18 - 03 - 2023, 05:42 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
القبور لي
رُوحِي تَلِفَتْ.
أَيَّامِي انْطَفَأَتْ.
إِنَّمَا الْقُبُورُ لِي [1].
بلغ أيوب إلى حالة مُرة، فحسب نفسه كميتٍ. في العبارة السابقة كان يتطلع إلى حياته الباقية كرحلةٍ قصيرةٍ، سنوات قليلة ثم يعبر من هذا العالم بلا عودة. أما هنا ففي وسط مراراته حسب أن روحه قد فسدت، وأن نور حياته قد انطفأ، وصار وهو في المزبلة كمن يسكن القبور.
لم يقل: "إنما القبر لي"، بل "القبور". وكأن قبور آبائه التي ضمتهم تستعد لتضمه هو أيضًا. تفتح القبور أبوابها لتتلقف البشرية، ويليق بالمؤمن من جانبه أن يتهيأ للدخول كغالبٍ ومنتصرٍ.
* لا يستطيع أحد أن يذهب من هنا إلى هناك مادام الله لم يدعُه. فإن كان الله هو الذي ربط النفس والجسد معًا، فلا يحلهما الإنسان ليلتصقا بطريقة جديدة. فالنفس لا تفصل ذاتها من الجسد. قال أيوب هذا، ليس لأن العدو المشترك يهدده بالموت، وإنما لأنه كان قد ضُرب بإسقامه. هذا هو سبب سؤاله في صلاته أن يترك العالم.
* تنسحق الروح من الخوف من الدينونة. كلما شعر المختارون باقتراب الدينونة النهائية يرتعبون بالأكثر في أذهانهم بمخافة، إذ يكتشفون أنفسهم. متى وجدوا في داخلهم أي فكر جسداني تنسحق أنفسهم بحماس ندامتهم... يحكمون على أنفسهم، ويؤدبون أنفسهم بأكثر صرامة، إذ ينتظرون الديان الحازم قادمًا على الأبواب. لذلك يتطلعون دائمًا إلى رحيلهم أنه قريب.
أما من جهة أذهان الضائعين، فإنهم يفترضون أنهم يعيشون هنا إلى زمانٍ طويلٍ، لذلك يمارسون أمورًا كثيرة شريرة.
لذلك روح الصديق تنسحق وروح الشرير تسمن...
"أيامي تقصر، والقبر وحده متروك لي ". فإن من يتأمل فيما سيكون عليه بالموت يكون دائمًا في خوفٍ، لأنه من الآن فصاعدًا يكون كمن يحيا حسبما يرى بل بصدقٍ يحيا كما في عيني خالقه...
تتحقق الحياة الكاملة بالتفكير في الموت حيث يبذل الصديق جهده أن يهرب من شباك الخطية. لذلك كتب: مهما تنال في يدك تذكر نهايتك، فلا يمكنك أن تخطئ قط" (ابن سيراخ 7: 36).
البابا غريغوريوس (الكبير) من التداريب الرئيسية في حياة آباء البرية كما في حياة الجادين في خلاصهم هو تذكرهم لساعة الموت، أو ليوم مجيء الرب الأخير، ليس خوفًا من الدينونة، وإنما استعدادًا للتمتع بالأمجاد الأبدية، وخلاصًا من مصير الأشرار.
* عندما تقترب من فراشك قل له: "هذه الليلة عينها ربما تكون أنت قبرى يا أيها الفراش، فإنني لست أعلم إن كان في هذه الليلة عوض نومي المؤقت يكون لي النوم الدائم".
هكذا مادام لك رجلان أسرع إلى العمل، قبلما تُربط بذلك القيد الذي ما إن يُوضع لا ينحل بعد.
مادام لك يدان أبسطهما نحو السماء في الصلاة، قبلما يسقط الذراعان من مفصليهما، حيث تشتهي أن تسحبهما فلن تقدر.
مادام لك أصابع ارشم ذاتك بالصليب، قبلما يحل الموت الذي يحل قوة أعصابها اللائقة.
مادام لك عينان، املأهما بالدموع، قبلما تأتي الساعة حين يغطي التراب ثيابك السوداء، وتتجه عيناك نحو اتجاه واحد بنظرة لا تدركها ولا تعرفها. لا، بل املأ عينيك بالدموع مادام قلبك تحكمه قوة التمييز، قبلما تهتز نفسك برحيلها منه، وتترك القلب بيتًا مهجورًا من ساكنه.
يا أيها الحكيم لا تنخدع بتوقعك حياة طويلة المدى!
* عندما يُنهي التاجر عمله يسرع إلى بيته. ومادام الراهب (الإنسان) لم يتمم بعد دوره في الجهاد البار، يشعر بمرارة، إذ يفكر في رحيله من جسده. ولكن عندما يدرك في نفسه أنه قد افتدى وقته (أف 16:5)، ونال عربونه، يشتهي أن يرى الحياة العتيدة. التاجر الذي في البحر يخشى في داخله لئلا تثور الأمواج ضده، وتبدد رجاء عمله. هكذا الراهب (الإنسان) مادام في هذا العالم يحكمه الخوف، لئلا تحدث زوبعة مفاجئة مضادة له، وتحطم العمل الذي جاهد فيه منذ صباه إلى الشيخوخة. يركز التاجر عينه على البر، ويركز الراهب (الإنسان) عينه على ساعة موته.
* كان أخ حارًا في الصلاة، وإذ كان أخوه يمارس الخدمة، غلبته الدموع وكان أحيانًا ينسى فقرات من المزمور. توسل إليه الأخ يومًا ما أن يخبره فيما هو يفكر أثناء الخدمة حتى يبكي هكذا بمرارة. قال له: "سامحني يا أخي، فأنا أتأمل دائمًا أثناء الخدمة في الديان، ووقوفي أمامه، فإني مجرم مذنب تحت الاستجواب. وإذ لا أجد تبريرًا لنفسي أقف مرتعبًا، ويُغلق فمي، فتعبر مني آية من المزمور. سامحني على مضايقتي لك، فلنمارس الخدمة كلٌ لوحده. أجاب الأخ: "لا يا أبي، فإنني أعيش بلا ندامة، فعلى الأقل إذ أراك أخجل". وإذ رأى الله تواضعه وهبه الندامة التي لأخيه. دعنا نحن أيضًا نحفظ أعيننا على هذه العطية، فيكون لنا ذات المنفعة مثل هذا الأخ.
|