رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مسيرة رجل الله والكنيسة: البابا بندكتوس السّادس عشر 1927-2022 البابا بندكتوس السّادس عشر، واسْمُهُ الأصليّ جوزيف راتسنغر، أَلْمانيّ وُلِدَ في 16 نيسان 1927 في بَلدَةِ مَاركتل في إقليم بافاريا. يَنْحَدِرُ مِنْ عَائلةٍ كَاثوليكية مُحافِظَة، مُتَلَقِّيًا تَربِيَةً مَسيحيّةً مَكينَة. عَمِلَ وَالِدُهُ ضابِطًا في السِّلكِ الشُّرطي، وَأُمُّهُ طَاهِيَةً. سنةَ 1933 استَلمَ الحزبُ النّازيّ مَقَاليدَ الحُكمِ في أَلْمَانيا. وَعَلَيه أَصبَحَت حياةُ جوزيف صعبةً مِثل كثيرٍ مِن الألْمَان، الّذينَ رَفَضوا تأييدَ سياساتِ الحزب. فَقَدْ أُجبِرَ جوزيف عَلَى تَركِ الإكليريكية سنة 1941 بعد سَنَتين فَقط مِن دُخولِه لها، وكَانَت قَد اشْتَعَلَت الحربُ العالَميّة الثّانية سنة 1939. سنة 1943 تمَّ تجنيدُهُ في الجيشِ بِنَاءً على التَّعبِئَةِ العَامَّةِ القَسريّة، وَأُرسِلَ إلى إِحدَى الفِرَقِ الْمُضَادَّةِ للطّائِرات، ثمّ أُرسِلَ إلى الجبهةِ الهنغاريّة سنة 1945. حَتَّى أَنَّهُ قَد اعتُقِلَ عَلى يَد القُوَّاتِ الأمريكيّة، بَعدَ هزِيمة الألْمان. وَهَذا مَا يُفَسِّر سَعيَ الكثيرِ مِنَ الحَركَات، الْمُعادِيَة للكنيسَةِ الكَاثوليكيّة وَخصوصًا الصّهيونيّة، لإظهارِه ضِمنَ فئةِ الْمُناصرينَ والْمُنتَسبين للحزبِ النّازيّ آَنَذَاك. وَهذا مَحضُ كَذِب وافْتِراء. بَعدَ نهايَةِ الحَرب، انخرطَ جوزيف مِن جَديد، بِرفقَةِ أَخيه الأكبر جورج، في السِّلكِ الإكليريكي. فَأَكمَلا دِراسَةَ الفَلسَفَةِ وَالّلاهوت في ميونيخ، ثُمَّ قَبِلا السَّيامةَ الكهنوتيّة في 29 حزيران 1951، في كاتدرائية مدينة Freising. كانَ راتسنغر مُنذُ البِدَاية لاهوتيًّا لامِعًا، وكَاتِبًا من الطِّرازِ الرَّفيع. فَقد حازَ عَلَى دَرجةِ الدَّكتوراه سنة 1953، وَكانَت أُطْروحَتُهُ بِعُنوان: "النّاسُ وَبيتُ الله في تَعليمِ القِدّيس أوغسطينوس". وَبَعدَهَا بَدَأَ مَسيرتَهُ الأكاديميّة مُعَلِّمًا للاهوتِ العَقَائدي وَالتَّأسيسيّ، في عِدَّةِ مَعَاهدٍ مُدَّةَ وَمُدن. وسنة 1969، أَصبحَ مُدَرِّسًا للاهوتِ وَتاريخِ العَقيدَة في جَامعةِ Regensburg، مُتَدَرِّجًا في الْمَناصِبِ الإدارية، حيثُ أصبحَ نَائِبًا لِرئيسِ الجّامعة. خِلال سنواتِهِ التّدريسيّة، رَاكَمَ راتْسنغر خِبرةً لاهوتيّةً كبيرة، جَسَّدَها في مؤلّفاتٍ لَهُ هامّة، مثل: كتاب مُقدِّمَة إلى الْمسيحيّة 1968، وكتاب العقيدة والوَحي 1973. هذهِ الأعمالِ الَّلاهوتيّة، جَعَلَت رَئيسَ أَساقفَةِ مَدينةِ كولن، يختارُ راتسنغر مُستشارًا وخبيرًا لاهوتيّا، يُعاوِنُهُ في جَلَسَاتِ الْمَجمَعِ الفاتيكاني الثّاني (1962-1965). وَيُنْظَرْ إلى راتسنغر عَلَى أَنّهُ كَانَ مِن فئةِ الإصلاحيّين الْمُشَارِكين في أعمالِ الْمجمَع. في 24 آذار 1977، جَاءَ تَعينُهُ رَئيسَ أَسَاقِفَةِ ميونيخ وَفرايسنغ، بِقَرارٍ مِن البابا بولس السّادس. فَنَالَ السّيامَةَ الأسقُفيّة في 27 أيّار 1977، مُختارًا لِأسقُفيَّتِه شِعَارَ "مُعاوِنينَ لِلحَق"، الْمَأخوذِ مِنْ رِسَالةِ القِدّيس يوحنّا الرَّسولِ الثّالِثة (8:1). وبعدَ شَهرٍ من سيامَتِه، اعتَمَرَ القُبَّعَةَ الكاردينالية، من يَدِ البابا بولس السّادس أيضًا. وفي 25 تشرين الثّاني 1981، عَيَّنَهُ البابا يوحنّا بولس الثّاني، رَئيسًا لِمجمعِ عَقيدةِ الإيمان، وكانَ أَقربَ الْمُستَشَارين للبابا آنذاك، إذْ كَانَا يَتَشَاركانِ نَفسَ الرُّؤَى والتَّطلّعاتِ نحوَ الكَنيسة. شَغِلَ الكردينال رَاتسنغر عِدَّةَ مواقِع، وَتَقَلَّدَ الكثيرَ مِنَ الْمَهام. فَقَد عَمِلَ في أَمانَةِ سِرِّ حَاضرةِ الفاتيكان (الخارجيّة)، وَفي مجمعِ الكَنائِسِ الشَّرقيّة، ومجمعِ العِبادَةِ وَتَنظيمِ الأسرار، ومجمعِ تَبشيرِ الشُّعوب. بالإضافةِ إلى مَهَامِّهِ في الْمَجلسِ الحَبريّ لِتَعزيزِ الوَحدَةِ بَينَ الْمَسيحيين. وفي 30 تشرين الثّاني 2002، صَادَقَ البابا يوحنّا بولس الثّاني، على انْتِخابِهِ عَميدًا لِمَجمَعِ الكرادِلة. في 8 نيسان 2005، تَرَأّسَ الكردينال راتْسنغر الجنازةَ التّاريخيّةَ للبابا يُوحَنّا بولس الثّاني. إلى أَنْ تَمَّ انتِخَابُهُ بَابا الكَنيسةِ الكَاثوليكية، ولهُ مِنَ العمر ثمانٍ وسبعينَ عامًا، يوم الثّلاثاء 19 نيسان 2005، ليكونَ بِذَلِك البَابا الخامِسِ وَالسّتين بَعدَ الْمئتين، للكنيسَةِ الكاثوليكيّة الْمُقَدَّسَةِ الرَّسولِيَّة، مُختارًا لِنَفسِهِ اِسمَ البابا بندكتوس السّادِسِ عَشَر، تَيَمُّنًا بالقدّيس بندكتوس-مبارك، شفيعِ أوروبا وَمؤسّسِ الرّهبنةِ في الغَرب، وإشارَةً إلى رَغبَتِهِ في إِعادةِ دَورِ الْمَسيحيّة وَمَكَانَتِها، في الْمجتمعاتِ الأوروبيّة، ذَاتِ الإرثِ والتّاريخِ الْمسيحيّ الطّويل. وَهوَ مَا سَمَّاهُ: إعادةُ تبشيرِ أوروبّا. كانَ البابا بندكتوس إصلاحيًّا، حاولَ تَعديلَ كثيرٍ من الأمورِ على مُستوى الكنيسةِ وَإداراتِها، وَسَطَ سيلٍ مِن التَّحدِّياتِ والْمُشكِلات. لَكِنَّهُ يَبقى ذاكَ الشّخصَ الْمُحَافِظَ وَالأمينَ لِلعقيدةِ والتّعليم، ضِمنَ كثيرٍ من التّياراتِ والأصواتِ الّليبراليّة، الّتي تحاولُ أَنْ تُخرِجَ الكنيسةَ عَنْ خَطَّهَا التَّقليديّ. إلى أَنْ جَاءَ قرارُهُ الْمفاجِئ بالاستقالَةِ والتَّنَحيّ عَنْ رِئاسَتِهِ للكنيسة، سنةَ 2013، ضَارِبًا أَروَعَ الأمْثلَةِ في التّواضُعِ وَمَعرفَةِ الذَّات. وَلِسانُ حَالِهِ مَع القِدّيس بُولسَ يَقول: ﴿قَد اقتَرَبَ وَقتُ رَحيلي. جَاهَدتُ الجِهادَ الحَسَن، وَأَتْمَمتُ شَوطي، وَحَافظْتُ على الإيمان﴾ (2طيموتاوس 6:4-7). للبابا بندكتوس العديدُ مِنَ الكُتُبِ والْمُؤلّفات. وَلكن، يَبْقى كِتاب "التّعليمِ الْمَسيحيّ لِلكَنيسةِ الكاثوليكية"، أَحدَ أبْرَزِ أعمالِ البابا بندكتوس السّادس عشر، أَثنَاءَ عِمَادَتِه لِمَجمَعِ عقيدةِ الإيمان. فَبَعدَ سِتّةِ أعوام مِن العَمَلِ الْمُكَثَّف (1986-1992)، أَبْصَرَ هذا الكتابُ النّور، والّذي يُعَدُّ أَهمَّ الكُتُب لِتَوضيحِ أُسُسِ العَقيدةِ وَالإيمانِ الكاثوليكيّ، وَتَعليمِ الكَنيسةِ حَولَ كثيرٍ من القَضايا الأدبيّة والحياتيّة. تُوفّي البابا الفَخري بندكتوس السّادس عَشر، يوم السّبت 31 كانون أوّل 2022، في دير العذراء "أُمِّ الكَنيسة"، ولهُ من العمرِ خمسةٌ وَتسعونَ عَامًا. أَمْضَى مِنْهَا: وَاحدًا وَسبعين عامًا مِن الكهنوت، خمسة وأربعين عامًا مِن الأسقفيّة (كردينال)، ثمانيةَ أَعوامٍ حَبرًا أَعظم للكنيسة، وَتِسعَةَ أَعوامٍ رَجلَ صَلاةٍ، عَضَدَ الكَنيسةَ بِصَلاتِه، وَقادَها بمثاله الصّالح وتواضُعَه العَميق وَابْتِسامَتِه النّاعِمة. خَاتمًا مَسيرتَهُ مُعاوِنًا للحقِّ (Cooperatores Veritatis)، أَمينًا لا يحيدُ وَلا يَنْثَني. |
|