفيها تراب الذهب" [6]. أضيف إلى إعلان المجد السابق ذكره إثم الخطية الذي يتبعها. فإن سقوط كل فردٍ هو عمل إجرامي رديء، إذ كان في مقدوره قبل السقوط أن يبلغ إلى سمو أعظم... تشير الحجارة إلى أذهان الأقوياء، عندما قال بطرس للقديسين: "كحجارة حية، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا" (1 بط 5:2). ويعد الرب الكنيسة بذلك حين تأتي، قائلًا بالنبي: "هأنذا أبني بالاثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك، وأجعل شرفكِ ياقوتًا، وأبوابك حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة، وكل بنيكِ متعلمين من الرب" (إش 11:54-13). إذ يضع فيها حجارة بنظام، حيث يميز النفوس المقدسة فيها حسب اختلاف استحقاقاتها. "يضع أساساتها بياقوت ازرق"، حيث تحمل هذه الحجارة في ذاتها شبه لون السماء، فتتأسس قوة الكنيسة في النفوس التي تطلب السماويات...
ولأنها تشرق بالإيمان في بهاء الحياة الفائقة والحكمة، أُضيف: "تراب ذهبها"... لكن هذا الذهب قد انطمس بعد ذلك بظلمة عدم الإيمان. رثى النبي إرميا سواده، قائلًا: "كيف اكدر الذهب؟ تغير الإبريز الجيد؟" (مرا 1:4) فقد صار الذهب مكدرًا، فاعتم البهاء القديم للإيمان، والبراءة عينها بليل الشر، حيث حلٌ عدم الإيمان بهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
2. سرّ المسيح الفائق

سَبِيلٌ لَمْ يَعْرِفْهُ كَاسِرٌ،
وَلَمْ تُبْصِرْهُ عَيْنُ بَاشِقٍ [7].
إن كان في قدرة الإنسان أن يستغل الأرض، فتنتج قمحًا ومزروعات لطعامه، وأن يستخرج من بطنها ومن صخورها الفضة والذهب والبترول والحجارة الكريمة، إلا أنه توجد حكمة أخرى لا تُعطى إلا لمن يطلبها، ألا وهي إمكانية التعرف على الأسرار الإلهية، خاصة سرّ التجسد الإلهي وسرّ الخلاص.
فمهما تمتع الإنسان ببصيرة حادة كبصيرة كالنسور وغيرها من الطيور الحادة البصر، لن يستطيع أن يرى الأمور الإلهية بذاته.
اختار الطيور الجارحة، لأنها تطير إلى مسافات بعيدة جدًا بحثًا عن الطعام، ويمكنها رؤية الفريسة وهي على ارتفاع شاهق، تنقض عليها ثم ترجع إلى عشها دون أن تضل الطريق، أو تخطئ في التعرف عليه حتى وإن كان شبيهًا بعشها.
جاء في الترجوم الكلداني تفسيرًا لهذه العبارة، بأن الشيطان وهو يطير كطائر لم يرَ شجرة الحياة ولا تعرَّف عليها، وأيضًا عينا حواء لم تتطلع إليها، ولا سار بنو البشر نحوها، ولا اتجهت الحية نحوها .
يرى البعضأن المهتم باستخراج المعادن له عينان تفوقان عيني النسر، يتطلع بهما إلى مسافات بعيدة تحت الأرض، فيعرف أماكن المعادن الثمينة، فينقب ويستخرجها.
من أجل الغنى واقتناء الثروات لا يصعب على الإنسان أن يخترق طبقات الأرض خلال صناعة التعدين لينال فيضًا من المعادن النفيسة. ومن أجل الرغبة في الطعام لا يصعب على الأسود الكاسرة أن تتعرف على الطرق وسط الغابات والبراري لتقتنص فريسة لها ولصغارها؛ ولا تختفي عن بصيرة الطيور الجارحة الفريسة على أبعاد شاهقة، لكن تبقى أسرار الحكمة الإلهية خفية عن الإنسان دون نعمة الله الفائقة.
الحكمة البشرية هبة طبيعية يقدمها الله للإنسان بدرجات تليق بكل أحد، كموهبة يتميز بها شخص عن آخر، أما الحكمة الإلهية فهي عطية تُقدم لمن يطلبها بإخلاص ويشتهيها.
* حكمة هذا العالم غير حكمة الله. حكمة الله حقيقية، لا يصيبها ما يفسدها. حكمة العالم غبية، بالرغم من أن بساطة حكمة الله تجعل من ينالها كأنه غبي في عيني العالم. ينال المؤمنون هذه الحكمة الإلهية، وبهذا يُحسبون أغبياء لدى العالم .
العلامة أوريجينوس
* يقول بولس إن حكمة الله تُعلَّم تناغم مع الرب، هذه التي تظهر أن الحكمة الحقيقية توهب بالابن.
القديسإكليمنضس السكندري


وَلَمْ تَدُسْهُ أَجْرَاءُ السَّبْعِ،
وَلَمْ يَسْلُكْهُ الأَسَدُ [8].
الأسد الفتى أو جرو الأسد يسير وسط الغابات والبراري كملكٍ للوحوش. وكأنه يعرف كل الطرق المخفية، ليس من حيوان يقدر أن يختفي عنه. متى جاع يعرف كيف يبلغ إلى فريسته، وكأنه مُلم بكل أسرار المنطقة. هكذا من يعمل في التعدين يخترق طرقًا يصنعها تحت الأرض، لم يدسها جرو أسد، ولا سلك فيها أسد ما. ومن يود أن يقتني حكمة الله "سرّ المسيح الفائق" يسلك بالروح القدس طريقًا فريدًا لا يقدر كائن ما أن يبلغه بذاته، ولو كان ملكًا عظيمًا صاحب سلطان وله قوة وقدرة فائقتين!
مسيحنا هو الطريق، إذ نسلك فيه نصير كأسود روحية، ملوك وكهنة لله أبيه (رو 1: 6).
* يُعدد بولس نوعين أو ثلاثة أنواع من الحكمة (1 كو 1: 20-25). أولًا توجد حكمة تلك التي يدعوها العالم جهالة، وهي حكمة أعظم من الحكمتين الأخريين. أيضًا توجد الحكمة الممنوحة للبشر، التي بها نتعقل ونعمل، وبها نتقدم ونبتكر، وبها نعرف الله. أخيرًا يُوجد نوع ثالث من الحكمة حيث التأمل في الخليقة. الحكمة التي يحسبها العالم جهالة تُوهب لنا بواسطة المخلص، حتى أن الشعب الذي يعرف الله بالحكمة الطبيعية والذي ينقاد إليه بالتأمل في نظام الخليقة يمكنه أن ينال الخلاص الأمر الذي لا يمكن نواله بالنوعين السابقين من الحكمة، إذ لا يستطيعان إنقاذهم من الخطأ.
الأب ثيؤدورت أسقف كورش
* تعليم المخلص فيه الكفاية دون الحاجة إلى عونٍ إضافي، إذ هو قوة الله وحكمة الله.
القديس إكليمنضس السكندري


إِلَى الصَّوَّانِ يَمُدُّ يَدَهُ.
يَقْلِبُ الْجِبَالَ مِنْ أُصُولِهَا [9].
إذ يتحدث أيوب عن سرّ المسيح الفائق، بكونه حكمة الله، رأى عجبًا. رأى السيد المسيح بحبه وقدرته وحكمته يمد يده على الصليب ليحتضن الأمم التي صارت كالصّوّان الصلد، فيقيم من الحجارة أبناء لإبراهيم، أو أبناء للإيمان. لا تقف أمامه أصول الجبال الشامخة، أي أصحاب السلاطين الزمنية.
ببساطة الصليب، حكمة الله، التي يحسبها العالم الوثني جهالة، ويحسبها اليهود عثرة، اقتنص الرب الفلاسفة وأصحاب السلطان. وكما يقول الرسول بولس: "اختار الله جُهال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمُزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود" (1 كو 27-28).
* لم يستطع الفلاسفة أن يحققوا ما حققه أناس قليلون أميون، ألا وهو هداية العالم كله. تحدث الفلاسفة عن تفاهات ولم يقنعوا سوى قلة قليلة. وتحدث الرسل عن الله والبرّ والدينونة وهدوا أعدادًا كبيرة .
* بتعبيرات بشرية يستحيل على صيادي سمك أن يقنصوا فلاسفة، لكن هذا هو ما حدث بقوة نعمة الله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "إلى الصَّوَّان يمد يده، يقلب الجبال من أصولها" [9]. إنه يمد يده إلى الصَّوَّان، حيث يمد ذراع كرازته إلى قسوة الأمم. هكذا سبق فشعر أيوب نفسه الطوباوي مقدمًا بتاريخ الأمم، أنهم سيعرفونه، فيقول: "ليتها تُنقر في صٌوٌانِ بقلم حديدٍ وبرصاصٍ" (أي 24:19).
ولكن بماذا نفهم هنا الجبال سوى أصحاب السلطة في هذا العالم، الذين ينتفخون في عظمة من أجل كيانهم الأرضي؟ يقول عنهم المرتل: "ألمس الجبال، فتدخن" (مز 5:144).
أصول (جذور) الجبال هي أفكارهم العميقة بالكبرياء. تسقط الجبال من جذورها، لأن عبادة الله تنزل بسلاطين العالم إلى الأرض، تحطم أفكارهم الدنيئة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* يرفع النشيد العروس إلى أعلى قمة للمجد، مُضفيًا عليها اسم ينبوع المياه الحيّة المتدفقة من لبنان. لقد تعلمنا من الكتاب المقدس عن طبيعة الله المعطية للحياة كنبوة من شخص الله تقول: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة" (إر 13:2). ثم يقول السيد المسيح للمرأة السامرية: "أجاب يسوع وقال لها، لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماء حيّا" (يو 10:4). ثم قال: "إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 37:7-39).
تقول كل من هذه الفقرات إن الماء الحي هو الطبيعة المقدسة، لذلك جاز للنشيد أن يسمي العروس بصدق بئر ماء حي يفيض من لبنان. هذا في الحقيقة يتعارض مع ما هو معروف، فالآبار عادة تحتوي مياه ساكنة، وأما العروس فعندها مياه جارية في بئر عميق، ومياهها تفيض باستمرار.
من يقدر ويستحق أن يفهم العجائب الممنوحة للعروس؟ يتضح أنها قد وصلت إلى أقصى ما تتمناه، فقد قورنت بالجمال الأبدي الذي منه نشأ كل جمال. وفي نبعها تشبه نبع عريسها تمامًا، وحياتها بحياته، وماؤها بمائه. إن كلمته حية، وبها تحيا كل نفس تستقبله.
هذه المياه تفيض من الله كما يقول ينبوع المياه الحيّة: "لأني خرجت من قبل الله وأتيت" (يو 42:8).
تحفظ العروس فيض مائه الحي في بئر نفسها، وتصبح بيتًا يكنز هذه المياه الحيّة التي تفيض من لبنان، أي التي تكوّن سيولًا من لبنان، كما يقول النص.
لقد أصبحنا في شركة مع الله بامتلاكنا هذه البئر، حتى نحقق وصية الحكمة (أمثال 17:5، 18)، ونشرب مياها من بئرنا، وليست من بئرٍ آخر. نتمتع بهذا في المسيح ربنا له المجد والعظمة إلى الأبد آمين.
القديس غريغوريوس النيسي


يَنْقُرُ فِي الصُّخُورِ سَرَبًا،
وَعَيْنُهُ تَرَى كُلَّ ثَمِينٍ [10].
يقف أيوب متعجبًا من قدرة المخلص ومحبته، فهو الذي يهب للإنسان الذي صار كالصخرة أن تتفجر في داخله ينابيع مياه حية، وفي نفس الوقت يتطلع إلى الإنسان لا في استخفاف ولا لإدانته على قلبه الحجري، وإنما كأيقونة حيَّة له، ثمينة جدًا في عينيه. إنه يُزيل عن الإنسان قسوة قلبه الحجري، ويقيم منه قلبًا مملوء حبًا.
يرى البعض أنه في صناعة التعدين يشقون مجاري مياه في الصخور، فتنكشف لهم عروق المعادن التي يقومون باستخراجها.
* "ينقر مجاري (مياهًا) في الصخور". يشق في قلوب الأمم القاسية أنهار الكرازة.
بنفس الطريقة يتحدث النبي عن ارتواء براري الأمم: "يجعل القفر غدير مياه، وأرضًا يابسة ينابيع مياه" (مز 35:107). كذلك يعد الرب في الإنجيل: "من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو 38:7). ما سمعناه كوعدٍ قد تحقق الآن.
ألا ترون كيف أن الكارزين القديسين قد فاضوا كينبوعٍ من اليهودية من خلال الكنيسة الجامعة المنتشرة في العالم كله كمجاري للوصايا السماوية، تفيض بغزارة من أفواه الأمم. هذا لأنه قد نقر مجاري في الصخور؛ أفاض من القلوب القاسية نهر الكرازة المقدسة.
"وعينه ترى كل ثمين" [10]. إنه لأمرٍ يلزم على وجه الخصوص أن يُوضع في الذهن، أن كل نفس منفردة تُحسب بالأكثر ثمينة في نظر الله، قدر ما تحتقر نفسها من أجل حبها للحق. "أليس إذ كنت صغيرًا في عينيك، صرت رأس أسباط إسرائيل؟" (1 صم 17:15)... وعلى العكس من يحسب في نفسه أنه ثمين للغاية يتصاغر جدًا عند الله... "إنه يرى المتواضع، أما المتكبر فيعرفه من بعيد" (مز 6:138). لذلك "ترى عينه كل ثمين". في الكتاب المقدس يُستخدم تعبير "الله يرى" عوض "الله يختار"، كما جاء في الإنجيل: "لأنه يختار المتواضعين." اختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء" (ا كو 27:1). لقد "رأى ما هو ثمين" عندما افتقد النفس البشرية وهي تستخف بذاتها، متمتعة باستنارة نعمته. يُقال عن هذه النفس بالنبي: "إن أخرجت الثمين من المرذول، فمثل فمي تكون" (إر 19:15) . فإن العالم الحاضر مرذول من الله، أما نفس الإنسان فثمينة عنده. من يعزل الثمين من المرذول يُدعى "مثل فم الله"، لأن الله يقدم كلماته لهذا الإنسان.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* الروح القدس هو النهر الذي يفيض - حسب العبرانيين - من المسيح إلى الأراضي. وقد قبلنا هذا كما تنبأ فم إشعياء (إش 12:66). هذا النهر العظيم الذي يفيض على الدوام ولن يتوقف، ليس فقط نهرًا بل هو أيضًا أحد المجاري الغزيرة التي تفيض عظمة، كما قال داود: "مجرى النهر يفرح مدينة الله" (مز 4:46). فإنه لا ترتوي تلك المدينة، أورشليم السماوية بقناة، أي بنهرٍ أرضيٍ، بل بذاك الروح القدس المنبثق من مصدر الحياة. المجرى الذي يصدر عن ذاك الذي يشبعنا، يبدو أنه يفيض بوفرة بين العروش السماوية والسيادات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، جاريُا في أكمل نصيب لفضائل الروح السبع.
القديس أمبروسيوس
* يقصد بالبطن هنا (يو 7: 38) القلب... أين يوجد في الكتاب المقدس أن أنهارًا لمياه حيَّة تفيض من بطنه؟ لا يوجد.
فماذا إذن يعني: "من آمن بي كما يقول الكتاب"؟ هنا يلزمنا أن نتوقف فقد يكون القول: "تجري من بطنه أنهارًا" تأكيد أنه عن المسيح. فكثيرون قالوا: "هذا هو المسيح"، و"عندما يأتي المسيح، هل يصنع معجزات أكثر"؟ إنه يظهر الحاجة إلى معرفة صحيحة، وأن يقتنعوا لا من المعجزات بل من الكتاب...
لقد سبق فقال: "فتشوا الكتب" (يو 5: 39) وأيضًا: "مكتوب في الأنبياء"، و"يكون الكل متعلمين من الله" (يو 6: 45)، "موسى يشكوكم" (يو 5: 45)، وهنا يقول:" كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار"، ملمحًا نحو عظمة النعمة وفيضها... وقد دعاها في موضع آخر "حياة أبدية" أما هنا فيدعوها "أنهار ماء"...
فإن نعمة الروح إذ تدخل الذهن وتقيم، تفيض أكثر من أي ينبوع.
إنها لن تتوقف ولن تفرغ...
فلكي يعني إنها تقدم عونًا لا ينضب، وفي نفس الوقت طاقة لا تخيب، دعاها "بئرًا" وأنهارًا، ليست نهرًا واحدًا، بل هي أنهار لا تُحصى.
يمكن للشخص أن يدرك بوضوح ما تعنيه إن وضع في اعتباره حكمة اسطفانوس ولسان بطرس وغيرة بولس.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* منْ مِنَ الكائنات الأرضية خُلق على صورة الله إلا الإنسان؟
ولمن أُعطى السلطان على كل الطبيعة ومخلوقاتها ليختصها لذاته؟
إنه لشرف أصيل يكلل جبينه، ويسمو به إلى السماء، فوق الكواكب، أرفع من الشمس تشامخًا وعزة... ومع أنه أوضع منزلة من الملائكة لارتباطه بجسدٍ ماديٍ فقد وُهب قوة لفهم ومعرفة ربه وخالقه.
القديس باسيليوس الكبير


يَمْنَعُ رَشْحَ الأَنْهَارِ،
وَأَبْرَزَ الْخَفِيَّاتِ إِلَى النُّورِ [11].
تعبير شعري عن رعاية الله للإنسان، فإذ يشق الإنسان مجاري مياه وسط الصخور لممارسة التعدين، يحفظ الله حياة الإنسان فلا يسمح لهذه المجاري أن تنشع، فيسقط جدار المنجم أو سقفه، كما يسند الإنسان في معرفته للمعادن المخفية في المناجم تحت الأرض.
يقدم البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لهذه العبارة، إذ يرى في هذه الأنهار فيض من تعاليم الآباء الأولين.
* "يفحص أعماق الطوفان، ويبرز الخفيات إلى النور" [11]. ما هي تلك التي تدعى طوفانًا إلا أقوال الآباء القدامى؟ من يستطيع أن يقَدر الفيض الشديد الصادر عن صدر موسى نفسه عندما كان يقدم الناموس؟ أي فيض عظيم صدر عن قلب داود؟ أية مجاري مياه فاضت من شفتي سليمان وشفاه كل الأنبياء؟
البابا غريغوريوس (الكبير)
3. أَيْنَ تُوجَدُ الْحِكْمَةُ؟

أَمَّا الْحِكْمَةُ فَمِنْ أَيْنَ تُوجَدُ؟
وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ الْفَهْمِ؟ [12]
إن كانت كنوز المعادن الثمينة مخفية تحت الأرض، فكم بالأكثر حكمة الله. من يستطيع بنفسه أن يدرك أين هي، ومن أين يقتني الفهم الحقيقي.
الحكمة هي الكنز المخفي داخل الإنجيل، لا يقدر إنسان أن يتمتع بها ما لم يشرق روح الله بنوره عليه، فيكشف له أسرار الكلمة.
* الحكمة الحقيقية هي الإنجيل، وسيلة الخلاص خلال صليب المسيح.
القديس يوحنا الذهبي الفم


لاَ يَعْرِفُ الإِنْسَانُ قِيمَتَهَا،
وَلاَ تُوجَدُ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ [13].
الحكمة هي الاقنوم الثاني "حكمة الله"، الذي لا يمكننا ونحن بعد في الجسد أن ندرك أعماق سرّ الحكمة، ونتعرف على شخص الحكمة، إذ هو في حضن الآب، تجسد ليلتقي بنا ونحن نلتقي به في عالمنا.
* لا يعني بولس هنا (1 كو 2: 7) أنه يُخبر بأمورٍ سرية وألغاز، وإنما الرسالة التي يكرز بها كانت قبلًا مخفية .
الأب ثيؤدورت أسقف كورش
* الحكمة ليست في زمنِ ولا في موضع، لأن الزمن يعني أنها وُجدت، ولكن كيف تكون في زمن هذه التي هي من البدء؟ كيف تكون في مكان هذه التي كانت مع الله؟ إن كان أحد يبحث عن الابن الوحيد، فبحسب الحس الإنجيلي هو موجود في حضن الآب. هل تظن أن حضن الآب هو موضع؟ هل تطلب أن تعرف كيف وُلدت الحكمة، إن كان رجل النبوة يقول: "الإنسان لا يعرف طريقها" (أي 28: 13)، هل تظن أن أصلها في البشر، بينما يقول أيوب أنها لا توجد بين البشر؟ هل تنسب للحكمة للموت، هذه التي "الغمر يقول: ليست هي فيّ، والبحر يقول: ليست هي عندي" (أي 28: 14) .
القديس أمبروسيوس
* يشهد بولس (1 كو 2: 7) أنه قد أُرسل ليعلن سرّ الحكمة التي لا يعرفها رؤساء هذا العالم، ولهذا ينعتون بالغباء. حكمة الله مخفية، لأنها ليست كلمات بل قوة. يستحيل الحديث عنها بتعبرات بشرية، لكن نؤمن بها بقوة الروح.
الأب أمبروسيا ستر
* "ولا توجد في أرض الذين يعيشون مترفين" [13]. ماذا تشير الأرض في هذه العبارة سوى نفس الإنسان؟ يقول المرتل: "عطشت نفسي إليك، مثل أرضٍ بلا ماء" (مز 6:143). لكن هذه الحكمة لا يمكن أن توجد في أرض الذين يعيشون في ترفٍ، لأن الإنسان الذي لا يزال يقتات على ملذات هذه الحياة يُنزع عنه إدراك الحكمة الأبدية.
البابا غريغوريوس (الكبير)


الْغَمْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ فِيَّ،
وَالْبَحْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ عِنْدِي [14].
كأن الطبيعة بكل ما فيها من إبداع وجمال وإمكانيات تحاور الإنسان، وتوجه نظره إلى الخالق كمصدر الحكمة الحقيقية، فلا يطلبها الإنسان من الطبيعة ولا من الكتب ولا من الأحداث، وإنما من الله نفسه.
يرى القديس أغسطينوس أن الله جعل الحكمة مخفية، ليس لأنه يُريد أن يحرمنا منها، بل لكي يشوقنا إليها فنطلبها بجدية.
*"الغمر يقول ليست هي فيٌ، والبحر يقول ليست هي عندي" [14]. كثيرًا ما يشخصن الكتاب المقدس أمورًا كثيرة جامدة كمثال: "البحر يقول: ليست هي عندي" وهكذا. "العمق يقول: ليست هي فيٌ"، "السماوات تعلن مجد الله" (مز 1:19). وأيضًا يصدر الأمر إلى السيف (زك 7:13)، وتُسأل الجبال والتلال عن وثبها بمرحٍ (مز 6:114). إننا لا نتذرع بأي واحدٍ منهم، وإن كان بعض سلفائنا استخدموها كبرهانٍ قويٍ. لنحسب أن هذا التعبير قد اُستخدم عن مخلصنا نفسه، الحكمة الحقيقية.
الأب غريغوريوس النزينزي
* عندما سأل أيوب عن موضع الحكمة أجاب: "العمق يقول: ليست هي فيَّ"، يشير لا إلى مكان وجودها، بل إلى الموضع الذي ليست فيه.
مرة أخرى عندما قال بأن ثمنها غير معروف بواسطة إنسان [15]، ثم أكمل: "لا يُعطي ذهب خالص بدلها" لم يظهر ما هو ثمنها، بل ما هو ليس بثمنها. فمن الواضح للكل أن هذه الحكمة لا يمكن لإنسانٍ أن يجدها في موضعٍ ما، ولا أن يشتريها بالغنى. لكن الإنسان القديس إذ هو مملوء بأفكار سرائرية ينطلق بنا لاكتشاف أمورٍ أخرى، فلا يطلب حكمة مخلوقة، بل الحكمة الخالق. فإننا ما لم نبحث الأعماق المخفية للرمزية في هذه الكلمات، بالتأكيد ما يُنطق به يكون غير ذي قيمة، إن كانت تُفسر من الجانب التاريخي وحده...
هكذا إذن ما هي الحكمة التي يتأملها الإنسان القديس سوى ما يقوله بولس الرسول: "المسيح قوة الله، وحكمة الله" (1 كو 24:1)؟
كتب عنها سليمان: "الحكمة بنت بيتها" (أم 9: 1). ويقول عنها المرتل: "في الحكمة خلقت كل شيء" )مز 24:104). عن هذه الحكمة عينها "لا يعرف الإنسان الثمن"، إذ لا يجد شيئًا يمكن به أن يقدرها... ليس من وسيلة للحصول عليها...
ماذا نعطي لكي نتأهل لنوال هذه الحكمة، التي هي المسيح؟ فإننا بالنعمة نحن مخلصون... فالإنسان يستحق شيئًا واحدًا في طريق العدالة (وهو الموت)، وينال شيئًا آخر بخصوص النعمة... يقول بولس: "ونحن بعد خطاة مات المسيح في الوقت المعين لأجل الفجار" (رو 8:5، 6). إذن نحن الذين وُجدنا فجارًا، عندما جاء الحكمة، أي شيء صالح قدمناه لكي ننال به هذه الحكمة؟ "لا يعرف إنسان ثمن هذه الحكمة"... "لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله، ليس من أعمالٍ، كيلا يفتخر أحد" (أف 8:2-9). ويتكلم عن نفسه قائلًا: "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا" (1 كو 10:15).
* إلى ماذا يشير "البحر" إلا إلى الأذهان الدنيوية التي تعاني من الاضطراب المر، فتدخل في عداوة مع الغير في غباوة، وتنطلق بالعداوة من نحو شخصٍ إلى آخر بالتناوب، وتحطم الأذهان بعضها البعض، مثل أمواج تصطدم بعضها ببعضٍ. بحق تدعى حياة الأشخاص الدنيويين بحرًا، لأنها في حالة هياج بواسطة العواصف المثيرة، فتُحرم من الهدوء وثبات الحكمة الداخلية. على نقيض هذا حسنًا قيل بالنبي: "على من يستقر روحي، إلا على المتواضع والهادئ والمرتعب من كلامي" (راجع إش 2:66)... يدعونا الرب ونحن في جراحات الاضطراب هذا، قائلًا: "تعالوا إلىٌ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (مت 28:11-29).
أي شيء منهك أكثر من أن يكون الإنسان محمومًا بالشهوات الأرضية؟ أو أي شيء أكثر راحة هنا من ألا يشتهي الإنسان شيئًا من هذا العالم؟ لهذا السبب تسلم الإسرائيليون حفظ السبت كهبة... فإن الشعب الذي يتبع الله يتقبل السبت - أي راحة الروح - بعدم الارتباك بهذه الحياة، وذلك بعدم الانهماك في الملذات الجسدية...
لكن كيف يمكننا أن نعرف أن أغلب الآباء القدامى تمسكوا بهذه الحكمة في حياتهم الداخلية، بينما من الخارج كانوا يديرون شئون العالم؟
هل نحسب يوسف محرومًا من نوال هذه الحكمة الذي في وقت المجاعة أُلقى على عاتقه شئون كل مصر، ليس فقط لتدبير احتياجات المصريين فقط، وإنما بمهارته الفائقة اهتم بحفظ حياة الشعب الغريب أيضًا القادم إليه؟
هل كان دانيال غريبًا عن هذه الحكمة، هذا الذي لما أُقيم رئيسًا على الحكام بواسطة ملك الكلدانيين في بابل كان مشغولًا بمسؤوليات عظيمة...؟ إذن من الواضح غالبًا حتى الصالحون ينشغلون بالتزامات أرضية دون ارتباك...
هؤلاء الذين لهم هذا الهدوء، مهما كانت متاعب أعمالهم الخارجية لن تدخل هذه المتاعب إلى أعماقهم الداخلية... فإن قلوبهم مملوءة بهذه الحكمة، فلا ترتبك ولا تضطرب... الأذهان المضطربة بالأمور العالمية تصرخ لمجرد عدم هدوئها وعزلها عن الحكمة الحقيقية.
البابا غريغوريوس (الكبير)
4. يا لعظمة الحكمة!

لاَ يُعْطَى ذَهَبٌ خَالِصٌ بَدَلَهَا،
وَلاَ تُوزَنُ فِضَّةٌ ثَمَنًا لَهَا [15].
لما كانت حكمة الله هو أقنوم الكلمة، لذا فإن من يقتنيها إنما يقتني الخالق نفسه, فليس من وجه للمقارنة بينه وبين المخلوقات مهما كانت قيمتها.
* إلى ماذا يشير الذهب الخالص إلا إلى الملائكة الذين بحقٍ يدعون ذهبًا خالصًا. فهم ذهب، لأنهم يشرقون ببهاء البرّ، وذهب خالص لأنه لم يصبهم قط أي دنس للخطية، أما بالنسبة للبشر فطالما هم في الجسد القابل للفساد وخاضعون للموت، يمكن أن يكونوا ذهبًا، لكن لا يُمكن أن يكونوا ذهبًا خالصًا. "الجسد الفاسد يثقل النفس، والخيمة الترابية عبء للعقل الكثير الهموم" (حك 15:9). فإنهم حتى في هذه الحياة قد يشرقون ببهاءٍ فائقٍ للبرّ، ومع هذا فلن يتخلصوا تمامًا من زغل الخطايا. يشهد الرسول يوحنا لهذا بقوله: "إن قلنا إننا بلا خطية نضل أنفسنا، والحق ليس فينا" (1 يو 8:1). يؤكد يعقوب ذلك، قائلًا: "فإننا في أمورٍ كثيرةٍ نعثر جميعنا" (يع 2:3). بنفس الطريقة يتوسل النبي، قائلًا: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك يا رب، فإنه لن يتبرر قدامك إنسان" (مز 2:143).
فالحكمة تُعلن عن نفسها بذاتها، حتى يمكن للجنس البشري أن يخلصوا من الخطية. لا يُرسل ملاك عوض الحكمة، إذ من الضروري أن يتحرر المخلوق بواسطة الخالق. هكذا يقول الرب في الإنجيل: "إن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 36:8).
لكن الرجل القديس (أيوب) إذ امتلأ بروح هذه الحكمة سبق فرأى أن اليهودية يصير بها من يضعون رجاءهم في صاحب الشريعة، ويجعلون من موسى مصدر خلاصهم، إذ نطقوا بالشر حتى مع ذاك الذي شُفي: "أنت تلميذ ذاك، وأما نحن فإننا تلاميذ موسى" (يو 28:9).
البابا غريغوريوس (الكبير)


لاَ تُوزَنُ بِذَهَبِ أُوفِيرَ،
أَوْ بِالْجَزْعِ الْكَرِيمِ،
أَوِ الْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ [16].
جاء في الترجمة السبعينية: "لا تُقارن بألوان الصبغة في الهند". ويرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن حكمة الله لا تشوبها زخرفة البلاغة، فإنها تكون مبهجة كثوبٍ بلا صبغة. لقد استخف بولس بالصبغة بقوله: "التي تتكلم بها أيضًا، لا بأقوال تُعلمها حكمة إنسانية، بل بما تُعلمه الروح القدس" (1 كو 13:2). فقد اختار الرسول أن يستخدم هذه الحكمة في بساطة الحق النقي وحدها، ولكن دون أن يلطخها بصبغة الكلام.


لاَ يُعَادِلُهَا الذَّهَبُ وَلاَ الزُّجَاجُ،
وَلاَ تُبْدَلُ بِإِنَاءِ ذَهَبٍ إِبْرِيزٍ [17].
إذ تجسد كلمة الله وصار إنسانًا، لم يعادله أي إنسان سواء كان ذهبًا أو زجاجًا. مهما كان بريقه كالذهب أو نقاوته الشفافة كالكريستال.
* رأى يوحنا في الرؤيا هذا حين قال: "بناء سورها من يشب، والمدينة ذهب نقي شبه زجاج نقي" (رؤ 18:21). ذلك لأن كل القديسين سيشرقون في بهاء النعيم الفائق، لذلك وُصفت (أورشليم العليا) أنها بناء من ذهب... لكن مادمنا في هذه الحياة ولا يمكن لقلوبنا أن ينظرها الآخرون، فإنها ليست أوانٍ من الزجاج، بل هي أوانٍ خزفية. في هذا الطين الذي قد يفسد الذهن يخشى النبي أن يوحل فيه، إذ يقول: نجني من الطين، لكن لا أوحل" (مز 14:68). خيمة أجسادنا ذاتها يدعوها بولس: "بيت خيمتنا"، فيقول: "لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماوات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيدٍ، أبدي" (2 كو 1:5)... ومع هذا فإن كل القديسين يتألقون بمثل هذا البهاء العجيب، ويشرقون بنقاوة فائقة هكذا، حتى إذ يصيروا على شكل الحكمة، لكنهم لا يعادلونها. ولهذا السبب فإن كل القديسين يُحضرون إلى الأفراح الأبدية حتى يصيروا على مثال الله كما هو مكتوب: "إذ أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يو 2:3). ومع هذا مكتوب: "أيها الرب إله القوات، من هو مثلك؟" (مز 8:89، 6). أيضًا: "من سيكون مثل الله بين أبناء الله". كيف يكونون مثله، ولا يكونون مثله، إلا لأنهم سيكونون مثل هذه الحكمة في الشبه، ولكنهم ليسوا معادلين لها. إنهم مثله، لأنهم يصيرون مطوبين، وليسوا مثله، لأنه هو الخالق، لا يعادلونه حيث أنه غير مُدرك، أما هم فكائنات مدركة. لذلك فليُقل بعدلٍ: "لا يعادلها الذهب ولا الزجاج". فإنه مهما بلغ بهاء القديسين ونقاوتهم فيشرقون، فإن هذا يخص البشر بكونهم حكماء في الله، وأما هو فحكمة الله، إنه أمر آخر...
"ولا تبدل بإناء ذهب إبريز" [17]... فالكنيسة لن تستبدل هذه الحكمة بأوانٍ ذهبية ثمينة وسامية، إذ تتمسك بالمسيح ابن الله، ليس كواحدٍ من الأنبياء، بل رب الأنبياء الواحد.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* يعطي الابن ذاته حتى أنه هو نفسه بكونه البرّ يُزيل منا الشر، تقدم الحكمة ذاتها لكي ما تحتل موضع الجهالة.
القديس جيروم


لاَ يُذْكَرُ الْمَرْجَانُ أَوِ الْبَلُّوْرُ،
وَتَحْصِيلُ الْحِكْمَةِ خَيْرٌ مِنَ اللآّلِئِ [18].
لاَ يُعَادِلُهَا يَاقُوتُ كُوشَ الأَصْفَرُ،
وَلاَ تُوزَنُ بِالذَّهَبِ الْخَالِصِ [19].
الحكمة هي رب المجد يسوع الذي هو أثمن من كل اللآلئ والمرجان والبلور وكل ما هو ثمين.
* كثيرًا ما قلنا إن المسيح هو الحكمة والعدل والسلام والفرح والحنو وما هو بقية ذلك. لتلاحظوا أن أسماء كل هذه الفضائل محبوبة حتى من الذين لا يسعون وراءها. ليس من مجرمٍ يعلن في وقاحة أنه لا يحب الحكمة والعدل.
القديس جيروم
5. حكمة الله المخفية

فَمِنْ أَيْنَ تَأْتِي الْحِكْمَةُ،
وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ الْفَهْمِ [20].
كثيرًا ما يصرخ رجال الله طالبين الحكمة من السماوي، لأنه من أين تأتي الحكمة وما هو مكان الفهم، سوى من الله السماوي؟
* إنه يعطي المعرفة لا بكتاب نتعلمه وإنما باستنارة الروح(1164).
الأبأمبروسيا ستر
* الذين يصغرون في الجسد تاركين معرفتهم الذاتية هم حكماء في العالم... يصيرون بمحض إرادتهم مثل رضعٍ يتعلمون الحكمة التي لا تُقتنى خلال أتعاب الدراسة.
القديسمار اسحق السرياني
* إنها تأتي من ذاك الذي تصدر عنه. الآن طريقها مخفي، إذ هي مولودة من غير المنظور الشريك في الأزلية مع الآب. عبَّر النبي عن "من أين" بقوله: "وجيله من يقصه؟" (إش 8:53). الآن صار مكان الفهم هو عقل الإنسان، الإنسان الذي يملأه حكمة الله ويجعله مقدسًا...
البابا غريغوريوس (الكبير)


إِذْ أُخْفِيَتْ عَنْ عُيُونِ كُلِّ حَيٍّ،
وَسُتِرَتْ عَنْ طَيْرِ السَّمَاءِ؟ [21]
شهوة قلب كل مؤمن وكل لاهوتي حقيقي أن يكون من حق المختارين أن يتمتعوا برؤية الله في الحياة الأبدية. هذا ما يعلنه القديس يوحنا الرسول: "لأننا سنراهُ كما هو" (1 يو 2:3). غير أنه في ذات الرسالة يقول: "الله لم ينظرهُ أحد قط" (1 يو 12:4). ويؤكد الرسول بولس: "ساكنًا في نورٍ لا يُدنَى منهُ، الذي لم يَرَهُ أحد من الناس ولا يقدر أن يراهُ" (1 تي 16:6). هذا يثير أسئلة كثيرة منها:
1. هل هذه الرؤية محفوظة فقط للحياة الأبدية؟ أم يمكن أن تبدأ هنا في خبرة داخلية في أعماق النفس؟
2. هل رؤية السمائيين لله هي رؤية لجوهره؟ وهل يتمتع المؤمنون في السماء برؤية الجوهر الإلهي؟
لقد كتب القديس يوحنا الذهبي الفممقالًا بعنوان: "طبيعة الله غير المدركة"، يُظهر فيها استحالة رؤية الله في جوهره كما هو. أكدت مجامع القسطنطينية في القرن الرابع عشر (1341، 1351، 1368م) أن الله لا يمكن الدنو منه من جهة الجوهر، فهو ليس موضوع معرفة الملائكة أو القديسين أو موضوع رؤيتهم، إنما يُرى هذا الجوهر الإلهي خلال طاقاته الإلهية غير المخلوقة. وقد أفاض الأب غريغوريوس بالاماس في الحديث عن هذه النظرية.
* عندما نسمع السيرافيم أنهم يطيرون حول العرش في سموه ورفعةٍ، يغطون وجوههم بجناحين... ويسترون أرجلهم باثنين، ويصيحون بصوتٍ مملوء رعدة، لا تظن أن لهم ريشًا وأرجلًا وأجنحة، فإنهم قوات غير منظورة...
حقًا إن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مدرك، ولا يقدرون على الدنو منه، لهذا يتنازل هو ليظهر بالطريقة التي وردت في الرؤيا. فإن الله لا يحده مكان ولا يجلس على عرش... إنما جلوسه على العرش وإحاطته بالقوات السمائية هو من قبيل حبه لهم.
إذا ظهر على العرش وأحاطت به هذه القوات لا تقدر على معاينته، ولا احتملت التطلع إلى بهاء نوره، فتغطي أعينها بأجنحتها، ولا يعد لها إلا أن تسبح وتترنم بتسابيح مملوءة مجدًا ورعدة مقدسة، وبأناشيد عجيبة تشهد لقداسة الجالس على العرش.
حرى بذاك الذي يتجاسر ليفحص عناية الله الذي لا تقدر القوات السمائية على لمسها أو التعبير عنها أن يختبئ مختفيًا تحت الآكام.
القديس يوحنا الذهبي الفم
انشغل كثير من آباء الكنيسة ومن الدارسين عبر العصور في التعرف عما إذا كان المؤمنون سيرون الله كما هو أم في حدود معينة.
إن كانت الحكمة، التي هي الله، مخفية عن عيون الأحياء، فبالتأكيد لا يستطيع أحد القديسين أن يرى هذه الحكمة. وإني أسمع يوحنا يتفق مع هذه العبارة: "الله لم يره أحد قط" (يو 18:1).
ولكن عندما أتطلع إلى آباء العهد القديم أتعلم أن كثيرين منهم - كما يشهد تاريخ الكتاب المقدس - رأوا الله.
فقد رأى يعقوب الرب وقال: "لأني نظرت الله وجهًا لوجه" (خر 30:32).
بالمثل رأى موسى الله الذي كُتب عنه: "ويكلم الرب موسى وجهًا لوجهٍ كما يكلم الرجل صاحبه" (خر 11:33).
أيوب نفسه هذا رأى الرب وقال: "بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني" (أي 5:42).
إشعياء النبي رأى الرب وقال: "في سنة وفاة عزيا الملك، رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع" (إش 1:6).
رأى ميخا الرب قائلًا: "قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه، وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره" (1 مل 19:22).
ماذا إذن يعني هذا أن كثيرين من آباء العهد القديم يشهدون أنهم رأوا الله، ومع هذا يُقال بخصوص هذه الحكمة التي هي الله،: "أخفيت عن عيون كل حيُ" (أي 21:28)، ويقول يوحنا: "الله لم يره أحد قط" (يو 18:1)؟ واضح لنا أن نفهم بأننا مادمنا نعيش هنا حياة قابلة للموت يمكن رؤية الله عن طريق ظهورات، أما رؤيته الحقيقية بطبيعته فلا يمكن تحقيقها.
البابا غريغوريوس (الكبير)


اَلْهَلاَكُ وَالْمَوْتُ يَقُولاَنِ:
بِآذَانِنَا قَدْ سَمِعْنَا خَبَرَهَا [22].
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الهلاك والموت يشيران إلى الأرواح الشريرة التي تسبب الهلاك والدمار، فقد قيل عن الشيطان "اسمه الموت" (رؤ 8:6). هذه الأرواح لا ترى الحكمة، إذ طردوا من أمامه بسبب كبريائهم، وصاروا عاجزين عن رؤية حكمة الله. "أولئك يكونون بين المتمردين على النور، لا يعرفون طرقه، ولا يلبثون في سبله" (راجع أي 13:24).


اَللهُ يَفْهَمُ طَرِيقَهَا،
وَهُوَ عَالِمٌ بِمَكَانِهَا [23].
ليس من يعرف الحكمة الإلهي أو الابن إلاّ الآب، فهو يعرف طريق الحكمة، لأنها مولودة منه أزليًا، ليس من انفصال بين الآب والابن.
الحكمة، الشريكة في الأزلية مع الله، لها طريقها بمعنى ما، ولها مكانها بمعنى آخر... مكان الحكمة هو الآب، ومكان الآب هو الحكمة، وذلك كما تشهد الحكمة نفسها قائلة: "أنا في الآب، والآب فيٌ" (يو 10:14).
البابا غريغوريوس (الكبير)


لأَنَّهُ هُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ.
تَحْتَ كُلِّ السَّمَاوَاتِ يَرَى [24].
رؤية الله هي تجديد نعمته للأشياء التي فُقدت وفسدت. لذلك كُتب: "الملك الجالس على كرسي القضاء يذري بعينه كل شرٍ" (أم 8:20). فبرؤيته يضع حدًا لشرور طيشنا، ويهب تقديرًا عظيمًا للنضوج.
البابا غريغوريوس (الكبير)


لِيَجْعَلَ لِلرِّيحِ وَزْنًا،
وَيُعَايِرَ الْمِيَاهَ بِمِقْيَاسٍ [25].
في الكتاب المقدس يشير بسرعة الريح وخفتها بوجه عام إلى النفوس. وكما يقول مرتل الله: "الماشي على أجنحة الريح" (مز 3:104)، بمعنى الذي يسير فوق فضائل النفس. تبعًا لهذا "يجعل للريح وزنًا"، بمعنى أن الحكمة التي من فوق تملأ النفوس، فتجعلهم مثقلين بالنضوج، وليس بالوزن الذي قيل عنه: "يا بني البشر، إلى متى تثقل قلوبكم" (مز 2:4). فإن الثقل بالمشورة (الصالحة) شيء، والثقل بالخطية شيء آخر، التثقل بالالتزام شيء، والتثقل بالمعصية شيء آخر...
"ويعاير المياه بمقياس" [25]. تُستخدم المياه في الكتاب المقدس للإشارة إلى الروح القدس، وأحيانًا تُستخدم عن المعرفة الخاطئة، وأحيانًا عن النكبات والشعوب المنجرفة، وأحيانًا عن الذين يتبعون الإيمان. هكذا يشير الماء إلى انسكاب الروح القدس، كما قيل في الإنجيل: "من يؤمن بي كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار مياه حية". ويضيف الإنجيلي: "قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 38:7- 39). مرة أخرى يشير الماء إلى المعرفة المقدسة، كما قيل: "يعطيه ماء الحكمة ليشرب" (سيراخ 3:15). بالمثل يشير الماء إلى المعرفة الشريرة، وذلك كالمرأة المذكورة في سليمان والتي تحمل رمزًا للهرطقة، والتي تسحر بفنونها المخادعة، فقيل: "المياه المسروقة حلوة" (أم 17:9).
كذلك تعبير "المياه" يشير إلى التجارب، كما يقول المرتل: "نجني يا الله من المياه، فقد بلغت إلى نفسي" (مز 1:69).
تشير المياه أيضًا إلى الشعوب كما قيل بيوحنا: "المياه هي شعوب" (رؤ 15:17). هكذا أيضًا ليس فقط مدّ الشعوب الجارفة، بل وأيضًا أذهان الصالحين الذين يتبعون الكرازة بالإيمان، كقول النبي: "طوباكم أيها الزارعون على كل المياه" (إش 20:32)، وقول المرتل: "صوت الرب على المياه" (مز 29: 3).
في هذا الموضع بماذا يشير لقب "المياه" إلا إلى قلوب المختارين الذين بفهم الحكمة ينالون سماع الصوت السماوي؟
البابا غريغوريوس (الكبير)


لَمَّا جَعَلَ لِلْمَطَرِ فَرِيضَةً،
وَسَبِيلًا لِلصَّوَاعِقِ [26].
* يشير بالأمطار إلى أقوال الكارزين، لذلك قيل بموسى: "يهطل كالمطر تعليمي" (تث 2:32). بمعنى عندما يقدمون كلماتي بإقناع لطيف يكون مطرًا، وعندما يرعدون بأمورٍ مرعبة بخصوص الدينونة القادمة يصدرون أصواتًا كالرعود القاصفة...
يُفقد سلطان الكلام عندما يكون الصوت غير مؤيدٍ بالعمل. يُقال بالمرتل: "وللشرير مالك تحدث بفرائضي، وتحمل عهدي على فمك، وأنت قد أبغضت التأديب، وألقيت كلامي خلفك؟" (مز 50: 16-17)... كُتب هذا عن ناموس الكرازة: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلمٌَ الناس، هكذا يُدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلَّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات، هذه التي كُتب عنها: "يجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم" (مت 41:13). فإنه في الملكوت العلوي يلزم أن تُجمع "المعاثر" خارجًا وتُطرح خارجًا... الآن جعل "سبيلًا للرعود القاصفة" [26] عندما يقيم اتصالًا بقلوب البشر مضروبة بالفزع من الدينونة القادمة لكارزيه.
البابا غريغوريوس (الكبير)


حِينَئِذٍ رَآهَا وَأَخْبَرَ بِهَا هَيَّأَهَا،
وَأَيْضًا بَحَثَ عَنْهَا [27].
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أنه يليق بنا ملاحظة وجود أربعة أمور بخصوص الحكمة حيث بقول: "حينئذ رآها، وأخبر بها، وهيأها، وأيضًا بحث عنها" [27].
* يراها في كونها "شبه"، ويخبر بها إذ هي "الكلمة"، ويهيئها إذ هي "العلاج"، ويبحث عنها بكونها "مخفية عن البصر". حكمة الله الأزلية هي صورة الآب وكلمته، عندما يخترقها عقل الإنسان. فمن يريد أن يفهمها بكونها الكلمة بغير زمانٍ، والصورة بغير حدٍ.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يليق بنا أن تمتص حكمة الله كل كياننا ومشاعرنا وأحاسيسنا.
* إن كان المسيح هو رأس المؤمن، فإن عيني الحكيم في رأسه (جا 2: 14). وبالتالي تتركز كل أحاسيسنا وعقلنا وأفكارنا وكلمتنا ومشوراتنا (إن كنا حكماء) في المسيح.
القديس جيروم


وَقَالَ لِلإِنْسَانِ: هُوَذَا مَخَافَةُ الرَّبِّ هِيَ الْحِكْمَةُ،
وَالْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ هُوَ الْفَهْمُ [28].
يعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة قائلًا بأن الحكمة اليونانية qeosebeia، والتي تترجم أحيانًا "تقوى": "هوذا التقوى هي الحكمة" تعني "التعبد لله". والنقطة الرئيسية في العبادة هي أن النفس لا تكون جاحدة لله. لذلك فإن الذبيحة الممتازة الحقيقية هي تقديم الشكر لله ربنا. الحكمة هي الشكر الداخلي للنفس نحو الله، تعبر عنه بالعبادة الروحية له.
مرة أخرى يؤكد أن من ينسب الحكمة لنفسه لا يكون شاكرا لله، وبالتالي لا يحمل مخافة الرب ولا يكون تقيًا، فهو غبي وليس حكيمًا(1171).
* "هوذا التقوى هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم" (أي 28: 28). هنا التمييز (بين الحكمة والفهم)، إذ يلزم أن نفهم أن الحكمة تخص التأمل، والفهم يخص العمل. ففي هذا الموضع يقصد بالحكمة عبادة الله.... وما هو عبادة الله سوى حب لله، الذي به نشتاق أن نراه، ونؤمن ونترجى أن نراه نسبيًا. إذ يحدث لنا تقدم نرى كما في مرآة في لغز، ولكن عندئذٍ تكون الرؤية في وضوح... وأما الحيد عن الشر الذي يقول عنه أيوب أنه فهم، فهو دون شك يخص الأمور الزمنية. فإنه بالنسبة للزمن (في هذا العالم) نحن في شرٍ، حيث يلزمنا أن نكف عنه حتى نبلغ الخيرات الأبدية(1172).
* يوجد نوع آخر من الأشرار الذين لما عرفوا الله لم يمجدوه كإله، ولا كانوا شاكرين (رو 21:1). في هذا أنا أيضًا سقطت، لكن يمينك رفعتني (مز 35:18)، وحملتني بعيدًا، ووضعتني حيث يُمكن شفائي. فأنت قلت للإنسان: "هوذا مخافة الرب التي هي حكمة" (أي 28:28)، ولا تشتهِ أن تبدو حكيمًا (أم 7:3)، لأنهم "بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رو 1:22). لكنني الآن وجدت اللؤلؤة الصالحة حيث كان يلزمني أن أبيع كل شيء وأشتريها (مت 46:13)، لكنني ترددت.
* إن كانت المعرفة من النوع المستقيم، فهي وصيفة للحب، فبدون الحب "المعرفة تنفخ" (1 كو 1:8)، ولكن حيث يوجد الحب يملأ القلب بالبنيان، فلا تجد المعرفة شيئًا فارغًا يمكن أن تنفخه. أضف إلى هذا أن أيوب يظهر المعرفة النافعة بتعريفه إياها بعد بقوله: "مخافة الرب التي هي الحكمة"، مضيفًا: "والحيدان عن الشر هو الفهم"(1174).
* "هوذا عبادة الله هي الحكمة". عندئذ يكون الذهن حكيمًا، لا بنوره الذاتي، بل بالشركة في ذلك النور السامي، والذي هو أبدي، فيه يملك في الطوباوية.
القديس أغسطينوس
* "هوذا التقوى هي الحكمة، والحيَدان عن الشر هو الفهم" [28]. ليس شيء مثل هذا التدريب العملي، ليس شيء أقوى من هذه الحكمة. "مخافة الرب بدء الحكمة، ويوجد فهم صالح لمن يمارسها" (راجع أم 7:1). هذا هو أعظم الأصول (الموجودات). تكريم الله هو الحكمة السامية.
القديس يوحنا ذهبي الفم
* أيها الإنسان ارجع إلى نفسك. افحص أسرار قلبك، فإن وجدت أنك تخاف الرب، فواضح بالحقيقة أنك مملوء حكمة... هذه التي هي مخوفة في ذاتها بواسطة الملائكة، هذه الحكمة تُدعى فيك "مخافة الرب". فإنك بالحقيقة تقتني الحكمة إن كنت تخاف الرب.
البابا غريغوريوس (الكبير)
من وحي أيوب 28

لأقتنيك يا أيها الحكمة الإلهي!


* وهبت الإنسان عقلًا، ليبحث ويعمل.
يستطيع بالحكمة البشرية أن يبحث عن المعادن النفيسة،
لكن في غباوة لا يطلب أسرار ملكوت الله.
هب ليّ أن أكتشف فضة حكمتك الطاهرة،
وأقتني ذهب عربون الحياة السماوية.

* يُخرج الإنسان من التراب والحجارة فضةً وذهبَا.
فلتخرج منيِّ أنا التراب شاهدًا لك،
فأصير في عينيك أثمن من كل حجرٍ ثمينٍ!
أنت قادر أن تحول التراب إلى السماء.

والقلب الحجري إلى قلبٍ متسعٍ بالحب.

* أنت صانع العجائب والمعجزات.
أخرجت من شاول الطرسوسي رسولًا فريدًا.
ومن أهل نينوى الأشرار شعبًا تائبًا.
ومن الأمم كنيسة مقدسة.
أوجدت من التراب إنسانًا،
وتقيم من الخاطي الترابي كائنًا شبه ملائكي!

* ها أنا بين يديك،
تقيم ملكوتك في داخلي.
تضمني كما إلى صفوف ملائكتك.
لأتلامس مع حبك،
وأتعرف على أسرارك الإلهية.
أنت هو الطريق الذي يدخل بي إلى حضن الآب.
أنت غناي وسروري!

* لأقتنيك يا أيها الحكمة الإلهي!
بك أدخل إلى أسرار السماء،
وأتمتع بالشركة في الطبيعة الإلهية.
بك تنفتح عيناي، وأرى ما لم تره عين.

* من أجل اقتناء الثروة، تعلم الإنسان صناعة التعدين.
وبسبب الجوع، تعرف الأسد على طرق الغابات والبراري.
ولأجل الشبع، ترى النسور الفريسة على أبعاد شاهقة.
ومن أجل الحب أقتنيك، فتقدم لي الأسرار الإلهية الفائقة.

* حكمتك قديرة وفائقة.
تدخل بي إلى المستحيلات، وتكشف لي عجائب فائقة!
ترتفع المتواضعين إلى السماء.
تحول الحجارة إلى أولاد لإبراهيم!
وتهز أصحاب السلاطين والقوة!
تفيض من قلبي الصخري ينبوع مياه حب عذبة!
تجعلني ثمينًا جدًا في عينيك يا محب البشر!

* لأقتنيك يا حكمة الله العجيب.
فأحمل كنز كل حكمة ومعرفة وفهم في داخلي.
أنت كنزي العجيب.
ليس من ذهب ولا فضة ولا حجارة كريمة تُقارن بك.

* هوذا كل الطبيعة بكل إبداعها تصرخ إليّ:
اقتنِ الإبداع نفسه، الجمال ذاته،
خالق الكل ومبدع كل شيء!

* يا للعجب أنت مخفي وحاضر.
أسرارك مخفية حتى عن الشاروبيم،
إذ يغطون وجوههم من أجل عظمة بهائك!
اختفيت عني إلى زمان، لا لتحرمني منك،
وإنما لتلهب قلبي شوقًا إليك.
تجسدت ونزلت إليّ فأجدك في داخلي!
أنت قريب إليّ جدًا!
أعماقي تصرخ إليك:
أرني مجدك!

رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
أيوب | لأقتنيك يا أيها الحكمة الإلهي
أيوب | يا لعظمة الحكمة
أيوب | الحكمة الإلهية تفوق الفكر البشري
أيوب | وهبتني الحكمة لأمجدك، لا لأفحص أعمالك
الحكمة 1: الفرق بين الحكمة والذكاء* والحكمة والدهاء، مصادر الحكمة* ومعطلات الحكمة


الساعة الآن 10:55 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024