![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
![]() يسوع والشّريعة الأحد السادس من السنة: يَسوع والشَّريعَةَ (متى 5: 17-37) النص الإنجيلي (متى 5: 17-37) 17 لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل. 18 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن يَزولَ حَرْفٌ أَو نُقَطَةٌ مِنَ الشَّريعَةَ حَتَّى يَتِمَّ كُلُّ شَيء، أَو تزولَ السَّماء والأَرض. 19 فمَن خالفَ وَصِيَّةً مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا وعَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه، عُدَّ الصَّغيرَ في مَلَكوتِ السَّمَوات. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ بِها ويُعَلِّمُها فذاكَ يُعَدُّ كبيراً في ملكوتِ السَّمَوات. 20 ((فإِنِّي أَقولُ لكم: إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات. 21 سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: ((لا تَقْتُلْ، فإِنَّ مَن يَقْتُلُ يَستَوجِبُ حُكْمَ القَضـاء)). 22 أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم: مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء، وَمَن قالَ لأَخيهِ: ((يا أَحمَق)) اِستَوجَبَ حُكمَ المَجلِس، ومَن قالَ لَه: ((يا جاهِل)) اِستَوجَبَ نارَ جَهنَّم. 23 فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، 24 فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك. 25 سارعْ إلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق، لِئَلاَّ يُسلِمَكَ الخَصمُ إلى القاضي والقاضي إلى الشُّرطِيّ، فتُلْقى في السِّجْن. 26 الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لن تَخرُجَ مِنه حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس. 27 ((سَمِعْتُم أَنَّه قيل: ((لا تَزْنِ)). 28 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه. 29 فإِذا كانت عينُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقلَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضْوٌ مِن أَعضائِكَ خَيْرٌ لَكَ مِن أَن يُلقى جَسَدُكَ كُلُّه في جَهنَّم. 30 وإِذا كانت يَدُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقطَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضوٌ مِن أَعضائِكَ خَيرٌ لكَ مِن أَن يَذهَبَ جسدُكَ كُلُّه إلى جَهنَّم. 31 ((وقد قيل: ((مَن طلَّقَ امرأَتَه، فلْيُعْطِها كِتابَ طَلاق)). 32 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى، ومَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى. 33 ((سَمِعتُم أَيضاً أَنَّه قِيلَ لِلأَوَّلين: ((لا تَحْنَثْ، بل أَوفِ لِلرَّبِّ بِأَيْمانِكَ))، 34 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تَحلِفوا أَبداً، لا بِالسَّماء فهِيَ عَرشُ الله، 35 ولا بِالأَرضِ فهيَ مَوْطِئُ قدَمَيْه، ولا بِأُورَشليم فهيَ مَدينةُ المَلِكِ العَظيم. 36 ولا تَحلِفْ بِرأسِكَ فأَنتَ لا تَقدِرُ أَن تَجعَلَ شَعرةً واحِدَةً مِنه بَيضاءَ أَو سَوداء. 37 فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا. فما زادَ على ذلك كانَ مِنَ الشِّرِّير. مقدمة يصف إنجيل متى موقف يَسوع من الشَّريعَةَ القديمة الموسَوِّية (متى 5: 17-37). وقد أعطى الله هذه الشَّريعَةَ سنة 1513 ق. م. إلى النبي موسى (خروج 19: 5-6)، وهذه الشَريعَة " مُقَدَّسةٌ عادِلةٌ صالِحة (رومة 7: 12)، وهي جوهر الكتاب المقدس، لأنها تعبّر عن إرادة الله بما يطلبه من الإنسان للعيش سعيدا ولدخول مَلَكوت الله. ومن هذا المنطلق، أعلن المسيح أنه ليس ضد الشَّريعَةَ، ولكنه ضد إساءة فهمها وتطبيقها، فأنه تجسَّد ليُكمِّلها فتصبح شَريعَة الكمال، الشَّريعَةَ الجديدة الإنجيلية، التي تتضمن رؤية دقيقة للإنسان والإنسانية حيث يكون يَسوع هو النموذج. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 5: 17-37) 17 لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل. تشير عبارة "لا تَظُنُّوا" إلى زعم الذين يدّعون أنَّ المسيح شرع يُرتِّب شَريعَة جديدة ويُلغي العتيقة. فتوقع الكثيرون التحرُّر من الطاعة للشَريعَة الموسَوِّية. أمَّا عبارة "جئت" فتشير إلى مجيء من نفسه، وليس كالأنبياء أرسلهم الله. وبهذا القول هو أعظم من الأنبياء حيث جاء يَسوع كمعلم من لَدُن الله، كما صرّح له نيقوديموس أحد رؤساء اليهود: "نحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ جِئتَ مِن لَدُنِ اللهِ مُعَلِّماً" (يوحنا 3: 2). أمَّا عبارة " لأُبْطِل" فتشير لا إلى نقض أو إلغاء الشَّريعَةَ بل جاء يَسوع لنقض الخَطيئَة، أمَّا الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد كتاب واحد، فان سقط بعضه سقط كله وإذا ثبت البعض ثبت الكل. أمَّا عبارة "الشَّريعَةَ" فتشير إلى القسم الأول من الأقسام الثلاثة للأسفار العبرية تتلخص بلفظة תנךبحيث أن التاء (ת) ترمز إلى التوراة، والنون (נ) ترمز إلى الأنبياء، والكاف (כ) ترمز إلى الكتابات؛ والقسم الأول يتكوّن من الأسفار الخمسة من سفر التكوين إلى سفر تثنية الاشتراع؛ أمَّا عبارة "الأَنْبِياء" فتشير إلى القسم الثاني من الأسفار العبرية، المُكوَّن من سفر يشوع إلى سفر الملوك الثاني، ومن سفر أشعيا النبي إلى سفر ملاخي النبي. لكن استعمال التعبير "الشَّريعَةَ والأَنبِياء " يرجح أنَّ الرب يَسوع يشير به إلى كل أسفار العهد القديم (متى 7: 12) التي تتضمَّن كل كلام الله المُعلن بالوحي للناس. لكن الفِرِّيسيُّونَ أبطلوا الشَّريعَةَ بتقاليدهم، والصدُّوقيون أبطلوا أقوال الأنبياء بإنكارهم ما أوحي إليهم فلم يعترفوا سوى الطاعة للكتب الخمسة الأولى من الكتاب المقدس. أمَّا عبارة " لأُكْمِل" في النص اليوناني الأصلي πληρῶσαι. (معناه يُحقِّق نبوءة (متى 1: 22) أو ملأ (متى 13: 48) فيشير هنا إلى المعنى الثاني. فلم يكتفِ يَسوع بتحقيق النبوءة، بل أراد أن يبلغ بها إلى كمالها بتفسيرها وإيضاح معناها الرُّوحي بتعاليمه وأفعاله ومثاله وطاعته (غلاطية 4: 4) وموته عنا. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لقد أكمل يَسوع الأنبياء بقدر ما أكّد بأعماله كل ما قيل عنه، فقد اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل حالة: " كانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ (متى 1: 23)"؛ لقد أوصل يَسوع الشَّريعَةَ إلى كامل مدلولها، فلم يتوقف عند مستوى اعتراف خارجي وطاعة شكلية للشَّريعَة، بل أعادها إلى مبادئها الأساسية وفرائضها. وبذلك أعاد إلى الشَّريعَةَ معناها الحقيقي، فبلغت كمالها الجذري وبساطتها الأصلية (متى 5: 20). وأكمل يَسوع الشَّريعَةَ أيضا في حياته بحفظها إلى التمام، وفي تعليمه بنشر مبدأ المَحبَة الذي يكمّل الشَّريعَةَ، كما جاء في تعليم بولس الرسول "فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعَةَ (رومة 13: 10)، كما أنَّ الإيمان، كمال الشَّريعَةَ، كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَفَتُبطِلُ الشَّريعَةَ بِالإِيمان؟ مَعاذَ الله! بل نُثبِتُ الشَّريعَةَ" (رومة 3: 31). وأكمل المسيح الشَّريعَةَ أخيرا بموته، إذ بموته استنفذ عقوبة الشَّريعَة على البشر "فصارَتِ الشَّريعَةَ لَنا حارِسًا يَقودُنا إلى المسيح لِنُبَرَّرَ بِالإِيمان" (غلاطية 3: 24) هكذا "غايَةُ الشَّريعَةَ هي المسيح، لِتَبْرير ِكُلِّ مُؤمِن" (رومية 10: 4). منطق يسوع في تفسير الشريعة لا يتناقض مع الشريعة، لان الشريعة تشير إلى الله، الذي هو مصدر "البرّ العظيم" النابع من مجانية حبِّه. فهنا يؤكد يسوع على جوهريّة الشريعة. 18 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن يَزولَ حَرْفٌ أَو نُقَطَةٌ مِنَ الشَّريعَةَ حَتَّى يَتِمَّ كُلُّ شَيء، أَو تزولَ السَّماء والأَرض. تشير عبارة "الحَقَّ أَقولُ لَكم" إلى تعبير ما سيُقال أنَّه شيءٌ هامٌ، ولم يستعمل هذه العبارة سوى المسيح له المجد، أمَّا الأنبياء فكانوا يقولون "قال الرَّب"؛ أمَّا عبارة " أَقولُ لَكم " فتشير إلى ابن الله وابن الإنسان الذي يخاطب تلاميذه. أمَّا عبارة " حَرْفٌ" وفي اليونانية ἰῶτα تشير إلى الحرف العبري יוֹד (ي) "يا" في العربية وهو أصغر الحروف الأبجدية في اللغتين اليونانية والعبرية، وهذا الحرف يدلُّ على أهمية الأمانة لكل شيء حتى للتفاصيل في الكتاب المقدس، وهو أيضا تعبير عن كمال الشَّريعَةَ؛ أمَّا عبارة "نُقَطَةٌ " في الأصل اليوناني κεραία (معناها في العبرية קוֹץ أي "الخط") فتشير إلى خط صغير يميّز بين حرفين. أذ يُضاف إلى الحروف الأبجدية العبرية فيُحدث فرقا جوهريا بين الحرف والآخر. في العربية، كثيرا ما تميّز النقطة بين حرفين. وفي كلا الحالين فالمعنى واضح وهو وجوب عدم لإهمال أي أمر من أمور الشَّريعَةَ أو أي تفصيل. ويُعلّق القديس أوغسطينوس "لقد أشار يَسوع بحرف صغير، لأن حرف (ι) أصغر الحروف ويتكوّن من خط صغير، ثم أشار إلى النقطة التي توضع على الحرف، مظهرًا بذلك أن لأصغر الأجزاء في الشَّريعَةَ قيمة"؛ أمَّا عبارة "الشَّريعَةَ" فتشير هنا إلى كل أسفار الكتاب المقدس؛ أمَّا عبارة " يَتِمَّ كُلُّ شَيء" فتشير إلى كل ما وعُد به وأُشير إليه برموز سيتم فعلا. فالشَّريعَةَ برمَّتها ستبقى كنظام حتى تُكمِّل كل مقاصدها. وهذه الشَّريعَةَ تحمل معها المكافأة على طاعتها، والعقاب على عصيانها؛ ولا يُبطل من الشَّريعَةَ شيء قبل أن تكمل غايته. أمَّا عبارة " تزولَ السَّماء والأَرض "فتشير إلى ثبات نظام الكون الذي اتَّخذه يَسوع مثالا لعدم التغيُّر. والمقصود من هذه الآية أن أيَّة كلمة في الشَّريعَةَ لن تسقط حتى لو زالت السَّماء والأرض. فلا يمكن أن يزول حرف الشَّريعَةَ دون أن يكون قد تمّ بالرُّوح والحق. فاذا نظرنا إلى الشَّريعَةَ الطَّقسِيَّة باعتبار انه رمز وظل الخيرات، رأينا أنَّها زالت بالمسيح، وأمَّا جوهرها فكونها جزء من كلام الله تدوم إلى الأبد، كما يؤكد ذلك بطرس الرسول "وأمَّا كَلِمَةُ اللهِ فتَبْقى لِلأَبَد " (1 بطرس 1: 25). الشَّريعَةَ لا تتغير، لأنَّها إعلان إرادة الله المنزَّهة عن التغيير. 19 فمَن خالفَ وَصِيَّةً مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا وعَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه، عُدَّ الصَّغيرَ في مَلَكوتِ السَّمَوات. وأمَّا الَّذي يَعمَلُ بِها ويُعَلِّمُها فذاكَ يُعَدُّ كبيراً في مَلَكوت السَّمَوات. تشير عبارة "فمَن خالفَ" في الأصل اليوناني λύσῃ ( معناها إلغاء أو إبطال) إلى من ألغي أو أبطل عمدا؛ أمَّا عبارة "مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا" فتشير إلى ما يراها الناس أنها وَصايا صغيرة مثل النظرة أو الغَضَبُ في مقابل الوَصايا الكبرى كالزنى والقَتْل التي هي خطايا الفعل. قد قسَّم اليهود الوَصايا إلى كبرى وصغرى، وحسبوا أصغر الكل الوَصِيَّة المتعلقة بإعشاش الطيور (تثنية الاشتراع 22: 6-7)، لكن السيد المسيح لم يُشر هنا إلى وَصِيَّة كهذه بل إلى الشَّريعَةَ الأدبية وإلى كبح الأفكار والشهوات التي يحسبها الناس صغيرة، بالمقارنة مع الأعمال التي هي وحدها لها الاعتبار عندهم. ولكون هذه الخَطيئَة الصغرى جزءا من الشَّريعَةَ وجب حتمًا على الناس الطاعة لها ومن خالفها عمدا فقد أثِم بالكل، كما جاء في تعليم يعقوب الرسول " فمَن حَفِظَ الشَّريعَةَ كُلَّها وزَلَّ في أَمْرٍ واحِدٍ مِنها أخطَأَ بِها جَميعًا" (يعقوب 2: 10). أمَّا عبارة "عَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه " فتشير إلى ذاك الذي يُعلم الناس بأقواله أو بقدوته ليستخِفُّوا بالشَّريعَةَ كليا أو جزئيا. أمَّا عبارة "عُدَّ الصَّغير ويُعَدُّ كبيراً" فتشير إلى فرق في مقام المُخلَّصين وجزائهم في الحالة الأخيرة، كما صرّح يَسوع "فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات" (متى 18: 4)، وهناك معنى آخر يشير إلى وجوب عدم استصغار أتفه الأمور، بل أن نقدّرها ونُعطيها حقَّ قدرها. عندما يأمرنا السيد المسيح القيام بأي عمل مهما كان نوعه، لا يُعّده صغيراً، ويُعلق الفيلسوف الفرنسي باسكال بليز "لنعتبر صغار الأمور كبيرة، لان يَسوع عهد إلينا حرمتها". وهذا ما طبّقته القديسة تريزا للطفل يَسوع عندما دخلت دير الكرمل وكانت تقوم بأعمال صغيرة مثل تكنيس الأروقة، والغسيل، ومساعدة راهبة عجوز... وكانت تُنفِّذها على أحسن وجه وبمَحبَة صادقة. وهذه الإعمال الصغيرة تافهة في نظرنا، لكنها عظيمة في عيني الرب؛ وأمَّا عبارة "الَّذي يَعمَلُ بِها ويُعَلِّمُها" فتشير إلى تشديد يَسوع على الأعمال وتطبيق الوَصايا. يعتبر عظيما عند المسيح من يقرن علمه وعمله ولا يكتفي بالتعليم، فالتعليم والعمل وضعهما الله لإصلاح العالم. فالدين الحق ليس مجرّد مجموعة معارف دينية نظرية، وإنَّما يكمن في الحياة اليومية، كما جاء في الأقوال المأثورة “الدين المعاملة "؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "من لا يقدر أن يُعلّم نفسه ويحاول إصلاح الآخرين يسخر به الكثيرون، أو بالأحرى مثل هذا لا يكون له أي قُوَّة للتعليم نهائيًا، لأن أعماله تجعل كلماته ضدًا له". وهذه الآية دعوة من الرب يَسوع لنا جميعا كي نلتزم بإكمال الشَّريعَةَ في حياتنا العملية. فالتعليم بغير عمل يُحسب كنقض للشَريعَة، والتعليم يفقد فاعليته بدون أن يكون المعلم قدوة. لنتمسك بروح الشَّريعَةَ وليس بقشورها، ولا نستصغر أصغر الوَصايا، بل أن نقدّرها حق قدرها كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "فمَن حَفِظَ الشَّريعَةَ كُلَّها وزَلَّ في أَمْرٍ واحِدٍ مِنها أخطَأَ بِها جَميعًا" (يعقوب 2: 10). 20 فإِنِّي أَقولُ لكم: إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات. تشير عبارة "يَزِدْ " في الأصل اليوناني περισσεύσῃ (بمعنى يفوق) إلى شيء يفيض، يذهب إلى ما هو أبعد، ولا يقتصر على ما هو مطلوب. الشَّريعَةَ الإنجيلية لا تتطلب "البِرُّ" أي طاعة دقيقة لكل الوَصايا والتعليمات فحسب، إنما أيضا تتطلب بِرًّا يعتمد على التبنّي الحر لنمط حياة أساسه المَحبَة. ولذلك، فان تلاميذ يَسوع عليهم أن يتفوّقوا على الكتبة والفِرِّيسيِّينَ بالبِرَّ والتقوى لا من الناحية الكمية، بل من الناحية النوعية أي الطاعة بمَحبَة. لا يوجد في الشَريعَة الجديدة بِرٌّ بلا مَحبَة؛ لقد كان اهتمام الفِرِّيسيِّينَ بالطاعة الخارجية الشكلية وإتباع الشَّريعَةَ حرفيا، لكن المسيح يطلب شيئاً أعمق من هذا، فهو لا يكتفي بالشكليات إنما بالجوهر، بل يؤكد على أهميّة معايشة الشريعة في جوهريتها وليس بشكل سطحي. فالبِرُّ الذي يرضي الله هو البِرِّ الداخلي. بِرّ الفكر والدوافع، لأنَّ الربَّ ينظر إلى القلب الذي يُطيعه بحُرِّيَّة ومَحبَة. أمَّا عبارة "بِرُّكُم" فتشير إلى أمانة التلاميذ لشَريعَة الله، وهي أمانة جديدة أصبحت ممكنة وماسًّة بفضل نعمة الرُّوح القدس وتفسير يَسوع لهذه الشَّريعَةَ "لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن لَه سُلطان، لا مِثلَ كَتَبَتِهم" (متى 7: 29). إذن يسوع ليس فقط المعلّم بل المترجم للشريعة، أيّ لكلمة الله. لا يتكلم يَسوع ضد ممارسة الشَّريعَةَ، بل يرفض التعلق الأعمى بالشَّريعَةَ، والرِّياء والمُراءة والتهرُّب الكاذب ومنطق الكتبة معلمي الشَّريعَةَ والفِرِّيسيِّينَ. ورفض يَسوع أيضا تفسيرهم ونظرتهم إلى البِرِّ بأعمال الشَّريعَةَ، مُشدِّداً على البِرِّ الذي يأتي من خلال الإيمان به وعمال المَحبَة، وعلى ضرورة أصالة الحياة الرُّوحية وصحتها؛ أمَّا عبارة "بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين" فتشير إلى البِرّ عن طريق الأعمال وليس عن طريق الإيمان كما جاء في تعليم بولس الرسول " في حينِ أَنَّ إِسرائيلَ الَّذي كانَ يَسْعى إلى شَريعةِ بِرٍّ لم يُدرِكْ هذه الشَّريعَةَ. ولِماذا؟ لأَنَّه لم يَنتَظِرِ البِرَّ مِنَ الإِيمان، بل ظَنَّ إِدْراكَه بِالأَعمال، فصَدَمَ حَجَرَ صَدْم " (رومة 9: 31-32) " انهم جَهِلوا بِرَّ الله وحاوَلوا إِقامةَ بِرِّهم فَلم يَخضَعوا لِبرِّ الله" (رومة 10: 3)، حيث الزم الكتبة والفِرِّيسيِّينَ الناس بحفظ حرف الشَّريعَةَ وابتعدوا عن روحها، وخاصة في تسع قضايا: القَتْل، والزنى والطلاق، والقسم، والانتقام، والمَحبَة والصدقة والصلاة والصوم. (متى 5: 20-6:4). وأكَّد بولس الرسول ذلك بقوله "اليَهودِيُّ هو بِما في الباطِن، والخِتانُ خِتانُ القَلْبِ العائِدُ إلى الرُّوح، لا إلى حَرْفِ الشَّريعَةَ. ذاكَ هو الرَّجُلُ الَّذي يَنالُ الثَّناءَ مِنَ الله، لا مِنَ النَّاس (رومة 2: 29). أمَّا عبارة "الكَتَبَةِ" فتشير إلى علماء الناموس المُخوّلين على تعليم الشَّريعَةَ للشعب؛ أمَّا عبارة "الفِرِّيسيِّينَ" الكلمة من الآرامية הַסּוֹפְרִים (معناها المنعزل) فتشير إلى إحدى فئات اليهود الرئيسية الثلاث التي كانت تناهض فئتي الصدوقيين والأسينيين، وكانت أضيقها رأياً وتعليماً (أعمال الرسل 26: 5). أمَّا من حيث العقيدة فكانوا يقولون بالقدر ويجمعون بينه وبين إرادة الإنسان الحرّة. وكانوا يؤمنون بخلود النفس وقيامة الجسد ووجود الأرواح (أعمال الرسل 23: 8) ومكافأة الإنسان ومعاقبته في الآخرة بحسب صلاح حياته الأرضية أو فسادها، وحصروا الصلاح في طاعة الشَّريعَةَ فجاءت ديانتهم ظاهرية ليست قلبية داخلية مجَّانية؛ بالتالي فهم متظاهرون بالتقوى. وقالوا بوجود تقليد شفوي عن موسى تناقله الخلف عن السلف. وزعموا أنه معادل لشريعته المكتوبة سلطة أو أهمّ منها. فجاء تصريح المسيح بأن الإنسان ليس ملزماً بهذا التقليد (متى15: 2 و3 و6). واشتهر مُعظمهم بالرِّياء والعجب. فتعرضوا عن استحقاق للانتقاد اللاذع والتوبيخ القاسي. فيوحنا المعمدان دعاهم "أولاد الأفاعي"، ووبَّخهم السَّيد المسيح بشدَّة على ريائهم وادعائهم البِرّ كذباً وتحميلهم الناس أثقال العرضيات دون الاكتراث لجوهر الشَّريعَةَ (متى 16: 6 و11 و12 و23: 1-39). ومع هذا فكان في صفوفهم دوماً أفراد مخلصون، وذوو أخلاقٍ سامية، منهم بولس في حياته الأولى (أعمال الرسل 23: 6) ومعلمه جِمْلائيل، وكانَ مِن مُعَلِّمي الشَّريعَة (أعمال الرسل 5: 34). أمَّا عبارة "لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات" فتشير إلى عدم تملُّكهم الحياة الأبدية التي وعد بها يَسوع المسيح لعدم إيمانهم "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16). 21 سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: لا تَقْتُلْ، فإِنَّ مَن يَقْتُلُ يَستَوجِبُ حُكْمَ القَضـاء. تشير عبارة "سـَمِعْتُمْ" إلى التعارض الذي يُلمِّح إليِّه يَسوع بين تقليد خارجي لتفسير الشَّريعَةَ حسب الكتبة والفِرِّيسييِّن، وبين تفسيره، وقد تمّ تكرار هذه العبارة ست مرات (متى 5: 21، 27، 31، 33، 38، 43). لكن لا يكمن التعارض بين تعليم العهد القديم والعهد الجديد، إنَّما بالتفسير؛ أمَّا عبارة "لِلأَوَّلين" في الأصل اليوناني ἀρχαίοις (معناها الذين سبقونا) فتشير إلى آباء الأمَّة اليهودية الذين قبلوا الشَّريعَةَ على يد موسى والأجداد الذين صدرت عنهم السُنَن، ولا تشير إلى الشيوخ πρεσβύτερος, (متى 16: 21) أي أعيان الشعب. أمَّا عبارة "لا تَقْتُلْ" في اللغة اليونانية φονεύσεις (معناها نزع الحياة البشرية) فتشير إلى القَتْل المُتعمّد والانتقام الشخصي، وهذا أمر تُحرِّمه الوَصِيَّة السادسة من الوَصايا العشر (خروج 20: 13)؛ أمَّا عبارة " مَن يَقْتُلُ" فتشير إلى شرح الكتبة والفِرِّيسيِّين الذين يحدُّوا من تطبيقات الوَصِيَّة بالقول بأن المقصود هو القَتْل الفعلي، بمعني سفك دم الضحية بقتل الآخرين بأي دافع من الدوافع أو بقتل الذات بالانتحار. اقتصروا الوَصِيَّة على القَتْل عمدا وفعلا الذي هو وحده المُستوجب الحكم. أمَّا عبارة "حُكْمَ القَضـاء" فتشير إلى محكمة بشرية وإلهيَّة، كما أوضّح بولس الرسول إلى أهل روما "ومع أَنَّهم يَعرِفونَ قضاءَ اللهِ بِأنَّ الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعمالِ يَستَوجِبونَ المَوت، فهُم لا يَفعَلوَنها فحَسبُ، بل يَرضَونَ عنِ الَّذينَ يَعمَلوَنها"(رومة 1: 32). فالقاتل يستحق دينونة الله وعقابه. 22 أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم: مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء، وَمَن قالَ لأَخيهِ: ((جاهِل)) اِستَوجَبَ حُكمَ المَجلِس، ومَن قالَ لَه: ((يا أَحمَق)) اِستَوجَبَ نارَ جَهنَّم. لا تشير عبارة "أمَّا أَنا فأَقولُ لَكم" إلى يَسوع الذي نًـقـَضَ الشَّريعَةَ أو أضاف إليها آراءه الشخصية، بل تشير إلى مفهوم اشمل من مفهوم الكتبة والفِرِّيسيِّينَ وهو غرض الله من هذه الوَصِيَّة في المكان الأول. ولم يجرؤ نبي أن يقول " أمَّا أَنا فأَقولُ لَكم "، إنما يقول النبي "هكذا يقول الرب". هذه الآية وحدها تُثبت لاهوت المسيح. فهل يوجد إنسان يمكنه أن يُغيِّر أو ينقص أو يزيد حرفا على ما قاله الله، إلاَّ أن كان هو الله؛ أمَّا عبارة "غَضِبَ" في أصل النص اليوناني ὀργιζόμενος فتشير إلى ظُهُورُ عَلاماتِ الانْفِعَالِ وَالتَّشَنُّجِ والْمَيْلِ إلى الاعْتِدَاءِ والعنف، وغير ذلك من النتائج المدمِّرة مما يؤدي إلى القَتْل، وبذلك يكون المَرء الغضوب قد ارتكب القَتْل في قلبه. فعند الله الانفعال الداخلي هو كالعمل الخارجي. ويقصد الرب يَسوع هنا أن الخَطيئَة الحقيقية يقترفها القلب قبل وصولها إلى العمل الخارجي. ويُعتبر هذا الإنسان في نظر الله مُذنباً كالذي يقتل فعلا. وليس بوسع الشَّريعَةَ الموسَوِّية إلاّ أن تكبح الأعمال الخارجية، أمَّا يَسوع فيعالج القلب الشرير في الإنسان ويُغيّره، كما أوضح ذلك بولس الرسول "الَّذي لم تَستَطِعْهُ الشَّريعَةَ، والجَسَدُ قد أَعيْاها، حَقَّقَه اللهُ بإِرسالِ ابِنه في جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدنا الخاطِئ، كَفَّارةً لِلخَطيئَة. فَحَكَمَ على الخَطيئَةِ في الجَسَد لِيَتِمَّ فِينا ما تَقتَضيهِ الشَّريعَةَ مِنَ البِرّ، نَحنُ الَّذينَ لا يَسلكُونَ سَبيلَ الجَسَد، بل سَبيلَ الرُّوح" (رومة 8: 3-4). وبهذا المعنى تُكمِّل مبادئ يَسوع الشَّريعَةَ، لأنها تعنى بأصل الموضوع وتُمكِّن من تحقيق أهداف الشَّريعَةَ؛ أمَّا عبارة "أَخيهِ" فتشير إلى أحد البشر كون الجميع من إنسان واحد وجميعهم خليقة الله. فبناء عليه، يجب أن نعتبر جميع الناس إخوتنا ونعاملهم كذلك. أمَّا عبارة "حُكْمَ القَضاء" فتشير إلى العقوبات التي يصدرها محاكم اليهود، وهي مؤلفة من سبعة أعضاء، كما جاء في التوراة "أَقِمْ لَكَ قُضاةً وكَتَبَةً في جَميعِ مُدُنِكَ الَّتي يُعْطيكَ الرَّب إِيَّاها لأَسْباطِكَ، فيَحكُمونَ فيما بَينَ الشَّعبِ حُكْمًا عادِلاً" (تثنية الاشتراع 19: 18). ذكر يَسوع هنا الحكم على انفعال البغض؛ أمَّا عبارة "يا جاهِل" في الأصل اليونانية Ῥακά، وفي الأصل العبري רֵקָא (معناها رأس فارغ، بلا دماغ، صاحب تصرف ارعن، لا خَيرَ فيه" (2صموئيل 6: 20) فتشير إلى كلام الغَضَبُ، يمتهن بها الشخص على سبيل الاحتقار. وقد سأل القديس أوغسطينوس رجلًا عبرانيًا عن كلمة "رقا רֵקָא "فأجابه أنها لا تعني سوى مجرّد تعبير عن انفعال الغضب يصعب ترجمته إلى لغة أخرى. وأمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فرأى أن هذه الكلمة سريانية كانت مستخدمًة في الحديث مع الخدم والأشخاص الذين من الطبقات الدنيا كتعبير عن عدم الاحترام للشخص المُوجّه إليه الحديث. أمَّا عبارة "حُكمَ المَجلِس" في الأصل اليوناني συνεδρίῳ ( السنهدريم أو المجمع) فتشير إلى المجلس الأعلى الذي يتألف من 71 عضواً، ويعقد جلساته في اورشليم، وهو غير المحاكم الصغرى المؤلفة من 23 عضواً والمنتشرة في أنحاء البلاد "فسَيُسلِمونَكم إلى المَجالس" (متى 10: 17). في المحاكم الصغرى يكون الاتهام مَشكوكًا فيه، فيبحث القاضي في الاتهام ليتأكّد من صحّته، أمَّا المجلس الأعلى فيحمل نوعًا من التأكّد أن الاتهام ثابتٌ على المُتَّهم، فيُحدِّد القضاة الجزاء الذي يسقط تحته. وكان حكم محاكم القرى يمكن نقضه أمام المجلس الأعلى، ولكن حُكم المجلس الأعلى لا يُنقض. ويستعمل الرب يَسوع التدرج القضائي ليوضِّح مدى جسامة الذنب، انطلاقاً من حكم القضاء إلى الحكم المجلس إلى محاكم القرى. أمَّا عبارة "يا أَحمَق" في أصل النص اليوناني Μωρέ (تعبّر عن الغضب بكلمة ذم وكلمات جارحة للإدانة) فتشير إلى شتيمة مألوفة، تتضمن كراهية قاتلة، فإن من يلفظها يستحق عقابًا أعظم. وكانت هذه اللفظة تتضمن عند اليهود معنى جسيما يهدف إلى التمرّد على الله، كما جاء في كلام موسى النبي "أَبهذا تُكافِئُ الرَّبَّ أَيُّها الشَّعبُ الأَحمَقُ الخالي مِنَ الحِكمَة؟ (تثنية الاشتراع 32: 6)، لذلك جُعلت على مستوى القَتْل. ومن هنا ربط يوحنا الرسول البغض مع القَتْل " كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل وتَعلَمونَ أَنْ ما مِن قاتلٍ لَه الحَياةُ الأَبدِيَّةُ مُقيمَةٌ فيه"(1يوحنا 3: 15)؛ لهذا يوصينا بولس قائلا: "لا تَخرُجْ كَلِمَةُ شرٍّ مِنْ أفواهِكُم، بَل كُلُّ كَلِمَةٍ صالِحَةٍ لِلبُنيانِ عِندَ الحاجَةِ وتُفيدُ السَّامعينَ. لا تُحزنوا رُوحَ الله القُدُّوسَ الذي بِه خُتِمتُم ليَومِ الفِداءِ" (أفسس 5: 29-30). أمَّا عبارة "جَهنَّم " في الأصل اليوناني γέεννα مشتقة من العبرية גֵּיהִנּם وهي مركّبة من كلمتين عبريّتين أي "داخل هنوم". وهِنُّوم هو وادٍ هنّوم في اورشليم كانت تُقرَّب فيه مُحرقات أطفالاً إكراما للإله مولك (2 أخبار 28: 21). وفي هذا الوادي أجاز أحاز الملك (2 ملوك 16: 3) ومنسي الملك (2 أيام 33: 6) أولادهما بالنار، ونزع يوشيَّا الملك حرمة هذا الوادي (2 ملوك 23: 10)، فتحوّل إلى مزبلة دائمة الاشتعال لحرق نفايات المدينة. وأصبح الوادي صورة للهلاك الأخير ورمز لعنة (ارميا 7: 31)، بل لعنة أبدية استعمله إنجيل متى عشر مرّات ليدلَّ بها على الهلاك والعذاب الأبدي. وأراد يَسوع في هذه الآية أن يُشدِّد على ما تتضمنه وَصِيَّة القَتْل، كما يوضحه يوحنا الرسول " كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل وتَعلَمونَ أَنْ ما مِن قاتلٍ لَه الحَياةُ الأَبدِيَّةُ مُقيمَةٌ فيه" (1 يوحنا 3: 15). نرى أنَّ الديانة المسيحية تأمر باللطف والرقة والإنسانية نحو الجميع، وتعلم أن خلاصة جميع الوَصايا هي المَحبَة. لا يقول يَسوع إن فلانا يستوجب الموت، بل يعلن أنه يخضع لحكم إلهي "مع أَنَّهم يَعرِفونَ قضاءَ اللهِ بِأنَّ الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعمالِ يَستَوجِبونَ المَوت، فهُم لا يَفعَلوَنها فحَسبُ، بل يَرضَونَ عنِ الَّذينَ يَعمَلوَنها" (رومة 1: 32)؛ 23 فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، تشير عبارة "كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ" إلى صيغة المفرد وتشكل طريقة عملية لممارسة الوَصِيَّة العامة، وهي تقديم ذبيحة لله بمقتضى الشَّريعَةَ الموسَوِّية؛ أمَّا عبارة " المَذبَح" في الأصل اليوناني θυσιαστηρίου وفي العبرية הַמִּזְבֵּח فتشير إلى المصالحة مع الله؛ الصليب الذي عليه مات المسيح قد شُبِّه بمذبح (عبرانيين 13 :10). فما معنى المصالحة مع الله لا تسبقها مصالحة مع القريب؟ كما أنَّ المَحبَة القريب هي علامة مَحبَة الله، كذلك لا تكون المصالحة مع الله صادقة إن لم تجد نتيجتها في المصالحة مع القريب. أمَّا عبارة " ذكَرتَ" فتشير إلى كل من يُهيئ قلبه لتقديم عبادة مقبولة يتذكر ما عليه من الواجبات. أمَّا عبارة "لأَخيكَ" فتشير إلى صاحبك أو أخيك حقا. أمَّا عبارة " هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً" فتشير إلى واجبك تجاه أخيك وليس أن كان لك شيء على أخيك"، كما يؤكده مرقس الإنجيلي "وإِذا قُمتُم لِلصَّلاة، وكانَ لكم شَيءٌ على أَحَدٍ فاغفِروا لَه، لِكَي يَغِفرَ لَكم أَيضاً أَبوكُمُ الَّذي في السَّمواتِ زَلاَّتِكم" (مرقس 11: 25). ومضمون الكلام أنَّه إذا شهد علينا ضميرنا باننا أسَأنا إلى أخينا بشيء ألاَّ نتأخر حتى يأتي هو ويعاتبنا بل يجب أن نعمل بكل ما يأمرنا به الضمير، ولا ندع البغض يدخل في قلبه. 24 فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك. تشير عبارة "قُربانَكَ" إلى كل ما كان يُقدَّم على المذبح سواء كان ذبيحة للكفارة أو تقدمة للشكر. أمَّا عبارة "اذهَبْ أَوَّلاً" فتشير إلى أخذ المبادرة أنتَ في المصالحة، ولا تتوقع مجيء أخيك إليك. أمَّا عبارة "فصالِحْ" فتشير إلى طلب المسامحة أو منحها وبذل كل طاقتك لإزالة سبب الاختلاف. إن الله لا ينظر إلى القربان فقط بل إلى روح من يُقدّمه. لذلك إن الله لا يمكن أن يتقبل عبادة أمرئ لا يكون في علاقة قويمة مع الآخرين. فهو أتى ليجمع الإخوة، وهو يريدنا أن نتصالح مع بعضنا البعض وأن نعيش الأخوة الحقيقية لنكون حقيقة أبناءً لله. لذلك يرفض الله أعمال المَحبَة التي نُبديها تجاهه تعالى، ونحن نحقد ونضمر الشرّ تجاه إخوتنا. وفي هذا الصدد يقول يوحنا الرسول " إِذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا 4: 20). فالمَحبَة للناس هي أعظم ذبيحة لله، وهي دليل حُبّنا لله، وبدونها لا تُقبل أي ذبيحة. لأنه دون المَحبَة لا يُمكن أن تقوم الشركة، ولا تُقبل تقدمة. ويُعلق القديس ايرونيموس "لا أعرف سلامًا بغير حب، ولا شركة دون سلام". يريد يَسوع منا أن نسرع إلى مبادرة خصمنا ونذهب للقائه لمصالحته، ولا نكتفي أن نكون على أهبة الاستعداد للمصالحة عندما يمدّ خصمنا يده لمصالحتنا. ويُعلق القديس أوغسطينوس "إن كنت في عداوة فصالح. إن جاءتك الفرصة للوصول إلى مصالحة، لا تترك نفسك في نزاع". ونفهم من قول الرب أن الخصومة تمنعنا من الصلاة والتناول وتقديم الذبيحة. أمَّا عبارة "ثُمَّ عُد" فتشير إلى المصالحة التي تجعل تقديم العبادة ضروري لان القيام بواجباتنا للناس لا يعفينا من القيام بواجباتنا لله. ونستنتج من ذلك، انه بعد المصالحة يقبل الله قربان العابد لكونه تعالى راضيا عنه. 25 سارعْ إلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق، لِئَلاَّ يُسلِمَكَ الخَصمُ إلى القاضي والقاضي إلى الشُّرطِيّ، فتُلْقى في السِّجْن. تشير عبارة "سارعْ إلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق" إلى ضرورة المصالحة، كما جاء في سفر الأمثال "لا تبرِزه عاجِلاً إلى الدَّعْوى وإِلاَّ فماذا تَصنَعُ في آخِرِ الأَمْر حينَ يُخْزيكَ قَريبُكَ؟ " (أمثال 25: 8)؛ ومن الناحية الرُّوحية، يدل الاستعجال في التوبة قبل فوات الأوان على أن الإنسان يجب ألاَّ يكون على مخاصمة مع أحد عند مثوله أمام الله الدّيان، لئلا يتعرّض للهلاك الأبدي (لوقا 12: 57-59)؛ أمَّا عبارة " إِرضاءِ خَصمِكَ "فتشير إلى شرح الوَصِيَّة السادسة " لا تَقتُل" (خروج 20: 13)؛ لان اللجوء إلى المحاكم هو مخالف لروح هذه الوَصِيَّة، لان الدعاوي الطفيفة تتجسَّم كلما طالت مُدَّتها. أمَّا عبارة " في الطَّريق " فتشير إلى اغتنام الفرصة الأخيرة للاتفاق والمصالحة قبل المحاكمة. أمَّا عبارة "يُسلِمَكَ الخَصمُ" فتشير إلى الخَصم الذي يُسلمك إلى القاضي إمَّا بالشكاية أو بطلب إصدار الحكم. أمَّا عبارة " الخَصمُ " فتشير إلى الوَصِيَّة الإلهيّة، فإنها تدخل كطرفٍ في الخصومة مع الإنسان، مُحب الخَطيئَة، ويُعلق القديس أوغسطينوس "أي شيء سيكون خصمًا لمحبِّي الخَطيئَة مثل وَصايا الله، أي شريعته المدوّنة في الكتاب المقدّس، ذلك الكتاب الذي وُهب لنا ليكون معنا في الطريق، أي في الحياة الحاضرة، لكي ننفذ تعاليمه سريعًا ولا نخالفها. حتى لا يسلّمنا إلى القاضي؟"؛ أمَّا عبارة " القاضي " فتشير إلى الذي يعطي حكمه في كلّ مدينة أو قرية، لإقامة العدالة بين الأفراد، وهو رمز إلى الديَّان، أي السيّد المسيح (يوحنا 5: 22)؛ وأمَّا عبارة "الشُّرطِيّ" فتشير إلى شخص مُخوَّل من قبل الدولة لحماية الممتلكات والحدِّ من الاضطرابات المَدَنِيَّة والمحافظة على النظام وهي رمز للملائكة؛ وعبارة " السِّجْن " تشير إلى "الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة " (متى 8: 12). ولا يجوز أن نقف أمام القاضي الدَّيَّان الذي هو الرب ونحن في حالة خصومة. حينئذ، يكون مصيرنا الحكم الأبدي. لكن ينبغي أن يُظهر الإنسان المَحبَة والصفح بسخاء للجميع (متى 18: 32-35) خاصة إنَّ الرغبة اليوم في سحق الآخر كسبيل لحل النزاعات في ازدياد مطرد. ومن هنا نستنتج انه على الإنسان أن يفضل إبعاد البغض في قلبه وقلب خصمه وإيجاد طريقة للاتفاق مع خصمه ولو بترك بعض حقوقه على انتظار نتيجة المحاكمة المجهولة. ينادي الرب يَسوع بالمصالحة، ويوصي أن نُصلح أمورنا مع الآخرين قبل أن نُدعى للمثول أمام الله لكيلا يصل ظلمنا إلى الدَّيان فنلقى في السجن الأبدي. هذه هي جِدّة الإنجيل. 26 الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لن تَخرُجَ مِنه حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس. تشير عبارة "لن تَخرُجَ مِنه حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس" إلى طريق الحكمة في الأمور الدنيوية. فاذا كان الاتفاق في هذه الحياة مع الأخ الذي وجَّهنا الإساءة إليه ضروريا فمن الأفضل أن نسامحه قبل أن نقف أمام القاضي العظيم في السَّماء والحكم علينا بالعقاب الأبدي. أمَّا عبارة " حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس" فتشير إلى إيفاء الدين كله. فإذا كان ممكن الإيفاء في الديون المالية، لكن يتعذر الإيفاء عن الخطايا سوى بوساطة يَسوع الحامل خطايا العالم. أمَّا عبارة " فَلْس " في الأصل اليوناني κοδράντην (معناها " رُبع آس") فتشير إلى عملة رومانية يُشترى بها عصفوران (متى 10: 29)؛ أمَّا عبارة "لن تَخرُجَ مِنه" فتشير إلى المرء الذي لا يخرج من الظلمة البرانية حيث لا يقدر أن يفي العدل الإلهي حقّه. لذلك إذا حدث غَضَب وتهور وانتقام، المصالحة مع الآخرين خيرٌ من تطوُّر الأمور حتى السجن. فمن الأفضل أن تصالح أخاك هنا وأنت في حياتك على الأرض، قبل أن تُلقى بسبب ذلك في سجن الظلمة البرانية الذي لن تخرج منه. وتبيِّن هذه الآية النتائج الجسيمة من الإبطاء في فَضِّ الدعاوي. 27 سَمِعْتُم أَنَّه قيل: لا تَزْنِ. تشير عبارة " لا تَزْنِ" في المعنى الموسوي إلى كل اتصال جنسي غير شرعي. كأن يضاجع رجل امرأة غيره، أو فتاة مخطوبة لرجل آخر، أو فتاة حرة غير مخطوبة الخ. وكان عقاب هذه الخَطيئَة الرجم والموت (الأحبار 20: 10 وتثنية الاشتراع 22: 22-29). وفي المعنى المجازي تشير إلى الانحراف عن العبادة للإله الحقيقي إلى الآلهة الوثنية. أو كل عدم أمانة بالنسبة للعهد مع الله (ارميا 3: 8 وحزقيال 23: 37 وهوشع 2: 2-13). وقد وردت هذه اللفظة في الكتاب المقدس كثيراً للدلالة على خيانة شعب الله ونكثهم للعهود المقدسة. 28 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه. تشير عبارة "مَن نظَرَ إلى امرأَةٍ" إلى نظرة شهوانية متعمِّدة التي فيها يتبيَّن من خلالها وجود رغبة شديدة وميل إلى فِعْل الملذّات الجسدية. ويصف بطرس الرسول أصحاب هذه النظرة بقوله " لَهم عُيونٌ مَملوءةٌ فِسْقًا مَنْهومَةٌ بِالخَطيئَة، يَفتِنونَ النُّفوسَ الَّتي لا ثَباتَ لَها" (2 بطرس 2: 14). وخير مثال على هذه النطرة هو أثم داود الملك الذي قادته النظرة إلى الزنى والقَتْل (2 صموئيل 11)، ويُعلق القديس أوغسطينوس "يجب أن نلاحظ أنه لم يقل يَسوع "من اشتهى امرأة"، بل "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها" أي ينظر إليها بهذه النيّة، فهذه النظرة ليست إثارة للذّة الجسديّة بل تنفيذًا لها، لأنه بالرغم من ضبطها فستتمَّ لو سمحت الظروف بذلك"؛ أمَّا عبارة "بِشَهْوَة " فتشير إلى الشَّهوة التي تحاول استلاب المرأة من زوجها. النظرة بما فيها من شَهوَة هي زنى، والزنى يبدأ بالعين، ويتوصل في القلب. ويعلق القديس إقليمنضس الإسكندري "الزنى هو ثمرة الشَهوَة الذي جذورها الشرّير". أمَّا عبارة "زَنى" فتشير في المعنى المسيحي إلى كل نجاسة في الفكر والكلام والأعمال. وكل ما يشتم منه شيء من ذلك، ولعلَّ هذا المعنى مأخوذ من الوَصِيَّة السابعة (خروج 20: 14 وتثنية الاشتراع 5: 18) بتفسير المسيح في موعظته على الجبل (متى 5: 27 -28). أمَّا عبارة " في قَلبِه " فتشير إلى مركز الخَطيئَة، لان القلب مركز الحياة ومحور العواطف المُنحرفة. إن العمل الشرير هو نتيجة القلب الشرير. والزنا يدنِّس هيكل الرُّوح القدس. تعالج الشَّريعَةَ الموسَوِّية الأعمال الخارجية بينما يَسوع يُركز على البواعث الداخلية. إن اشتهاء ممارسة الجنس مع أي شخص آخر غير شريك الحياة هو زنى فكري، وبذلك فهو خَطيئَة. لذلك الأمانة مع شريك الحياة بالجسد، ولكن دون الأمانة بالفكر هي خيانة لثقة الزواج السليم. إن الله يحكم على قلوبنا وعلى أفعالنا معا، لان الولاء الحقيقي يكمن في القلب. وبموجبه نكون أبرارا في مواقفنا التي يراها الناس، كما في أفعالنا التي يراها الجميع. يقابل يَسوع هنا تعليمه مع تعليم الفِرِّيسيِّينَ، لأنهم علموا انه لا يُحسب متعدياً على الوَصِيَّة ألاَّ من زنى فعلا. وأمَّا هو فيقول أنَّ معنى الوَصِيَّة هو أن الطهارة الداخلية واجبة كالخارجية. فالشَّريعَةَ لا تقتصر على عملنا بل على نيَّاتنا وقلوبنا. 29 فإِذا كانت عينُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقلَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضْوٌ مِن أَعضائِكَ خَيْرٌ لَكَ مِن أَن يُلقى جَسَدُكَ كُلُّه في جَهنَّم. تشير عبارة "عينُكَ " إلى صيغة المفرد وتشكل مثلا على طريقة عملية لممارسة الوَصِيَّة العامة، وهي "لا تزن"؛ والعين رمز للإدراك الفكري وللنظر الداخلي وتدلّ هنا على وسيلة إغواء بالنظر بلذة وشَهوَة إلى منظر محبوب؛ ويعلق القديس أوغسطينوس "يقصد يَسوع بالعين شيئًا محبوبًا، فلقد اعتاد الراغب في التعبير عن محبّته لآخر أن يقول: "إنّني أحبّه كعينيّ أو حتى أكثر من عينيّ" أمَّا عبارة " اليُمنى " فتشير إلى العين الفضلى عند الناس، ليس هناك تفسير للعين اليُمنى أكثر ملاءمة من أن يقصد بها الصديق المحبوب حبًا شديدًا، الذي تصبح علاقته كعلاقة العضو بالجسد"؛ أمَّا عبارة " حَجَرَ عَثْرَةٍ " فلا تشير إلى قدوة سيئة بل إلى عائق أو فخ (مزمور 124: 7) سبب سقوط (أشعيا 8: 14-15). والعالم قد يكون حجرة عثرة، كما جاء في قول المسيح:" يُرسِلُ ابنُ الإِنسانِ مَلائكتَه، فَيَجْمَعونَ مُسَبِّبي العَثَراتِ والأَثَمَةَ كافَّةً، فيُخرِجونَهم مِن مَلَكوتِه"(متى 13: 41)؛ أمَّا عبارة " فاقلَعْها" فلا تشير إلى المعنى الحرفي، ولكن إلى ضرورة الأخذ بالوسائل الكبيرة لمقاومة الخَطيئَة وإنكار الذات والتخلُّص من أية شَهوَة خاطئة باي ثمن وقطع أسباب ارتكاب الخَطيئَة؛ أمَّا عبارة " أَلْقِها عنك" فتشير إلى أعضاء الجسم التي تصبح أدوات في خدمة الخَطيئَة حينئذ نستغني عنها. وأمَّا الخير والشر هما في قلب الإنسان أي في عمق أعماق الإنسان، كما جاء في قول يَسوع " فَمِن فَيضِ القَلْبِ يتكلَّمُ اللِّسان"(متى 12: 34). أمَّا عبارة " فَلأَنْ يَهلِكَ عُضْوٌ مِن أَعضائِكَ خَيْرٌ لَكَ مِن أَن يُلقى جَسَدُكَ كُلُّه في جَهنَّم" فتشير إلى خسارة عضو من أعضائنا برضانا خير من خسارة الجسد كله إلى الآبد رغمًا منا. إن إنكار النفس ينتج عنه خير روحي وجسدي وزمني وأبدي. إن لغة هذه الآية هي لغة مجازية استعارية ويجب ألاّ نخذها بالمعنى الحرفي. فالمطلوب هو التخلص من عاداتنا السيئة وعدم السماح للخَطيئَة أن تجلب علينا عقابا أو دينونة. 30 وإِذا كانت يَدُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقطَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضوٌ مِن أَعضائِكَ خَيرٌ لكَ مِن أَن يَذهَبَ جسدُكَ كُلُّه إلى جَهنَّم. تشير عبارة "يَدُكَ اليُمنى" فتشير إلى الخير ومبدأ الذكوري ولكن هنا لها معنى مجازي وهي مصدر تجربة واستعمالها للعصيان والخَطيئَة (2 صموئيل 20: 21). أمَّا عبارة " فاقطَعْها وأَلْقِها عنك" فتشير إلى لغة مجازية استعارية تعني تخلص من أية شَهوَة خاطئة باي ثمن، ويجب أن لا نخذها بالمعنى الحرفي. لا يقصد السيد المسيح قطع اليد أو قلع العين فعلًا، لكن المقصود أن نضبط نظراتنا وشهواتنا وأفعالنا، وقطع يد الظلم والانتقام ونحيا كأموات أمام الخَطيئَة، وهذا ما يؤكده بولس الرسول "أحسَبوا أَنتُم أَنَّكم أَمواتٌ عنِ الخَطيئَة أَحْياءٌ للهِ في يَسوع المسيح"(رومه 11:6) وأيضًا " أَميتوا إِذًا أَعضاءَكمُ الَّتي في الأَرض بما فيها مِن زِنًى وفَحْشاءَ وهَوىً وشَهوَة فاسِدَةٍ وطَمَعٍ وهو عِبادَةُ الأَوْثان" (قولسي 5:3). ومن هذا المنطلق، فان الدين المسيحي لا يدعو إلى احتقار الجسد، لكن إذ كان الجسد يُشكل مصدر تجربة فعلينا ضبط شهواته. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " الجَسَدَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الرُّوح، والرُّوحَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الجَسَد: كِلاهُما يُقاوِمُ الآخَرَ حتَّى إِنَّكم تَعمَلونَ ما لا تُريدون " (غلاطية 5: 17). 31 وقد قيل: مَن طلَّقَ امرأَتَه، فلْيُعْطِها كِتابَ طَلاق. تشير عبارة "كِتابَ طَلاق" إلى شهادة بطهارة الزوجة المطلقة حتى لا تُرجم (عدد 5: 31)، وبهذه الشهادة يُمكنها أن تتزوَّج رجلًا أخر. ولذلك يكون كتاب الطلاق وسيلة لتهدئة مشاعر الزوج ورجوعه عن الطلاق، إذ يشعر الرجل حين يكتب هذا الكتاب إن امرأته ستصير لآخر فيعدل عن نيته بطلاقها. وكتاب الطلاق عبارة عن خلاصة الوَصايا المدوّنة في سفر تثنية الاشتراع "إذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ولَصرِفْها مِن بَيته " (تثنية اشتراع 24: 1). امر موسى بكتاب طلاق لمنع الطلاق على الفور وتجنبا للشر الأعظم " مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة (مرقس 10: 5). إن الشَّريعَةَ الموسَوِّية تكيّفت مع طبيعة الإنسان الفاسدة. وبما أنَّ يَسوع جاء يعالج هذه الطبيعة الشريرة رفض هذا التكيُّيف واستعاد المستوى الأصلي فحرّم الرب الطلاق بتاتاً. لان الطلاق امرٌ ضارٌ ومُدمِّرٌ في أيامنا كما كان في أيام يَسوع المسيح، فقد قصد الله أن يكون الزواج التزاما يستمر طيلة العمر "يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا"(التكوين 2: 24). وفي الواقع، كان الطلاق مكروهًا لدى اليهود كما يقول ملاخي النبي "لا تَغدُرْ بِامرَأَةِ صِباك لِأَنَّه إِذا طَلَّقَ أَحَدٌ عن بُغْض، قالَ الربُّ إِلهُ إِسْرائيل. غَطَّى لِباسَه عُنفاً " (ملاخي 2: 15-16). ومن أمثال الربيين "يفيض المذبح دموعًا عندما يطلق إنسان امرأة شبابه ". وفي الحديث الشريف يقول " إِنَّ أبغضَ الحَلالِ إلى اللهِ الطَّلاقُ" (رواه ابن عدي، في الكامل في الضعفاء، عن عبد الله بن عمر، الرقم: 5/521). 32 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى، ومَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى. تشير عبارة " حالةِ الفَحْشاء " في الأصل اليوناني πορνεία إلى ثلاثة معاني: المعنى الأول إلى عيب او أمر مشين (تثنية الاشتراع 24: 1)، وفي هذه الحالة يُحلل نص التثنية صرف المرأة لأسباب شتّى ولكل علة. والمعنى الثاني تشير إلى الزنى أي خيانة المرأة لزوجها، والمعنى الثالث هو الجماع بالحرام أي عدم الأمانة من جانب امرأة قبل الزواج. فاذا اكتشف هذا الأمر عقب الزواج تُلزم كلمات الرب الزوج أن يطلق المرأة لأنه في نظر الله لم يحصل الزواج (أحبار 18: 6-8). وقد اختلفت مدارس التفسير اليهوديّة في تقديم الأسباب التي تبيح الطلاق. فمدرسة شمعي تميل إلى التضييق، فلا تسمح بالطلاق إلا في حالة فقدان العفّة. أمَّا مدرسة هليل فكانت متحرّرة للغاية. يمكن للرجل أن يطلق امرأته لأي سبب مهما كان تافهًا مثل إفسادها الطعام أو خروجها برأس عارية، بل ويستطيع أن يطلقها بلا سبب إن جذبته إنسانة أخرى. أمَّا عبارة "عرَّضَها لِلزِّنى" فتشير إلى جعل الزوجة تحت تجريه الزواج ثانية ، وهي لا تزال مرتبطة بالأول بحسب شَريعَة الله. أمَّا عبارة "مَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى" فتشير إلى زنى لأنه تزوَّج امرأة غيره. ويؤكد ذلك لوقا الإنجيلي " كُلُّ مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى، ومَن تَزَوَّجَ الَّتي طَلَّقَها زَوجُها فقَد زَنى". (لوقا 16: 18). تقوم أهمية هذه الآية على التذكير بعدم انفساخيه الاتحاد الزوجي، علما بان التقليد الأرثوذكسي يجد في هذه الآية أساس للتحقّق في حالة الزنى من وجود طلاق. 33 سَمِعتُم أَيضاً أَنَّه قِيلَ لِلأَوَّلين: ((لا تَحْنَثْ، بل أَوفِ لِلرَّبِّ بِأَيْمانِكَ)) تشير عبارة "لا تَحْنَثْ" Οὐκ ἐπιορκήσεις (معناه حلف اليمين أو القسم) إلى امر الشَّريعَةَ القديمة وهي "لا تَحلِفوا بِاَسْمي كَذِباً" (أحبار 19: 12)، فكانت الشَّريعَةَ القديمة تحرص على قول الإنسان الصدق دائما، لذا كانت تمنع شهادة الزور، أي اتخاذ الله شاهداً على أشياء كاذبة؛ أمَّا عبارة "أَوفِ لِلرَّبِّ بِأَيْمانِكَ" فتشير إلى امر الرب في الشَّريعَةَ القديمة "وإِذا لم تَنذِرْ نَذْرًا، فلا خَطيئَةَ علَيكَ" (تثنية الاشتراع 23: 23). الرب أحيانًا كان يأمر اليهود أن يقسموا به ليس لأنه يودّ القسم، وإنما علامة تعبّدهم له وحده دون الآلهة الغريبة، بهذا كان يمنعهم من القسم بآلهة الأمم المحيطين به "لا تَلفُظِ آسمَ الرَّبِّ إِلهِكَ باطِلاً، لأَنَّ الرَّبَّ لا يُبَرِّئُ الَّذي يَلفُظُ آسمَه باطِلاً"(خروج 20: 7). فاليهود فسروا هذه الأوامر بطريقة أضاعوا فيها معناها لزعمهم أن نكث القسم أو النذر الذي لم يُذكر فيها اسم الله ليس بمحرَّم. أمَّا عبارة "أَيْمانِكَ" في الأصل اليوناني ὅρκους σου (نذورك) إلى التعهد بفعل شيء ما أن تحقق امر ما. ولِما كان تحقيق ذلك الأمر بيد الله، فالنذر تعهد أمام الله. وللناذر الحُرِّيَّة في انتقاء نذوه، وهو يعين ذلك، ولكن عليه أن يحقق تعهده والا يغش الله. وفي الكتاب المقدس ذكر لنذور كثيرة. أولها نذر يعقوب الذي تعهد به عندما هرب إلى فدان ارأم (التكوين 28: 20-22) وآخرها نذر بولس على نفسه بان يقص شعر رأسه (أعمال الرسل 18: 18). 34 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تَحلِفوا أَبداً، لا بِالسَّماء فهِيَ عَرشُ الله، تشير عبارة "لا تَحلِفوا أَبداً" إلى عدم القسم اليمين إطلاقا، بل الاكتفاء بالكلام وحده دون القسم باسم الله، كما جاء في تعليم بعقوب الرسول "لا تَحلِفوا بِالسَّماء ولا بِالأَرضِ ولا يَمينًا أُخرى. لِتَكُنْ نَعَمُكم نَعَم ولاؤُكم لا، لِئَلاَّ تَقَعوا تَحتَ وَطأَةِ الدَّينونة"(يعقوب 5: 12). فإن كلام الإنسان إذا كان صادقا له قيمة في حد ذاته. فالحقيقة الموضوعية المتضمنة في كلامه هي التي تشهد على كلامه. لكن الشَّريعَةَ الموسَوِّية سمحت بالحلف كحماية من عدم أمانة القلب البشري. قد جاء الرب يعالج القلب البشري، لذا فان الحلف لم يبق له ضرورة، وهو قادر أن يعيد المستوى الأصلي؛ أمَّا عبارة "لا بِالسَّماء" فتشير إلى اقتباس من أشعيا النبي (66: 1). يؤكد يَسوع هنا أهمية الصدق. إذا كنا نقول الصدق دائما، فإننا لا نشعر بالحاجة إلى تأييد كلامنا بقسم أو وعد. ويُندِّد يَسوع بعقلية خاطئة تهتم بمراعاة الشَّريعَةَ مراعاة شكلية وهي عدم الحلفان اليهود باسم الله، لكن كانوا يحلفون بالسَّماء، وبالأرض وبأورشليم. لا ينهي المسيح من القسم الشرعي كواسطة لإظهار الحق (عدد 5: 19) بل يُنهي من القسم المستعمل في المحادثات العادية لغير مقتضى (خروج 22: 11)، لانَّ المسيح لم يأتِ لنقض الشَّريعَةَ الموسَوِّية. أمَّا عبارة " لا بِالسَّماء فهِيَ عَرشُ الله " فتشير إلى الحلف بالسَّماء هو كالحلف بالله ذاته لان السَّماء مقامة ومحل عرشه، لذلك يرتبط الإنسان بهذا القسم كما يرتبط بقسمه باسم الجلالة. وخير مثال على ذلك ما حدث مع بولس الرسول " فاللهُ الَّذي أَعبُدُ في رُوحي، مُبَشِّرًا بِاَبنِه، يَشهَدُ لي أَنِّي لا أَنفَكُّ أَذكُرُكُم" (رومة 1: 9) وما أَكتُبُه إِلَيكم فاللهُ شاهِدٌ على أَنِّي لا أَكذِبُ فيه (غلاطية 1: 20). 35 ولا بِالأَرضِ فهيَ مَوْطِئُ قدَمَيْه، ولا بِأُورَشليم فهيَ مَدينةُ المَلِكِ العَظيم. تشير عبارة "ولا بِالأَرضِ" إلى اقتباس من أشعيا "هكذا قالَ الرَّبّ: السَّماء عَرْشي والأَرضُ مَوطِئُ قَدَمَيَّ (أشعيا 6: 1)، فلذلك من يحلف بالأرض فكأنَّه حلف بالله لان نسبتها إليه تجعل الحلف ذا قيمة. أمَّا عبارة "مَوْطِئُ قدَمَيْه " فتشير إلى عظمة الله بالنسبة إلى الأرض؛ أمَّا عبارة " ولا بِأُورَشليم" فتشير إلى عاصمة الله في هذا الإنجيل، إذ كانت عادة اليهود أن يصلوا مُتَّجهين نحو تلك المدينة (1ملوك 8: 38)، وهي عادة قديمة لذلك كان لتلك المدينة الوقار في القسم. أمَّا عبارة " مَدينةُ المَلِكِ العَظيم " فتشير إلى اقتباس من سفر المزامير "الرَّبُّ عَظيمٌ وجَديرٌ بِالتَّسبيحِ الكَثير في مَدينةِ إِلهِنا، جَبَلِ قُدسِه" (مزمور 48: 2). كانت اورشليم مركز الهيكل وعاصمة الله، ملك الشعب المقدس. فنسبتها لله تعالى جعلت للحلف بها معنى ووقار. وظلت اورشليم محتفظة بهذا الامتياز إلى موت المسيح وقيامته. أمَّا الآن فتوجد اورشليم الجديدة "أمَّا أُورَشَليمُ العُلْيا فحُرَّةٌ وهي أُمُّنا" (غلاطية 4: 26). 36 ولا تَحلِفْ بِرأسِكَ فأَنتَ لا تَقدِرُ أَن تَجعَلَ شَعرةً واحِدَةً مِنه بَيضاءَ أَو سَوداء. تشير عبارة "ولا تَحلِفْ بِرأسِكَ" إلى توَصِيَّة السيد المسيح الذي لا يسمح لنا أن نحلف بالرأس لان كل جزء من الإنسان هو من خليقة الله. فلا داعي إذًا لأن يقسم أحد بالله، خصوصًا أن اسم الله أسمى من أن نتعامل به في الأمور المادية، بل يجب أن يُذكر اسم الله في العبادة فقط. لان من يحلف بالرأس يدّعي السلطان عليه ولله وحده السلطان. في حين سمح للكتبة والفِرِّيسيُّونَ بالقسم بالسَّماء وبالأرض وبأورشليم وبرأس الإنسان واعتبروا أن هذه الأشياء لا علاقة لها بالله. ولكن السيد المسيح هنا يعلمنا أن كل خليقة الله لها علاقة بالله. ويعتبر القديس يوحنا الذهبي الفم أن عدم الحلف هو العلامة التي تميّز المسيحي ولغته الخاصة فيقول "لنتقبّل هذا كختم من السَّماء، فيُنظر إلينا في كل موضع أننا قطيع الملك. ليتنا نعرف من نحن خلال فَمنا ولغتنا". 37 فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا. فما زادَ على ذلك كانَ مِنَ الشِّرِّير تشير عبارة "فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا " إلى توصية يَسوع أن نكون مثله، ويَسوع "لم يَكنْ نَعَم ولا، بل ((نَعَم)) هو الَّذي تمَّ فيه" (2 قورنتس 1: 19) بل كان كله "نعم" لمجد الله ، ولذلك يوصي بولس الرسول المؤمنين "لِيَكُنْ كَلامُكم دائِمًا لَطيفًا مَليحًا فتَعرِفوا كَيفَ يَنبَغي لَكم أَن تُجيبوا كُلَّ إِنسان" ( قولسي 4: 6 )؛ أمَّا عبارة "كانَ مِنَ الشِّرِّير" فتشير إلى الشيطان مصدر الشر ومُحرّكه ( 1 يوحنا 2: 13) أو إلى طبيعة الإنسان الشريرة ( رومة 12: 9 ) التي كانت الشَّريعَةَ عاجزة عن معالجتها، كما صرّح بولس الرسول "الَّذي لم تَستَطِعْهُ الشَّريعَةَ، والجَسَدُ قد أَعيْاها، حَقَّقَه اللهُ بإِرسالِ ابِنه في جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدنا الخاطِئ، كَفَّارةً لِلخَطِيئَة. فَحَكَمَ على الخَطيئَةِ في الجَسَد" (رومة 8: 3). ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي وتحليله (متى 5: 13-16) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 5: 13-16)، نستنتج انه يتمحور حول الشَّريعَةَ خاصة الوَصايا العشر وموقف يَسوع منها. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم الشَّريعَةَ في الكتاب المقدس؟ وما هو موقف يَسوع من الشَّريعَةَ الموسَوِّية (اليهودية)؟ وما هي ميزات الشَّريعَةَ الإنجيلية؟ 1. ما هو مفهوم الشَّريعَةَ في الكاب المقدس؟ هناك الشَّريعَةَ الطبيعية والشَّريعَةَ الدينية. للوثنيين شَريعَة طبيعية، تظهر لهم عن طريق ضميرهم، كما جاء في تعليم بولس الرسول "فالوَثنِيُّونَ الَّذينَ بِلا شَريعَة، إذا عَمِلوا بِحَسَبِ الطَّبيعَةِ ما تَأمُرُ بِه الشَّريعَةَ، كانوا شَريعَة لأَنْفُسِهم، همُ الَّذينَ لا شَريعَة لَهم، فَيدُلُّونَ على أَنَّ ما تَأمُرُ بِه الشَّريعَةَ مِنَ الأَعمالِ مَكتوبٌ في قُلوبِهِم، وتَشهَدُ لَهم ضَمائِرُهم وأَفكارُهم، فهي تارةً تَشكوهُم وتارةً تُدافع ُعنهُم" (رومة 2: 14-15). وتُدعى هذه الشَّريعَةَ طبيعية، لأنَّ العقل الذي يأمر بها من خصائص الطبيعة البشرية. ويُعلق القديس توما الأكويني "نور العقل الذي وضعه الله فينا؛ بها نعلم ما يجب عمله وما يجب تجنبه. والله هو الذي أعطى الخليقة هذا النور أو تلك الشَّريعَةَ". ويصف التعليم المسيحي دور هذه الشَريعَة: "الشَّريعَةَ الطبيعية تعلن الوَصايا الأولى والأساسية التي تُهيمن على الحياة الأخلاقية. ومحورها التوق إلى الله والخضوع له، هو مصدر كل خير وديانة، وكذلك الإحساس بالآخر مساويا للذات" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1955). أمَّا الشَّريعَةَ الدينية، فهي شَريعَة العهد القديم، وفي التعبير العبري הַתּוֹרָה "توراه" وفي التعبير اليونانَي νόμος "ناموس" الذي يحمل مدلول قانوني تعني "تعليماً" أعطاه الله للبشر لتنظيم سلوكهم. وينطبق هذا التعليم على المجموعة التشريعية التي ينسبها تقليد العهد القديم إلى موسى النبي. وتشمل الشَّريعَةَ الوَصايا العشر (خروج 2: 2-17)، وهي توصيات خلقية تذكِّر بمطالب الضمير البشري الأساسية، فتُشكِّل أوامر مباشرة، بها يُعرّف الله مشيئته لشعبه. ولهذه الشَريعَة "صبغة إلزامية باسم الله نفسه، وهي تَنْهَى عمّا هو مخالف لمَحبَة الله والقريب، وتأمر بما هو أساسي لها" التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1962). بالإضافة للوَصايا العشر تشمل الشَّريعَةَ أيضا قواعد قانونية تنظم الشؤون المَدَنِيَّة: الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، وأخيرا تشمل الشَّريعَةَ قوانين خاصة بالعبادة: طقوسها، وخدامها وشروطها وخاصة قواعد التطهير. ولذا أطلقت على الشَّريعَةَ في العهد القديم تسميات مختلفة: تعليم (توراة)، وشهادة، وأمر، ووَصِيَّة، وحكم أو قضاء، وكلمة، ومشيئة، وطريق الله (مزمور 19: 8-11: 119)، وحكمة (يشوع بن سيراخ 24: 23). الوَصايا هي متطلبات تدرِّب شعب الله على السير في طريق القداسة التي دعوهم الله إليها، وأهمها الوَصايا العشر (خروج 20: 1-17) وكتاب العهد (خروج 20: 22-23:33)؛ وقد أعاد سفر تثنية الاشتراع جمعها مع التوسع حتى تتلاءم وضرورات الزمن ومتطلباته (تثنية الاشتراع 5: 2-21، 12-28). المؤتمنون على الشَّريعَةَ والمُتخصِّصون في شرحها هم الكَهَنة، بحكم وظيفتهم، (هوشع 5: 1، إرميا 18: 18، حزقيال 7: 26): ويجب عليهم أن يعلَموا الشعب أحكام الله وأوامره (تثنية الاشتراع 33: 10)، ولذلك تصدر عنهم مجموعة الأحكام التشريعية، وتحت إشرافهم يتم ُّ التوسع في التوراة. المدافعون عن الشَّريعَةَ هم الأنبياء حيث كان الأنبياء يعترفون بسلطة هذه التوراة، ويُوبّخون الكَهَنة عن إهمالهم لها (هوشع 4: 6، حزقيال 22: 26)، وقد ندَّد النبي هوشع بمخالفات للوَصايا العشر (هوشع 4: 1-2)، ووعظ ارميا النبي بإطاعة كلمات العهد (ارميا 11: 1-12) وعدّد حزقيال النبي بعض الخطايا المأخوذة من كتاب القداسة (حزقيال 22: 1-16). اهتم حكماء الكتاب المقدس في الشريعة يدعونا يشوع بن سيّراخ لفهم حقيقي لمعنى الشريعة وهي رضى الرّبّ بقوله: "فإِن شِئتَ حَفِظتَ الوَصايا وأَتمَمتَ ما يُرْضيه [الرّبّ] بِأَمانة" (سيراخ 15: 15). لا يتوجب على المؤمن النظر إلى الشريعة إليها من منظورها القانوني والأخلاقي فقط، ولكن كمؤشر للحياة. لا يوجد ذكر للطاعة كغاية في حد ذاتها لسنا نحن مَن نحفظ الشريعة، بقدر ما شريعة الرّبّ هي الّتي تحفظ حياتنا وتحرسنا. ويؤكد الحكيم بن سيراخ أن كلّ مؤمن ليس مدعو ليتعدى على الشريعة بل عليه أنّ يحفظها ويعلّمها، لأنها تكشف خطة الله وحياته الإلهية القادرة على حفظ الحياة الإنسان. فهناك تبادل القّرب الإلهي بقرب بشري من خلال الانسجام في "الخطة الإلهيّة" باختيار ما يرضي الرّبّ (يشوع 15: 20). الشَّريعَةَ مرتبطة بالعهد. فالعهد يتطلب في الواقع التزاما بحفظ الشَّريعَةَ الإلهية (خروج 19: 7-8). فالشَّريعَةَ هي عنصر أساسي في وعد الشعب الإسرائيلي في مجيء المخلص، إذ تُهيئ للإنجيل وتُعد الشعب المختار وكل مسيحي للتوبة وللإيمان بالله المُخلص. وهذه الشَّريعَةَ بحسب التقليد المسيحي مقدسة (رومة 7:12) وروحية (رومة 7:14) وصالحة (رومة (7: 16) ولكنها ناقصة، لأنها لا تعطي بذاتها القُوَّة ولا نعمة الرُّوح القدس. يُطلق العهد الجديد اسم "الشَّريعَةَ" على النظام تمييزًا عن تدبير النعمة الذي أسَّسه يَسوع حيث يقول بولس الرسول: "قَد جاءَتِ الشَّريعَةَ لِتَكثُرَ الزَّلَّة، ولكِن حَيثُ كَثُرَتِ الخَطيئَة فاضَتِ النِّعمَة" (رومة 5: 20). في حين يتمسك الصَّدُّوقيُّونَ بالتوراة المكتوبة وفي نظرهم الكَهَنة وحدهم هم مفسّرو الشَّريعَةَ الشرعيون؛ فإنَ الفِرِّيسيِّينَ يعترفون بالتوراة المكتوبة وبالتوراة الشفوية أي بتقليد الأجداد. 2. ما هو موقف يَسوع من الشَّريعَةَ القديمة الموسَوِّية (اليهودية)؟ إذا لم يكن المسيح قد جاء لينقض الشَّريعَةَ "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل" (متى 5: 17)، فهل يعني انه ينبغي الآن تطبيق كل شرائع العهد القديم؟ كانت الشَّريعَةَ في العهد القديم مقسّمة إلى ثلاثة أقسام: قسم طقسي، وقسم مدني، وقسم أدبي. (1) الشَّريعَةَ الطَّقسِيَّة: كانت الشَّريعَةَ الطَّقسِيَّة ترتبط خاصة بعبادة بني إسرائيل (الأحبار 1، 2، 3) وكان الهدف الأساسي منها الإشارة والتلميح إلى سيدنا يَسوع المسيح، ولم تعد هذه الشرائع لازمة بعد موت المسيح وقيامته، وُلذلك نحن غير مقيّدين بالشرائع الطَّقسِيَّة، لكن المبادئ التي وراءها، أي أن نعبد الله القدوس ونحبه، ما زالت سارية. وقد حاول القديس بولس الرسول أن يدافع عن حُرِّيَّة الوثنيين المهتدين تجاه الترتيبات التي تأمر بها الشَّريعَةَ الطَّقسِيَّة (غلاطية 2: 14-21). ويعرف صاحب الرسالة إلى العبرانيين أن الشَّريعَةَ الطَّقسِيَّة لم تستطع بلوغ الهدف الذي كانت ترمي إليه، ألا وهو تقديس البشر، كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين "الشَّريعَةُ لم تُبِلغْ شَيئًا إِلى الكَمال، وأُدخِلَ رَجاءٌ أَفضَلُ نَتَقَرَّب بِه إِلى اللّه "(العبرانيين 7: 19). فالشَريعَة لم تشتمل في الواقع إلا على ظل الخيرات المستقبلة (العبرانيين 10: 1)، فهي رمز ناقص لذبيحة يَسوع المسيح. حسب نظام يَسوع الجديد هناك الشَّريعَةَ الإنجيلية التي تحتوي حقيقة على الخيرات المستقبلية التي ورد ذكرها في الرسالة إلى العبرانيين "لَمَّا كانَتِ الشَّريعَةَ تَشتَمِلُ على ظِلِّ الخَيراتِ المُستَقبَلَة، لا على تَجْسيدِ الحَقائِق نَفسِه، فهي عاجِزَةٌ أَبَدَ الدُّهور، بِتِلْكَ الذَّبائِحِ الَّتي تُقَرَّبُ كُلَّ سَنَةٍ على مَرِّ الدُّهور، أَن تَجعَلَ الَّذينَ يَتَقَرَّبونَ بها كامِلين" (عبرانيين 10: 1). كانت فرائض الذبائح والختان رمزًا لشيء سيحدث وبحدوثه انتهت هذه الفرائض، لأنه بمجيء المسيح ظهر معنى الطقوس والفرائض. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " إِذا اختَتَنتُمِ، فلَن يُفيدَكُمُ المسيحُ شَيئًا... ففي المسيحِ يَسوع لا قِيمةَ لِلخِتانِ ولا لِلقَلَف، وإِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحبَّة"(غلاطية 5: 2، 6). (2) الشَّريعَةَ المَدَنِيَّة: لم يشتمل العهد القديم على الشَّريعَةَ الطَّقسِيَّة فحسب، إنما أيضا على الشَّريعَةَ المَدَنِيَّة. كانت الشَّريعَةَ المَدَنِيَّة تطبق الشَّريعَةَ الله على الحياة اليومية في إسرائيل (تثنية الاشتراع 24: 10-11)، ولانَّ المجتمع العصري والثقافة الحديثة يختلفان اختلافا جذريا، فلا يمكن تطبيق كل هذه التوجيهات بحرفيتها، ولكن المبادئ وراء هذه الوَصايا، هي لكل الأزمنة، ويجب أن تقود سلوكنا وقد تمَّمها يَسوع كمثال لنا. (3) الشَّريعَةَ الأدَبيَّة: يحتوي العهد القديم أيضا على الشَّريعَةَ الأدبية. والشَّريعَةَ الأدبية تختصرها الوَصايا العشر في امر مباشر من الله يلزم طاعته طاعة كاملة (خروج 20: 13)، حيث أطاع يَسوع المسيح الشَّريعَةَ الأدبية تماما، وهي التي تعلن طبيعة الله ومشيئته، وهي ما زالت مُّلزمة حتى اليوم. إن موقف يَسوع من الشَّريعَةَ القديمة واضح. فقد قاوم الشَّريعَةَ الشفوية ولم يبطل الشَّريعَةَ المكتوبة بل أكملها. أ) قاوم يَسوع الشَّريعَةَ الشفوية يتمسك الصَّدُّوقيُّونَ بالتَّوراة المكتوبة وفي نظرهم الكَهَنة وحدهم هم مفسّرو الشَّريعَةَ الشرعيُّون، في حين يعترف الفِرِّيسيِّونَ بالتَّوراة المكتوبة وبالتَّوراة الشفوية أي بتقليد الأجداد. قاوم يَسوع بعنف تقليدّ الشيوخ الذي يتمسك به الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ، لان التقليد يقود الناس إلى مخالفة الشَّريعَةَ وإبطال كلمة الله (مرقس 12: 28-34). أمَّا التشريعات الخارجية الطَّقسِيَّة المادية الكثيرة التي طلبتها الشَّريعَةَ الموسَوِّية وزاد عليها معلمو الشَّريعَةَ من عشر وَصايا إلى 613، فما أبطلها يَسوع بل أخذ معناها ومغزاها وروحها. فقد ألغي يَسوع التشريعات الخارجية الطَّقسِيَّة المادّية الموسَوِّية اليهودية التي كانت تفصل – وما تزال-اليهود عن غير اليهود، من ختان ووضوء وتنظيمات في المأكل وذبح الحيوانات والطهارة النسائية والذكورية وسواها، كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَلغى شَريعَة الوَصايا وما فيها مِن أَحكام لِيَخلُقَ في شَخْصِه مِن هاتَينِ الجَماعتَين، بَعدَما أَحَلَّ السَّلامَ بَينَهما، إِنسانًا جَديدًا واحِدًا "(أفسس 2: 15). كل تلك التشريعات الخارجية الطَّقسِيَّة نابعة عن أمر الطهارة في العقيدة وفي الأخلاق. أخذ يَسوع هذه الطهارة هدفًا وترك للكنيسة وللعقل السليم وللعادات والتقاليد المَحليَّة تعيين الظروف والشروط الحياتية المادية التي تختلف من مكان إلى آخر. قاوم يَسوع أيضا نقطة الضعف عند الفِرِّيسيِّينَ وعلماء الشَّريعَةَ الذين اكتفوا بطاعتهم الظاهرية للشَريعَة دون أن يسمحوا لها تغيير قلوبهم واتجاهاتهم، لذلك قال السيد المسيح إنَّ نوعية بِرّنا يلزم أن يكون أفضل مما عند الفِرِّيسيِّينَ. "فإِنِّي أَقولُ لكم: إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات" (متى 5: 20). ويُعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم "مع أن الكَتَبَةُ والفِرِّيسيِّينَ لم يُكمِّلوا الناموس، إلا أنهم كانوا يتطلّعون إليه بضمير حيّ عظيم. وبينما كانوا يفسخونه كل يوم بأعمالهم، لكنهم يحافظون على حروفه لتبقى كما هي بلا تغيير، ولا يضيف عليه أحد شيئًا. لكنهم بالحقيقة أضافوا هم ورؤساؤهم إليه لا ما هو أفضل بل ما هو أسوء، إذ اعتادوا أن يتركوا التكريم اللائق بالوالدين جانبًا بإضافات من عندهم". ب) لم يبطل يَسوع الشَّريعَةَ المكتوبة "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل" (متى 5: 17). والحال أنّ الشَّريعَةَ، في مَلَكوت الله، لا ينبغي أن تُلغى، بل أن تُتمَّم حتى آخر ياء أو نقطة (متى 5: 17-19)، ويَسوع نفسه حفظها كما جاء في قوله للأبرص "إِيَّاكَ أَن تُخبِرَ أَحداً بِالأَمْر، بلِ اذْهَبْ إلى الكاهِنِ فَأَرِهِ نَفسَكَ، ثُمَّ قَرِّبْ ما أَمَرَ بِه موسى مِن قُرْبان، شَهادَةً لَدَيهِم" (متى8: 4). ولذلك ما دام الكَتَبَةُ أمناء على تعاليم موسى، ينبغي الاعتراف بسلطتهم وإن كان لا ينبغي الاقتداء بسيرتهم " إِنَّ الكَتَبَةَ والفِرِّيسيِّينَ على كُرسِيِّ موسى جالِسون، فَافعَلوا ما يَقولونَ لَكم واحفَظوه. ولكِن أَفعالَهم لا تَفعَلوا، لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون:" (متى 23: 2-3). وقد أكمل السيّد المسيح الناموس بخضوعه لوَصايا دون أن يكسر وَصِيَّة واحدة. ألم يقل ليوحنا المعمدان: " يَحسُنُ بِنا أَن نُتِمَّ كُلَّ بِرّ"(متى 3: 15). وألم يقل لليهود: " مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟" (يوحنا 8: 46) ج) أكمل يَسوع الشَّريعَةَ المكتوبة افتتح يَسوع إنجيل المَلَكوت الذي أصبح نظامًا دينيًا جديدًا وبهذا أكمل الشَّريعَةَ. "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل" (متى 5: 17). فالشَّريعَةَ والأنبياء أمر أنتهى مع يوحنا المعمدانّ، كما صرّح يَسوع "دامَ عَهْدُ الشَّريعَةَ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا، ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلَكوت الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله"(لوقا 16: 16)، وخمر الإنجيل لا يمكن صبها في آنية عتيقة خاصة في الشَّريعَةَ الموسَوِّية "ما مِن أَحَدٍ يَجعَلُ الخَمرَةَ الجَديدَةَ في زِقاقٍ عَتيقة، لِئَلاَّ تَشُقَّ الخَمرُ الزِّقاقَ، فَتتلَفَ الخَمرُ والزِّقاقُ معاً. ولكِن لِلخَمرَةِ الجَديدة زِقاقٌ جَديدة" (مرقس2: 22). إن وضع الشَّريعَةَ الموسَوِّية كل الوَصايا الدينية والأخلاقية والمَدَنِيَّة والعبادية على قدم المساواة، دون جعل ترتيب دقيق بينها يشير إلى أيّ منها يجب أن يعتبر دائماً المحور (تثنية الاشتراع 6: 4 -13). وقد تحوّلت الشَّريعَةَ إلى قواعد متروكة لتفسيرات المُحلِّلين، مما يثقّل العبء على البشر بنير لا يطاق، كما أعلن بطرس الرسول في مجمع اورشليم "فلِماذا تُجَرِّبونَ اللهَ الآنَ بِأَن تَجعَلوا على أَعناق التَّلاميذِ نِيرًا لم يَقْوَ آباؤُنا ولا نَحنُ قَوِينا على حَملِه؟"(أعمال 15: 10). أمَّا يَسوع فقد أكمل الشَّريعَةَ بوضع نظامٍ جديدٍ في نظام المَلَكوت، وذلك بترتيب الوَصايا وفق سلم الأولويات لتكون في وضعها الصحيح. فالتجديد هنا يقوم على وضع مَحبَة القريب قبل عبادة مقدّمة لله، لا بل تقوم عبادة الله على مَحبَة القريب، كما جاء في تعليم يَسوع "فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك" (متى 5: 23-24). هكذا في مفهوم يَسوع، المصالحة بين الإخوة هي الذبيحة الحقيقية. ويُعلق القديس أوغسطينوس "الذبيحةُ الحقيقيّةُ هي كلُّ عملٍ نقومُ به لنتّحدَ باللهِ في وحدةٍ مقدَّسة"(الكتاب مدينة الله 10، 6) يختلف ترتيب يَسوع عن جدول القيم الذي حدَّده الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ الذين أهملوا فيه ما هو أساسي: العدل والرحمة والأمانة والنيَة الصالحة، ليهتمُّوا بما هو ثانوي، كما يتبيَّن من توبيخ السيد المسيح "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون، بَعدَما أَهمَلتُم أَهَمَّ ما في الشَّريعَةَ: العَدلَ والرَّحمَةَ والأَمانة. فهذا ما كانَ يَجِبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك" (متى 23: 23). بالإضافة إلى ذلك، ألغى يَسوع النقائص التي كانت لاصقة بالشَّريعَةَ القديمة "بسبب قساوة القلوب" كما جاء في تعليمه "مِن أَجْلِ قساوَةِ قُلوبِكم رَخَّصَ لَكم موسى في طَلاقِ نِسائكم، ولَم يَكُنِ الأَمرُ مُنذُ البَدءِ هكذا" (متى19: 8). فالنقائص لم يعد لها مكان في المَلَكوت السماوي حيث أنَّ قاعدة السلوك الواجب اتباعها في هذا المَلَكوت هي شَريعَة الكمال، اقتداء بكمال الله. عندما أعلن يَسوع بوضوح "سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم (متى 5: 21-21)، لم يكن ينقض الشَّريعَةَ أو يضيف إليها آراءه الشخصية، بل كان يقدّم مفهوما أكمل لغرض الله منها، ومثال على ذلك في الوَصايا التالية: وَصِيَّة " لا تَقتُلْ" (متى 5: 21) "سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: ((لا تَقْتُلْ، فإِنَّ مَن يَقْتُلُ يَستَوجِبُ حُكْمَ القَضـاء)). أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم: مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء، (متى 5: 21-22). عندما تكلم موسى النبي عن القَتْل أوضح يَسوع أنه لا يكفي أن نتجنب القَتْل إلاّ في حالة الدفاع عن النفس (لوقا 22: 36)، بل يجب ألاَّ نهين أحدا، ونتجنب الغَضَب والحقد، وهو لب القضية، ويُعلق القديس أوغسطينوس" من يعلّمنا عن عدم الغَضَب لا ينقض الوَصِيَّة الخاصة بعدم القَتْل، بل بالأحرى يكمّلها، إذ في عدم الغَضَب نتنقّى، من الداخل في قلوبنا، ومن الخارج أيضًا بعدم القَتْل". فالمسيحي لا يمتنع عن القَتْل فحسب، وإنما عمَّا يوصل إلى القَتْل أو ما يتضمن قتلا معنويا. وأكثر من ذلك، وضع يَسوع مكان "لا تَقتُل" وَصِيَّة "مَحبَة الأعداء". يُقدّم لنا الرب يَسوع الجانب السلبي من خلال الامتناع عن الشرّ، لا في التصرّفات الظاهرة فحسب، وإنََّّما باقتلاع الشر من القلب في الداخل، ونزع الخَطيئَة من جذورها قبل أن تظهر كفعل في الخارج. فالغَضَبُ يشير إلى شعور بالمرارة ضد أحد الناس، وهو شعور خطير يؤدي إلى الشتائم والمخاصمات التي تفسد العلاقات البشرية وتُسمِّمها وتؤدِّي في آخر المطاف إلى القَتْل والعنف وغير ذلك من النتائج المُدمِّرة. وبذلك يكون المرء قد أرتكب القَتْل في قلبه (متى 5: 21-22). ويُعلق القديس يوحنا كاسيان" تأمرنا كلمة الإنجيل باستئصال جذور سقطاتنا، وليس نزع ثمارها، فعند إزالة جميع الدوافع بلا شك لن تقوم من جديد". وبعبارة أخرى، لم يكتفِ السيد المسيح بوَصِيَّة " لا تَقتُل" بل منع جذور القَتْل وأسبابه أي الغَضَبُ والحقد، من ناحية، ومن ناحية أخرى، طوّب الودعاء " طوبى الودعاء "طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض" (متى 5: 4). إن هذه الوَصِيَّة لا تنحصر في القَتْل فعلاً بل تفيد فكر البغض هو قتل يستوجب العقاب، بل تُعدَّ التلفظ بكلمة دلالة على حقد المتكلم أو انفعال الغَضَبُ الشديد يستوجب حكم المجلس أو عذاب جهنم. والنتيجة أنَّ خَطيئَة الإنسان تتنوّع بالنظر إلى حالة قلبه، وهي جميعها تستوجب في عيني الرب الموت. الجدير بالذكر الغَضَب الحميد الذي ورد في تعليم بولس الرسول " اِغَضَبُوا، ولَكن لا تَخطَأُوا" (أفسس 4: 26)، انه يليق بالأب أن يغَضَبُ على ابنه، والمعلّم على تلميذه، ليس غَضَبُ الانتقام، بل غَضَبُ التأديب النابع عن الحبِّ، كما يقول القديس يوحنا الذهب الفم " فإن رأيت إنسانًا يرتكب خطأ قاتلًا ابسط يدك لتعينه". وَصِيَّة المُصَالحة: صالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك (متى 5: 24). عندما طلب تقديم الذبائح بانتظام، أوضح يَسوع انه لا يكفي أن نقدّم الذبائح بانتظام، بل يجب أن نكون على علاقة صحيحة مع الله ومع الآخرين (متى 5: 23-26). فمن الرياء أن نقول إننا في شركة سليمة مع الله، بينما شركتنا مع الآخرين ليست على ما يرام، فشركتنا مع الآخرين تعكس شركتنا مع الله "إِذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا 4: 20). ومن هنا جاء تطويب يَسوع " طوبى لِلسَّاعينَ إلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون" (متى 5: 9). يجب أن تسبق المصالحة كل الواجبات الدينية الخارجية، لأنَّها شرط للقبول هذه. يُعلمنا سيدنا يَسوع المسيح واجب أن نصطلح مع أخينا قبلما نأتي إلى مائدة الرب، كما يؤكِّد ذلك بولس الرسول " فأُريدُ أَن يُصَلِّيَ الرِّجالُ في كُلِّ مَكانٍ رافِعينَ أَيدِياً طاهرة، مِن غَيرِ غَضَبٍ ولا خِصام " (1 طيموتاوس 2: 8). إن عبادتنا لله ليست مقبولة إن تركنا واجباتنا تجاه الناس وعشنا معهم بخصام. وَصِيَّة المصالحة تتطلب منا عبادة جديدة. في الشَريعَة القديمة، استخدمت القرابين للتكفير عن الخَطيئَة، أمَّا الشَريعَة الجديدة، الشَريعَة الإنجيلية، فالمصالحة بين الإخوة هي القربان الصحيح والعبادة الحقَّة، لذلك فقط عندما تكون علاقته مع الله وعلاقته مع أخيه الإنسان علاقة سليمة عندئذ يستطيع الإنسان أن يعبد الله بشكل صحيح. وَصِيَّة " لا تَزْنِ " (متى 5: 27) "سَمِعْتُم أَنَّه قيل: ((لا تَزْنِ)). أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه. (متى 5: 27-28). عندما قال موسى في الشَّريعَةَ عن الزنى، أوضح يَسوع انه لا يكفي الابتعاد أو ارتكاب عن الزنى، بل يجب حفظ قلوبنا من الشَهوَة قصد التملك. وهنا اكّد يَسوع أنه إذا كان فعل الزنى خَطيئَة، فالنيَّة في الزنى هي أيضا خَطيئَة (متى 5: 27-30). ويُعلق القديس أوغسطينوس "إن الخَطيئَة تتم على ثلاث مراحل: إثارتها، التلذّذ بها، ثم إرضائها". إن كانت الشَّريعَةَ قد حرّمت إرضاء الخَطيئَة أي تنفيذها، فإن السيّد المسيح جاء ليقتلع جذورها بمنع الخَطيئَة، وهي في مرحلتها الأولى. إن كانت الخَطيئَة تبدأ بالإثارة خلال النظرة الشرّيرة، ليتقبّلها الفكر ويتلذَّذ بها ثم تدخل إلى الإرضاء بالتنفيذ العملي، فإنه يسهل على المؤمن أن يواجهها في مرحلتها الأولى قبل أن يكون لها موضع في الذهن أو لذّة خلال الممارسة للخطأ. ليس الجسد هو الذي يلوّث الإنسان بل الأفكار والشَهَوات. بذلك يُدخل يَسوع إلى العالم قيمة جديدة، وهي احترام الذات، واحترام الجنس وقدسية الحب. وما هو هام في العلاقات الزوجية بحسب نظر يَسوع هو الموقف الباطني الذي يستدعي التسامي وضبط الذات والحواس وصفاء النيّة، وليس مجرّد الامتناع عن أعمال الزنى. نستنتج ممَّا سبق أنَّ يَسوع يقدّم علاقة جديدة، وهي أن نفهم أن الآخر هو جزء منّا، وأننا نشكل معه جسداً واحداً، وبأنّنا شأن ٌواحدٌ. إن الآخر هو شخص وُجِد كي نحبّه. وبعبارة أخرى، لم يكتفى السيد المسيح بوَصِيَّة " لا تزنِ" بل منع جذور الزنى في النّظرة غير الطاهرة والنيّة غير السليمة من ناحية، ومن ناحية أخرى، طوّب أطهار القلوب " طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله " (متى 5: 4). وأكثر من ذلك وضع يَسوع مكان "لا تَزْنِ" النظرة الأخويّة. قضية الطلاق (متى 5: 32) قيل: ((مَن طلَّقَ امرأَتَه، فلْيُعْطِها كِتابَ طَلاق)). أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى، ومَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى" (متى 5: 32-33). عندما قال موسى في شَريعَة الطلاق، أوضح يَسوع أنَّه لا يكفي أن نتزوج زواجا شرعيا، بل يجب أن نحيا بمقتضى التزامات الزواج (متى 5: 31-32). لم يدخل يَسوع في موضوع النقاش بين علماء الشَّريعَةَ حول الحالات التي يجوز فيها الطلاق، بل طلب تغيير الذهنية والقلب تغييراً جذريا في علاقة الرجل بزوجته. كان سفر تثنية الاشتراع يُجيز الطلاق (تثنية الاشتراع 24: 1)، لكن يَسوع عارض هذا القانون واستبدله بقانون زواج غير قابل للانحلال، كما أراده الله منذ البداية "لذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا"(تكوين 2: 24). إن ما أراده الله منذ البدء ولم يستطع الإنسان تطبيقه لقساوة قلبه، صار اليوم مُمكنا بسبب بدء المَلَكوت أي بفضل النعمة التي يُسْبِغُها الله على الذين يُقبلون إلى حياة بنوّة معه بابنه الوحيد يَسوع المسيح. لذلك فيَسوع لا يجيز الطلاق إلَّا في حالة الفحشاء يعني حالة الذي يعيش مع امرأة من غير زواج رسمي. وفي هذه الحالة، يجوز إبطال الزواج لأنه ليس ثمة عقد زواج قائم. وَصِيَّة القسم (متى 5: 34) "سَمِعتُم أَيضاً أَنَّه قِيلَ لِلأَوَّلين: ((لا تَحْنَثْ، بل أَوفِ لِلرَّبِّ بِأَيْمانِكَ)) ، أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تَحلِفوا أَبداً، لا بِالسَّماء فهِيَ عَرشُ الله، ولا بِالأَرضِ فهيَ مَوْطِئُ قدَمَيْه، ولا بِأُورَشليم فهيَ مَدينةُ المَلِكِ العَظيم. ولا تَحلِفْ بِرأسِكَ فأَنتَ لا تَقدِرُ أَن تَجعَلَ شَعرةً واحِدَةً مِنه بَيضاءَ أَو سَوداء. فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا. فما زادَ على ذلك كانَ مِنَ الشِّرِّير" (متى 5: 33-37). عندما تكلم موسى عن النذور، أوضح يَسوع انَّه لا يكفي بان ننذر، بل يجب أن نتجنب التعهد بطريقة متسرعة وغير مسؤولة أمام الله (متى 5: 33-37). وخلاصة القول، يتوجب على المسيحي ألاَّ يحنث بقسمه وحسب، إنما لا يحلف ابدأ. والمسيحي له سمة مميزة، هي أنه لا يُقسم بل يكون كلامه الصدق فقط، لان الكذب هو من إبليس " فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب " (يوحنا 44:8). لم يقتصر يَسوع على النهي من القسم الباطل بل نهى عن رفع كل دعوى إلى الله بغير لزوم. يريدنا يَسوع أن يكون كلامنا بلا قسم، إنما ليكن "نعم" أو "لا" كأننا ننطق بها أمام الله. وفي هذا الصدد يوصي يعقوب الرسول " وقَبْلَ كُلِّ شَيء، يا إِخوَتي، لا تَحلِفوا بِالسَّماء ولا بِالأَرضِ ولا يَمينًا أُخرى. لِتَكُنْ نَعَمُكم نَعَم ولاؤُكم لا، لِئَلاَّ تَقَعوا تَحتَ وَطأَةِ الدَّينونة" (يعقوب 5: 12). وهكذا ترسم لنا شَريعَة الإنجيلية أسلوب علاقات جديد، لا يكفي فيه تجنّب الإساءة بالآخر، ولكن نحبَّ الآخر كجزء منّا، لأننا نُشكل معه جسدًا واحدًا، وأنَّه هو شخص وُجد كي نُحبُّه. 3. ما هي ميزات الشَّريعَةَ الجديدة الإنجيلية؟ توقّع اليهود أنّ الربّ الإله سوف يعطي شَريعَة جديدة عن طريق المسّيح (يلكوت شمعوني 2، 296). والشَّريعَةَ الجديدة ما هي إلاّ الشَّريعَةَ الإنجيلية التي هي كمال الشَّريعَةَ الطبيعية – الإلهية الموحى بها إلى موسى النبي. لم يُكمل يَسوع الشَّريعَةَ بالتشديد فقط على الوجهة الباطنية وما في قلوبنا، بل ركز أيضًا على كمال الشَّريعَةَ وقوَّتها بالرُّوح القدس وأولوية العمل والحُرِّيَّة والمَحبَة. ا. شَريعَة الكمال: لم يأتِ يَسوع ليقيم شَريعَة جديدة عوضاً عن الشَّريعَةَ القديمة. انه أعطى المعنى الحقيقي للشَريعَة القديمة. فالشَّريعَةَ الإنجيلية لا تُلغي قيمة الفرائض الأخلاقية الموجودة في الشَّريعَةَ الموسَوِّية القديمة، بل تظهر كل حقيقتها الإلهية والإنسانية، وتذهب إلى حد إصلاح أصل الأعمال، أي القلب، حيث يختار الإنسان بين ما هو طاهر وما هو دنس، كما جاء في تعليم يَسوع المسيح " مِنَ القَلْبِ تَنْبَعِثُ المقَاصِدُ السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفُحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ والشَّتائم" (متى 15: 19). يقود الإنجيل الشَّريعَةَ هكذا إلى كمالها بالاقتداء بكمال الآب السماوي تلبية للرب يَسوع "كونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل. (متى 5: 48)، والمغفرة للأعداء، والصلاة لأجل المُضطّهِدين، كما وصّانا يَسوع المسيح " أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم " (متى 5: 44). ب) شَريعَة الرُّوح القدس: بما أنَّ شَريعَة يَسوع هي شَريعَة الكمال، وهو هدف صعب المنال بوضع الإنسان الحاضر (متى19: 10)، فإنَ يَسوع قدَّم مع هذه الشَّريعَةَ نفسه مثالاً جذاباً ومنح قُوَّة باطنية سوف تساعد على حفظ الشَّريعَةَ، وهي قُوَّة الرُّوح "لكِنَّ الرُّوح القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض" (أعمال 1: 8)؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما لم يستطع الناموس أن يتمّمه بالحروف تحقّق بالإيمان، لهذا يقول السيد المسيح “لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل". وقد صرّح بولس الرسول " فغايَةُ الشَّريعَةَ هي المسيح، لِتَبْرير ِكُلِّ مُؤمِن" (رومة 10: 4). أوضح لنا يَسوع إننا بحاجة إلى نوع من البِّر يختلف تماما عن بِرِّ الفِرِّيسيِّينَ "فإِنِّي أَقولُ لكم: إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات. (متى 5: 20) وكيف يكون ذلك: فان حفظنا الوَصايا (برّنا) يجب أن يكون نتيجة لما يفعله الله فينا، وليس ما نستطيع نحن أن نفعله من تلقاء أنفسنا. وان يكون مركز حفظ الوَصايا (بِرُّنا) الله وليس الذات، وهدف حفظ الوَصايا هي مخافة الله وطاعته وليس استحسان الناس. وان يكون حفظ الوَصايا ليس مجرد حفظ الشَّريعَةَ، بل حبّا في المبادئ التي وراءها وهو الله. الشَّريعَةَ الإنجيلية توجّه صدقتنا وصلاتنا وصومنا نحو الآب السماوي " إِيَّاُكم أَن تَعمَلوا بِرَّكم بِمَرأًى مِنَ النَّاس لِكَي يَنظُروا إِليكم، ...لِتكونَ صَدَقَتُكَ (صلاتك، وصومك) في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك" (متى 6: 1-6). ج) شَريعَة العمل: ظنَّ الفِرِّيسيُّونَ وعلماء الشَّريعَةَ أن تعليم الآخرين هو الهدف الأسمى في الحياة. لكن السيد المسيح أوضح أنَّ الطاعة لله هي أعظم هدف، فمن السهل أن تعلّم شَريعَة الله وتطلب من الآخرين أن يطيعوها، دون أن تمارسها بنفسك، لذا قال يَسوع " فمَن خالفَ وَصِيَّة مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا وعَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه، عُدَّ الصَّغيرَ في مَلَكوتِ السَّمَوات "(متى 5: 19). فشَريعَة النظام الجديد هي شَريعَة ُالحُرِّيَّة الكاملة "وأَمَّا الَّذي أَكَبَّ على الشَريعَة الكامِلَة، شَريعَةِ الحُرِّيَّة، ولَزِمَها، لا شَأْنَ مَن يَسمعُ ثُمَّ يَنْسى، بل شأنَ مَن يَعمَل، فذاكَ الَّذي سيَكونُ سَعيدًا في عَمَلِه"(يعقوب 1: 25). الشَّريعَةَ الإنجيلية هي شَريعَة عمل، لأنَّها تقتضي ممارسة كلام الرب " لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ)) يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 7: 21)؛ كما تقتضي هذه الشَّريعَةَ اختيار حاسم بين الطريقين "أُدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. فإِنَّ البابَ رَحْبٌ والطَّريقَ المُؤَدِّيَ إلى الهَلاكِ واسِع، والَّذينَ يَسلُكونَه كَثيرون. ما أَضْيَقَ البابَ وأَحرَجَ الطَّريقَ المُؤَدِّيَ إلى الحَياة، والَّذينَ يَهتَدونَ إِليهِ قَليلون" (متى 7: 13-14). وخلاصة الشَّريعَةَ الإنجيلية هي القاعدة الذهبية "فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةَ والأَنبِياء "(متى 7: 12). وإن أعظم "برّ" بحسب تفسير يسوع هو الّذي يُعيش بفهم تنفيذ إرادة الله والتي لا تتمثل في عمل أدنى شيء، بل عمل أقصى ما يمكن عمله بمحبة لا بالخوف. د) شَريعَة الحُرِّيَّة الشَّريعَةَ الإنجيلية هي شَريعَة الحُرِّيَّة (يعقوب 1: 25)، لا يعني ذلك أن يَسوع يقترح إنسان بلا شَريعَة، إنسان يحلم بالحُرِّيَّة من غير أن يكون مطيعا للشَريعَة، بل بمعنى أنها شَريعَة فيها الإنسان يسعى يوميا وبكل تواضع إلى تصويب علاقته بالله. شَريعَة تحرِّره مما في الشَّريعَةَ القديمة من رسوم طقسيَّة وقانونية، وتميل به إلى التصرف تِلقائيا بدافع المَحبَة، كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "تَكلَّموا واعمَلوا مِثْلَ مَن سَيُدانُ بِشَريعَةِ الحُرِّيَّة" (يعقوب 2: 12) من ناحية. من ناحية أخرى، لان الشَّريعَةَ الإنجيلية تجعلنا ننتقل من حالة العبد إلى حالة صديق المسيح، كما أكّد يَسوع "لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15)، وإلى الانتقال إلى حالة الابن الوارث أيضاُ، كما جاء في تعليم بولس الرسول "الدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: ((أَبَّا))، ((يا أَبتِ)) فلَستَ بَعدُ عَبْدًا بلِ ابنٌ، وإِذا كُنتَ ابنًا فأَنتَ وارِثٌ بِفَضْلِ اللّه"(غلاطية 4: 6-7). ه) شَريعَة المَحبَة: أكمل المسيح الشَّريعَةَ من خلال كشفه عن روح المَحبَة في وصيته الجديدة "أُعْطيكم وَصِيَّة جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34). لذلك تدعى الشَّريعَةَ الإنجيلية شَريعَة مَحبَة، لأنها تحمل على تفضيل التصرف بفعل المَحبَة التي يبثَّها الرُّوح القدس على التصرف بالخوف؛ فالرب يَسوع أعطانا أن نتجاوب مع وَصايا الشَّريعَةَ ولن نتمِّمها عن حُبٍّ، وذلك بسكب روح المَحبَة في قلوبنا بالرُّوح القدس، كما جاء في تعليم بولس الرسول " لأَنَّ مَحبَة اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا " (رومة 5:5)، فجعلنا نطيع الشَّريعَةَ ليس خوفًا من عقاب بل حُبًا له. الشَّريعَةَ الإنجيلية كلها موجودة في وَصِيَّة يَسوع الجديدة "أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34)، لأنَّ الإنسان بمفهوم سيدنا يَسوع المسيح هو أولاً وقبل كل شيء، ابن الله وصورته، وهو مدعو إلى حياة المَحبَة والشركة معه، لذلك كماله لا يمكن أن يتحقق إلاَّ من خلال أخيه الإنسان. الشَّريعَةَ الإنجيلية الجديدة، هي شَريعَة الرُّوح القدس. لم تعد الشَّريعَةَ الإنجيلية الجديدة مكتوبة على ألواح من حجر بل محفورة بفعل الرُّوح القدس في قلوب المُؤمنين " إِنِّي لأَجعَلُ شَريعَتي في ضَمائِرِهِم وأَكتُبُها في قُلوبِهِم فأَكونُ لَهم إِلهًا وهم يَكونونَ لي شَعْبًا" (عبرانيين 8: 10). والمسيح هو الذي يمنح القُوَّة للعيش بحسب "الحياة الجديدة". الرُّوح القدس الممنوح لنا في العهد الجديد بسكبه روح المَحبَة في قلوبنا تجعلنا نحفظ الوَصِيَّة عن حبٍ وليس عن فرض، كما جاء في تعليم الرب يَسوع "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي." (يوحنا 21:14)، وبهذا كمّل يَسوع الناموس فينا، إذ أن هدف الشَّريعَةَ هو أن نحيا حياة البِّر الفعَّالة بالمَحبَة. الشَّريعَةَ الإنجيلية هي شَريعَة مَحبَة، لأنها تحتوي على المشورات الإنجيلية التي غايتها إقصاء ما يمكنه أن يُعيق نمو المَحبَة، كما يقول العلامة توما الأكويني. والمشورات الإنجيلية تتضمن العفة في حياة العزوبة لأجل مَلَكوت الله، والفقر والطاعة، وهي معروضة على كل واحد من تلاميذ المسيح المدعو لتكريس حياته في كمال المَحبَة. أخيراً، فإنَ شَريعَة المَلَكوت تتلخَّص في الوَصِيَّة المزدوجة، التي تلزم الإنسان بأن يُحبَّ الله، وأن يُحبّ القريب كنفسه" فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ. والثَّانِيَةُ هي: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (مرقس12: 30-31). ويوكّد بولس الرسول أهمية المَحبَة الأخوية بقوله "لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعَةَ، فإِنَّ الوَصايا الَّتي تَقول: ((لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسْرِقْ، لا تَشتَهِ)) وسِواها مِنَ الوَصايا، مُجتَمِعةٌ في هذِه الكَلِمَة: ((أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ)). فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعَةَ" (رومة 13، 8-10). كل الأمور تتنظَم من حول هذه الوَصِيَّة، وكلها مشتقَّة منها. وفي علاقات البشر بعضهم ببعض، هذه الوَصِيَّة هي القاعدة الذهبية المثلى، وتحوي كل الشَّريعَةَ والأنبياء" فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةَ والأَنبِياء" (متى 7: 12)، والتي قِمّتها شَريعَة المَحبَة “فإِذا عَمِلتُم بِالشَّريعَةَ السَّامِيَةِ الَّتي نَصَّ عَلَيها الكِتاب، وهي: ((أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ))، تُحسِنونَ عَمَلاً "(يعقوب 2: 8). حفظ الوَصايا هو علامة الحب الحقيقي، كما صرّح يَسوع " مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"(يوحنا 14: 21)، ومن بين هذه الوَصايا هي وَصِيَّة المَحبَة الأخوية " أُعْطيكم وَصِيَّة جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً"(يوحنا 13: 34) وهذه الوَصِيَّة مُنبثقة من مَحبَّة الله " إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا"(1 يوحنا 4: 21). وهكذا ولدت شَريعَة جديدة ترتبط بيَسوع، وهي شَريعَة جديدة تبقى مدى الدهر قاعدة للحياة المسيحيَّة. الخلاصة لم يأتِ يَسوع كي يُبطل أو يهدم، بل كي يبني ويواصل العمل الشَّريعَةَ التي أعطاها الله ويُكملها. فإن البَّر القديم لم يَعدْ يكفي. هو لا يكفي الالتزام بالقوانين والقيام بالواجبات. هناك احتياجات جديدة وطريقة جديدة للحياة وللمَحبَة والمجانية. وفي هذا الصدد يقول البابا فرنسيس " فخلاص الله، بالنسبة للفرِّيسيين والكَتَبَةُ، هو في "كومة قوانين. بَيد أن الشَّريعَةَ هي على الدوام الجواب على مَحبَة الله المجانيّة؛ وعندما ننسى مجانيّة الخلاص هذه نسقط، ونفقد مفتاح حكمة تاريخ الخلاص، ونفقد معنى قُرْب الله" (صوت البابا 19/19/0/2017). العهد الجديد خير شاهد على التجديد الجذري مع التمسّك بجوهر العهد القديم مع التركيز على القلب والنيّة والآمور الداخلية. والعهد الجديد يُعدُّ استمرارية ً للعهد القديم، ولذلك فإن الدين المسيحي يُشكّل في آن واحد استمرار للعهد القديم وتجديدًاً له، كما جاء في رسالة العبرانيين " إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين"(عبرانيين 1: 1). لذلك يُعلمنا يَسوع كيف نفهم الشَّريعَةَ ونطيعها، أمَّا أولئك الذين لا يُطيعون الشَّريعَةَ ويُقلّلون من شأنها ويُشكِّكون فيها، فلا يقللون من شأنها فحسب، بل من شأن الإنسان أيضا، وبذلك من شأن الله نفسه. يحقق الإنجيل العهد القديم ويُكمِّله، لا بل إن ظهور يَسوع يُنير مراحل العهد القديم. ليس يَسوع مؤسس لديانة جديدة، بل هو كلمة الله النهائية، وهو الذي يكشف في النهاية عن إرادة الله الآب التي هي ليست "شَريعَة" بقدر ما هي مطلب حب. فإذا كان الإنسان محبوبا، شعر بمطلب باطني للتشبُّه بالذي يُحبّه. ويعُلق أحد المفسّرين على شَريعَة يَسوع بقوله " في صُلب كل عمل نيّة دينية، وفي صلب كل عمل ديني مَحبَة، وفي صلب كل فعل مَحبَة كائن مطلق"؛ فبشريعته يدعونا يَسوع نحن أحباء الله الآب، أن نعيش تحت نظر الله والدخول في علاقة الابن مع الآب، ونعلن أولوية حُبّ الله الخلاصيّ ويأتي بعدها ما يتعلّق بالالتزام الأخلاقيّ والدينيّ، وان ننظر إلى الآخر نظرة الآب نفسه، وأن نحبَّه بالاحترام نفسه والرغبة نفسها فنكون "كامِلين، كما أَنَّ أَبانا السَّماويَّ كامِل" (متى 5: 48) يدعونا يسوع إتباع "البرّ الأفضل" وذلك بعدم الإحساس بالأفضليّة على الآخر بقدر أنّ نسعى لبذل مجهود والسعي لمعايشة الشريعة الإلهيّة بالعهدين، والشعور بفقرنا الروحي أمام الله ّ. فهو جوهر حياتنا وهو الّذي يأخذ ويعطي مجانًا. دعاء أيّها الآب السماوي، يا من أرسلتَ أبنك الحبيب يَسوع المسيح ليُكمل الشَّريعَةَ ويرفعها إلى مستوى الكمال الإنجيلي، امنحنا نعمة الرُّوح القدس بان نقرا الكتاب المقدس في ضوء يَسوع وبمفهومه حياته وموته وقيامته، فنطابق حياتنا مع متطلّبات الإنجيل بمَحبَة وحُرِّيَّة ومجانية، ونُصبح أبناء الله وورثة المَلَكوت وشهود لله خاصة في مَحبَة الآخر بذات قلب الربّ يَسوع المسيح. آمين". |
![]() |
|