23 - 02 - 2023, 10:11 AM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
جولة جديدة
إن كان الملائكة، أبناء الله، يظهرون أمام الله مشتاقين إلى خدمته في محبوبيه البشر، فإن عدو الخير أيضًا لا يقف في سلبية مكتوف الأيدي، بل يجول في كل الأرض معلنًا الحرب ضد الله في البشرية.
في الأصحاح الأول قدم الكاتب الجولة الأولى للمعركة التي دارت بين الشيطان وأيوب، وخرج أيوب غالبًا. والآن يُصرْ عدو الخير على الدخول في جولة جديدة، فهو لا يكف عن تصويب سهامه ضد أبناء الله حتى وإن ارتدت إليه.
مست التجربة الأولى ممتلكات أيوب وبنيه وبناته، الآن تمس التجربة جسمه كله ماعدا لسانه، واستخدم امرأته كما سبق فاستخدم حواء في الجنة لإغراء آدم، وأخيرًا بدأ يستخدم أصدقاءه الذين جاءوا لكي يرثوا له ويعزوه.
1. الدخول في جولة جديدة
"وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو اللهِ لِيَمْثُلُوا أَمَامَ الرَّبِّ،
وَجَاءَ الشَّيْطَانُ أَيْضًا فِي وَسَطِهِمْ لِيَمْثُلَ أَمَامَ الرَّبِّ" [1].
جاء العدو لينال إذنًا بتجاربٍ أقسى وأمر، فإن التنين "يشتكي عليهم أمام إلهنا نهارًا وليلًا" (رؤ 12: 10).
* "وكان ذات يومٍ أنه جاء بنو الله ليُمثلُوا أمام الرب" [1]. لماذا يقدم الكاتب فكرة حضورهم بهذه الطريقة في كل يوم؟
لكي ندرك أن الحدث ذاته لا يفلت من العناية الإلهية، وأن الملائكة يقدمون حسابًا عن أحداث كل يوم، وأنهم في كل يوم يُرسلون لحسم الأمور حتى حينما نفشل نحن في إدراك هذا، فقد خُلقوا لهذا. هذا هو عملهم، كما يقول بولس:" (أليس جميعهم أرواحًا) خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص؟" (عب 14:1)...
ها أنتم ترون بأي هدف كان الملائكة حاضرين، أما هو (الشيطان) فما هو هدفه؟ أن يجرب أيوب، وأن تسير الأمور لتحقيق هذا الهدف.
لماذا اُستُجوب مرة أخرى أمام الملائكة؟ لقد تحتم عليه هكذا، فقد سبق فقال أمامهم: "إنه حتمًا في وجهك يجدف عليك" (راجع أي 11:1). يا لخزيه! كيف تجاسر وعاد ليقف بينهم؟
القديس يوحنا الذهبي الفم "فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ:
مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟
فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ:
مِنَ الْجَوَلاَنِ فِي الأَرْضِ،
وَمِنَ التَّمَشِّي فِيهَا" [2].
جاءت إجابته كالمرة الأولى تمامًا، وكأنه لم يؤذِ أحدًا قط، بل ومن حقه أن يسيء إلى الغير. إنه لم يعترف أنه أخطأ!
* كان الهدف في تجاربه تصويب (أيوب) نحو الموت، وإذ به ينال نموًا في حياته بذات الضربة. لقد حزن عدونا القديم أن فضائل أيوب تضاعفت بذات الوسيلة التي كان يهدف بها نحو نزعها عنه. ومع كونه قد رأى أنه انهزم في الحلقة الأولى أعد نفسه لتصويب هجمات من التجارب جديدة، وكان لا يزال له الجسارة أن ينطق بالشر على ذاك القديس. فإن الشرير لا يستطيع أن يؤمن بوجود الخير حتى وإن تبرهن بالخبرة...
"من أين جئت؟"... (أي 2: 2) كأن صوت الله يقول له بصراحة: "أنظر لقد غلبك إنسان واحد، غلبك بالرغم مما يعانيه من ضعفات الجسد، يا من تصارع لتقف أمامي أنا خالق الكل".
البابا غريغوريوس (الكبير) * "عندئذ أجاب" هذا يعني أنه عندما نال سلطانًا أن يتكلم، عندما أعطى الرب سماحًا للعبد الشرير أن يفتح فمه أمامه، عندما أمر ذاك الذي أُمسك بلسانه كعمودٍ لا يتحرك. يقول: "لقد لاحظت بسرعة كل الأرض، ونصبت شباكًا في كل موضع، وهيأت مصائد. كل المواقع مملوءة بمصائدي، الكل قد ضاق بشباكي، وأُمسكوا في تعبي. ليس من طريقٍ للهروب من سبيي، فإن خططي الاستراتيجية لها أشكال كثيرة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي لاحظوا أنه يطوف في كل لحظة في العالم. يعلمنا زكريا أن الملائكة تجول على الأرض (زك 10:1-11). أما هذا البائس فلا يكتفي بالطواف، فإن العناية الإلهية أيضًا تمارس هذا العمل، إنما يطوف لكي يُدان بالأكثر (لشروره)، ولكي نكون نحن في أكثر حذرٍ. لهذا السبب دُعي "رئيس ظلمة هذا الدهر" (أف 12:6)؛ أي رئيس الشر.
تكلم أيها الشيطان، ماذا فعلت؟
يقول: لقد قمت بجولة في الأرض، لقد درت فيها، وها أنا هنا.
ماذا جلبت؟
لم يجلب شيئًا نافعًا أو صالحًا، لهذا لم يجب لماذا قام بالجولة.
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوب،
لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ؟
رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ،
يَتَّقِي اللهَ، وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ.
وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ،
وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ" [3].
مرة أخرى يدافع الديان نفسه عن المتهم، ويمتدحه.
* إذ (الله) عادل لم يكن ممكنًا أن يهيج عليه بدون سبب. مرة أخرى إذ هو حق لم يكن ممكنًا إلا أن ينطق بهذه الكيفية، إنه فعلًا هاج عليه بلا سبب. لكن الأمرين يتلازمان معًا بكونه عادلًا وحقًا، فهو ينطق بالحق ولا يفعل ظلمًا. لنتحقق أن الطوباوي أيوب كان من جهته قد ضُرب بلا سبب، وأيضًا بمعنى آخر لا يُضرب بدون سبب... لأنه ما كان يمكن أن يُقدم للآخرين مثلًا للفضيلة لو لم يُجرب...
البابا غريغوريوس (الكبير) * لم يهتز أيوب، إذ لم يتراجع عن ثبات إيمانه.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب يرمز لشخص السيد المسيح الذي قَبِلَ الألم "الغضب" بلا سبب، تألم بلا سبب، وكمخلصٍ وشفيعٍ كفاريٍ عنا تألم بسببٍ، لكي يطهرنا بدمه من خطايانا.
* لماذا يعود ليهاجم؟ ماذا نتعلم من هذا؟ فإننا وإن سقطنا ألف مرة، فإن الشيطان لن يتوقف، بل يستمر في الحرب دون أي تردد.
"فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ:
جِلْد بِجِلْد،ٍ
وَكُلُّ مَا لِلإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لأَجْلِ نَفْسِهِ" [4].
كان هذا المثل شائعًا في القديم، في أيام أيوب، وهو يُعّبِر عن تقدير حياة الإنسان فوق كل شيء في العالم، وقد وُجدت تفاسير كثيرة له.
ربما يشير إلى عادة قديمة خاصة بمقايضة جلود الحيوانات القتيلة التي يطاردها الصيادون. فالصياد الجائع يقدم جلود الحيوان الذي اصطاده مقابل نوال طعام، وإذا لزم الأمر واشتد به الجوع يقدم كل ما لديه من جلود الحيوانات التي اصطادها مقابل الخبز لإنقاذ حياته. وكأن هذا المثل يعبر عن قبول الإنسان أقصى ما يمكن من الخسائر لكي لا يفقد ما هو أعظم ألا وهي حياته. وجاء المثل التركي: "يليق بنا أن نقدم لحيتنا لننقذ رؤوسنا" .
أراد الشيطان أن يسحق شخصية أيوب بقوله: "جلد بجلدٍ"، فإنه مهما فقد حتى ولو كان الأبناء مادام هو في صحته، ليس من يمس جلده، لا يبالي. لا يهتم بحياة أولاده، وإنما يثور ويفقد إيمانه وصوابه إن لمس أحد جلده. إنه كالنعامة التي تقسو على صغارها كأنها ليست لها (أي 36: 16). إنه أناني، محب لذاته، تشغله صحته وراحته وسلامة جسدي ليس إلا؟
* ما يعنيه بقوله هذا أن أهم ما لدى الإنسان هو نفسه. كل البقية أمور ثانوية... على هذا الأساس أرغب في أن أصطاده هو، فالغنى ليس بذي قيمة عظيمة في أعين البشر.
لننصت أيها الأحباء، حتى وإن كنا نستحي من أن نتعلم من الشيطان، وهو أنه يليق بالإنسان أن يبذل كل شيء من أجل حياته. وأنه لأمر طبيعي للبشر، فإنه لا يٌسمح لنا بأي تهاون عندما نجدف بسبب الغنى. يقول إن الغنى لا يمثل شيئًا، فنبذله تمامًا من أجل حياتنا.
*انظروا مكر الخصم، وكيف كان عنيفًا في الخطية... إنه يعرف الفارق بين الأمور الخارجية والداخلية. إنه يعرف أنه حتى فلاسفة هذا العالم يدعون الأمور الأولى (الخارجية) adiafora بلا قيمة، وأن كمال الفضيلة لا يقوم على فقدان هذه الأمور والاستخفاف بها. وأن الأمور الأخيرة أي الداخلية هو الأفضل، بفقدانها يحدث غم لا يمكن التخلص منه. لهذا بجسارة ناقض ما قاله الله، وأعلن أن أيوب لا يستحق مديحًا على الإطلاق، حيث لم يخضع لتجربة تمسه، هو بل تمس ما هو خارج عنه. فقد أعطى جلده عوض جلد أولاده، وفقد فقط ماله ليضمن صحة جسمه.
"وَلَكِنِ ابْسِطِ الآنَ يَدَكَ،
وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ،
فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ" [5].
طلب الشيطان أن يمد الله نفسه يده ليضرب عظمه ولحمه، فإن شوكة الجسد قاسية للغاية، يصعب احتمالها بدون نعمة المسيح (2 كو 12: 7-9).
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ:
هَا هُوَ فِي يَدِكَ،
وَلَكِنِ احْفَظْ نَفْسَهُ" [6].
يمكن أن تُفهم عبارة: "ولكن احفظ نفسه"، بمعنى أن تكون للتجربة حدود، وهي حفظ نفسه لا تحطيمها. بمعنى أن التجربة تكشف عن ضعف الإنسان، فيتواضع أمام الله، وتُحفظ نفسه من الكبرياء. أما إذا تعدت حدود طاقة الإنسان، فيسقط في اليأس ويصيبها الإحباط، فتهلك نفسه بسبب عدم إيمانه.
وضع الرب حدًا للتجربة: "ولكن احفظ نفسه"، أي لا يبلغ به إلى الموت. كان يطمع الشيطان أن يميته في إحدى لحظات ضعفه بعدما يدفعه إلى التجديف. لكن الله قيَّد الشيطان فلا يقتله.
يفسر البعض التعبير "احفظ نفسه" بأنه "احفظ عقله"، بمعنى أنه سمح له بأمراض الجسد دون فقدان قدرته على التعقل والتفكير.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة ليظهر مدى ضعف الشيطان، فمع أنه كوحشٍ كاسرٍ، وبلا جسدٍ، لكنه لا يقدر أن يقترب ليجرب إنسانًا يحمل جسدًا إلا بسماح من الله.
* "احفظ نفسه"، بمعنى لا تميته. بهذا ليس له سلطان على ذلك ما لم ينل سماحًا به... نفهم من ذلك أن سلطانه مشروط بالسماح له أو الرفض... تعبير "احفظ نفسه" أقوى من "لا تمس حياته".
* لا تخف إذن من الشيطان، حتى وهو بلا جسد، حين يقترب من الجسد. فإنه ليس من هو أضعف من ذاك الذي يقترب بهذه الكيفية مع أنه غير ملتحفٍ بجسدٍ، وليس أقوى من ذاك الشجاع الجريء حتى وإن حمل جسمًا قابلًا للموت!
* قيل للعدو عندما طلبه: "ها هو في يدك". (أي 2: 6) الشخص نفسه في يد الله وفي نفس الوقت في يد الشيطان...
لكن كيف يُقال للشيطان: "لكن احفظ نفسه"؟ إذ كيف يحفظ ذاك الذي يتوق دومًا إلى تحطيم الأمور المحفوظة؟ حفظْ الشيطان له هنا بمعنى عدم تجاسره على التحطيم. وذلك كما نتحدث مع الآب في الصلاة طالبين: "لا تدخلنا في تجربة"، لأن الله لن يُدخل أحدًا في التجربة، إذ يظلل دائمًا برحمته على عبيده ليحميهم من التجربة. مع هذا إن لم يحمنا من إغراءات التجربة يكون كما لو أنه يدخلنا في التجربة. بهذا فإنه بعدم السماح لنا أن نُجرب فوق ما نحتمل يكون كأنه لا يدخلنا في شباك التجربة.
بنفس الطريقة كما يقال لله: "لا تدخلنا في تجربة" إن سمح لخصمنا أن يدخلنا فيها، هكذا يُقال عن خصمنا أنه "يحفظ نفسنا" متى التزم ألا يُقهرنا بتجربته.
البابا غريغوريوس (الكبير) * الآن أعطيك الحق أن تقلب الأمور رأسًا على عقب. إني أسلمه إليك (أي 2: 6)، لا لكي تغير روحه (فكره)، ولا لكي يكون لك سلطان على إرادته، ولا أن تحطم حريته في قراره، لأنك لو استخدمت ضغطًا على هذه الأمور بسهولة تنتصر عليه، وتكون المعركة غير عادلة... بالتأكيد تود أن تقترب من "حياة" الإنسان البار، لكنك لا تستطيع ذلك، لأن ناموس الملك العظيم ينتقم لهذا، وإلا يكون حارس القطيع قد أطلق العنان للذئب. أسلمك حياة الذين تحسدهم، لا لتفعل ما شاء لك، وإنما في خشية نواميسي وإرادتي الإلهية...
إنك تعجز عن أن تقول بأن آخر يهاجم حياة أيوب، لأنك أنت تهاجمه يا من أقيمك حافظًا له. ستكون مُدانا إن وضعت كمينًا لحياته.
* هنا الحماية الواقية تسير جنبًا إلى جنب مع السماح بالضرب، ويتحقق التدبير الإلهي خلال الحماية، وخلال التخلي عن العبد المختار، فبينما يتخلى عنه يحرسه... هكذا سُلم القديس في يد الخصم (أي 2: 6)، أما نفسه فمحفوظة في يد (الله) معينه، فإنه من ضمن القطيع الذي قال عنه الحق في الإنجيل: "لا يخطفها أحد من يدي" (يو 28:10).
علاوة على هذا، فإنهم لا يرون لوسيفر يقوم، هذا الذي قال عنه إشعياء: "لوسيفر الذي قام في الصباح"، ثم يكمل "قُطع إلى الأرض" (إش 12:14)، مشيرًا إلى أنه لا يعود يستعيد كرامته السابقة. بسقوطه من السماء على الأرض أراد دمار الإنسان، لكن الله يُعطي من لا يُخدع سلطانًا أن يدوس على الخائن بقدميه، ويحطمه إلى أجزاء.
*ليس للروح النجس سلطان على البشر. هذا يظهر عند صراعه ضدّ أيوب الطوباوي فقدْ أخذ السلطان على جسده من قبل الرب، إذ قال له: "ها هو في يدك، ولكن احفظ نفسهُ" (أي 6:2). أيّ لا تُضعِفْ روحه، وتجعله مجنونًا، وتتسلط على ذاكرته وعقله، خانقًا قوته الداخلية.
* وضع جسم القديس في يدي الشيطان، لكن قواته الحيوية حُجزت عنه. فلو أن الشيطان ضرب ما تعتمد عليه أحاسيسه وقدرته العقلية لقامت الخطية الصادرة عن سوء استخدام القدرات وبقيت على بابه، ليس برغبته في ارتكابها وإنما بسبب اختلال توازن عقله.
يقدم لنا القديس أمبروسيوس تفسيرًا رائعًا لهذه العبارة، في حديثه عن تشّبه القديس بولس بالله:
* كل من يؤمن يقبله الرب، لكنه يؤدب كل ابن يقبله (عب 6:12). وفي تأديبه له لا يسلمه للموت. لأنه مكتوب: "أدبًا أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني" (مز 18:118).
يعلمنا بولس الرسول ألا نهجر أولئك الذين ارتكبوا خطية للموت، إنما نلزمهم بخبز الدموع (التي للتوبة)، لكن ليكن حزنهم معتدلًا. وهذا هو ما تعنيه عبارة "سقيتهم الدموع بالكيل" (مز5:130). فحزنهم يجب أن يكون بكيلٍ، لئلا يبتلع التائب من فرط الحزن. وذلك كما قال لأهل كورنثوس: "ماذا تريدون أبعصا آتي إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة؟!" (1 كو 21:4). إنه يستخدم العصا، لكن بغير قسوة، إذ قيل: "تضربه أنت بعصا، فتنقذ نفسه من الهاوية" (أم 14:23).
وماذا يقصد الرسول بالعصا، ظهر عند طعنه خطية الزنا (1 كو 1:5)، منذرًا ضد الفسق بالأقرباء المحرم الزواج بهم، معنفًا كبرياءهم، إذ تكبر هؤلاء الذين كان يلزمهم أن يحزنوا. وأخيرًا في حديثة عن المذنب أمر بعزله عن الجماعة وتسليمه للشيطان، ليس لأجل هلاك نفسه بل لهلاك جسده.
وبولس في هذا يقتدي بالله الذي لم يعطِ للشيطان سلطانًا على روح أيوب الطوباوي، بل سمح له بإبلاء جسده (أي 6:2). فبولس سلم الخاطي إلى الشيطان لهلاك الجسد، حتى تلحس الحية تراب جسده (مي 17:7) أما روحه فلا تضرها...
وإذا أردنا أن نشرح ما يعنيه بولس الرسول، نتأمل كلماته ذاتها، بأي معنى قال بأن يسلمه إلى الشيطان لهلاك الجسد، لأن الشيطان هو الذي يجربنا، إذ يجلب عللًا وأمراضًا لأجسادنا. فالشيطان ضرب الطوباوي أيوب بقروحٍ مريرةٍ من القدم إلى الرأس، لأنه نال سلطانًا لهلاك جسده، عندما قال له الرب: "ها هو في يدك، ولكن أحفظ نفسه" (أي6:2). هذا أيضًا ما أخذ به الرسول بنفس الكلمات، مسلمًا الزاني إلى الشيطان لهلاك الجسد، لكي تخلص روحه في يوم الرب يسوع (1 كو 5:5).
عظيم هو هذا السلطان!! وعظيمة هي هذه العطية، التي بها يهلك الشيطان ذاته بذاته، وذلك بحثه على تجربة الإنسان، إذ يجعله قويًا بالروح بدلًا من أن يكون ضعيفًا. فإذ يضعف جسده تقوى روحه، لأن ضعف الجسد يقاوم الخطية، أما تنعمه فيشعل نار الخطية.
لقد خُدع الشيطان، إذ جرح نفسه بضرباته التي وجهها ضد نفسه، محاربًا نفسه بتفكيره في إضعاف الخاطي. هكذا سلح الشيطان أيوب أكثر عندما جرحه. فإذ بلى جسده كله بالقروح، احتمل بالحق ضربة الشيطان دون أن يصيبه شيء من سُمِهِ، وهكذا بحق قيل عنه: "أما لوياثان أفتمسكه بشصٍ... أتلاعبه كالعصفور، وتأسره لعبة لجواريك.. ضع يدك عليه" (أي41: 5).
أنظر كيف سخر بولس بالشيطان، فصار كالطفل المذكور في النبوة الذي وضع يده على الحية دون أن تضره. لقد سحبه من خباياه وحول سمه إلى ترياق روحي ضد السموم. محولًا السم دواءً للسم الذي يُستخدم لهلاك الجسد صار علاجًا للروح!
إذن لأترك الحية تضرب ما هو أرضي في (جسدي)، أتركها تعض جسدي، وتسبب ازرقاقًا فيه، فسيقول لها البرّ عني: "ها هو في يدك، ولكن احفظ نفسه" (أي 6:2).
يا لقدرة الله!! إنه يسلم حفظ نفس الإنسان في يد الشيطان الذي يريد هلاكه...!! فبوصايا السيد جعل الشيطان حافظًا لغنمه، فبغير إرادته صار ينفذ وصايا السماء، وبقسوته يطيع وصايا الوداعة!
2. آدم آخر في وسط الرماد
"فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبّ،
وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ،
مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ" [7].
ما أن نال الشيطان الإذن حتى انقض على جسم أيوب ليضربه بمرضٍ عنيفٍ للغاية. لم يضربه بقرحةٍ واحدةٍ، ولا عدة قروح، إنما بقروحٍ من باطن قدمه حتى يعجز عن المشي إلى هامته. لا يقدر أن ينام على أحد جانبيه ولا على ظهره أو حتى بطنه، ولا أن يجلس، ولا أن يقف، فكل جسمه باستثناء لسانه كان مملوءً بالقروح. لم يجد حتى الكلاب لتلحس قروحه، كما حدث مع لعازر المسكين (لو 16: 21).
يعلق العلامة أوريجينوس على الوعد الإلهي: "إن كنت تسمع لصوت المحب إلهك، وتصغِ إلى وصاياه، وتحفظ جميع فرائضه، فمرضًا ما مما وضعته على المصريين لا أضع عليك" (خر 15: 26). [إذ كانت أحد أمراضهم هي القروح، فلماذا سقط أيوب في هذا المرض؟ قروح المصريين الوثنيين هي ضعفاتهم تجاه محبة العالم وما فيه. هذا ما يشفينا الرب منه، ولا يضعه علينا ).]
*"كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو 8:28). جُرب أيوب الرجل المقدس. فقد بنيه وبناته، وسقط بيته في دمار، وفقد كل ما كان لديه، فجأة كل شيء قد ذهب! لم يعد أبًا ولا سيدًا، ولم يعد في جسمه عضو سليم سوى لسانه الذي يُمكن به أن يجدف. انظروا المجرب، إذ يقول الكتاب المقدس: "ضرب أيوب بقُرحٍ ردي من باطن قدمه إلى هامته" (أي 2: 7)...
ترك لسانه فقط لكي ما يكون قادرًا على التجديف على إلهه. "في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي 1: 22).
فقط تحققوا من هول التجربة. تأملوا عظم فضيلته. تأملوا حسنًا وتفهموا، كيف تحقق قول الرسول: "كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبون الله"... قبل التجربة لم يتكلم الله معه قط؛ وبعدما جُرب جاء إليه الله، وتحدث معه رافعًا الكلفة، كصديقٍ مع صديقه.
لتضرب الكارثة، وليحل كل نوع من الكوارث مادام المسيح يأتي بعد الكارثة .
* ربما لأن إلهنا يعرف إني ضعيف للغاية لم يعطه سلطانًا على جسمي. وإن كنت أنا نفسي اشتهي ذلك. فمع أني أقدم نفسي (لأقبل تجربة في الجسد)، لكن الله حسبني غير أهلٍ لهذا الصراع، وامتحني بمتاعبٍ مختلفةٍ. أما أيوب فلم يبدأ بهذا الصراع بل انتهي به.
"فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقْفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا،
وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الرَّمَادِ" [8].
ما هي هذه الشقفة (كِسَر أواني فخارية) التي يحك بها جسمه المُبتلى بالقروح إلا استخدام الوسائل الأرضية أو الزمنية لشفاء النفس. عوض تقديم تعزيات صادقة وشفاء حقيقي، يستخدم الشخص شقفة تسبب بالأكثر تلوثًا للقروح، وتحطم الجسم، هكذا إذ نمد أيدينا لعلاج أمراضنا الروحية بطرقٍ بشريةٍ خارج نعمة الله نحطم نفوسنا بالأكثر ونهلكها.
صار أيوب رمزًا للسيد المسيح، إذ لم يجد أيوب موضعًا ليسند فيه رأسه، ليس أمامه إلا أن يجلس على مزبلة وسط قروحٍ ملأت كل جسمه، يسخر به حتى أصدقاؤه. هكذا ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه، ليس له إلا أن يرتفع على الصليب وسط آلام جسمه كله، لم تقبله خاصته (يو 1: 11).
لم يصعد أيوب على جبلٍ، بل جلس على مزبلة، لينعم فيها بالنصرة على عدو الخير ممجدًا الله إلهه. هكذا مسيحنا مخلص العالم يستريح في المتواضعين ومنسحقي القلوب ليقيم منهم هيكلًا له. اختار الجهال ليخزي بهم الحكماء، والضعفاء ليخزي بهم الأقوياء، والمُزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود (1 كو 1: 27-28).
لم يجد أيوب أحدًا يعطف عليه، ولا من يضمد قروحه، ولعل أصدقاءه خشوا العدو أو لم يحتملوا رائحة نتانة القروح. لم يجد قطعة قماش ينظف بها جروحه، بل كان يحكها بشقفة فخارية، فكان العلاج أشد ألمًا من المرض نفسه. ليس من يدهن جراحات القروح بمواد مطهرة ولا بدهنٍ يهدئ من الألم! لقد اشتكى فيما بعد قائلًا إن لحمه لبسه الدود مع التراب (أي 7: 5).
أما جلوسه في الرماد وكل جسمه مملوء بالقروح، فيزيد من تلوث جراحاته عوض تطهيرها. ولعله فعل هذا علامة تواضعه وندامته وتوبته.
جاءت في الترجمة السبعينية: "جلس فوق مزبلة خارج المدينة".
يقول البابا غريغوريوس (الكبير) إننا لا نعجب إن كان ذاك الذي مدحه الله نفسه يسمح له بالتجربة حتى يجلس في وسط الرماد، كما سمح للقديس يوحنا المعمدان الذي شهد له أنه ليس من بين مواليد النساء من هو أعظم منه أن تُدفع حياته ثمنًا لرقصة ماجنة.
* ألا (يسمح بهذا) لكي ما يضغط عليهم إلى أسفل حتى يكافئهم في الأعالي؟
إنه ينزل بهم إلى أسفل من الخارج إلى مستوى الازدراء، حتى يقودهم من الداخل إلى العلويات التي لا تُدرك.
البابا غريغوريوس (الكبير) * إذ لم تستطع الأدوية البشرية أن تشفيه شفاه الصبر والإيمان. لقد جلس في كومة مزبلة، أما نفسه فكانت تتجول في الفردوس.
* أنزله من الكرسي الملوكي ليجلس في مزبلة. ومع مقاومته بالويلات التي أشرت إليها حالًا بقي سليمًا. تمزق جسمه، لكنه احتفظ في أعماق نفسه بكنز التقوى غير منتهك.
* يا لك من إنسان فاسد (جسديًا)، لكنك بريء! يا لك من كائن موصوم (بالقروح)، لكنك جميل! مجروح، لكن نفسك مملوءة صحة! تجلس على مزبلة، وتملك في السماء!
إن كنا نحب فلنقتدِ به، ولنجاهد لنتبع مثاله.
* ألا ترونه بالحق قد جاء إلى أقصى الفقر المدقع، حتى يستحيل أن تجدوا شخصًا تقارنونه به؟ لأنه كيف يمكن أن يوجد من هو أكثر فقرًا من إنسانٍ عارٍ ليس لديه سقف يأوي تحته؟ نعم، ولم يكن في قدرته أن يتمتع حتى بالأرض بل جلس في مزبلة.
لهذا حينما تجدون أنفسكم قد بلغتم إلى الفقر، تأملوا آلام البار، وللحال تقومون وتنفضون عنكم كل فكر للقنوط.
تبدو هذه المحنة للبشر القاعدة لكل الآلام مجتمعة معًا. أما المحنة الثانية التي تليها، بل بالحري تسبقها فهي أحزان الجسد. من صار هكذا معاقًا مثله؟ من احتمل مرضًا كهذا؟ من قبل أو سمع عن أحدٍ سقط تحت أحزانٍ عظيمة هكذا؟ لا أحد.
كان جسمه يبلى قليلًا قليلًا، وسيل من الدود يصدر عن أعضائه من كل جانب، يفيض هذا السيل الجارف بلا توقف، وتحيط به الرائحة النتنة بقوة، ويتدمر الجسم شيئًا فشيئًا، وجعل الفساد مع عفونة كهذه طعامه مرًا، وصار الجوع بالنسبة له غريبًا وفذًا.
لم يكن قادرًا أن يتمتع حتى بقوتٍ يُقدم له، إذ يقول: "أرى طعامي قد صار كريهًا" (7:6). حينما تسقط تحت ضعفٍ يا إنسان، تذكر ذاك الجسم المقدس. فقد كان جسدًا مقدسًا وطاهرًا حتى وهو مُصاب بجراحات كهذه...
لكن قد يقول أحد، كانت له تعزية عظيمة وراحة، إذ عرف أن الله هو الذي جلب هذه المتاعب عليه. هذا في الواقع يجعل اضطرابه أشد وأكثر ارتباكًا، أن الله البار الذي خدمه بكل وسيلة دخل في حرب معه... يقول: "تستذنبني لكي تتبرر أنت" (8:40).
إذ شعر بالذنب قال: "وضعت يدي على فمي. مرة تكلمت، فلا أجيب، ومرتين، فلا أزيد" (5:40). مرة أخرى يقول: "بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني. لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد" (5:42-6).
لكنك إن كنت تفكر أن في هذا كفاية للتعزية، فإنك قادر أن تختبر ذات التعزية. وإن كنت لا تعاني شيئًا من هذا من يدي الله، بل من غطرسة البشر، فلتشكر الله ولا تجدف على ذاك القادر أن يمنعهم بالحق. وإن كان قد سمح لهم بذلك فلأجل امتحانك، فمن يتألم بالآلام من يدي الله يُكلل. هكذا أنت أيضًا تُكلل، لأنك تحتمل المصائب بتقوى، تلك التي جلبها الناس عليك، شاكرًا ذاك القادر أن يصدهم عن ذلك، لكنه لم يرد ذلك .
* صارت جراحات الرجل البار (أيوب) أكثر نفعًا من اللآلئ...
صوّروا هذا المصارع أمامكم، وتخيلوه في الحمأة، جالسًا في وسطها.
يا له من تمثالٍ ذهبيٍ مرصع بالجواهر!
لست أعرف كيف أعَّبر عن هذا، فإني عاجز عن إيجاد مادة ثمينة هكذا لأقارنها بهذا الجسم الملطخ بالدماء. إنه أثمن بكثير من أية مادة، مهما بلغت تكلفتها، فإن طبيعة ذاك الجسد ثمينة بما لا يُقارن بأي شيء، وتلك الجراحات أكثر إشراقًا من أشعة الشمس، فإنها تنير عيون الجسد، أما تلك فتنير عيون النفس! إنها تضرب الشيطان بعمى كلي مطبق.
* هل تدركون أيها الأحباء كم كانت عظمة المكافأة التي للتجربة؟
كان جسمه رشيقًا وسليمًا، لكنه صار أكثر وقارًا عندما طُعن بالجراحات...!
الملك الجالس على العرش ليس في شهرة هذا الرجل وهو جالس في الحمأة بمكانة عظيمة... فإنه بعد العرش الملوكي يحل الموت، ولكن بعد الحمأة ملكوت السماوات .
* لماذا جلس على مزبلة؟ ليخفي على كومة النفايات سقوطه (حتى الموت).
لماذا خرج خارج الأبواب؟ لكي يجد شيئًا من الراحة، فإنه لو بقي في حجرة مغلقة، مهما كان هواء الحجرة نقيُا يفسد، ويختنق هو نفسه من الرائحة الفاسدة.
في اعتقادي أن آلامه ليس فيها علة بشرية نهائيًا، وقد أدرك أن الله يود أن يقدم درسًا بما حدث له، فلم يشعر بخزيٍ ولا ارتباكٍ، بل كشف عن نفسه أنه صار أضحوكة للكل.
* على أي الأحوال لقد أحسن أيوب الفعل إذ جلس على مزبلة... لأن جسمه البالي صار نفاية. لقد تذكر أن الجسم يحوي ذات مكونات (المزبلة).
3. زوجة أيوب تجربه
"فَقَالَتْ لَهُ أمْرَأَتُهُ:
أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ!
جَدِّف(130)ْ عَلَى اللهِ وَمُتْ!" [9].
جاءت الترجمة السبعينية: "وإذ عبر وقت طويل، قالت له امرأته: إلى متى أنت تحتمل، قائلًا: ها أنا انتظر قليلًا متوقعًا الرجاء في خلاصي!" [9 (أ)]
جاء أيضًا في الترجمة السبعينية أن امرأة أيوب كانت تجول من بيتٍ إلى بيتٍ لعلها تجد ملجأ تأوي فيه.
يرى بعض اليهود أن زوجة أيوب هي دينة ابنة يعقوب.
اعتاد العدو أن يضرب المؤمنين بأهل بيتهم، كما فعل مع آدم مستخدمًا حواء، وداود مستخدمًا زوجته ميكال التي هزأت بداود رجلها، بل وأراد أن يستخدم بطرس الرسول ليضرب به السيد المسيح عندما تحدث عن الصلب فقال له: "حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا" (مت 16: 22). فالتفت وقال لبطرس: "اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مت 16: 23).
عبرَّ البار أيوب عن نظرة امرأته إليه، فقال: "نكهتي مكروهة عند امرأتي، وخممت (صرت نتنًا) عند أبناء أحشائي" (أي 19: 17).
* لم يترك له الشيطان شيئًا سوى لسانه وزوجته. فبزوجته يجربه، وبلسانه يمكنه أن يجدف. لم ينسَ الشيطان خداعه القديم الذي به خدع آدم خلال امرأة، لذلك هاجم أيوب خلال زوجته، حاسبًا أنه قادر على الدوام أن يخدعه بامرأة، غير مدركٍ أنه إن كان رجل واحد قد جُرح جرحًا مميتًا بامرأة، الآن العالم كله قد خلص خلال امرأة.
أنتم تذكرون حواء، تأملوا في مريم.
الأولى طردتنا خارج الفردوس، والأخيرة قادتنا (بالمسيح ابنها) إلى السماء(131).
*"وإذ عبر وقت طويل" (أي 2: 9 LXX)... لقد استبقى الروح العبارات واضحة تمامًا لمنفعتنا، إذ لم يعلن عن طول هذه المدة. فلو أنه أوضح الشهور والسنوات، فإن الذين يُوضعون تحت التجربة في المستقبل يُحبطون قبل بلوغهم نهاية المدة. فيُحسبون الليالي والساعات، ويركزون على هذا الزمن. يسقط كل منهم في اليأس الشديد بأن يد الله لم تتدخل، وأنه لم ينل عونًا من السماوات كما نال أيوب في وقتٍ محددٍ.
في الواقع قال الروح: "وقت طويل". قد عبَّر هكذا لكي تعرف أن أيوب وُجد أقوى، لا من المرض والقروح الكثيرة فقط، بل ومن الزمن.
لقد صارع لزمنٍ طويلٍ في عذاباتٍ ومتاعبٍ جسديةٍ، ومع هذا بقي لا يٌقهر في المعارك.
بهذا يعزينا الروح أنه مهما طال زمن التجربة لا يضعف قلبنا، فإن يد الله تحل وتكون يمينه لحسابنا (مز 35:18)، فقد خلص أيوب من أتون التجربة بعد زمنٍ طويلٍ.
* إذ لم يجد الخصم أن المقاتل قد لان، جند زوجته. ربما قال في نفسه: هذا الشخص (أيوب) لن يكون أقوى من آدم. إن كان غنيًا، لكن ليس لديه "فردوس الله" (كآدم في الجنة). ومع أنه بار، لكنه لم يحرز "شجرة الحياة". ومع أنه تقي، لكن آدم تمتع بالحوار مع الله. هذا الشخص (أيوب) لديه مواشٍ كثيرة، أما آدم فكل حيوانات الأرض خضعت له. لهذا إن كنت قد استطعت أن أفقده هذا خلال حواء زوجته، ربما هذا لا يقدر أن يقاوم هجمات زوجته. بهذا الفكر أثار الشيطان زوجة أيوب ضده.
* ترك له زوجته وحدها، ليست كمعزٍ، بل بالحري حليفة الشيطان.
جاءت تكملة الآية في الترجمة السبعينية: "أنظر لقد مُحي ذكرك من الأرض، حتى أولادك وبناتك الذين هم آلام طلقي، ومتاعب رحمي، الذين أنجبتهم بالأحزان باطلًا، وها أنت تجلس لتقضي لياليك في الهواء الطلق وسط فساد الدود، وصرت أنا متجولة وعبدة، انتقل من موضعٍ إلى موضعٍ، ومن بيتٍ إلى بيتٍ، أترقب غروب الشمس كي أستريح من أتعابي وآلامي التي أحدقت بي، قل كلمة ضد الله ومت" (أي 2: 9-ب).
* تصور أنك فقدت ثروتك التي بسببها كنت مشهورًا. نفس الأمر إن كنت قد حُرمت من نصيبك في الأبناء، كيف يمكن أن تبقى ذكراك على الأرض بعد ذلك الحين؟ خيراتك قد سُرقت، ومقتنياتك قد دُمرت، لم يعد بعد يوجد أبناء، ولم تبقَ بعد بنات، ولن يكون أطفال (أحفاد) إذ فُقد الأبناء.
(كأن زوجة أيوب تقول لزوجها): باطلًا قد زرعت حقل رحمي.
أنت نفسك قد حُرمت مما قد غرسته، أما أنا أيضًا فقد فقدت ثمر أحزاني وتعب ثدييَّ، وخبرة رحم النساء الحوامل، آلام الطلق التي لا تُحتمل، والتي تحسب كذكرى رهيبة.
إذن، هل هو حزن واحد أم أحزان كثيرة...؟
لقد بلغ الموت أبناء رحمي، وهلكت ثمرة جسمي في الهاوية.
هل يمكنني أن أترجى أن أحبل بأطفالٍ آخرين؟
كيف؟ أين؟ فإن الزارع الذي هو أنت قد تدمرت وهلكت، وصرت أنت نفسك طعامًا للهوام.
* كلما كثرت النكبات التي جلبها عليه رآه في أكثر قوة. لذلك كما تعرفون بعد أن استخدم كل السبل أخيرًا استخدم آلته، فإذ لم يجد له طريقًا جرى إلى سلاحه القديم، المرأة، وارتدى قناع الاهتمام، وقدم صورة مأسوية عن كوارثه بنغمة غاية في الحنو، وتحت التظاهر بإزالة شره قدم مشورة قاتلة (العن الرب ومت). لكنه ولا بهذا غلب، بلى لأن ذاك الرجل العجيب قد أدرك خداعه، الذي بحكمة عظيمة كتم فم المرأة التي كانت تتكلم بتحريضٍ منه.
* انظروا كيف حاولت ببلاغتها أن تبلغ حتى النهاية. فإن لديها كثرة من الحجج تقنعه بها.
من جهة طول الزمن، إذ لم يعبر يوم ولا اثنين ولا ثلاثة أيام، بل عدد كبير من الشهور. إلى متى تحتمل...؟
لاحظوا الخدعة الشيطانية، فقد فكر في حواء. يقول: ها أنتِ التي جعلتِ الإنسان الأول يسقط يمكنكِ أن تنهي حياة أيوب.
لكنها كانت غبية وفقيرة، إذ وجدت آدم غير قادرٍ أن يتغلب على ضعفه، استطاعت أن تضع السم في طعامٍ صالحٍ.
ها أنتم ترون أيوب - على النقيض - كان إنسانًا حكيمًا منتصرًا حتى على طبيعته... فلا تظنوا إذن أن الأمر خاص بالمرأة أو توصياتها...
الآن اقترح على شعبنا ألا يضعوا في الاعتبار كرامة الأشخاص، بل بالحري طبيعة النصيحة.
فالمرأة جاءت لتعين الرجل لا لتكون عثرة له... إنه يتوقع تغيرًا، شيئًا يدل على إيمان سليم ورجاء نبيل، إنه يعرف حنو الله.
هكذا وُضعت الخطوط الرئيسية لأساس شقاوتها. إنها لم تقل: "قد ماتوا" حسب التعبير الجاري للإشارة عن الحزن العام بين كل البشر، فإنها لم تستخدم التعبير العادي. إنما ماذا قالت؟ "لقد مُحي ذكرك..."
في رأيي قد أرادت أن تبرر عنف المحنة بنطقها هكذا.
هذا ما أرادت أن تقول له: "أي نوع من التغيير تترجى أن يحدث؟ هل يمكن أن تعود إلى ما كنت عليه بعد كل ما حدث، لأن ما قد تلاشى تمامًا هل يعود إلى الحياة؟
فإننا نرغب في أطفال، غالبًا لكي ما يمدوا ذكرنا بطريقة لا تزول. بالتأكيد أن أهم شيء يطلبه البشر هو أن يتركوا ذكريات بعدهم. تقول له: إنك أنت نفسك ميت بفقدانك أبنائك، فبدون ذرية وبدون أطفال أنت تبيد.
لاحظوا إلى أي مستوى قدمت هذه المشورة الرهيبة، لا لتحثه على الغضب، وإنما لتنحرف به إلى رثاء ذاته...
تقول: ليلًا ونهارًا لا تجد من يشاركك سقف بيتك، ليس من يواسيك، ليس من يشفق عليك، ليس من يشاركك آلامك...
يا لها من شقاوة! ليس من يشفق على زوجته، ولا يهدئ من ظروفها، والتي كانت في صحبة الملك صارت عبدة تعيش في العراء تحت النجوم..." فإنني بدون بيت ولا مدينة، ولا منزل، أجول في المدينة... ليس من بيتٍ واحدٍ يخفف من عار حالي، وفي كل موضع أتقبل سخرية وإهانة من العامة".
لم تقل له: "جدف"، بل قالت: "العن الله..." لماذا؟ هكذا أنت تعرف أنك إذ تفعل هذا تموت، أما عن موتي فأية تعزية يمكن له أن يجلبه عليك؟ أي تصحيح للوضع بموتي...؟
ماذا تقولين يا امرأة؟ عندما يتطلب الأمر أن نرجو الله ليهب خيرات، عندما يلزم الأمر استعطافه تستعدين أن تثيريه! إن كان الله هو مصدر هذه المتاعب، فالأمر يتطلب التوسل إليه لا التجديف عليه. ومن جانب آخر، إن كان ليس هو مصدرها، فلا يُجدف عليه!
* فَقَد أيوب أولاده وكل ما يملكه ماعدا زوجته! (أي 13:1-19)، التي حُفظت وحدها لأجل تجربته! (أي 9:2-10). وكان آنذاك قد تغطى كله بالقُروح المميتة (أي 7:2)، وأدرك أن أصدقاءه لم يأتوا لتعزيته، بل لزيادة آلامه وتضخيمها!
لاحظ السلطان الذي أُعطي للخصم بواسطة الرب لمحاكمته (أي 1:2-6). ومع أنه شعر بأن سهام الرب كانت في جسده، وقال إنها قد اخترقت جسمه (أي 4:6)، إلا أنه كمصارعٍ صالحٍ لم يستسلم للألم، ولا رفض صعاب الصراع بل استمر.
"وإذ قد بدأ الرب، فليجرحني، لكن لا تطعني (تهلكني) في النهاية، لأنه ما هي قوتي حتى أصمت (انتظر)؟
وما هي نهايتي حتى تحتمل نفسي؟
هل قوتي قوة الحجارة، وهل لحمي من نحاس؟
أليس لي اتكال عليه؟ لكن المعونة تركتني، وافتقاده قد احتقرني" (أي 9:6، 11-14 LXX).
* بالحقيقة كانت زوجته وحدها قد تُركت حتى ذلك اليوم. كل ما كان لديه قد دُمر تمامًا، كل أولاده وممتلكاته وحتى جسمه، وتُركت هي للتجربة لتكون فخًا له.
هذا هو بالحقيقة السبب لماذا لم يدمرها الشيطان مع الأبناء، ولم يطلب موتها، إذ توقع أنها ستساهم بالأكثر في إسقاط الرجل القديس في الفخ. لذلك تركها كنوعٍ من الأداة المرعبة في يده.
لقد قال: "إن كان حتى في الفردوس طردت البشرية بواسطتها، كم بالأكثر أستطيع أن أطرحه وهو على المزبلة!"
* كان المبني هو عينه (ذاك الذي على الصخر، وذاك الذي على الرمل) والتجارب هي عينها، لكن النهاية ليست عينها، لأن الأساس مختلف. حدث سقوط المبنى بسبب غباوة البنَّاء وليس بسبب طبيعة التجارب،...
لا تظن أن هذه الأمور قيلت عن مجرد المبنى، إنما الحديث يخص النفس، مؤكدًا أن بأعمالها تسمع الكلمة الإلهية أو ترفضها. هكذا بَنَى أيوب نفسه.
نزل المطر، لأن نارًا نزلت من السماء والتهمت كل قطعانه، والفيضانات حلت، حيث جاء إليه الرسل المخبرين بالكوارث بالتتابع بطريقة مستمرة يخبرونه عن دمار قطعانه، وجِمَاَله وبنيه. وهبت الريح، الذي هو كلمات زوجته المرة، قائلة: "العن الله ومت". ومع هذا لم يسقط المنزل. نفسه لم تهتز من مكانها، والبار لم يجدف، بل شكر الله، قائلًا: "الرب أعطى، الرب أخذ، ما يحسن في عينيه يفعل".
* جرب الخصم أيوب خلال أبنائه وممتلكاته (أي 1: 13)، وإذ لم يستطيع أن ينتصر عليه احضر له عدته،
جاء محضرًا معه ابنة حواء التي أغرقت آدم، وخلال فمها قال لأيوب، الزوج البار: "العن الله"، لكن أيوب رفض المشورة.
أيضًا انتصر الملك آسا على المأبونين من الأرض عندما جاء إليه (الشيطان) ليحاربه خلال أمه (1 مل 15: 12-13). عرف آسا مكره، وخلع أمه من مركزها المرتفع (ملكة)، وقطع تمثالها وطرحه.
يوحنا كان أعظم من كل الأنبياء، لكن هيرودس ذبحه من أجل رقصة ابنة حواء (مت 11: 11، 14إلخ).
هامان كان غنيًا، الثالث في الكرامة من الملك، لكن أشارت عليه زوجته أن يقتل اليهود (أس 6: 13).
زمري كان رأس سبط شمعون، إلا أن كزبي بنت رئيس قبائل ديان طرحته، ومن أجل امرأة واحدة سقط في يوم واحد أربعة وعشرون شخصًا من إسرائيل (عد 25: 6-15).
"فَقَالَ لَهَا: تَتَكَلَّمِينَ كَلاَمًا كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ!
أَألْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ،
وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟
فِي كُلِّ هَذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ" [10].
* كان أيوب في ساعات حزنه أكثر حذرًا من آدم في عرش سعادته.
واحد انهزم وسط المسرات، والآخر غلب وسط الآلام.
واحد وافق على ما يبدو ممتعًا، والآخر لم يذبل في الآم غاية في الرعب...
لقد احتمل في جسمه ألمه، واحتمل في قلبه أخطاء الآخرين، موبخًا زوجته على غباوتها، معلمًا أصحابه الحكمة، محتفظًا بالصبر في كل الأحوال.
* لاحظوا أيها الإخوة الأحباء، إنه لم يقل قط: "هذا عمل الشيطان".
انسبوا التأديب لإلهكم مباشرة، لأن الشيطان لا يفعل شيئًا بدون سماح من ذاك الذي يدبر أموركم بقوة سلطانه، سواء للعقوبة أو التعليم؛ للعقوبة بالنسبة للأشرار والتعليم للابن. "فإنه يجلد كل ابن يقبله" (عب 12: 6).
أنتم تحتاجون ألا تهربوا من العصا، اللهم إلا إذا لم تريدوا أن ترثوا .
* عندما تغطي جسمه بالقروح جاءته امرأته التي تُركت له كحواء أخرى، لتكون زميلة الشيطان عوض أن تكون معينة لرجلها. كانت توبخه دومًا وبشدة لتهز ولاءه قائلة: "قل كلمة ضد الله ومت".
لكن آدم الذي على المزبلة كان أكثر حكمة من آدم الذي كان في الفردوس.
آدم في الفردوس أعطى أذنه للمرأة، ليطردا من الفردوس. وآدم على المزبلة طرد المرأة جانبًا فقط لكي يدخلا الفردوس.
وماذا كان لآدم الذي على المزبلة؟ من الداخل يلد خلودًا، من الخارج كان طعامًا للدود.
ماذا قال لزوجته؟ "تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات. أألخير نقبل من عند الله والشر لا نقبل؟" (أي 2: 10).
إنه يكرر بأنه يد الله عليه حينما كان الشيطان يضرب، لأنه لم يتطلع إلى من يصوب إليه الضربة، بل إلى ذاك الذي أعطاه السلطان.
فإن الشيطان نفسه بدوره دعا ذاك السلطان الذي شحذه من يد الرب.
* إني أختار أن يفتقد الرب خطاياي، ويصلح معاصي، هنا في هذا العالم، حتى يقول لي إبراهيم هناك ما قاله عن لعازر المسكين في حديثه مع الغني: "يا ابني أذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر البلايا، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب" (لو 16: 25).
لهذا السبب عندما يوبخنا الرب، عندما يؤدبنا، يلزمنا ألا نكون جاحدين.
لندرك أن توبيخنا في الوقت الحاضر إذن لكي ننال تعزية في المستقبل. وكما يقول الرسول: "إذ قد حُكم علينا نؤدب من الرب، لكي لا نُدان مع العالم" (1 كو 11: 32). لهذا السبب قبل أيوب أيضًا بإرادته كل آلامه قائلًا: "أألخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل؟"
* صار مباركًا أكثر من كل أحدٍ، فإنه ليس فقط لم يفعل شيئًا يجعله يزل، بل مارس ما جعله أكثر ثباتًا. زوجته ضايقته مع كل هؤلاء، ومع هذا فقد تلألأ في كل شيءٍ .
* الزوجة صلاح عظيم كما أيضًا يمكن أن تكون شرًا خطيرًا. فإن الزوجة عظيمة؛ لاحظوا من أية نقطة أراد الشيطان أن يدخل خلال السور القوي .
جاءت الترجمة السبعينية: "لكنه تطلع إليها وقال لها: تتكلمين كإحدى الجاهلات" (أي 2: 10).
* بمعنى: إنك لا تتكلمين بما يليق بكِ، ولا بتعليمكِ، ولا بالبنية التي تقبلتيها مني.
هذه الكلمات لا تليق بكِ.
لم يرد أن يوبخها بعنفٍ، بل أن يردها عن هذا التفكير الفاسد.
"إن كنا نقبل الخيرات من يد الله، ألا نحتمل الشرور؟" بمعنى إن كان بالحق ليست هذه الأمور إلا شرورًا فلنتحملها.
إنه الرب والسيد، أليس لديه سلطان على كل شيء يرسله علينا؟
لماذا أعطانا خيرات؟ ليس عن استحقاق من جانبنا.
ليتنا لا نقلق بعد اليوم بالتفكير أننا نتألم عن عدم استحقاق.
إنه حر تمامًا، حتى إن قدم لنا فقط الشرور.
إن كان يقدم لنا أيضًا الخيرات، فلماذا نشتكي؟
لاحظوا إنه لم يتكلم قط عن معاصي، ولا عن أعمال صالحة، إنما تكلم فقط عن الله صاحب السلطان أن يفعل ما يشاء.
تذكري خيراتك السابقة فلا تجدي صعوبة في احتمال المشاكل الحالية. يكفي لنا لكي نتعزى أن ندرك أن الرب قد أرسلها إلينا. لا تتحدثي عن عدالةٍ أو ظلمٍ.
*"تطلع إليها" (أي 2: 10 LXX)، تطلع إلى زوجته، لكي يميز ذاك الذي يتكلم فيها، ويحترس من الحية المختفية في حديث زوجته.
* ألا نقدم صبرنا ذبيحة مقبولة (رو 1:12) خلالها نستعيد ما فقددناه، وننال بركات أخرى أكثر منها؟
* "في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه". هل سلم الله أيوب لهذا الصراع باطلًا؟ ألم يعرف بالحق مقاتله؟ ألم يعرف الملك جنديه...؟
أما بالنسبة لنا، فلنتمثل بصبره. لنحارب بدماثة، لنمارس صبره، ونعادله في ثقته بالله.
لنتشكل حسب إيمانه دون فشل، ولنكن ثابتين في روحه، في صدق كلماته، في صراعه مع عدوٍ غير منظورٍ، في عزلته، وفي تجاربه، في هدوئه، في مواجهة كل ما يثور، لنبقى أقوياء وموطدي العزم.
في كل الآلام لنكن أتقياء ونتمم امتحاننا. فإننا بهذا نشترك في الأكاليل، ونكون شركاء في نصرته، ويكون الله شاهدًا لبرِّنا. المجد له مدى الدهور آمين.
* ليُستدعَ القدير لعونكم ضد مكائد الشيطان.
ليسكن فيكم، هذا الذي لا يٌمكن أن يٌغلب، فإنكم حتمًا تغلبون ذاك الذي اعتاد أن يغلب. لكنه يغلِبْ من؟ أولئك الذين لا يسكن الله فيهم.
فإنكم أيها الإخوة تعلمون هذا أن آدم في الفردوس احتقر وصية الله، ورفع عنقه، كمن أراد أن يكون سيد نفسه، ونفر من الخضوع لمشيئة الله. هكذا سقط من الخلود والطوباوية.
لكن وٌجد إنسان، مختبر باهر، مع أنه قابل للموت بمولده، ومع أنه جلس على مزبلة وفاسد بالدود، غلب الشيطان.
نعم، آدم نفسه قد غلب حتى في أيوب، لأن أيوب من جنسه.
لقد هُزم آدم في الفردوس، وغُلب على المزبلة.
بكونه في الفردوس، أعطى أذنه لاقتناع المرأة التي دخلها الشيطان، أما وهو على المزبلة قال لحواء: "تتكلمين كإحدى الجاهلات".
هناك أعارها أذنًا، هنا قدم لها إجابة.
عندما كان سعيدًا أصغى، وعندما أٌبتلي غلب.
لهذا انظروا ماذا تبع هذا يا إخوتي في الرسالة (1 يو 9:2). لأن هذا ما يجب أن نضعه في قلوبنا إننا نغلب الشيطان حقًا، لكن ليس بذواتنا، إذ يقول: "إن علمتم أنه بار، فاعلموا أن كل من يصنع البرّ مولود منه" .
* مكتوب: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 36:10)، فإنه إذ يرى الخصم الماكر أنه قد انسحب من قلوب الصالحين يبحث عمن هم محبوبون جدًا لهم، ويتحدث إليهم بعذوبة بكلمات محبوبة جدًا لديهم، حتى إذ تتسلل قوة الحب إلى القلب يمكن لسيف إقناعه أن يقتحم الطريق بسهولة إلى مناطق الدفاع الداخلية للأبرار.
* يقصد بالخير هنا إما عطايا الله الزمنية أو الأبدية، وبالشر ضربات الزمن الحاضر، هذه التي قال عنها الرب بالنبي: "أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر". (إش 6:45-7) لا يقصد الشر الذي ليس له جوهر بطبيعته أنه مخلوق بالله. بل يُحسب الرب نفسه كخالق الشر (الضيق) عندما يحول الشر إلى عقوبة (أو تأديب)، فتكون هذه الأمور شرًا للعصاة باحتمالهم الألم، وفي نفس الوقت صلاحًا بطبيعتها...
إنه عزاء قدير لتجاربنا، متى احتملنا أحزانًا، وتذكرنا عطايا خالقنا لنا... فقد قيل: "في يوم الخيرات لا تنسَ البلايا، وفي يوم البلايا لا تنسَ الخيرات" (سيراخ 25:11).
فإن من يتقبل عطايا الله في موسم العطايا ولا يخشى الضربات يسقط بفرحه في تيه فكره، ومن يعاني من العقوبات، ومع هذا ففي موسم العقوبات يتجاهل تعزيته بالعطايا التي كان قد نالها، يسقط من ثبات فكره باليأس من كل جانب.
البابا غريغوريوس (الكبير) لقد سخرت به امرأته لأجل بساطته وتعلقه بالأبديات، وحسبت هذه البساطة غباوة وجهلًا وحرمانًا من الحياة والسعادة. لهذا رأت موته أفضل بكثير من حياته، والتجديف على الله أوجب من العبادة له مع المعاناة من الآلام.
* كأنه يقول: إن كنا نميل إلى البركات الأبدية، فأي عجب إن كنا نواجه شرورًا زمنية؟ لقد ركز بولس عينيه على هذه البركات باهتمامٍ شديدٍ عندما خضع بفكره للشرور الحالة به. يقول: "فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا" (رو 18:8).
البابا غريغوريوس (الكبير) لم يخطئ أيوب بفمه، إذ لم ينطق بكلمة لا تليق به كمؤمنٍ. يحذرنا القديس بطرس الرسول من الخطأ بالفم، قائلًا: "فلا يتألم أحدكم كقاتلٍ، أو سارقٍ، أو متكلمٍ بالشر" (1 بط 15:4Vulgate).
4. افتقاد أصحابه الثلاثة له
"فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ أَيُّوبَ الثَّلاَثَةُ بِكُلِّ الشَّرِّ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ،
جَاءُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَكَانِهِ:
أَلِيفَازُ التَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ الشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ النَّعْمَاتِيُّ،
وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَأْتُوا لِيَرْثُوا لَهُ وَيُعَزُّوهُ" [11].
ذكر هنا أسماء أصدقائه الثلاثة الذين جاءوا يرثون له ويعزونه. ربما كان حاضرًا معهم الشاب أليهو، وقد استمع إلى المناقشات، ويبدو أنه لم يكن صديقًا لأيوب لأنه كان يصغره جدًا في السن، لكنه حضر كمستمعٍ. ربما كان يحب مجالسة الشيوخ، ولعل منظر أيوب في مأساته قد جذبه، فاشتاق أن يقدم له خدمةً ما أو كلمة تعزية.
أما الأصدقاء الثلاثة فكانوا متقدمين في السن، بل كانوا شيوخًا، اشتهروا بالمعرفة والحكمة والصلاح، وكان لهم تقديرهم وكانت آراؤهم تُقابل بالاحترام (أي 32: 6). ربما كانوا يحتلون مراكز رفيعة في الدولة، كأمراء أو رؤساء. ربما كانوا أقرباء له، إذ كان الثلاثة أحفاد إبراهيم، غالبًا ما ورثوا عنه بعض التعاليم والثمار الصالحة. فأليفاز التيماني ملك التيمن كان ابن تيمان حفيد عيسو (تك 36: 11). يرى البعض أن أليفاز هنا ليس الابن الأكبر لعيسو بل حفيده الذي دُعي على اسمه. وكان بلدد الشوحي ابن شوح الذي ولدته قطورة لإبراهيم (تك 25: 2). وصوفر النعماتي على ما يُظن هو صفوا حفيد عيسو (تك 36: 11). كان ثلاثتهم من الأمم، حملوا بعض الجوانب الطيبة، منها أنهم دون غيرهم من غالبية الأصدقاء لم يتركوا أيوب في محنته، بل صاروا يشاطرونه أحزانه كما شاطروه قبلًا في مسراته.
جاءوا ليس حبًا في الاستطلاع، ولا بدعوة من أحدٍ، إنما اتفقوا معًا في عمل الخير. كانوا مخلصين في رغبتهم في التعزية، وإن اتضح أنهم كانوا معزين متعبين بسبب عدم حكمتهم في معالجة الأمر.
لم نسمع عن المساكين والمحتاجين الذين يعولهم، ولا الأيتام والأرامل الذين كان يهتم بهم، قد جاء واحد منهم يسأل عنه في محنته. لعلهم سمعوا بالنكبات المتوالية فسقطوا فيما سقط فيه هؤلاء الأصدقاء الثلاثة، وحسبوا أنه كان شريرٌا أخفى شره بالعطايا الظاهرة والاهتمام المظهري.
عدم حضور أحدهم بلا شك كان له أثره السيئ على نفسية أيوب، إذ حسبهم قد تعثروا في شخصه.
"وَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ مِنْ بَعِيدٍ وَلَمْ يَعْرِفُوه،
فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَبَكُوا،
وَمَزَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ جُبَّتَهُ،
وَذَرُّوا تُرَابًا فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ نَحْوَ السَّمَاءِ" [12].
كثيرًا ما يفسد الحزن والمرارة شكل الإنسان حتى أن أصدقاءه الشيوخ لم يعرفوه، لأن قروحه شوهت جسمه، ومرارة نفسه نزعت عنه بشاشته. هذا ما حدث مع نعمى حين أفسد الحزن هيئتها، فعندما عادت إلى بلدها تساءل أهل المدينة: "أهذه نعمى؟" (را 1: 19).
لم يتمالك الشيوخ أنفسهم، فرفعوا أصواتهم كالأطفال وبكوا، كما مزق كل واحدٍ جبته، وذروا ترابًا على رؤوسهم. وجلسوا معه على الأرض. وكأنهم شاركوه مذلته.
لم يلتقوا معه على مستوى المجاملات الرسمية، إنما كأحباء يشاركونه مرارة نفسه. كشركاء في الضيقة القاسية لم يستطيعوا أن يفتحوا فمهم لمدة سبعة أيام وسبع ليالٍ، صمتوا وهم في دهشة. جاء في المثل اللاتيني: "أحزاننا الخفيفة تتكلم، أما الثقيلة فتعقد اللسان".
تحاشوا في البداية الكلام لئلا يثقلوا عليه التجربة، وربما لأنهم أرادوا التأني حتى يبحث كل منهم هذا اللغز المحيّر، فإنهم يدركون أعمال محبته العظيمة التي كان الكل يشهد لها، لكن هل من خطية خفية سببت له كل هذه الكوارث؟ هل يود الله أن يكشف له عما أخفاه في قلبه وفكره أو من أعمال لا يعرفها أحد؟
* لم يعرفه أصحاب أيوب، إذ لم يروا الثوب الأرجواني ولا العرش المرتفع، ولا التاج الملوكي والجند في الخدمة، ولا العبيد في أعمالهم. عوض العرش كان له الأرض القاسية، المزبلة عوض السرير، وعوض البيت الهواء الطلق.
"وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى الأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ،
وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ،
لأَنَّهُمْ رَأُوا أَنَّ كَآبَتَهُ كَانَتْ عَظِيمَةً جِدًّا" [13].
لقد تواعدوا أن يأتوا ويلتقوا معُا عند أيوب، لكن ما يدهشنا أنهم بقوا صامتين سبعة أيام وسبع ليالٍ دون أن ينطقوا بكلمة، وعندما تكلموا هاجموه بعنفٍ شديدٍ، كما برأيٍ واحدٍ.
اظهروا في البداية حزنًا مُبالغ فيه، تبعه خصومة ومناقشات مرة وسط آلامه.
أي حب هذا دفعهم للاتفاق معًا والجلوس حوله وسط رائحة النتانة التي لا تُحتمل ولمدة أسبوع كامل؟ ولماذا التغير المفاجئ، على النقيض تمامًا؟
تُرى هل كانوا صادقين في محبتهم له، لكنهم قدموا حبًا بلا تمييز؟ أم كانت النية شريرة مخفية تحت ستار الحزن الشديد، فانفجر ما في داخلهم؟
يرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن هؤلاء الأصدقاء يرمزون إلى الهراطقة الذين يظهرون في البداية حنوًا زائدًا، ومع صدق نيتهم للعمل إلا أنه ينقصهم روح التمييز.
لهذا يقول لهم أيوب: "أما أنتم فملفقو كذبٍ، أطباء بطالون كلكم" (أي 3:13-4).
لقد جاءوا كل واحدٍ من مكانه (11:2)، ومكان الهراطقة هو الكبرياء نفسه. جاءوا على موعد في اتفاق تحت ستار الحب والصداقة.
هكذا كثيرًا ما يتفق الهراطقة معًا على كنيسة الله، ويحملون مظهر الصداقة والخدمة والسلوك بالفضيلة.
أخيرًا فقد طلب الله منهم أن يسألوا أيوب أن يصلي عنهم، ويُقدم ذبيحة لأجلهم، هكذا لا تكف الكنيسة عن أن تصلي من أجل الهراطقة كي يتحولوا عن المقاومة، ويستردوا عضويتهم الكنسية، ويتمتعوا بالحياة الكنسية السماوية.
* كل هذه الإيماءات حسنة ولائقة بأصدقاء يكشفون عن تعاطفهم معه، لكن ما جاء بعد ذلك كان على النقيض. لم يكن من نفس النوع، بل على النقيض تمامًا ورديئًا. انظروا ماذا حدث. إنه لأمر لا يُصدق، تحدثوا كخصومٍ حاقدين.
* عندما تمتلئ النفس بالقنوط للحال لا تميل إلى سماع شيءٍ مما يقال. لهذا عندما جاء أصدقاء أيوب ورأوا كارثة بيته، والبار جالسًا في الحمأة، وقد تغطى بالقروح، مزقوا ثيابهم وتنهدوا، وجلسوا بجواره في صمتٍ، مظهرين إنه ليس ما يليق تقديمه بالمتألم هكذا سوى الهدوء والسكون. إذ كانت التجربة أعظم بكثير من أن يكون لها تعزية.
من وحي أيوب 2
آدم في المزبلة!
* لم يكن ممكنًا لإبليس أن يصمت،
وقد رأى الإنسان في جنة عدن ينعم بك أنت فردوسه!
اقترب إليه من خلال الحية،
وتجاسر واستخدم فم حواء.
وبحسده طرد آدم وحواء من الجنة،
وبالخطية ملك الموت عليهما وعلى نسلهما!
* الآن وقد رأى في كل إنسانٍ آدم المنكسر.
ظن أنه قادر أن يحطم أيوب كما حطم أباه الأول.
لم يتحدث معه خلال الحية،
بل تجاسر واشتكاه أمامك يا خالق الكل!
* في كبرياء أعلن أنه كان يجول في الأرض،
ويمشي عليها، وكأنه ملك صاحب سلطان!
نعم، لتنزع عنا ترابنا فلا نبقى أرضًا،
ولا يقدر أن يتمشى في قلوبنا!
يرانا سماءً ثانيةً، فيهرب من أمامنا.
تُجلسنا أنت في السماويات،
فلا يقدر أن يتسلل إلينا!
* يا للعجب أنت القدوس وحدك تمدحنا!
وإبليس الشرير يشتكي علينا!
هل يغير على القداسة، فيشتكينا على ضعفنا؟
في شَرِه يود أن يحطم الكل،
فيشاركوه تجديفه عليك، يا أيها القدوس وحدك!
* صوب كل سهامه النارية ضد أيوب المسكين!
ذاك الذي كان كوكب الصبح يقف أمام إنسانٍ أعزل!
لم يهدأ له بال حتى يضرب كل جسده!
بسماحٍ منك قتل كل بنيه وبناته، وترك زوجته ليستخدمها ضده.
ضرب كل جسمه، وترك له لسانه لعله يجدف عليك!
في مكرٍ شديدٍ بذل كل جهده ليحطم المؤمن بك،
ولم يدرك أن سهامه ترتد عليه!
* آدم في الجنة مال بأذنه ليسمع مشورة العدو،
خلال حواء معينته!
أيوب في وسط الرماد، فتح فمه ليُبكم المشورة الشيطانية!
صمت آدم صمتًا خاطئًا، وكسر وصيتك الإلهية.
ونطق أيوب بكلامٍ صالحٍ، وأنقذ زوجته من الحيل الشيطانية!
تعرى آدم في الجنة، ولم تقدر أوراق التين أن تستره!
ولبس أيوب ثوبًا من الدود، كان أبرع جمالًا من ثوب الملوك!
ارتعب آدم وحواء حين سمعا صوتك!
ووقف السمائيون في دهشة أمام تسابيح الجالس وسط الرماد!
ظن آدم أن حرمانه من الأكل من شجرة المعرفة ظلمًا وحرمانًا.
وحسب أيوب أن كل ما سُلب منه هو بسماحٍ منك لخيره!
وسط كل بركات الجنة وإمكانياتها تركزت عينا آدم على شجرةٍ واحدةٍ!
وسط كل التجارب التي لا تُحتمل تركزت عينا أيوب عليك يا صانع الخيرات!
فتح آدم فمه ليبرر نفسه،
وفتح أيوب فمه ولم يخطئ بشفتيه!
* جاء الأصدقاء، كل واحدٍ من مكانه،
ويا ليتهم ما جاءوا!
أرادوا أن يعزوه بأفكارهم البشرية، فقدموا له مرارة!
أظهروا كل مشاعر الحنو والمشاركة في الآلام،
لكن لم يقدموك إليه يا أيها المعزي السماوي!
* أنت صديقي السماوي،
احملني إليك، إلى مكانك، فأستريح في حضن أبيك!
لقد نزلت إليَّ،
وجُربت لكي تعين المجربين!
لتكن أنت هو سرّ تعزيتي وسلامي وفرحي الحقيقي!
ملحق للأصحاح الثاني
في مجلس الصامتين
(صمت أصدقاء أيوب) السكون والصمت
يظن كثيرون أن الراهب هو فقط الذي يبتعد عن العالم وينعزل.
هذا ضروري ولكن القديس باسيليوس الكبير يشدِّد على أن الانسحاب الحقيقي من العالم هو [أن نقطع الحبال التي تربطنا به وبهمومه ومشاكله.]
فالهدوء الذي نحصل عليه في الدير [هو بدء تطهير الذات، وبعدم الاكتراث بأمور الدنيا بدء الاهتمام بأمور الله.]
والوحدة [هي دواء للأهواء والشهوات، لأنها تهدّئها وتقرّبنا لله، وخاصة عندما تكون مقرونة بالصلوات والترانيم.]
وهذه يجب أن ترافقنا دائمًا لأنها [تثبِّت النفس في الفرح وتخرجها من الأحزان.]
والقدِّيس باسيليوس بالرغم من أنه من دعاة الحياة المشتركة، لا يكف عن التشديد على الصمت، وعلى الالتزام بالخلوة والهدوء. فهذا هو الشرط الذي بدونه لا تستقيم الحياة الرهبانيَّة، إذ كيف يمكن للراهب أن يصلِّي مرارًا في النهار، وأن يدرس ويطالع الكتاب المقدَّس وأن يعكف على اكتشاف نفسه إذا كانت الضوضاء تملأ نفسه، وتملأ أرجاء الدير.
يقول القديس باسيليوس [الهدوء هو الخطوة الأولى في تقديسنا، فيتطهَّر اللسان من ثرثرة العالم، ولا تُثار العين بالألوان الجميلة ولا بالأشكال الوسيمة، ولا تسرع الأذن لنغمة الذهن التي للأغاني الشهوانيّة، بالأذيّة التي تصدر على وجه الخصوص من أحاديث أصحاب التمثيليَّات الهزليَّة والمهرَّجين.]
* أقول الحق: إن كنت تنطق مثل مار يوحنا (الذهبي الفم) ومثل مار أفرام القديس، ومثل مار باسيليوس الإلهي ومار غريغوريوس (النزينزي) ومار غريغوريوس (النيسي)، وبقية الملافنة (المعلمين) الكبار، لما كنت تفيد بكلمات الذين يلتفون بك كما يفيد الآن صمتك مشاهديك.
حيرة بين الصمت المقدس والكلام المقدس!
* أنت هو الكلمة التي تعطي كلمة للمتكلمين،
بك يتكلم جميع المتكلمين من أجلك.
شعاعًا وإشراقًا ونورًا عظيمًا أشرق فيَّ فأنظر إليك.
فبنظري لك تستضيء النفس، فتقتني الصلاح.
وحين تبتعد منك النفس تمتلئ ظلامًا، وإذا ما تفرست فيك لبست النور لتنطق بكلام خبرك...
الصمت والكلام قائمان عليّ يطالبانني.
يا رب دبر حياتي كإرادتك.
إن صمت أدهش، إذ أشعر بعدم كفايتي في (الكلام). أصمت في دهشة، وليس بطغيان باطل.
وإن تكلمت تكون كلمتي حسب مجدك ولأجلك.
عندما تمتلئ النفس بالصمت في دهش بك، يكون هذا الصمت حديثًا مملوءً بكل منفعة. وإذا ما تحركت النفس لتمجدك بمحبة.. فبالحب أتحرك، وأتحرك لأمجدك. وفي دهش أصمت ولا اهدأ من تمجيدك.
هب لي يا رب الدهش (بالصمت) والكلمة فأغتني. وفي كل يوم أدهش، وفي كل يوم أتحرك بالكلام!
للكلام وقت وللصمت وقت!
* يصمت البار إذ يُعلّم أن للسكوت وقت وللكلام وقت (جا 3: 7)، لكنّه لا يصير أبكم. إنّما هذه سِمة خاصة بالصدّوقيّين - وكل من يُعلّم بالباطل، إذ هم يبكمون ولا يصمتون. فإنهم وإن كانوا بُكمًا عن الحق لكنهم غير صامتين، هكذا قال الرب للبحر وليس للإنسان أن يبكم، منتهرًا إيّاه إذ كان عاصفًا.
* باطلًا نلجم ألسنتنا، إن كان صمتنا يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الصراخ.
* تكلم زكريا (الكاهن) في موضعٍ كان يلزم فيه الصمت، وتكلمت مريم، وحسنًا كان كلامها.
سكتت حواء وفي الحال صارت مرذولة، وإذ لم تتكلم حزنت، وماتت بسبب صمتها.
غشَّتها الحية، وأعطتها بشارة مملوءة موتًا، ووعدتها بالألوهية، ولم تفحصها.
قالت الحية: يوم تأكلان من الشجرة تصيران كالله، فصدقتها. وفي هذا الوضع وفي ذاك الوقت حيث الخداع كان يلزم السؤال والكلام والدراسة. كان يليق بحواء أن ترد على الكذاب وتدرس الأمر نتمعن. لو درسته لهرب الكذاب منها. فإنه إذ يُظهر الحق ذاته تجاه الكذب يهرب الخير. لو تكلمت حواء مقابل ذاك الكذاب لما استطاع أن يبت الخبر الذي بدأ به... وإذ لم تتكلم هدمتها الحية في عمق الهاوية.
إذ يوجد وقت يلتزم فيه الإنسان بالكلام، ويوجد وقت يلتزم فيه الصمت بإفرازٍ. كان يليق بزكريا أن يصمت في قدس الأقداس عندما بشره الملاك بميلاد يوحنا. وإذ لم يصمت جعله الملاك يصمت بغير إرادته، لأنه يحبه، فزينه بالصمت اللائق به.
حزنت أليصابات بصمت رجلها.
صمت الكاهن، ومضى إلى بيته ولم يتكلم.
لم يعرفوا لماذا صمت نطقه.
حزن أحباء الكاهن بصمته، ولم يعرفوا ما هو سبب صمته.
وحزنت أليصابات على شريك حياتها، لأن فمه صمت، وصوته خرس، ولم يتكلم.
لعل اللاوية قالت في حزنها على رجلها الكاهن الشيخ الصامت: ماذا أعمل؟
لقد ضرب البيت بسبب العقر، وأحاط بي حزنان: أنا عاقر، وفم الشيخ صار عاقرًا، ليس لي ولد، وليس له كلمة يتعزىٌ بها.
كثر حزن بيت الكاهن من الجانين: المرأة عاقر، وهو صامت.
العجوز حبلت من الزواج بطريقة مدهشة عظيمة...
بميلاد (يوحنا) انفتح رحم أمه، وانفتح فم أبيه.
بيوحنا ولدت العاقر، وتكلم الأخرس.
به أنصلح الرحم العاقر، والفم الأخرس، والمكان الخرب.
مبارك هو الذي اختاره وأكثر جماله. له المجد دائمًا وعلنًا. آمين.
* من يريد أن يلازم السكوت من غير أن يقطع علل الآلام فهو أعمى .
* إن الصمت من أجل الله جيد، كما أن الكلام من أجل الله جيد.
|