مثل الغَنِيٌّ ولَعازَر الفقير المريض
الأحد السادس والعشرون: مثل الغَنِيٌّ ولَعازَر الفقير المريض (لوقا 16: 19-31)
النص الإنجيلي (لوقا 16: 19-31)
19 ((كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ يَلبَسُ الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم، ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماً فاخِراً. 20 وكانَ رَجُلٌ فَقيرٌ اسمُه لَعازَر مُلْقىً عِندَ بابِه قد غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه. 21 وكانَ يَشتَهِي أَن يَشبَعَ مِن فُتاتِ مائِدَةِ الغَنِيٌّ. غَيرَ أَنَّ الكِلابَ كانت تأتي فتَلحَسُ قُروحَه. 22 وماتَ الفَقير فحَمَلَتهُ المَلائِكَةُ إِلى حِضْنِ إِبراهيم. ثُمَّ ماتَ الغَنِيٌّ ودُفِن. 23 فرَفَعَ عَينَيهِ وهوَ في مَثْوى الأَمْواتِ يُقاسي العَذاب، فرأَى إِبراهيم عَن بُعدٍ ولَعازَر في أَحضانِه. 24 فنادى: يا أبتِ إِبراهيم ارحَمنْي فأَرسِلْ لَعاَزر لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصبَعِه في الماءِ ويُبَرِّدَ لِساني، فإِنِّي مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهيب. 25 فقالَ إِبراهيم: يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب. 26 ومع هذا كُلِّه، فبَيننا وبَينَكم أُقيمَت هُوَّةٌ عَميقة، لِكَيلا يَستَطيعَ الَّذينَ يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا. 27 فقال: أَسأَلُكَ إِذاً يا أَبتِ أَن تُرسِلَه إِلى بَيتِ أَبي، 28 فإِنَّ لي خَمسَةَ إِخَوة. فَلْيُنذِرْهُم لِئَلاَّ يَصيروا هُم أَيضاً إلى مَكانِ العَذابِ هذا. 29 فقالَ إِبراهيم: عندَهُم موسى والأَنبِياء، فَلْيَستَمِعوا إِلَيهم. 30 فقال: لا يا أَبتِ إِبراهيم، ولكِن إذا مَضى إِليهِم واحِدٌ مِنَ الأَمواتِ يَتوبون. 31 فقالَ له: إِن لم يَستَمِعوا إِلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات)).
المقدمة
يتناول إنجيل هذا الأحد (لوقا 16: 19-31) مثل الغَنِيٌّ ولّعازر الذي ضربه يسوع للفريسيين، المُحبِّين للمال (لوقا 16: 14) مُعلما إياهم الاهتمام بالقريب خاصة الفقير المحتاج ومظهراً أن من يستعلي على الناس يكون مرذولاً من قبل الله (لوقا 16: 15). فهذا المثل يواصل مَثَل الوكيل الخائن والمال الحرام (لوقا 16: 1-13)، وهو نموذج لمن أساء استخدام المال فخسر أبديته بدل اكتساب صداقة الله والملكوت السماوي. فغاية المثل هو تطويب الفقراء، إذ قال: "طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله" (لوقا 21:6)، وتوبيخ الأغنياء على حُبِّهم المال والذات واحتقار القريب فنصيبها الويلات: "الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم " (لوقا 24:6) مُبينا أن سوء استعمال الغني لِما له في حياته الأرضية هو عِلَّة شقائه الأبدي. فيريد يسوع تُحرِّك ضمائر أغنياء وتغيير سلوكهم. وقد أصبح هذا المثل موضع اهتمام الفنون في العصور الوسطى. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 16: 19-31)
19 كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ يَلبَسُ الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم، ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماً فاخِراً.
عبارة "غَنِيٌّ" في الأصل اليوناني πλούσιος (مقابل لها في اللغة العبرية עָשִׁיר) تشير إلى من استغنى عن الحاجة أو عن شيء آخر، ولعل هذا الشيء الآخر هنا في هذا المثل كان الله والقريب. وهذا الرجل لا نعرف اسمه لا هويّته ولا شخصه بل صفته كغَنِيٌّ، وكأنّ الناس لا يتقرّبون منه ولا يهتمّون لاسمه، بل لغناه، ولا يرون إلا ما يملك، لانَّ حياته مرتكزة على الغنى المادي. وأن هذا الغَنِيٌّ كونه غير رحيم كان في حضرة الله أيضا بلا اسم، إذ قيل في سفر المزامير عن الذين لا يخافون الرب: " بِشَفَتَيَّ أَسماءَها لا أَذكُر " (مزمور 16: 4)؛ وهذا معنى قول السيد المسيح "ما عرَفْتُكُم قَطّ " (متى 7: 23). أمَّا عبارة " الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم" فتشير إلى الملبوسات الجميلة الفاخرة وكثيرا مما ذُكرا معا كأنهما مما يختص بالملوك لكن الأغنياء لبسوها أيضا (استير 1: 6). وكان هذا الغني يلبسهما كل يوم لا في الأيام الاحتفالات والأعياد فقط، وهذا دليل الافتخار والتنعم. أمَّا عبارة "ألأُرجُوانَ" فتشير إلى الثوب الأحمر؛ وكانت ثياب الأرجوان غالية الثمن يلبسها الأغَنِيٌّاء وذوو المكانة الرفيعة وكبار موظفي الدولة (استير 8: 2). وكانوا يصنعون لون الأرجوان من بعض أصداف السمك. وكان الصوريون يصنعون الأرجوان الذي اشتهروا به من نوعين من محار السمك. أمَّا عبارة "الكَتَّانَ النَّاعِم" في الأصل اليوناني βύσσον (معناها الحرير) فتشير إلى الثياب الحريرية النادرة وغالية الثمن. ولكن يبدو أن الناس (لا الكهنة وحدهم) لبسوا ثيابًا مصنوعة من الكتّان (أمثال 31 :13) وكان يأتي من مصر. أمَّا عبارة "يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماً فاخِرا" فتشير إلى الترويح عن نفسه بوسائل الترفيه من خلال إقامة الولائم والاحتفالات يوما فيومًا باستمرار، فكان من "أَبناءَ هذهِ الدُّنيا" (لوقا 16: 8) الذين يعتنون باللذَّات الجسدية دون اللذات الروحية وحاجات النفس والاهتمام بواجباته لله ولا في واجباته للمحتاجين مثل لعازر المطروح قدام بيته. ويصف عاموس النبي حياة الترف التي يعيشها الأغَنِيٌّاء بقوله "يَضَّجِعونَ على أَسِرَّةٍ مِن عاج وَينبَطِحونَ على أَرائِكِهم ويأكُلونَ الحُمْلانَ مِنَ الغَنَم والعُجولَ المُخْتارَةَ مِنَ المَعلَف ويَرتَجِلونَ على صَوتِ العود ويَشرَبونَ الخَمرَ بِالكُؤُوس ويَدَّهِنونَ بِالأَدهانِ النَّفيسَة ولا يَكتَئِبونَ لانكسار يوسُف (عاموس 7: 4-6). إن الرجل الغَنِيٌّ لم يتورّع عن إنفاق أمواله بطريقة أنانيَّة. وليس شيء أخطر من الترف، اسمع ما يقوله موسى النبي عنه " أنه متى أكلت وشربت: "تَنَبَّهْ لِئَلاَّ تَنْسى الرَّبَّ إِلهَكَ" (ثنية الاشتراع 8: 11). أمَّا عبارة " كُلَّ يَومٍ " فتشيرإلى استمرار الغَنِيٌّ في إشباع شهواته أنها حالة وليس عمل مرة واحدة. إن الغنى كان مظهرًا من مظاهر الشرف عند الفريسيين ومقياس لقيمة المرء، لكن شرف الإنسان وقيمته بمفهوم الكتاب المقدس في أخلاقه وفضائله خاصة في معاملته للآخرين.
20 وكانَ رَجُلٌ فَقيرٌ اسمُه لَعازَر مُلْقىً عِندَ بابِه قد غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه
عبارة "لَعازَر" في الأصل اليونانيΛάζαρος(اسم مشتق من اللغة العبرية לַעְזָר ومعناه "الله يُعين" فالله يعين من ليس له أحد يعينه) تشير إلى الشخصية الوحيدة التي أُعطيت اسماً في الأمثال. إن المسيح يعرف الفقراء بالاسم فهم إخوته. والجدير بالذكر انه ليس هناك علاقة بين هذا الاسم ولعازر أخي مريم ومرتا، الذي أقامه يسوع من بين الأموات (يوحنا 11)؛ وكان هذا الاسم شائعا بين اليهود. هو فقير ولكنَّنا نعرفه كشخص. رغم حالته المُدقعة، أدرك كيف يُعرِّف عن نفسه للآخرين كإنسان. ذكر لوقا الإنجيلي اسم الفقير وترك اسم الغني. وهذا خلاف ما يفعل الناس. بهذه التسمية أراد الرب يسوع كشفًا عميقًا عن حقيقة صاحبه، حيث أن هذا الفقير كان بكّليته متوكلاً على الله، وكان الله مصدر عونه وقوته فاستحق هذا الاسم. وهو اسم يناسب الفقير، كأن سرّ القوَّة في حياة هذا الفقير، ليس الفقر في ذاته، وإنما قبول آلام الفقر بشكر، والله يُعينه عليها، فالله يُعين من لا معين له؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "بالرغم من صراعه ضد الجوع المستمر ولم يكن له حتى القوت الضروري، لكنه لم يشتكِ ولم يتذمر ولم يُجدِّف على الله، بل احتمل كل شيء بنبلٍ". وربما قصد لوقا الإنجيلي بهذا الاسم أيضا للدلالة على إيمان المسكين بالله. ويُعلّق القديس أمبروسيوس "كان سرّ القوَّة في حياة هذا الفقير، ليس الفقر في ذاته، وإنما قبول آلام الفقر بشكر خلال "الله المعين". ويدل الاسم أيضا أن المسيح يعرف الفقراء بالاسم فهم إخوته كما جاء في تعليم يسوع "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه"(متى 25: 40)، ويعلق القديس غريغوريوس الكبير "أشار ربَّنا إلى اسم الفقير دون اسم الغَنِيٌّ إذ يعرف الله المتواضع ويزكيه دون المتكبر". أمَّا عبارة " مُلْقىً عِندَ بابِه" فتشير إلى صيغة المجهول ليُظهر أن الله شاء أن يكون هناك. ربما طرحه هنالك أقرباؤه أو أصحابه وهذا يَدُّلنا على انه كان عاجزًا عن المجيء بنفسه وقصدوا بطرحه هناك كي ينظر إليه الغني فيحسن إليه، إذ كان هنالك عادة في وضع الفقراء على أبواب الأغنياء والمجامع (أعمال الرسل 3: 2). فامتحن الله الغني بواسطة ذلك الفقير لكي يعطيه فرصةً ليصنع له أصدقاء من ماله. لم يذكر الإنجيل أي خطيئة للغَنِيٌّ سوى انه عاش لنفسه، وأهمل لعازر الفقير الذي على بابه الذي هو في أمس الحاجة إلى كسرة الخبز ليسدَّ جوعه ويطرد عنه شبح الموت. ولكنَّ الغني لم يشأ أن يراه. ولذلك خطيئة هذا الغَنِيٌّ لا تكمن في غِناه بل في حُبِّه للعالم وما في العالم كغاية في ذاته، حيث انه لم يرَ أبعد من شهواته وملذاته، فلم يرَ لعازر الفقير عند بابه ولم يشعر به ولم يتخذه صديقا له (لوقا 16: 19)، بل عامله كأنه ليس موجود، وأقام هُوَّةً عَميقةً بينهما. وهذه الهوة نفسها تفصل بين هاتين الشخصيتين بعد الموت. أمَّا عبارة "قد غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه" فتشير إلى جروحات جسده المؤلمة. وكان هذه القروح نتيجة فقره ومرضه وعدم الاكتراث به. باختصار لم يُردْ الغَنِيٌّ أن يرى الله في حياته من خلال لعازر الفقير. ويعلق القديس باسيليوس" بِمَ ستُجيبُ الربّ الديّان، أنتَ الذي تُلبِسُ جدرانَ بيتِكَ ولا تُلبِسُ شَبيهَكَ؟ أنتَ الذي تُزيِّنُ خيلَكَ ولا تنظرُ حتّى إلى أخيك الذي يعيشُ في الضيق؟ أنتَ الذي تَدفنُ كنزَكَ ولا تساعدُ المظلوم؟
21 وكانَ يَشتَهِي أَن يَشبَعَ مِن فُتاتِ مائِدَةِ الغَنِيٌّ. غَيرَ أَنَّ الكِلابَ كانت تأتي فتَلحَسُ قُروحَه
تشير عبارة "يَشتَهِي أَن يَشبَعَ مِن فُتاتِ مائِدَةِ الغَنِيٌّ " إلى تلك الكِسر من الخبز التي كان يستخدمها الآكلون لمسح أصابعهم بعد أكل اللحم والمرق، لان فوط المائدة لم تكن معروفة يومئذ، والفقير كان بودّه لو يسدُّ رمقه بتلك الفتات من الخبز، لانَّ الخدم كانوا أحيانا يلقون هذه الفضلات في الطريق، ويكون للفقراء نصيب في قليل منها. وذكر لوقا الإنجيلي هذه الفتات مقابلة للنفائس التي كان يتنعم بها الغني كل يوم. أمَّا عبارة" الكِلابَ "فتشير إلى حيوانات شريرة كما يعتبرها صاحب سفر المزامير " كِلابٌ كثيرةٌ أَحاطَت بي، زُمرَةٌ مِنَ الأَشْرارِ أَحدَقَت بي "(مزمور 22: 17)؛ وتشير أيضا إلى حيوانات قبيحة ونجسة كما وصفها سفر الأمثال " ككَلْبٍ عائِدٍ على قَيئه " (الأمثال 26: 11)؛ وكانت الكلاب تأتي هنالك بغية الحصول على فتات مائدة الغني. فالكلاب هنا رمز البلايا والإهمال البشري. أمَّا عبارة "قروحه" فلا تشير إلى الجروح التي تحل بالإنسان من الخارج بل القروح الذي تأتي الإنسان من الداخل. فالقروح تصيب الجِلْدَ والأنسجَة العميقة، وتطول مُدّة شِفائها إمّا لتقيُّح فيها أو لضعف الدورة الدمويّة، كما تصيب غِشاء الأنْسجة الداخليّة نتيجة الْتِهاب مَوْضعيّ؛ أمَّا عبارة "تَلحَسُ قُروحَه" فتشير إلى الكلاب المتشردة التي كانت تلحس قروحه (مزمور 68: 23)، وكان عاجزاً عن طردها بسبب ضعفه ووحدته. ولحس قروح لعازر دلالة على تعاسة حاله الذي كان لا ممرض له سوى الكلاب تلميحا، لان الغني لم يكترث به البتة. وهذه الكلاب كانت تعتبر نجسة بالنسبة لليهود. وترمز الكلاب إلى الوثنيين بما أنها مكانها خارج الدار؛ مملا يدل على رحمة الوثنيين أكثر من اليهود، وخير مثال على ذلك السامري الرحيم الذي تفوق على الكاهن واللاوي في الاهتمام بالرجل الجريح الذي وقع بين أيدي اللصوص (لوقا 10: 33-37).
22 وماتَ الفَقير فحَمَلَتهُ المَلائِكَةُ إلى حِضْنِ إِبراهيم. ثُمَّ ماتَ الغَنِيٌّ ودُفِن.
تشير عبارة "ماتَ الفَقير" إلى عدم ذكر أمر جنازته أو دفنه لعدم اهتمام الناس به كما ورد سفر الحكمة "في أَعيُنِ الأَغْبِياءِ يَبْدو أَنَّهم ماتوا وحُسِبَ ذَهابُهم مُصيبَةً ورَحيلُهم عنَّا كارِثَةً لكِنَّهم في سَلام" وإِذا كانوا في عُيونِ النَّاسِ قد عوقِبوا فرَجاؤُهم كانَ مَمْلوءًا خُلودًا"(الحكمة 3: 2-3)؛ في الموت ذُكِرَ اسم لعازر أولًا ولا أهمية لأي نوع كان من أنواع الدفن لجسد لعازر، إذ الملائكة حملت نفسه إلى السماء. أمَّا عبارة " فحَمَلَتهُ المَلائِكَةُ" فتشير إلى انتقاله من رفقة الكلاب إلى رفقة الملائكة مع انه يكفي ملاكا واحدا لحمله؛ وذلك وفق اعتقاد اليهود، أنَّ الملائكة تحمل أنفس المتوفين الأتقياء إلى السماء كما ورد في الرسالة إلى العبرانيين "أَما هُم (الملائكة) كُلُّهم أَرواحٌ مُكَلَّفونَ بِالخِدْمَة، يُرسَلونَ مِن أَجْلِ الَّذينَ سَيَرِثونَ الخَلاص؟"(العبرانيين 1: 14). وبعد خروج النفس مباشرة تدخل إمَّا للفردوس أو للجحيم، والجحيم هو مكان انتظار وليس مكانا للعذاب. أمَّا المجد والعقاب فسيكون في اليوم الأخير، إمَّا في المجد السماوي أو في جهنم؛ فموت لعازر لم يحسب موتا بل انتقال من عالم الفناء إلى عالم البقاء. أمَّا عبارة حِضْنِ إِبراهيم " فتشير إلى موضع الأبرار بعد الرقاد، حيث أنَّ إِبراهيم هو أول من آمن بالإله الواحد. وهو أبٌ لكل الأمة اليهودية، واعتقد اليهود أنَّ الحلول في حِضْنِ إِبراهيم حظ كل يهودي مؤمن. وهذا العبارة تدلُّ على فكرة الوليمة حيث يتكئ كل رجل على مرفقه فيكون في حِضْنِ الذي على يساره، وعليه جلس لعازر بجانب إِبراهيم كما أتكأ يوحنا الحبيب على صدر المسيح في العشار الربَّاني (يوحنا 13: 23)، ومنه القول إن المسيح في حِضْنِ الأب كما جاء في إنجيل يوحنا "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه" (يوحنا 1: 18). الحِضْنِ وهو مكان الشرف والبنوة، وهو أفضل مكان في الوليمة (لوقا 13: 28). والحِضْنِ يرمز إلى الراحة؛ والمحبة، فالمحبة هي لغة السماء. ويُعلق الأب قيصاريوس أسقف آرل "يُفهم "حِضْنِ إِبراهيم" على أنه راحة المُطوَّبين الذين ينتمون لملكوت السماوات؛ أمَّا القديس كيرلس الكبير والقديس يوحنا الذهبي الفم فيريا في عبارة "حِضْنِ إِبراهيم" الفردوس". أنتقل لعازر من باب حيث أحاطت الكلاب به إلى الفردوس السماوي، وذلك ليس لأنه كان فقيرا على الأرض بل لأنه كان تقيًا مُتكلا على الله كما يظهر ذلك بالمقارنة مع الغني. أمَّا عبارة " إِبراهيم " اسم عبراني אַבְרָהָם (معناه أبو جمهور (تكوين 17: 5) فتشير إلى ابن تارح من نسل سام بن نوح إِبراهيم الذي آمن بالإله الواحد مالك السماء والأرض وإلههما (تكوين 14: 22) وديان الأمم وكل الأرض (تكوين 15: 14، 18: 25)، كانت لإِبراهيم مع الله علاقة شخصية وشركة روحية قوية (التكوين 24: 14) ولذلك نال إِبراهيم لقب (خليل الله) الذي ذُكر في الكتاب ثلاث مرات (2 أخبار 20: 7 وأشعيا 41: 8 ويعقوب 2: 23). وكان إيمان إِبراهيم عظيماً إلى الحد كان مستعداً أن يقدِّم ابنه وحيده ذبيحة للرب، ولكن الرب منعه من ذلك (التكوين 22: 2?12)؛ يذكر الكتاب المقدس أنَّ الرب ظهر لإِبراهيم (خروج6: 3) واختاره (نحميا9: 7) وفداه (أشعيا 29: 22) وباركه هو ونسله واسطة بركة لجميع أمم الأرض (التكوين 12: 3). ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "قد يجعلنا هذا المثل نتساءل لماذا يرى الرجل الغني عازر في حِضْنِ إِبراهيم بدل أن يكون في حِضْنِ أي شخصٍ صالحٍ آخر، والسبب هو أن إِبراهيم ظهر بجانب لعازر ليتَّهم الغني ببخله. في الواقع كان إِبراهيم، يحاول التقاط أبسط المارين ليستقبلهم تحت خيمته (التكوين 18)، بينما الرجل الغني لم يشعر سوى بالازدراء تجاه لعازر المُلْقىً عِندَ بابِه، مع كل الثروة التي يملكها. بدل أن يؤمن سلامة الرجل الفقير استمرَّ، يوماً بعد يوم، بإهماله له ولم يقدِّم له العون الذي كان بحاجة إليه" (عظة عن لعازر). ودُعي إِبراهيم في العهد الجديد أباً لكل المسيحيين كمؤمنين (غلاطية 3: 29). وقد أشار المسيح إلى مكانته السامية بين القديسين في السماء (لوقا 13: 28). وفي هذه الآية يعرض يسوع "الملكوت" بصورة "وليمة مسيحانية" " إِذ تَرَونَ إِبراهيم وإِسحقَ ويعقوبَ وجميعَ الأَنبِياءِ في مَلَكوتِ الله، وتَرَونَ أَنفُسَكُم في خارِجِه مَطرودين" (لوقا 13: 28)، حيث يجتمع المختارون حول الآباء والأنبياء. والذين لا يلبّون دعوة يسوع يُبعدون عن هذه الوليمة. أمَّا عبارة " ماتَ الغَنِيٌّ " فتشير أنَّ غناه لم يمنع عنه الموت. بل تمّ استدعاؤه فجأة من قِبل رّبّ الحياة للمُساءلة. أمَّا عبارة "دُفِن" فتشير إلى جنازة تليق بمقامه الذي كان له في حياته على الأرض، وهذا كل ما أمكن ماله أن يهبه له. لكن نهايته التراب، لان مقامه تبدّل في عالم الآخرة. في حين أنَّ المثل لا يشير إلى دفن الفقير لأنه حي، بل يبرز دفن الغَنِيٌّ لأنه ميت. في هذا الصدد يقول صاحب المزامير " لا تَخَفْ إِذا اْغتَنى الإِنْسان واْزدادَ بَيتُه مَجدًا فإِنَّه إِذا ماتَ لا يأخُذُ شَيئًا ولا يَنزِلُ مَجدُه وَراءَه" (مزمور 49: 17 ـ 18). وعندها يصحّ قول المسيح: " ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفْسَه؟ " (مرقس 8: 36).
23 فرَفَعَ عَينَيهِ وهوَ في مَثْوى الأَمْواتِ يُقاسي العَذاب، فرأَى إِبراهيم عَن بُعدٍ ولَعازَر في أَحضانِه.
تشير عبارة "رَفَعَ عَينَيهِ " إلى الرجل الغَنِيٌّ الموجود في مكان سفلي، أمَّا لعازر فهو في مكان مرتفع سامٍ (معنويًا)؛ إذ صار لعازر فوق، والغَنِيٌّ أسفل. أمَّا عبارة " مَثْوى الأَمْواتِ " في الأصل اليوناني ἅ|δῃ (مشتقة من العبرية שְׁאוֹל ومعناها الهاوية أو الجحيم) فتشير إلى المكان الذي يذهب إليه الأموات قبل القيامة انتظاراً للدينونة الأخيرة لدى مجيء الرب يسوع. فالأموات مصنّفون قبل الدينونة (لوقا 16: 28) أصنافا مختلفة تستبق السعادة والعقاب الأبدي كما كان يعتقد بعض الجماعات اليهودية " فقالَ يسوع لأحَد المُجرمَينِ المُعَلَّقَينِ على الصَّليبِ: "الحَقَّ أَقولُ لَكَ: سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس παραδείσῳ."(لوقا 23: 43). أمَّا عبارة "فرأَى إِبراهيم عَن بُعدٍ " فتشير إلى حرمان الغَنِيٌّ من أبيه إِبراهيم، إذ يراه بعيدًا جدّا عنه، هذا الذي كان يفخر قبلًا في عجرفة أنه ابن إِبراهيم (يوحنا 8: 39) دون أن يعيش إيمانه. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "مما يزيد عذاب الرجل الغَنِيٌّ أنه في الجحيم تطلع ليرى لعازر في حِضْنِ إِبراهيم". فلا يقف الأمر عن إحساسه بعذاباته الخاصة وإنما بمقارنته لنفسه بالنسبة لكرامة لعازر تتضاعف آلامه". من هنا نستنتج أنَّ لوقا الإنجيلي ينفرد بعرض أوضاع الأفراد في الآخرة، وهو لا يريد إطلاع قرائه على الدنيا الآخرة، بل يهدف إلى أن يدلَّهم على سبيل الخلاص.أمَّا عبارة "يُقاسي العَذاب" فتشير إلى عذاب الغني ليس لأنه كان غنيً في دنياه، فان إِبراهيم كان من اغنى أهل الشرق وكذلك أيوب وداود الملك، لكن لأنه عاش لهذا العالم فقط ولم يتب إلى الله كما يدل طلبه إلى إِبراهيم "فإِنَّ لي خَمسَةَ إِخَوة. فَلْيُنذِرْهُم لِئَلاَّ يَصيروا هُم أَيضاً إلى مَكانِ العَذابِ هذا. ... يا أَبتِ إِبراهيم، ولكِن إذا مَضى إِليهِم واحِدٌ مِنَ الأَمواتِ يَتوبون." (لوقا 16: 28، 30). أمَّا عبارة "عازَرَ" يذكر اسم الغَنِيٌّ وهذا يدل إن يسوع يعرف خاصته. يذكر لوقا الإنجيل البيان بين شقاء الأشرار الذي يعظم بمقابلته بسعادة الأبرار.
24 فنادى: يا أبتِ إِبراهيم ارحَمنْي فأَرسِلْ لَعاَزر لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصبَعِه في الماءِ ويُبَرِّدَ لِساني، فإِنِّي مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهيب.
تشير عبارة "فنادى" إلى أسلوب محادثة مجازي بين إِبراهيم الغني وإِبراهيم. أمَّا عبارة " يا أبتِ إِبراهيم " فتشير إلى اكتفاء الغَنِيٌّ بانتمائه لإِبراهيم كسائر اليهود وفقا لزعمهم أن كل مختون يأمن من عذاب الجحيم، لكنه لم يعمل على تفعيل هذا الانتماء بالسير على خطى إِبراهيم في برِّه وعلاقته مع الله. لم ينكر إِبراهيم نسبة الغني إليه. أخطأ الرجل الغني في الاعتقاد بأن الخلاص يقوم على النسب الإِبراهيمي وليس على المسؤولية الشخصية (حزقيال 18: 1-32). أما عبارة "لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصبَعِه في الماءِ" فتشير إلى طلب المساعدة مّمن رفض هو مساعدته، إذ زعم اليهود أنَّ المتوفِّين يستطيعون رؤية بعضهم بعضًا في عالم الأرواح حيث تكلم المسيح هذا على وفق زعمهم توصلا إلى تعاليم الحقائق المتعلقة بذلك العالم. وها الأمر دليل على أقل عمل للرحمة الذي به تُعطى المعونة للبشر بالروح القدس (لوقا 11: 20)، من ناحية، وتدل على شدَّة العذاب في الجحيم، ولكن لا يمكننا فهم طبيعة العذاب تمامًاً من ناحية أخرى، وذلك باستعمال الرموز والصور ولكنه لا يُشار إلى طبيعة هذا العذاب. فالغَنِيٌّ الذي أنفق أموالا طائلة على نفسه بأنانية، يستعطي الآن من الفقير نقطة ماء. يصبح الغَنِيٌّ بحاجة إلى مساعدة من لعازر. فهناك فرق بي حال لغني وحال لعازر في العالين. كما اشتهى لعازر الفتات من مائدة الغني كذلك اشتهى الغني قطرة ماء يتمتع به لعازر. ويُعلق القديس أوغسطينوس "مع كون الغَنِيٌّ وهو في هذه الحالة بدون جسد، أي روح مجردة، لكنه رأى نفسه كمن هو في جسده، إذ يستحيل عليه أن يُميِّز حاله ". أمَّا عبارة "فإِنِّي مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهيب" فتشير إلى وصف رمزي لهول الألم الناتج عن الأشواق المشتعلة التي لا يمكن إشباعها الآن. هذه هي الصلاة الوحيدة التي ذكرت في الكتاب المقدس إنها وُجِّهت إلى قديس في السماء.
25 فقالَ إِبراهيم: يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب.
تشير عبارة "يا بُنَيَّ" إلى قول إِبراهيم الذي لا ينكر بنوَّة الرجل الغَنِيٌّ له حسب الجسد، لكن هذه البنوة لم تنفعه شيئًا، بل تدينه، لأنه لم يسلكْ بروح أبيه وإيمانه. أمَّا عبارة "تَذَكَّرْ" فتشير إلى ذكرى الماضي بأن الغَنِيٌّ ابتهج بغناه، واستوفيت خيراته في حياته على الأرض، ونال مكافأته التي يستحقها، وهذه الذكرى لا تطمس في العالم الآخر؛ من أشد عذاب الأشرار في الجحيم أن يذكروا حوادث حياتهم على الأرض وفرص الخلاص التي لم ينتهزوها، والخطايا التي ارتكبوها. فأن ضميرهم يوبِّخهم على كل ما يذكرون من ذلك كما يؤكده " كَيفَ مَقَتُّ التَّأديب واْستَهانَ قَلْبي بِالتَّوبيخ ولم أستَمع لِصوتِ الَّذينَ علَّموني ولا أَمَلت أُذُنَيَّ إِلى الَّذينَ أَدَّبوني حَتَّى لقَد كِدتُ أَكونُ في أَشَدِّ الشّرِّ في وَسْطِ المَحفِل والجَماعة " (أمثال 5: 12-14). ويُعلق القديس كيرلس الكبير على الرجل الغَنِيٌّ " قد قدَّمت خيراتك لشهواتك وللتملِّقين، ولم تذكر مرة واحدة المريض والمتألَّم، لم تشفق على لعازر عندما رأيته ملقيًا عند أبوابك. وكان يعاني من أمرين، آلام قروحه الشديدة وحاجته لضروريات الحياة". وأمَّا عبارة "نِلتَ " فتشير إلى نوال الإنسان كل ما له حق أن يتوقعه من ديون أو هبات وغيرها. والمعنى هنا أن لا حق له أن ينتظر بعد ذلك شيئا من البركات الإلهية، لانَّ زمان نوالها قد انتهى. وأمَّا عبارة "خَيراتِكَ في حَياتِكَ"فتشير إلى العطايا الزمنية كالغنى وأمثاله. ويُنسب الخيرات إليه لأنه اختارها نصيبًا وفضَّلها على كل ما سواها من الخيرات. إن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على لذات الدنيا والسعادة الأبدية معًا. وفي هذا الصدد يقول عموس النبي "وَيل لِلمُطمَئِنِّينَ الذين يَضَّجِعونَ على أَسِرَّةٍ مِن عاج وَينبَطِحونَ على أَرائِكِهم ويأكُلونَ الحُمْلانَ مِنَ الغَنَم والعُجولَ المُخْتارَةَ مِنَ المَعلَف ...ويَشرَبونَ الخَمرَ بِالكُؤُوس ويَدَّهِنونَ بِالأَدهانِ النَّفيسَة ولا يَكتَئِبونَ لِآنكِسارِ يوسُف" (عاموس 6: 1-6)). وأمَّا عبارة "نالَ لَعاَزرُ البَلايا " فتشير إلى الفقر والجوع والمرض القاسي وهي شرور بنظرة الغَنِيٌّ له؛ أمَّا عبارة "أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا" فتشير إلى تمييز الفارق في الزمان والمكان. هذه هي تقلبات الزمن. يجب إلاّ نستهتر بالحياة البشرية على الأرض؛ أمَّا عبارة " يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب" فتشير إلى مبدأ انقلاب الأوضاع والأدوار بعد الموت حيث يُصبح الغَنِيٌّ فقيراً، والفقير غَنِيٌّاً، والسعيد شقيَّاً، والشقي سعيدا، وينال الفقير سعادته، وينال الغَنِيٌّ عقابه. وهنا نجد تفسير حيّ لوعظة يسوع " طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله "، " لكِنِ الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغَنِيٌّاء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم" (لوقا 6: 20، 24). وهذا ما يؤكده نشيد تعظم "أَشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات والأَغَنِيٌّاءُ صرَفَهم فارِغين" (لوقا 1 53). لا يقصد الرب يسوع بالمثل أن الآخرة هي مجرد عكس للأوضاع الأرضية أي أن الغنى يؤدِّي حتما إلى العذاب والفقر. لكن لعازر يتعزَّى، لأنه متكلٌ على الله، أما الغَنِيٌّ فقد كان أنانياً كافرا وكان متكل على كبريائه وسعادته. الحكم على الغَنِيٌّ ليس فقط بسبب غناه، بل لأنه بغناه حجب نفسه عن أخيه المحتاج وقطع أيّة صلة به، وكأن الله يحاسبه على خير لم يعمله وليس على شر اقترفه. وفي هذا الصدد يقول يعقوب الرسول "لأَنَّ الدَّينونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم"(يعقوب 2: 13). الموت يقلب الموازين، فيصبح الثري شقيًّا والفقير سعيدًا في الآخرة. وفي هذه الآية يقطع أبونا إِبراهيم رجاء الغني في النجاة. إنَّ كلَّ واحدٌ يحصل على مكانه الّذي بناه بيديه أثناء حياته الأرضية وبالتالي نصيبه الّذي استحقّه.
26 ومع هذا كُلِّه، فبَيننا وبَينَكم أُقيمَت هُوَّةٌ عَميقة، لِكَيلا يَستَطيعَ الَّذينَ يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا.
تشير عبارة "هُوَّةٌ عَميقة" في الأصل اليوناني χάσμα μέγα ἐστήρικται, (معناها حفرة فوهتها فارغة عظيمة وثابتة) إلى استحالة تبدّل حالة الراقد بعد الموت. كل ٌيستمر في وضعه، فإمَّا ما ُيرمز إليه بالعذاب وإمَّا يُرمز إليه بالعزاء. فأحكام الله عادلة ونهائية لن تتغير وللأبد. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله " ترمز هُوَّةٌ عَميقة إلى أن الوقت قد انتهى فلا مجال للتوبة". عند الموت ينتهي زمن الرحمة ويبدأ زمن العدل؛ فلا يقدر شرِّير أن يترك الجحيم إلى الفردوس، ولا مجال لأبناء الملكوت بعد رحيلهم أن يسقطوا إلى الجحيم. ويعلق القديس أوغسطينوس" أن الحكم الإلهي لن يتغير ولا يمكن للأبرار أن يتشفعوا بأحد حتى وإن أرادوا ذلك". كانت هوة عظيمة بين الغَنِيٌّ ولعازر الفقير لم يردمها الغَنِيٌّ الجاهل بمحبته ومساعدته وعطاءه. هذه الهوة بقيت في الحياة الأبدية لكنها باتت بين لعازر الغَنِيٌّ بمجد الله والغَنِيٌّ المفتقر له. الهوة بين الأغَنِيٌّاء وفقراء هذا الدهر ستبقى ما دام عالمنا بعيداً عن الله، عالم لا يسعى وراء تنقية القلب والقداسة. أمَّا عبارة " لِكَيلا يَستَطيعَ " فتشير إلى إن مصير الناس يتحدّد عند ساعة الموت، التي لا يستطيع الإنسان بعدها أن يختار؛ أن الوقت قد انتهى فلا مجال للتوبة. فما زرعه على الأرض يناله في الآخرة للأبد. وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس "أن هذا الحديث إنما يكشف عن خطأ أتباع أوريجانوس القائلين بأن الكل سيتجدَّدون عند مجيء المسيح الأخير ولا يهلك أحد". أمَّا عبارة "لِكَيلا " في اللغة اليونانية ὅπως (معناها حتى إنَّ) فتشير إلى الهوة التي تجعل عبور هذا الفاصل أمراً مستحيلا بين الفئتين في العالم الآخر؛ أمَّا عبارة "يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا " فتشير إلى مصير الناس الذي يُحدّد عند الموت تحديداً لا عودة فيه بعكس ما يعتقد أصحاب عقيدة الألفية. وتنص هذه العقيدة بأنَّ يسوع سوف يأتي أولا بشكل غير منظور، وغير معلوم من قبل عامة الناس، ليقيم الأموات الصالحين، ويختطفهم من الأرض مدة سبع سنوات حافلة "بالابتهاج". خلال هذا الوقت ستكون هناك معاناة شديدة على الأرض تسمى "المحنة". وفي نهاية السنوات السبعة، ستجتمع قوى الشر لمحاربة يسوع، الذي سيعود بشكل منظور لهزيمتهم في معركة هرمجدون. وسيقيم يسوع بعد ذلك مملكة دنيوية مدنية، والتي سيسود عليها كملك من أورشليم مدة ألف عام. وفي نهاية الأعوام الألف، سوف يقوم الموتى الأشرار، وبعد ذلك يدان جميع الناس وينالون مكافآتهم الأبدية. أمَّا القديس أوغسطينوس يؤكد" أن الحكم الإلهي لن يتغير ولا يمكن للأبرار أن يترفقوا بأحد حتى وإن أرادوا ذلك".
27 فقال: أَسأَلُكَ إِذاً يا أَبتِ أَن تُرسِلَه إلى بَيتِ أَبي،
تشير عبارة "أَسأَلُكَ إِذاً يا أَبتِ أَن تُرسِلَه" إلى الشفاعة أي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة؛ فبعد أن يئس الغني استجابة صلاته من أجل نفسه يتذكر الغَنِيٌّ الآن ذويه، ويوصي بهم رحمة من إِبراهيم ولعازر المسكين. فإذا كان الغَنِيٌّ الشرير في الجحيم يتشفع في أهله في الأرض، وهو الذي كان بلا محبة في حياته، فكم بالحري الملائكة والقديسون. أمَّا القديس أوغسطينوس فيعلق "إذا طلب الغَنِيٌّ من إِبراهيم أن يرسل لعازر لإخوته، إذ حسب نفسه غير مستحق للشهادة للحق".
28 فإِنَّ لي خَمسَةَ إِخَوة. فَلْيُنذِرْهُم لِئَلاَّ يَصيروا هُم أَيضاً إلى مَكانِ العَذابِ هذا.
تشير عبارة "خَمسَةَ إِخَوة" إلى أنهم الأخوة الستة بصفته هو السادس. ولو استقبلوا لعازر فكانوا سبعة، أي الجماعة الكاملة التي تدخل الملكوت؛ أمَّا القديس أوغسطينوس فيعلق "من هم هؤلاء الإخوة الخمسة الذين يحتاجون إلى موسى والأنبياء ليخلصوا؟ إنهم اليهود الذين يُرمز لهم برقم خمسة، لأنهم تحت الناموس الذي سجل في أسفار موسى الخمسة". ونحن عموماً نشبه الأخوة الخمسة، نرى أمامنا كثيرين يموتون قبلنا ويرحلون عنا، لكننا نلبث بعيدين عن سماع كلمة الله وعن الأعمال الصالحة فماذا ننتظر؟ أمَّا عبارة "فَلْيُنذِرْهُم لِئَلاَّ يَصيروا هُم أَيضاً إلى مَكانِ العَذابِ هذا" فتشير إلى إرسال لعازر لينذر إخوته بعواقب العيش للجسد فقط. فهذا دليل عن النفس تحيا بعد الموت وشقاء الغني إنذارا لإخوته
29 فقالَ إِبراهيم: عندَهُم موسى والأَنبِياء، فَلْيَستَمِعوا إِلَيهم.
تشير عبارة "عندَهُم موسى والأَنبِياء" إلى رد يسوع على سؤال كيف يبتعد إخوة الغَنِيٌّ عن العذاب وذلك عن طريق الاستماع إلى موسى والأنبياء إلى حفظ الشريعة وأقوال الأنبياء كما ورد سابقا في النص " دامَ عَهْدُ الشَّريعَةِ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا، ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلكوتِ الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله. لِأَن تَزولَ السَّماءُ والأَرضُ أَيسرُ مِن أَن تَسقُطَ نُقطَةٌ واحِدَةٌ مِنَ الشَّريعَة"(لوقا 16: 16-17). إن عهد الشريعة والأنبياء حتى يوحنا قد انتهى. ومن هذا المنطلق، إن العهد القديم هو أساس الإيمان المسيحي. ومن هنا تأتي أهمية العهد القديم تجاه من يرفضونه ويستخفون به مثل الغنوصيِّين. أمَّا عبارة " فَلْيَستَمِعوا إِلَيهم" فتشير إلى طاعة موسى والأنبياء وليس بحاجة إلى إرسال لعازر، فأي عذرٍ لمن لا يسمع منهم. وهذا هو تحذير يسوع بالكارثة التي تُهدِّد الناس الذين يُشبهون إخوة الغَنِيٌّ والذين يستمعون إلى الرب ويستهزئون بكلامه.
30 فقال: لا يا أَبتِ إِبراهيم، ولكِن إذا مَضى إِليهِم واحِدٌ مِنَ الأَمواتِ يَتوبون.
تشير عبارة "مَضى إِليهِم واحِدٌ مِنَ الأَمواتِ يَتوبون" إلى إقامة ميت التي لن تكون سببا في توبة أحد. قد طلب الغني مثل طلب اليهود من المسيح آية خاصة إثباتا للإعلان الإلهي "دَنا الفِرِّيسيُّونَ والصَّدُّوقيُّونَ يُريدونَ أَن يُحرِجوه، فسأَلوه أَن يُرِيَهم آيةً مِنَ السَّماء" (متى 16: 1). فإن أعظم المعجزات لا تكفي للتغلب على قساوة القلوب. أقام الرب يسوع لعازر من بين الأموات (يوحنا 11: 46)، ولكن اليهود بالعكس فكَّروا في قتله. ويُعلق القدس يوحنا الذهبي الفم "حقا أن من لا يسمع للكتب المقدَّسة لا يبالي بالميت الذي يقوم من الأموات. هذا ما يشهد له اليهود إذ أرادوا مرة أن يقتلوا لعازر الذي أقامه السيِّد من الموت". الفريسيون طالبوا الرب يسوع بالعجائب، ولكن الرب رفض أن تكون العجائب برهانا للإيمان (مرقس 8: 11-12). الغَنِيٌّ يعكس منطق مسيحيي اليوم: كيف نؤمن دون عجائب وما إلى ذلك؟ في الكتاب المقدس ما يكفي ليقودنا للخلاص دون معجزات.
31 فقالَ له: إِن لم يَستَمِعوا إلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات.
تشير عبارة " موسى والأَنبِياء" إلى الكتاب المقدس الذي كان له تأثير في النفوس أكثر من إقامة الميت. ما من إيمان سوى بالعودة إلى كلمة الله المُعلنة عن طريق موسى والأنبياء والرب يسوع نفسه. "إنجيل المسيح هو قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن" (رومية 1: 16). فالكتاب المقدس كافٍ ليقودنا نحو الخلاص دون معجزات قيامة أحد من الأموات. فما يدفع الإنسان إلى الإيمان هو كلمة الله قبل المعجزات. أمَّا العلامة الحاسمة فهي قيامة يسوع التي لم تُقنع اليهود؛ إنهم لم يؤمنوا بموسى، لذا لن يؤمنوا بيسوع كما قال يوحنا الإنجيلي" لو كُنتُم تُؤمِنونَ بِموسى لآمَنتُم بي لأَنَّهُ في شَأني كَتَب"(يوحنا 5: 46)؛ إن أولئك الذين يرفضون العهد القديم (موسى والأنبياء) سيرفضون النور "الأعظم"، حتى شهادة من "قام من الأموات". أمَّا عبارة " لا يَقَتَنِعوا " في الأصل اليوناني πεισθήσονται فتشير إلى عدم اقتناع إخوة الغني بخطيئتهم وجهلهم وحقيقة الخلود ووجوب التوبة والرجوع إلى الله. أمَّا عبارة "لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات" فتشير إلى العلامة الحاسمة التي تحمل الإنسان على الإيمان التي هي ليست المعجزة الخارقة، بل الكتاب المقدس أي الوحي كما اكّد يسوع لتلميذي عمّواس "فبَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه" (لوقا 24: 27). ومن هنا نجد عنصر السخرية في كلام يسوع "إِن لم يَستَمِعوا إلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات"، وهو في طريقه إلى اورشليم لكي يموت، فإنه كان مُدركا أنَّ الفريسيين لن يقبلوه حتى ولو قام من الأموات. لقد ذكر يسوع عدم تأثير المعجزات في مدن الجليل مثل كُورَزِين وبَيتَ صَيدا وكفرناحوم (لوقا 10: 13)؛ وفضّل يسوع الآيات الروحية على المعجزات كما صرّح لتلاميذه " صَدِّقوني: إِنِّي في الآب وإِنَّ الآبَ فيَّ وإِذا كُنتُم لا تُصَدِّقوني فصَدِّقوا مِن أَجْلِ تِلكَ الأَعمال (يوحنا 14: 11). فطلبُ علاماتٍ من الله هو محاولة تحريك الله كما نشاء، أمَّا الله فيريدنا أن نحيا بالإيمان. إن البراهين على صحة دين الله لا تقنع القلوب القاسية، لان عِلة عدم الإيمان ليست ضعف البراهين بل قساوة القلوب وعُمي العيون. والدليل على ذلك أن قيامة لعازر أخو مريم ومرتا لم يكن تأثيره في اليهود بل قادت قادة الأمة إلى التآمر بقوة على حياة يسوع " فعقَدَ عُظَمَاءُ الكَهَنَةِ والفِرِّيسيُّونَ مَجلِساً وقالوا: ماذا نَعمَل؟ فإِنَّ هذا الرَّجُلَ يَأتي بِآياتٍ كثيرة " (يوحنا 11: 47)، ليس ذلك فحسب؛ لقد شعروا أنه من الضروري التخلص من لعازر من أجل حماية موقفهم الشرير (يوحنا 9-10). وتحقق أيضا رؤساء الكهنة من شهادة الجنود أن يسوع قام بين بين الأموات ولكنهم لم يستفيدوا البتة" جاءَ بَعضُ رِجالِ الحَرَسِ إِلى المدينة، وأَخبَروا عُظَماءَ الكَهَنَةِ بِكُلِّ ما حَدَث " (متى 28: 11). من العبث أن ينتظر الناس رجوع أحد الموتى إليهم ليُخبرهم ما سمع ورأى لكي يتوبوا ويؤمنوا. إننا في الكنيسة لا ننتظر قيامة قديسين أو خبرات مثل هذه لكي نؤمن. فلدينا الكتاب المقدس، وسيرة الأنبياء والرسل والقديسون، ولدينا أقوالهم وتعاليمهم، ونحن بهذه التعاليم والشهادات نؤمن بوجود حياة أبدية. نجد في هذه الآية تشديد على ضرورة التوبة والإيمان بكلمة الله كي ننجو من الدينونة ونال الخلاص.
ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 16: 1-13)
انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 16: 19-31)، نستنتج انه يتمحور حول تغيّر الموقف الذي يؤدِّي إليه الانتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة وفقا لاستخدام الغنى الأرضي لمساعدة القريب. فمثل الغَنِيٌّ ولّعازر (لوقا 16: 19-31) مستوحى من موضوع معروف في مصر القديمة وفي الدين اليهودي. والمثل يحتوي على ثلاثة مشاهد وهي حياة الغَنِيٌّ والفقير في الأرض، وحياتهما بعد الموت، وأخيرا طريق الخلاص.
المشهد الأول: حياة الغَنِيٌّ والفقير لعازر على الأرض (لوقا 16: 19-22)
يصف المثل حياة الرجل الغَنِيٌّ ونفسيته وخطيئته. أن اسمه غير مذكور لان هنا لا يتم التركيز على هويته وشخصه، ولكن على ما يملك، لأن حياته مرتكزة على الغنى المادي. والرجل الغَنِيٌّ هو واحد من وجوه المجتمع، ومن ذوي المكانة والجاه، وكان يعشق رفاهة العيش وهمّه الدنيا والبذخ المُسرف، فكان يرتدي أفخر الثياب، ويُعدَّ آخر موائد الطعام.
وهو دون اسم، أنه نكرة، حيث أنَّ الأنانية في استخدام أمواله أفقدته الاسم، لان الشخص الأناني يعيش وحده، ولا مجال لأية علاقة بينه وبين الآخرين خاصة الفقراء والمحتاجين، ومن بينهم لعازر الفقير. ويُعلق القديس كيرلس الكبير بقوله " إن الغَنِيٌّ كونه غير رحيم كان في حضرة الله بلا اسم، إذ قيل بصوت المرتل عن الذين لا يخافون الرب "بِشَفَتَيَّ أَسماءَها لا أَذكُر" (مزمور 16: 4).
أمَّا فلسفة الرجل الغَنِيٌّ فتقوم على أنَّ الإنسان موجود على الأرض لكي يتنعم ويتلذَّذ، بحسب مبدأ الشاعر الروماني هوراس "Carpe diem" ومعناها عش يومك "لنأكُل ونشرب ونمرح، لأننا غدا نموت". وقد وصف صاحب سفر الحكمة هذه الفلسفة بقوله "فإنَّ أيَّامَنا مُروُر الظِّلّ ونهايَتَنا بِلا رَجعَة لأًنَّه مَخْتومٌ علَيها فما مِن أَحَدٍ يَعود. فتَعالَوا نَتَمَتعُّ بِالطّيِّباتِ الحاضِرَة ونَنتَفعُ مِنَ الخَليقَةِ بِحَمِيَّةِ الشَّباب. لِنَسكَرْ مِنِ الخَمْرِ الفاخِرَةِ والعُطور ولا تَفُتْنا زهرَةُ الرَّبيع ولنتَكلَلْ ببَراعِمِ الوَردِ قَبلَ ذُبولي ولا يَكُنْ فينا مَن لا يَشتَرِكُ في قَصفِنا. لِنَظلُمِ البارَّ الفَقيرَ ولا نُشفِقْ على الأَرمَلَة ولا نَهَبْ شَيبَةَ الشًيخِ الكَثيرةَ الأيَّام " (الحكمة 2، 5-10). ويحذِّر موسى النبي من ذلك بقوله "أنه متى أكلت وشربت "تَنَبَّهْ لِئَلاَّ تَنْسى الرَّبَّ إِلهَكَ" (تثنية الاشتراع 8: 11). إننا لم نولد ولا نعيش لكي نأكل ونشرب، إنما نأكل ونشرب لكي نعيش.
لم يذكر يسوع أي خطايا للغَنِيٌّ سوى أنه عاش لنفسه وأهمل الفقير الذي على بابه وهو في غاية الاحتياج إليه. لم يستعمل الغني أملاكه ليُعزّيه ولم يفتح بيته كي يدخل لعازر إليه، بل عامله كأنه ليس موجود. وكأنّه أقام هُوَّةً عَميقةً بينهما. وهذه الهوة نفسها تفصل بيت هاتين الشخصيتين بعد الموت. ويُعلق العلامة ايرونيموس" إنّ العيب ليس في الغنى عند "الرجُل الموسر" بل في قساوته وتصلّبه وعدم شعوره مع المسكين، وعدم "مؤازرته" للمعوز المسمّى "لعازر"(في عظته رقم 86). خطيئته هي الإهمال، إهماله للقريب وتجاهله لعازر الفقير واللامبالاة في تعامله معه، واللامبالاة، تعتبر أنّ الآخر غير موجود؛ وهنا تظهر أهمية الوصية "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ " (لوقا 10: 27).
خطيئة الرجل الغني إذا ليس إنه فعل شراً، بل أنه لم يفعل خيراً. لم تقم تهمه ضده، ولم تعلق بأخلاقه وصفاته وصمة تشينه، ولم يقل أحد إنه استغل ماله في طرق محرّمة أو انه كسب المال بأساليب غير مشروعة؛ فخطيئته ليست في كونه غَنِيٌّاً، بل كان الغنى في العقلية اليهودية علامة رضى وبركة من الله، إذ إِبراهيم كان غَنِيٌّا وأيوب كان غَنِيٌّا، ولعازر صديق يسوع كان غَنِيٌّا. ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس "لم يكن إِبراهيم غَنِيٌّاً لنفسه، إنما للفقراء؛ عوضاً عن الاحتفاظ بثروته، عرض تقاسمه"(عظته عن الغَنِيٌّ ولعازر". خطيئته إذاً ليست غناه، لأنّ كلّ ما نمتلكه هو عطيّة الربّ، والمال هو عطيّة الربّ. خطيئته في استخدام أمواله واحتقاره للفقير لعازر وعدم مساعدته.
خطيئة الرجل الغني ليس أنه يعيش في حياة ترف، بل أنه يرى الفقير مرتين وثلاثًة مرات بل ومرات عديدة كل يوم ملقى عند بابه، دون أن يفكر فيه أو يلين قلبه في مساعدته؛ ويقول القدّيس برناردس "إن لم تساعد أخاك الفقير، فأنت تسلبه حقّه وتقتله ". فخطيئته تكمن في كبريائه وقسوته، كونه لا يعرف ولا يريد أن يعرف أن غاية الإنسان هي العلاقة الحسنى بالله من خلال علاقته بأخيه الإنسان من حيت العدل والمحبة. وبموجب فضيلتَيْ العدل والمحبَّة، يجب على الغَنِيٌّ ألاّ يتمتَّع وحدَه بخيراته الوافرة ويترك الفقير قابع في بؤرةِ فقره، لذا قال إِبراهيم ذلك للغَنِيٌّ: " تذكَّرْ أَنَّك نِلتَ خيراتِكَ في حياتِكَ " ولم يُشرِك فيها الفقراء، فهو يُعاقب على ذلك. ومن هذا المنطلق، فان خطيئته تكمن في عدم مشاركته مع لعازر الفقير المُعوز بل تحجر قلبه تجاهه. وبالرغم من ترفه الشديد بالدنيويات لم يكترثْ به ولم يتحرك صوبه. فكانت الكلاب أفضل منه، لأنها "كانت تأتي فتَلحَسُ قُروحَه" (لوقا 16: 21). وقصارة القول، خطيته تكمن في قسوته، فان الله منحنا الخيرات، لكي نسعد بها غيرنا، وليس لمجرد تمتعنا الشخصي.
أمَّا الفقير له اسم لعازر לַעְזָר، ومعناه "الله يُعين" وهو اسم يناسبه. فهو الذي لا يتكل على ذاته، وإنما على الله معينه. ويُعلق البابا غريغوريوس" أشار ربَّنا إلى اسم الفقير دون اسم الغَنِيٌّ إذ يعرف الله المتواضع ويزكيه دون المتكبر". إذ كان عنوان حياة لعازر ورمزها الاتكال على الله، أمّا اسم الغَنِيٌّ فلم يُذكر لعدم أهميته، هذا معنى قول السيد "ما عرَفْتُكُم قَطّ. إِلَيْكُم عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة " (متى 7: 23).
وأمَّا حياته فكان لعازر فقيرا، وجائعا ومريضا ومحروما. كان فقيرا بل فقيرًا جدًا، إنه بحاجة إلى الغير ولا يستطيع أن يستغَنِيٌّ عن الغير ولا عن فتات الخبز التي كانوا في بيت الغَنِيٌّ يمسحون بها أصابعهم ثم يرمونها أرضا.
بالإضافة إلى فقره كان يعاني من ضعفٍ جسديٍ الذي هو أقسى بكثير من الفقر، فكان جسمه مغطَّى بالقروح، ويتعذَّب من مرضٍ خطيرٍ بلا علاج؛ وبجانب هذا الضعف أيضًا، كان ملقى عند باب الغَنِيٌّ ومحرومًا تمامًا من الذين يعولونه، مع صعوبة إيجاد أي مؤونة لسّد حاجته، وهو ينظر إلى الأطعمة الفاخرة ويتمنى لو يُعطى نصيبا من الفتات المتساقط على الموائد. مع انه يحق له أن يتمتع بخيرات الدنيا التي هي في حوزة الغَنِيٌّ، الأمر الذي ضاعف من مرارة فقره وضعفه. فعدم وجود من يعوله يجعل ألمه أشدَّ، خاصة عدم اكتراث الغَنِيٌّ به بالرغم من ترفه. ومع كل ذلك لم يذكر لوقا الإنجيلي أنّ لعازر الفقير كان يتذمّر أو يشكو أو ما شابه.
ونستنتج مما سبق إن الغني كان لابسا الأرجوان والكتان الناعم، ولعازر الفقير عاريا ظاهر القروج، الغني يتنعم كل يوم بوليمة فاخرة، والفقير يشتهي الفتات، الغني له خدم كثيرة تقوم بقضاء كل حاجاته والفقير لا خادم له سوى الكلاب، هذه حال كل منهما في هذا العالم.
ليس كل فقر بالضرورة مقدَّسًا، ولا كل غنى يكون ممقوتًا؛ بمعنى آخر ليس الفقر غاية في ذاته ولا الغنى شر في ذاته، إنما حياة الإنسان هي التي تفسد هذا أو ذاك؛ الحياة المترفة غير المترفِّقة بالمحتاجين تُهين الغنى، والحياة المقدَّسة الشاكرة تُزين الفقر. أننا كلنا فقراء بحسب القديس باسيليوس "الفقير ليس هو من لا يمتلك خيرات بل هو من اعتنق حالة الفقر الروحي". "الفقير هو الفقير لله"؛ هكذا عندما نسمع طوبى للفقراء فإنهم سيشبعون (لوقا 6: 20-21) ندرك للحال أن هذه الطوبى هي للمفتقرين لمجد الرب، المعوزين محبته وعطفه، والساعين إليه.
المشهد الثاني: حياة الغَنِيٌّ والفقير لعازر بعد الموت (لوقا 16: 23-31)
يُطلعنا المثل على ما ينتظر الغني ولعازر بعد الموت. مات الغَنِيٌّ ودفن (لوقا 16: 16). وكانت جنازته رائعة تحفُّها العظمة والجاه، بدليل ذكر كلمة "دفن" أي ستر جسده وأوراه التُّراب. وكان ثمة نائحون مأجورون ودموع مأجورة فضلا عن الدموع الحقيقية التي ذرفها أصحابه وذوو قرابته. ولا يوجد ذكر للملائكة. فانهم لم يلازموا الغَنِيٌّ في موته.
أمَّا دفن لعازر فلم يذكر عنه شيء. ولعلَّ ذوي الرحمة حملوه إلى مقبرة الفقراء. على أنَّ القصة تقول إن "المَلائِكَةُ حَمَلَتهُ إلى حِضْنِ إِبراهيم "(لوقا 16: 22). وفي هذا الصدد قيل في سفر الحكمة " أَمَّا نُفوسُ الأَبْرارِ فهي بِيَدِ الله فلا يَمَسَّها أَيّ عَذاب. في أَعيُنِ الأَغْبِياءِ يَبْدو أَنَّهم ماتوا وحُسِبَ ذَهابُهم مُصيبَةً ورَحيلُهم عنَّا كارِثَةً لكِنَّهم في سَلام وإِذا كانوا في عُيونِ النَّاسِ قد عوقِبوا فرَجاؤُهم كانَ مَمْلوءًا خُلودًا "(الحكمة 3: 2، 3).
وبعد دفنه "حَمَلَتهُ المَلائِكَةُ إلى حِضْنِ إِبراهيم" (لوقا 16: 22)؛ فموت لعازر كان لقاءً بالربّ، أمّا موت الغَنِيٌّ فكان انفصال عنه. انتقل لعازر إلى حيث لا عذاب ولا ألم ولا جوع ولا ظلم ولا قهر. إنّه ينعم بالرّفاهيّة الحقيقيّة، وهي الحياة مع الربّ. أمَّا انفصال الغَنِيٌّ عن الربّ جعله يُدرك أن الثروات التي استخدمها كانت علاجا زائفا بالتنعم بإقامة الولائم، إذ لم تتمكن التغلب على الموت وأبعاده. وأدرك أهمية لعازر في حياته. كان يمكن للغنيّ أن يلتفت إليه ويشركه بنعمة الله، ولكنّه فضّل الأنانية. تعلق الأمّ تريزا: "سوف ندرك في السّماء ما قدّمه الفقراء لنا، لأنّهم طريقنا إلى قلب الله".
وأدرك الغني أن غناه لا يدوم إلى الأبد بل خدعه، إنما الصداقة مع الفقراء فقط الذي يملك قوة الانتصار على الموت. لذلك للفقير حقّ عليهّ ومن واجبه أن يشركه بنعم الله. لا يساعده بدافع الشّفقة، وإنّما يعطيه حقّه، ولأنّه يرى يسوع فيه. وتعلق الأم تريزا "أرى الله في كل إنسان عندما أغسل جراح إنسان، أشعر بأنني أداوي الله نفسه. أليست تجربة جميلة؟". لذا لما رأى الغَنِيٌّ وهوَ في الجحيم إِبراهيم عَن بُعدٍ ولَعازَر في أَحضانِه (لوقا 16: 23)، أزداد عذابه إذ يرى نفسه لا ينعم بما لدى الغير كما يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "عذابه يتزايد برؤيته أفراح الفقير".
قلبَ المسيح المقاييس والموازين. فهناك يتصدر إِبراهيم أبو المؤمنين وليمة، ويتكئ إلى جانبيه في مركز الكرامة لعازر الفقير. فغدى لعازر غَنِيٌّا، والغَنِيٌّ فقيراً يتوسل نقطة ماء بارد " يا أبتِ إِبراهيم ارحَمنْي فأَرسِلْ لَعاَزر لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصبَعِه في الماءِ ويُبَرِّدَ لِساني" (لوقا 16: 24). وكأن كلمات سفر الحكمة تتحقق على لسان الغَنِيٌّ "هُوَذا الَّذي كُنَّا حينًا نَجعَلُه ضُحكَةً ومَوضوعَ تَهَكُّمٍ نَحنُ الأَغْبِياء! لقَد حَسِبْنا حياتَه جُنونًا وآخِرَتَه عارًا فكَيفَ أَصبَحَ في عِدادِ بَني الله وصارَ نَصيبُه مع القِدِّيسين لقَد ضلَلْنا عن طَريقِ الحَقَ ولم يُضِئ لَنا نوُر البِرّ ولم تُشرِقِ الشَّمسُ علَينا" (حكمة 5، 4-7). فالغَنِيٌّ قد استوفى نصيبه من خيرات الأرض كما ذكّره إِبراهيم (لوقا 16: 25)؛ ويعلّق القديس أمبروسيوس "صار الغنى فقرًا، والفقر غنى. فقد صار الغَنِيٌّ في عذاب إذ حُرم من الملذّات بعد أن كان مترفًا، وهو الآن يتوق في الجحيم أن يبّل الفقير طرف إصبعه بماء ويبرِّد لسانه. أنه محتاج إلى الماء غذاء الروح وقت البليَّة".
ويحدث مبدأ انقلاب الأوضاع بعد الموت كما جاء في تصريح أبينا إِبراهيم إلى الرجل الغَنِيٌّ: "يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب" (لوقا 19: 25)! وأوضَّح يسوع تلك المواقف في مثل الغَنِيٌّ ولعازر الفقير التي يصف تغيير الموقف الذي يؤدِّي إليه الانتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة (لوقا 16: 19-26). فذاك الذي كان محتقَراً على الأرض يتمتع الآن بأعظم الإكرام، وهذا الغَنِيٌّ المتكبّر القاسي القلب الذي لم يعرف الشفقة يصرخ طالباً الرحمة. يبدو في ملكوت الله انقلابا للمواقف الحاضرة. فالغَنِيٌّ نال الويلات ليس بسبب ثروته بل لرفضه تقاسمها وعدم اكتراثه بمعاناة قريبه لعازر الفقير عند بابه ولم يستعمل أملاكه ليعزِّي المحتاجين ولم يفتح بابه كي يدخل الجميع. بالعكس من ذلك جعل مسافة وهوة بينه وبني الفقراء وبنى حدودا وأغلق الأبواب. إنّ كل إنسان يقوم بحفر تلك الهوة أثناء الحياة، بيد الإنسان يتمّ بناء جحيم العزلة أو يمهد الطريق للعودة إلى حضن إبراهيم في الفردوس.
وحُرم الغَنِيٌّ من أبيه إِبراهيم، إذ يراه بعيدًا جدّا عنه، هذا الذي كان يفخر قبلًا في عجرفة أنه ابن إِبراهيم دون أن يحمل إيمانه عمليا. يقول الكتاب المقدَّس أن الحكم بلا رحمة للذين لا يستعملون الرحمة "لأَنَّ الدَّينونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم" (يعقوب 2: 13). نرى هنا التباين معكوساً بين الغَنِيٌّ والفقير في الهاوية، وهي العالم الذي يذهب إليه الأموات انتظاراً للدينونة الأخيرة.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك هُوَّةٌ عَميقة (لوقا 16 26) أزلية بين الغَنِيٌّ ولعازر " لِكَيلا يَستَطيعَ الَّذينَ يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا" (لوقا 16: 26). إن مصير الإنسان يكون في الأبدية ما اختار أن يكون في الزمن. ساعة الموت يكون ما كُتب قد كُتب. دون أمل للعودة إلى الوراء لان هناك هوة عظيمة. لا يستطيع أحد أن يجتازها. ويكشف يسوع هنا أن التوبة أصبحت مستحيلة. فمن يختار العزلة واحتقار الغير يحكم على نفسه بالعزلة الأبدية، حيث أنَّ مصيرنا في الآخرة يتوافق وخيارنا في الحاضر. فمن كان منفتحا على الله وعلى الناس، يتمتع بالله والإنسان بعد الممات؛ اختيارنا هنا يُحدِّد اختيارنا هناك كما نستشفه من نشيد تعظم" َشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات والأَغَنِيٌّاءُ صرَفَهم فارِغين" (لوقا :1 53).
قَبِل الغَنِيٌّ الأمر الواقع وسلم بعدالة الواقع. انه كمن يفطن إلى مسؤوليته تجاه الفقير لعازر، لآنه لم يأبه إلى وجود لعازر على بابه "لِأَنَّ الرَّفيعَ عِندَ النَّاسِ رِجْسٌ في نَظَرِ الله" (لوقا 16: 15). وهكذا كان الغَنِيٌّ في عذاب. عذاب من تعب نفسه، عذاب لأنه بدأ يحصد ثمار ما قد زرعه. عذاب في المقارنة بين حياته في العالم وحياته الآن. عذاب في المقارنة بينه وبين لعازر المسكين. عذاب من جهة إحساسه بغضب الله عليه. عذاب من جهة عدم استجابة أبينا إِبراهيم لطلب من طلباته. عذاب ليس له رجاء، إذ يرى عذابه لا ينتهي؛ وأخيرا عذاب من جهة أخوته الذين في العالم. فالرب يسوع يحذرنا حتى لا نُضيّع حياتنا في الركض وراء الأرضيات الفانية وننسى الله والقريب فنخسر بذلك علاقتنا الأبدية.
ونستنتج مما سبق، إن كنَّا قد بنينا روابط صداقة هنا على الأرض سنجدها هناك في السماء وستكون لنا خشبة خلاص؛ وإن كنا بنينا هوة وأبقينا الأبواب معلقة ستبقى مغلقة. ويُعلق القديس ايرينيوس أنَّ النفس التي تركت الجسد لا تلبس جسدًا آخر كما يظن الذين ينادون بتناسخ الأرواح، وان النفوس تعرف بعضها البعض حتى قبل أن تلبس الجسد الممجد في اليوم الأخير". والغَنِيٌّ عرف لعازر، بل عرف إِبراهيم الذي لم يراه على الأرض، وأخيرا إن النفوس وإن كان لها بداية لكنها تبقى خالدة، إما في الملكوت أو في جهنم. أأنت مع المسيح في هذه الدنيا، تنتقل إليه في الدنيا الأخرى. أأنت عدوه هنا، تبقى عدوه هناك. أنت تكون نفيتَ نفسك عن وجهه. ولا يحوّلك الموت من إنسان شرير إلى إنسان صالح.
المشهد الثالث: طريق الخلاص (لوقا 27-31)
اخذ الرجل الغَنِيٌّ يتوسل إلى إِبراهيم بشأن إخوته الذين هم في خطر داهم كيلا يواجهوا نفس المصير إن لم يبلغهم نذير. فقال لإِبراهيم "فإِنَّ لي خَمسَةَ إِخَوة. فَلْيُنذِرْهُم لِئَلاَّ يَصيروا هُم أَيضاً إلى مَكانِ العَذابِ هذا" (لوقا 16: 28). فكيف يمكن لفاقد الخلاص أن يطلب من أجل خلاص الآخرين. بالرغم من ذلك، إن إِبراهيم أخبره أنَّ الإنذارات متوافرة وجدير بالبشر أنَّ يكونوا رحماء، لان هذا تفرض عليهم إنسانيتهم لا خوفا من وعيد ولا طمعا في وعد. إنَّ أشد الإنذارات تعجز عن ردع "الغَنِيٌّ" عن أوهامه. فان الأنانيَّة وتحجر قلبه تحول دون قراءة " علامات الله". لذلك لن تقنعه قيامة ميت.
يتذرع الناس بعلامات بدل أن يصغوا إلى كلمة الله التي لا يزال يُرددِّها الأنبياء، وأصبحت متجسدة في يسوع المسيح. فقالَ إِبراهيم "إِن لم يَستَمِعوا إلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات" (لوقا 16: 31). من لا يسمع كلام الله ويعمل بموجبه، لن يتوب ولو شاهد أكبر العجائب. من لا يؤمن بكلام الله، لن يؤمن لو شاهد أعجوبة إنسان يقوم من بين الأموات. وهنا نتساءل هل آمن الفريسيون بعد أن رأوا لعازر أخ مريم ومرتا يقوم من القبر؟ "؛ خلاصنا إذاً بسماع الكلمة، لا بمعاينة الرؤى. أساس التوبة الإيمان، وأساس الإيمان كلمة الله.
والجدير بالذكر أنَّ نشير إلى الفرق بين الاستماع والسماع. فالاستماع يعني الإصغاء، أمَّا السماع معناه الاستجابة والعمل بموجب كلام المتكلم. والأهم ليس الاستماع إلى كلام الله بل السماع له أي العمل بموجبه كما جاء في تعليم يعقوب الرسول. "وكونوا مِمَّن يَعمَلونَ بهذه الكَلِمَة، لا مِمَّن يَكتَفونَ بِسَماعِها فيَخدَعونَ أَنفُسَهم " (يعقوب 1: 22). قال الربّ: "طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون" (متى 5: 7). فالرحمة هي من أهمّ التطويبات: طوبى لمَن "يَعطِفُ على الكَسيرِ والمِسْكين ويُخَلِّصُ نُفوسَ المَساكين" (مز72: 13)، وأيضًا: "طوبى لِلرَّجُلِ الَّذي يَرأفُ ويُقرِض (مز112: 5)، وفي مكان آخر: "طَوالَ النَّهارِ يَرأَفُ البار ويُقرِض ونَسلُه مُبارَك (مز36: 26). فلنتقيّد بهذه التطويبة: لنظهر له إذًا الرحمة من خلال أيدي مساكين اليوم على الأرض، لكي يقوموا في يوم رحيلنا من ههنا، بإدخالنا "إلى المساكن الأبديّة" (لوقا 16: 9)، في ربّنا يسوع المسيح نفسه.
العبرة
يعتبر الفريسيون الغنى دليلا على رضى الله. فحيّرهم يسوع بهذا المثل الذي يقول فيه إن الفقير المريض بالقروح قد حصل على مكافأة حسنة. وأن الرجل الغَنِيٌّ قد عُوقب. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لا يقدر أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذِ نفسه"، موضحًا أن الذي يسيء إلى الإنسان هو سلوك الإنسان وحياته وليس غناه أو فقره. وفي الواقع، عوقب الغَنِيٌّ بسبب الأنانيَّة في استخدام أمواله، إذ لم يُطعم لعازر، ولم يعطه حقّه. إنّ مقدار المال الّذي يمتلكه ليس هو المهمّ، بل الأهمّ هو طريقة إنفاقه واستخدامه. وتعلق الأم تريزا " أرى الربّ في كل إنسان. عندما أغسل جراح إنسان، أشعر بأنني أداوي الربّ نفسه. أليست تجربة جميلة؟" في حين كان الرجل الغَنِيٌّ قاسي القلب برغم ما لديه من بركات وخيرات وأملاك. ويعلق المجمع الفاتيكانيّ الثاني " وإزاء هذا العدد الوفير من الجائعين في أنحاء العالم كافة، يلح المجمع على الجميع بمن فيهم السلطات، ليتذكروا كلام الآباء هذا: "أعط الطعام لمن يموت جوعاً، فإن لم تطعمه تكون قد قتلته" (فرح ورجاء: دستور رعائي في "الكنيسة في عالم اليوم، العدد 69).
ليس الغنى في نظر يسوع شرّا في حد ذاته، غير انه يعرض صاحبه لخطرين: من ناحية أن الثروة قد تؤدي إلى تحجر قلب الغَنِيٌّ “تجاه الله"، واكتفائه بسعادة هذه الحياة، وتجاهله الحياة الأبدية؛ ومن ناحية أخرى أن الثروة قد تؤدي إلى تحجر قلب الغَنِيٌّ " تجاه الآخر"، وتمنعه من رؤية الفقير المنطرح أمام بابه. وقد انتقد البابا فرنسيس "عدداً كبيراً جداً من الناس، الذين يتظاهرون بعدم رؤية الفقراء، ولا وجود للفقراء بالنسبة له". وحذَّر البابا "إن لم تفتح أبواب القلب على مصراعيها للفقراء، فستظل هذه الأبواب مغلقة أمام الله أيضا". واختتم البابا قوله إن "هذا أمر فظيع"، لأن "تجاهل الفقراء هو بمثابة ازدراء لله".
ويُطلعنا المَثِل أيضا على الغنى الذي يمكن استخدامه كعلاج زائف ضد الموت إذ بإمكانه أن يوهم المرء بقدرته على التغلب على الموت وإبعاده. فكان الرجل الغَنِيٌّ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماً فاخِراً" (لوقا 16: 19) كما لو لم يكن ثمة أمر آخر سوى هذا النوع من الحياة. إلا أن الغنى لا يدوم إلى الأبد. سمح الرجل الغَنِيٌّ للثروة أن تخدعه إلى أن أتى الموت ووضعه أمام حقيقة بلا ثروات وبلا أصدقاء وبلا عائلة. وفي الواقع ما ينتظرنا بعد الموت، إمَّا الخلاص وإمَّا الهلاك: إن كنَّا قد بنينا روابط وجسور صداقة من خلال أموالنا سنجدها هناك مرة أخرى وستكون لنا خشبة خلاص كما اكَّد يسوع " الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه " (متى 25: 40). وإن كنا قد بنينا هوّة بيننا وبين الفقراء وأبقينا الأبواب مغلقة فهذا ما سنجده بعد الموت كما أكده أيضا يسوع المسيح "الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه. فيَذهَبُ هؤُلاءِ إلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إلى الحَياةِ الأَبدِيَّة" (متى 25: 45-46).
الخلاصة
مَثَل الغني ولعازر هي مثل بشكل قصة دون الإشارة إلى أية شخصية تاريخية. وهي تُظهر أن هناك فريقين من الناس ستتغيَّر ظروفهم تغييرًا جذريًّا. واضح أن الإنسان الغني هو رمز إلى رجال الدين اليهود الذين كانوا ‹يحبُّون المال› (لوقا 16: 14)، فهم كانوا يستمعون ليسوع، لكنَّهم يعارضون رسالته. كما كانوا يحتقرون عامة الناس (يوحنا 7: 49). أمَّا لعازر فهو رمز إلى عامة الناس الذين قبلوا رسالة يسوع وكانوا مكروهين من رجال الدين اليهود.
والتغيير في الظروف كان تغييرًا جذريًّا بالنسبة إلى الفريقين. كان رجال الدين اليهود يعتقدون أن الله راضٍ عنهم. لكنَّهم ماتوا مجازيًّا حين رفضهم الله ورفض طريقة عبادتهم لأنهم لم يقبلوا رسالة ابنه يسوع المسيح. بل كانوا يتعذَّبون بسبب الرسالة التي بشَّر بها يسوع وأتباعه (متى 23: 29-30). وأما عامة الناس، الذين تجاهلهم قادتهم الدينيون لوقت طويل، فهم الآن في وضع أفضل. فكثيرون منهم قبلوا تعاليم يسوع المؤسسة على الأسفار المقدسة واستفادوا منها. فصار لديهم الآن الفرصة أن ينالوا رضى الله إلى الأبد (يوحنا 17: 3).
ويعلمنا المثل أيضا أنه بعد الموت ينفصل الأشرار عن الله إلى الأبد، وأنهم في عذاب، وأنه لا يوجد حل لحالتهم. ولا يدل المثل على صراع الطبقات بين الأغَنِيٌّاء والفقراء والاَّ لماذا ذكر إِبراهيم الغَنِيٌّ يتصدر الوليمة الحافلة. إن الكتاب المقدَّس يشهد عن إِبراهيم أنه كان غَنِيٌّا جدًا، لكنه كمحبٍ للعطاء. ولا يشجع المثل على النظرة الاستسلامية: الأغَنِيٌّاء في الجحيم والفقراء في النعيم، ويصبح الفقراء ضحايا الظلم الاجتماعي كما كانت تنظر الشيوعية بزعامة كل من كارل ماركس ولينين وستالين حيث انطلقت من هذه النظرة المقولة المأثورة " الدين أفيون الشعب".
ولا يصف المثل وصفاً دقيق للسماء أو لجهنم. بل يشدِّد المثل على الخطر الذي يُهدد أمثال الغَنِيٌّ وإخوته. كما المثل هو درس عن الإنسانية في هذا العالم وليس درسا عن الوجود في العالم الآخر. المثل هي قصة كل غَنِيٌّ يجعل همّه في ديناه، ودينه في ماله، ويعبده من دون الله، وينفق منه على نفسه وشهواته وملذاته، ولا يلتفت إلى فقير الذي لا يملك من دنياه رغيفا، ونسى أنَّ الفقير هو طريق لله. وتعلق الأمّ القديسة تريزا "سوف ندرك في السّماء ما قدّمه الفقراء لنا، إنّهم طريقنا إلى قلب الربّ "؛ هذه هي أهمّيّة مثل الغَنِيٌّ ولعازر، كان يمكن للغَنِيٌّ أن يلتفت إليه ويشركه بنعمة الربّ، ولكنّه فضّل الأنانية.
الفكرة الأساسية في هذا المثل أيضا هي ليس معالجة مشكلة من المشاكل الاجتماعية، بل هي تحذير لمن هم كإخوة الرجل الغَنِيٌّ، الذين سيقودهم تصرفهم إزاء الفقراء إلى الهلاك. يدعونا هذا المثل لئلا نعيش بطريقة خالية من الهمّ تجاه الآخرين الموجودين على باب حياتنا بل يدعونا لفحص قلوبنا تجاه الفقراء المحيطين بنا.
غير أن رسالة مثل الغَنِيٌّ ولعازر لا تقتصر على هذا فقط. ففي الجزء الأول كلام عن محاسبة الله للبشر على تصرفهم وموقفهم من الفقراء والمساكين، وأن على إتباع المسيح أن يعوا ذلك. عندما يواجه كلّ إنسان حقيقته، يكتشف الغَنِيٌّ مدى التعاسة التي تربّى عليها هو وإخوته، رغم تحذيرات الكتب والأنبياء.
وأخيرا ما هو موقفنا تجاه أموالنا؟ هل نكنزها لنفسنا في الأنانية أم نستخدمها لمنفعة الآخرين؟ هل نرى حاجة الآخرين اليوم؟ هل نستطيع الخروج من ذواتنا ونعطي للأخر وكيف؟ إن الطرق كثيرة وعديدة وكل منا حسب إمكانياته ووفق قدراته قد يكون بإطعام فقير أو إعطاء المال أو الخدمة التي فيها نخرج من ذواتنا ونعطي للأخر من وقتنا، من معرفتنا، المهم إن نستخدم الوزنات التي أعطانا إياها الرب، حينها سنرى بركة الرب على ما أعطانا من وزنات. قد يرسل اللهُ فقيرا لنعطيه، ولا يرسَلَهُ إلينا لنصرِفَهُ خالي اليدَين مكتفيين بالقول له "الله يعطيك". وقد أشار غبطة البطريرك الكلداني لويس روفائيل الأول ساكو إلى أن "اليوم لدينا الكثير من لعازر والأغَنِيٌّاء. الأغَنِيٌّاء هم أغَنِيٌّاء الحروب والفساد، أمَّا الفقراء فهم الناس الأبرياء".
الدعاء
يا رب أعطنا عيون ترى، وآذان تسمع، وأعطنا قلوبا سخيِّة كي نتمكّن من مقاسمة الفقراء المحتاجين الكنوز الروحيّة والماديّة الّتي منحتنا إياها، لعلهم يكون لنا الطريق للدخول إلى الملكوت. يا رب، لا تجعل الغِنى يُغلق قلوبنا أو يُحجّرها ويُحوّل أنظارنا عن إخوتي خاصة الفقراء. بل هبنا القوة والإرادة لكي نكون مستعداً أن نتضامن مع كلّ فقير نلتقي به، وهكذا نُرفَع يوما "إلى حِضْنِ إِبراهيم" في الأفراح السماوية الخالدة! آمين
القصة: الرجل الغَنِيٌّ ولعازر في العالم المعاصر
في مدينة براكل الألمانية، وعلى مدخل أحد البنوك، وضع فنان كبير تماثيل برونزية، تمثل الرجل الغَنِيٌّ ولعازر واصفا بداية عمل البنوك. تمثال الرجل الغَنِيٌّ يحمل نقوداً في صرّة قماش، ويتساقط النقد منه دون علمه، إلا في النهاية، ويشاهد خلفه امرأة تزحف لكي تجمع بعض نقد متساقط. وفي المقابل، شاب عاطل عن العمل وفقير، يحاول القفز من أعلى البلكون، ويصيح صارخاً بوجه "الغَنِيٌّ المكدّس أمواله: أعطني من هذا قبل أن تخزنه في البنك. وإلى جوار الطريق، طفل يحاول الإفلات من يد أمه المستعجلة، لكي يحصل على بعض المال. يصف المشهد الرجل الغَنِيٌّ الذي لا وقت لديه ليعدّ أمواله، والفقير اللاهث لكي يجمع فقط بعض نقد متساقط عن طريق الخطأ من جيوب الغَنِيٌّ.