29 - 03 - 2023, 06:46 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
رفع شكواه إلى الله
فَقَالَ أَيُّوبُ: [1]
الْيَوْمَ أَيْضًا شَكْوَايَ تَمَرُّدٌ،
ضَرْبَتِي أَثْقَلُ مِنْ تَنَهُّدِي [2].
يقول أيوب إن شكواه مُرةْ. لقد حسبها أصدقاؤه تمردًا على الله، لكن أيوب يعطي تبريرًا لشكواه وهو أنه مهما تنهد، فلن تستطيع تنهدات قلبه أن تعبِّر عن مدى ثقل نكباته. جراحات جسده ونفسه شديدة للغاية، وهي تبرر شكواه.
*يجب أن تُشفى آلام الإنسان المُبتلى بتعزية أصدقائه، لكن لأن تعزيتهم حملت خداعًا، صارت آلام الرجل المضروب أقسى مما كان عليه. لم يخفِ أليفاز نيته من جهة من يعده بأمورٍ أفضل إن تاب؛ فكان ذلك أشبه بعلاج مسموم، فازداد الجرح.
البابا غريغوريوس (الكبير) * "الصديق الأمين دواء الحياة" (ابن سيراخ 6: 16).
لا يوجد علاج مؤثر في شفاء الأوجاع مثل الصديق الصادق الذي يعزيك في ضيقاتك، ويدبرك في مشاكلك، ويفرح بنجاحك، ويحزن في بلاياك. من وجد صديقًا هكذا فقد وجد ذخيرة. فالصديق الأمين لا شبيه له، فوزن الذهب والفضة لا يعادل صلاح أمانته (انظر ابن سيراخ 6: 14، 15).
* ليس شيء يثبت الحب بقوة مثل المشاركة في الفرح والألم. ليس لأنك بعيد عن المتاعب تنعزل عن مشاركة الآخرين أيضًا. فعندما يتعب قريبك أحسب الضيق خاصًا بك. شاركه دموعه لكي تسند روحه المنسحقة، وشاركه فرحه ليصير الفرح فيه عميقًا متأصلًا.
ثبتّ المحبة، إذ بهذا تخدم نفسك أكثر من خدمتك له. فبدموعك تصير أنت رحومًا، وبمشاعر البهجة تنقي نفسك من الحسد والغم... إن كنت لا تستطيع أن تنزع عنه الشرور شاركه بدموعك، فتزيل عنه نصف الشر؛ وإن كنت لا تستطيع أن تزيد خيراته فشاركه فرحه فتضيف إليه أمرًا عظيمًا .
"ضربتي أثقل من تنهدي" وجاءت في البابا غريغوريوس (الكبير): "يد ضربتي أثقل من تنهدي". هنا يقصد الضربة التي أصابته بأيدي أصدقائه المقاومين له، فإنها أعنف مما حلّ عليه من تجارب دفعته إلى التنهد. وكأن أصدقاءه عوض تعزيتهم له لتهدئة تنهداته، ألهبوا الجراحات، إذ جاءت أياديهم أكثر عنفًا مما حلّ به.يقول ابن سيراخ: "رب صاحب يتنعم مع صديقه في السراء، وعند الضراء يضحي له عدوًا" (سيراخ 37: 4).
مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ،
فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ! [3]
كان أيوب واثقًا من عدالة الله، ويشتهي أن يقف أمام عرشه ليشكو له، فإنه حتمًا سيُنصفه، ولا يحطمه كما فعل به أصدقاؤه. وكما يقول داود النبي: "قد ضاق بي الأمر جدًا، فلنسقط في يد الرب، لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسانٍ" (2 صم 24: 14).
لعل أيوب شعر أن الخطية عزلته عن الله، وضعفاته أفسدت علاقته بالله، فأراد أن يسترد هذه العلاقة، ويتمتع بحبه لله. لهذا يصرخ: "من يعطيني أن أجده؟" وكما تقول النفس البشرية: "أرأيتم من تحبه نفسي؟" (نش 3: 3) من يهبني أن أجده؟ من يفتح لي الطريق إليه.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب كان يشتهي الوقوف أمام الله وخدامه من الطغمات السماوية، حيث يتذوق الحب والرحمة، عوض ما يعانيه من البشر بني جنسه. لذلك يقول: "فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ!"
*ما هو "كرسي" الله سوى الأرواح الملائكية، الذين يشهد لهم الكتاب المقدس أنهم يدعون "العروش"؟ فمن يرغب أن يأتي إلى كرسي الله إلا الذي يشتاق أن يكون بين الأرواح الملائكية... فيرتفع ليسكن في المجد بالتأمل في الأبدية... فإنه إذ يرى بعيني الإيمان خالق كل الأشياء يحكم الأرواح الملائكية، عندئذٍ يأتي إلى كرسيه.
البابا غريغوريوس (الكبير) إذ يتمتع المؤمن بالشركة مع السمائيين يشعر أن علاقته بهم لا تقل عن علاقته بإخوته في البشرية، إن لم تزد حنوًا ورحمة وحبًا. يفرحون لخلاصه، وينشدون باسم البشرية تسابيح الخلاص، كأن الخلاص خاص بهم.
* اليوم يتمجد ملك المجد على الأرض كقول النبي، ويجعلنا نحن القاطنين على الأرض شركاء في العيد السماوي، ليُظهر أنه ربٌ لكليهما (للسمائيين والأرضيين). كما يُسبح له بتسابيح مشتركة من كليهما.
لذلك تغنَّت الطغمات السماوية، معلنة الخلاص على الأرض: "قدوس، قدوس، قدوس، رب الصباؤوت، مجده يملأ كل الأرض".
والذين في الأسفل إذ يشتركون في تسابيح السماء المبهجة في تناغم معهم، صارخين: "أوصنا في الأعالي، أوصنا لابن داود".
أُحْسِنُ الدَّعْوَى أَمَامَهُ،
وَأَمْلأ فَمِي حُجَجًا [4].
يشتهي أيوب أن يعرض قضيته على الله، فإنه حتمًا سيعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه.إذيمثل أيوب الكنيسة المضطهدة، فإنه وإن كان العالم يضايقها لكنها تستطيع في المسيح يسوع أن تقف أمام العرش بدالة وثقة، إذ تحمل برَّه الإلهي كما يقول الرسول.
يترجم البابا غريغوريوس (الكبير)هذه الآية:" أُحسن الدعوى أمام الله، واملأ فمي بالتوبيخات". فإن المؤمن يستحسن الوقوف أمام الله ورفع دعواه، حيث تكتشف النفس ذاتها، وتتعرف عليها بدقة أعظم فترتعب.
شتان ما بين هجوم الإنسان على المؤمن ليحطمه، وبين كشف روح الله للإنسان ليفضحه أمام نفسه، ويبكته ويهبه توبة صادقة كطريقٍ للتمتعبملكوت الله. صار لنا "ثقة بالدخول إلى الأقداس" (عب 10: 19)، ونقف أمام عرش النعمة الإلهية.
في الحديث المفتوح مع الله يشتكي الإنسان نفسه، فيتبرر في عيني الله. يقول الرب نفسه: "ذكرني فنتحاكم معًا، حدث لكي تتبرر" (إش 43: 26). وقد جاء النص في الترجمة السبعينية: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX).
*يفتح لنا الله طرقًا كثيرة لتحقيق هذا. فإنه يقول: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX). يقول أيضًا: قلت، أخبر بإثمي لك، وأنت تنزع إثم قلبي" (راجع مز 32: 5). فإن الاتهام الدائم لأنفسنا أو تذكر الخطايا يساهِم ليس بقليل في التقليل من جرمها .
*يوجد طريق آخر يهبنا هذا الدواء، وهو أن ندين أنفسنا على أخطائنا، لأنه: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX). فمن كان في ضيقات ويشكر تنحل خطاياه، وأيضًا بالصدقة التي أعظم من كل شيء.
فَأَعْرِفُ الأَقْوَالَ الَّتِي بِهَا يُجِيبُنِي،
وَأَفْهَمُ مَا يَقُولُهُ لِي [5].
أساء أصدقاء أيوب فهم تساؤلاته عن علة سقوطه تحت تجارب مرة متوالية. حسبوها شكوى ضد الله، بل وإلحادًا عمليًا. وحسبوا تساؤلاته عن نجاح الأشرار هجومًا على العدالة الإلهية. لكن أيوب كان واثقًا أنه إن دخل في محاكمة مع الله فحتمًا ستكون إجابات الله على تساؤلاته مريحة تمامًا وغير مثيرة. لذا كان يشتاق إلى الحوار معه، وأن يخضع لأحكامه خضوعًا كاملًا. الحوار مع الله أسهل وأعذب منه مع الناس.
ولعل أيوب يقول لأصدقائه: إنني لا أبالي كثيرًا برأيكم فيَّ، إنما أود الحوار مع الله، فإن ما يشغلني ماذا يقول الله عني، وبماذا يجيب تساؤلاتي. وكما يقول الرسول بولس: "وأما أنا فأقل شيء عندي أن يُحكم فيَّ منكم أو من يوم بشرٍ، بل لست أحكم في نفسي أيضًا... ولكن الذي يحكم فيَّ هو الرب" (1 كو 4: 3-4).
* لا يقصد بولس هنا (1 كو 4:4) أنه بلا لوم، وإنما يود أن يسد أفواه الذين يلومونه بغير تعقُّل. الله هو دياننا، فهو وحده يعرف بالتأكيد ما يدور في قلوبنا.
|