منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 13 - 08 - 2022, 01:29 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,276,003

إعداد موسى للخدمة


إعداد موسى للخدمة






بعد أن كشف الأصحاح الأول عن الحاجة إلى مخلص جاءت الأصحاحات [2-4] تتحدث عن إعداد موسى النبي للخدمة.



1. موسى في النهر:


سمحت العناية الإلهية للشعب بتجربة قاسية، وفي نفس الوقت كانت تعد لهم المنقذ (1 كو 10: 13). أعد الله لهم موسى ودربه في فترة ثمانين عامًا، حيث مرّ به في مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: حيث عاش موسى في قصر ابنة فرعون أربعين عامًا يتثقف بحكمة المصريين وعِلمهم، وفي نفس الوقت كان يرضع لبن شعبه العبراني. في هذه الفترة ظن أنه قادر أن يخدم الله معتمدًا على فصاحة لسانه وقدرة تدبيره وحكمته... لكنه فشل.






والمرحلة الثانية: قضاها في البرية لمدة أربعين عامًا يتدرب فيها على معرفة نفسه، أنه بدون الله لا يساوي شيئًا... عرف فيها نفسه أنه ثقيل الفم واللسان (4: 10)، عاجز عن العمل بذاته (4: 14).
أما المرحلة الثالثة: فبدأت بلقائه مع العُلِّيقة المشوكة الملتهبة نارًا، وتعرف على الله الذي يعمل في اللاشيء ليقيم أعمالًا مجيدة.
نعود بعد هذه المقدمة إلى موسى في طفولته، فيتحدث معلمنا بولس الرسول عن والديه كبطلي إيمان قائلًا: "بالإيمان موسى بعدما وُلد أخذه أبواه ثلاثة أشهر لأنهما رأيا الصبي جميلًا ولم يخشيا أمر الملك" (عب 11: 23). ونحن أيضًا بالله الذي ينظر في الخفاء إلى أعمالنا يلزمنا أن نخفي كل فضيلة حتى لا تصير فريسة لفرعون (إبليس) وتبتلعها أمواج النهر.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم(33) كيف أخرج الله من أمر فرعون بركة لموسى، إذ يقول: [لو لم يلقَ الأطفال في النهر لما خلص موسى، ولا نشأ داخل القصر حين كان في أمان لم يكن في كرامة]. لكنه حينما أُلقي به في النهر صار في كرامة ورأى القدِّيس في كل الأحداث حتى العنيفة ضد أولاد الله استخدمها الرب كجزء من خطته لخلاصهم.
سفط من البردي: يقول الكتاب: "ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد، أخذت له سفطًا من البردي وطلته بالحمرة والزفت، ووضعت الولد فيه ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر" [3].
يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن موسى وهو يمثل الحياة الفاضلة التي تلدها الإرادة الحرة خلال ألم الطلق والمرارة، لا بُد أن يوضع في سفط من البردي أو في تابوت من ألواح متنوعة، لكي تبقى هذه الحياة الفاضلة في أمان من أمواج النهر(34). هذا السفط هو "التعلم"، فالإنسان الذي يهتم على الدوام أن يتعلم ويكون له شوق للمعرفة الروحية المتجددة النامية، إنما يكون كموسى محفوظًا من كل التيارات المهلكة. لا تقدر الأمواج أن تبتلعه بل تدفعه نحو الشاطئ بعيدًا عن الاضطرابات(35).
دموع أمه: كان السفط هو الحافظ الظاهر للطفل، أما دموع أمه فكانت الحافظ المستتر. في هذا يقول القديس غريغوريوس النيسي: [من يهرب من مثل هذه الأمور يلزمه أن يقتدي بموسى، ولا يكف عن الدموع، فإنه إن كان في أمان داخل التابوت، لكن تبقى الدموع هي الحارس القوي لمن خلص بالفضيلة(36)]، إن دموع التوبة هي الحارس لكل فضيلة خفية داخل القلب، والسند لها حتى لا يفترسها عدو الخير.



2. موسى في القصر:


ابنة فرعون: يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن ابنة فرعون إنما تمثل الفلسفات الزمنية، فهي عقيمة وغير مثمرة، كابنة فرعون العاقر، تتمخض لكنها لا تلد(37). حقًا كالأميرة ابنة فرعون لها جمالها وسلطانها وغناها وجاذبيتها وتردد الكثيرون عليها ويطلبون رضاءها، لكنا كعاقر لا تشبع النفس. وفي نفس الوقت لا تقف الكنيسة موقف العداء منها، وإنما كما دخل موسى قصرها وإن كان قد نشأ يرضع لبن أمه، هكذا نتقبل الفلسفات والعلوم ولا نحتقرها، لكننا نتمسك بتقليد الكنيسة أمنا وإنجيلها وتعاليمها وفكرها وكل حياتها.






وقد اهتمت مدرسة الإسكندرية المسيحية منذ بدء انطلاقها بهذا العمل، أي قبول الفلسفة دون الانحراف عن الفكر الإنجيلي، إذ يقول المؤرخ شاف: [هدف اللاهوت الإسكندري إلى مصالحة المسيحية مع الفلسفة... مقيمًا هذه الوحدة على أساس الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة](38). فقد رأى القديس إكليمنضس الإسكندري أنه لا عداوة بين المسيحية والفلسفة(39)، وأن الفلسفة ليست عملًا من أعمال الظلمة، بل في كل مذهب من مذاهبها يشرق عليها شعاع نور(40) من اللوغوس، منتقدًا القائلين أن الفلسفة شر(41). لقد أوضح أن الله استخدام الفلسفة عند اليونانيين ليدخل بهم إلى معرفة المسيح "الحق".
ويرى العلامة أوريجانوس أن ابنة فرعون تشير أيضًا إلى كنيسة الأمم التي تقبلت موسى (الناموس) من اليهود خلال النهر(المعمودية) وأدركته بمفهوم جديد، إذ حملته معها إلى قصرها. في هذا يقول: [أعتقد أن ابنة فرعون تمثل الكنيسة التي تجتمع من كل الأمم. فإنه وإن كان أبوها ظالمًا ووثنيًا لكنه قيل لها: "اسمعي يا ابنة وانظري واصغي وانسي شعبك وبيت أبيك، لأن الملك قد اشتهى حسنك" (مز 44: 1). إنها تخرج من بيت أبيها، وتأتي إلى المياه لتغتسل من خطاياها التي اقترفتها في بيت أبيها، حينئذ تقتني "أحشاء رأفات" وترْقَ للطفل. هذه هي الكنيسة القادمة من الأمم لتجد في النهر موسى الذي رفضه خاصته. إنها تأتي إليه بمرضعة من بني جنسه حيث يقضي فترة طفولته ويكبر. يُقدم إليها موسى فتتبناه. كثيرًا ما شرحت أن موسى يمثل الناموس، فبحضور الكنيسة إلى مياه المعمودية تأخذ الناموس الذي كان مخفيًا في سفط من البردي مطليًا بالحمرة والقار... إذ كان الناموس نائمًا في مثل هذا الموضع أسير حواس اليهود (الجسدية) الملوثة، حتى جاءت كنيسة الأمم لتجتذبه من وسط الحمرة وتسكنه في بلاط قصر الحكمة الملوكي. وهكذا عبر الناموس من خاصته لأنهم لا يعرفون كيف يسمعونه روحيًا وهو صغير كطفل يرضع اللبن. لكنه إذ قُدم للكنيسة ودخل البيت كبر وتقوى فلم يلبس ثوب الضعة والحقارة، إنما صار يلبس كل ما هو عظيم وسامٍ وجميل. ما هي هذه العظمة إلاَّ السمو في الروحيات...؟!
إذن فلنصل لربنا يسوع المسيح ليكشف لنا ذاته ويرينا أيضًا عظمة موسى وسموه(42)].
أما من جهة الاسم، فقد دعته ابنة فرعون "موسى"، الذي يعني بالمصرية "ماء" [10]، وهو الاسم الذي دعاه به الله نفسه، وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [لم يستنكف الله أن يدعو خادمه بهذا الاسم، ولا حسبه أمرًا غير لائق أن يترك له الاسم الذي أعطته إيَّاه امرأة أجنبية ليعبر عما يناسب النبي(43)].
ويرى القديس إكليمنضس الإسكندري(44) أن "موسى" هو الاسم المصري ويعني المنتشل من الماء، أما اسمه العبراني عند ختانه فهو يهوياقيم، وله اسم ثالث في السماء في نظر الرمزيين هو "ملكي" (تث 23: 5).



3. موسى يخدم بغيرة بشرية:


إذ تثقف موسى بحكمة المصريين قرابة أربعين عامًا ظن أنه قادر أن يخدم الله، معتمدًا على فصاحته وحكمته. ظن في نفسه أنه شيء فارتبك في خدمته، "إذ التفت إلى هنا وهناك" [12]، مهتمًا بنظرة الناس إليه، مع أن خادم الله لا يهتم ببُغض الناس أو رضائهم عن خدمته، ما دام يعلم أن الله هو الذي أرسله... موسى خرج إلى الخدمة معتمدًا على كفاءته الخاصة فخاف وهرب من الخدمة [15].
هذا ويلاحظ أن ما تعرض له موسى إنما يتعرض له كل من يضع في قلبه أن يكرس حياته لله، فيواجه حربين: حرب شمالية وأخرى يمينية.
أ. الحرب الشمالية: وهي الحرب ضد الشر الواضح، وذلك كما رأى موسى الصراع بين رجل غريب الجنس وآخر من بني جنسه، فضرب الأول ضربة قاضية وطمره في الرمل، هكذا حمل ذلك صورة رمزية للمؤمن الذي لا يضرب إنسانًا، وإنما يضرب كل شرّ في قلبه ويدفنه، حتى لا يكون للخطية الغريبة عن طبعنا موضع داخلنا.
ب. الحرب اليمينية: وهي حرب مع البر الذاتي، حين يظن الإنسان في نفسه أنه قد صار بارًا أفضل من الآخرين، ليست له خطايا واضحة. وهذه حرب أمرّ بين العبراني وأخيه، أي بين الإنسان وذاته "الأنا".
كذلك يواجه المؤمن حربين: حرب ضد الخطية ظاهرة وسهلة نسبيًا، وحرب الانقسام الداخلي في الكنيسة وهي أخطر وأقسى... تؤدي إلى هروب الكثيرين من الخدمة، كما اضطر موسى إلى ذلك.






ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم عل كلمات العبراني "من جعلك رئيسًا وقاضيًا علينا؟! أمفتكر أنت بقتلي؟!" [14]، قائلًا(45): [إن الشعب كان أشبه بمريض يرى الطبيب الماهر قد أمسك بمشرط في يده، ففي ثورته وخوفه قال: من أقامك طبيبًا وأعطاك مشرطًا لتستخدمه؟!].
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد استخدم الله هذا الأمر لنفع موسى حتى يهرب ليتعلم الفلسفة في البرية وينظر الرؤيا(46).


4. موسى في أرض مديان:


بعد أربعين عامًا انتقل موسى إلى البرية ليتدرب على معرفة حقيقة نفسه أنه لا شيء... إذ يقول: "من أنا حتى أذهب إلى فرعون؟!" (3: 12) وبهذا تأهل لنوال قوة إلهية.
ما أحوج الخادم إلى ترك موقع الخدمة والانطلاق نحو "حياة الوحدة" يمارس اتحاده مع الله حتى يتأهل لاتساع القلب بالأكثر ليحب المخدومين.
هناك في البرية سكن رعوئيل الذي تفسيره "الله صديق" وتزوج بصَفُّورة التي تعني "عصفورة" وأنجب منها جرشوم الذي يعني غريب. وكأن موسى هنا يمثل الخادم الذي في وحدته يلتقي بالله صديقًا له، وتتحد حياته بالعصفورة أي بالفكر السماوي الطائر في العلويات، ويلد الشعور الدائم بالغربة...
ويلاحظ أن حميه رعوئيل دُعيَ يثرون (خر 3: 1)، غالبًا كلقب شرف بكونه كاهن مديان، والتي تعني "المتقدم في السمو"(47)، كما دُعيَ في (سفر العدد 10: 9)، "حوباب بن يثرون"، وربما حوباب تعني رعوئيل أيضًا، ويرجح أنه من نسل إبراهيم وقطورة (تك 25: 2).
أما عمل موسى فكان رعاية الغنم، وقد رأى القديس إكليمنضس الإسكندري(48) والعلامة أوريجانوس(49) في هذا العمل صورة السيِّد المسيح الراعي الصالح الذي يرعى حركات النفس الداخلية كقطيع.







1. العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا:

بينما كان موسى يرعى غنم حميه يثرون ساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب، إذا به يرى عُلِّيقة تتقد نارًا ولا تحترق فقال: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" [3]. هنا دخل موسى النبي إلى مرحلة جديدة هي مرحلة اللقاء مع الله الذي هو سرّ القوة، والراعي الخفي الذي يعمل لخلاص العالم وبنيان الكنيسة.
والآن إلى أي شيء تشير هذه العُلِّيقة المُتَّقدة؟








أ. إن كلمة "العُلِّيقة" بالعبرية كما جاءت في العددين [2، 3] تعني "العُلِّيقة المملوءة شوكًا The thorny bush"(50)، لذا رأى اليهود في هذه العُلِّيقة رمزًا لإسرائيل وقد أحاطت به الأشواك والأتعاب التي تلحق به(51). وقد أخذ بعض الآباء الأولين ذات الفكر، فرأى العلامة ترتليان(52) في العُلِّيقة إشارة إلى الكنيسة التي تشتعل فيها نار الاضطهاد ولا تُبيدها، ونادى بذات الرأي القديس هيلاري أسقف بواتييه(53).
كما يقول القديس هيبوليتس الروماني: [يتحدث الله مع قديسيه في الكنيسة كما في العُلِّيقة(54)]. وكأن موسى النبي رأى في العُلِّيقة كنيسة السيِّد المسيح المتألمة تحوط بها الأشواك، لكنها ملتهبة بنار الروح الإلهي فلا يصيبها الموت... هذه هي الخدمة التي دُعي إليها!
ب. يرى القديس أغسطينوس أنها تشير إلى مجد الله الذي حلَّ في الشعب اليهودي لكنه لم يبيد قساوة قلبهم المملوءة أشواكًا(55).
ج. يرى القديس إكليمنضس الإسكندري(56) في العُلِّيقة إعلانًا عن الميلاد البتولي، فقد وُلد السيِّد المسيح من البتول، وبميلاده لم تُحل بتولية العذراء. هذا أيضًا ما عناه القديس غريغوريوس أسقف نيصص إذ قال: [نور اللاهوت الذي أشرق منها نحو الحياة البشرية خلال ميلادها (ليسوع المسيح) لم يحرق العُلِّيقة المُتَّقدة، وذلك كما أن زهرة البتولية فيها لم تذبل بإنجابها الطفل(57)]. وفد نادى ثيؤدورت أيضًا بذات الرأي(58).
د. يرى القديس كيرلس الإسكندري(59) أن العُلِّيقة حملت سرّ "التجسد الإلهي"، فقد اتحد اللاهوت بالناسوت دون أن يُبتلع الناسوت. فإنه ما كان يمكن لموسى النبي أن يبدأ هذا العمل الخلاصي ما لم يتلمس ظلال التجسد الإلهي، فيتعرف على "الكلمة الإلهي" المتجسد كصديق للبشرية، صار واحدًا منا، عاش بيننا يحمل جسدنا وإنسانيتنا حتى يدخل بنا إلى أمجاده الإلهية. في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [لم يشرق النور خلال كوكب مضيء بل خلال عُلِّيقة أرضية، لكنه كان يفوق في بهائه الأنوار السماوية، وفي نفس الوقت لكي لا يظن أحد أنه ليس صادرًا عن مادة ملموسة(60)]، أي لئلاَّ ينكر حقيقة تجسده.
ه. أخيرًا رأى القديس يوحنا الذهبي الفم في العُلِّيقة صورة حيَّة لقيامة السيِّد المسيح، الذي حمل جسدًا حقيقيًا، ومات فعلًا، لكنه لم يُمسك في الموت على الدوام(61).
وفي هذه المناسبة نذكر ما كتبه القديس جيروم إلى أبيفانيوس كاهن Beatrice بأسبانيا يواسيه لأنه كفيف لا يبصر، قائلًا: [يليق بك ألاَّ تحزن لأنك حُرمت من الأعين الجسدية التي يشترك فيها النمل والحشرات الطائرة والزواحف مع الإنسان، بل بالأحرى تفرح أن لك العين المذكورة في سفر نشيد الأناشيد... هذه التي بها تنظر الله، والتي أشار إليها موسى حين قال: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" [3](62).
ويلاحظ أن الكتاب يقول: "وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عُلِّيقة" [2]. وهنا كلمة ملاك تعني "مرسل"، وتشير إلى الأقنوم الثاني، الابن الذي أُرسل من قبل الآب ليعلن هذا العمل ويرسل موسى النبي... فلو أن الذي ظهر ملاك وليس الأقنوم الثاني لما قال: "ناداه الله من وسط العُلِّيقة... ثم قال: أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله" [4-6].
يرى بعض الآباء أن الآب لا يُرى، لكن كلمته تُعلن هنا في العُلِّيقة كنار ملتهبة، وهو بعينه الذي يأتي في آخر الأزمنة متجسدًا "لكي يخبر" عن الآب!




2. خلع الحذاء:

يقول الرب لموسى: "لا تقترب إلى هنا. اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليها أرض مقدسة" [5].








في حديثنا عن قدسية الهيكل(63) قلنا أننا إلى يومنا هذا ندخل الهيكل حفاة الأقدام كوصية الرب لموسى النبي. وخلع الحذاء يشير إلى الشعور بعدم تأهلنا حتى للوقوف في هذا الموضع المقدس الذي فيه تقدم الذبيحة المخوفة التي تشتهي الملائكة أن تطلع إليها. خلع الحذاء أيضًا -عند الآباء- يحمل معانٍ أخرى كثيرة وعميقة، نذكر منها:
أ. كانت الأحذية في القديم تصنع من جلد الحيوان الميت، وكأن الله بوصيته هذه يطلب منا أن نخلع عنا محبة الأمور الزمنية الميتة لنلتصق بالسمويات الخالدة حتى نلتقي به. هذا ما نادى به العلامة أوريجانوس، وأخذ عنه كثير من الآباء. فيقول القديس أغسطينوس: [أي أرض مقدسة مثل كنيسة الله؟! إذن لنقف فيها ونحن خالعين أحذيتنا، أي رافضين الأعمال الميتة(64)]. ويقول القديس أمبروسيوس: [كان موسى رمزًا للشعب لم يحتذي بحذاء الرب (مت 3: 11)، بل بنعل رجليه! لذا أمره الرب بخلعه حتى يحرر خطوات قلبه وروحه من قيود ورباطات الجسد، ويسير في طريق الروح(65)]. ويقول القدِّيس غريغوريوس النزينزي: [ليت من يقترب إلى الأرض المقدسة التي هي قدس الله يخلع نعليه كما فعل موسى حتى لا يدخل بشيء ميت إلى هناك، ولا يكون بينه وبين الله شيء... أما من يهرب من مصر(محبة العالم) والأشياء التي بها فليحتذي لأجل سلامته، حتى لا تلدغه العقارب والحيات الكثيرة الموجودة بها، فلا تؤذه تلك التي تطلب عقبه (تك 3: 15) وإنما كما أُوصى يطأها بقدميه (لو 10: 19)(66)].
ب. الجلد الذي تصنع منه الأحذية -كما يقول العلامة أوريجانوس- يستخدم في الطبول. هنا إشارة إلى عدم استخدام الطبول أو حب الظهور في العبادة، إنما خلال الجهاد الروحي المملوء اتضاعًا يمكن للنفس أن تدخل إلى المقدسات الإلهية وتلتقي بإلهها.
ج. يرى العلامة أوريجانوس أيضًا أن خالع النعلين مرتبط بما ورد في العهد القديم، أنه إن رفض إنسان أن يتزوج أرملة أخيه كوصية الله ليقيم لأخيه الميت نسلًا، تأتي الأرملة إليه في حضرة الشيوخ وتخلع حذاءه من رجليه، ويسمى "بيت مخلوع النعلين" (تث 25: 5-10)، هكذا إذ خلع موسى نعليه أعلن أنه ليس بعريس الكنيسة. وفي كل مرة يخلع الأسقف أو الكاهن أو الشماس حذاءه عند دخوله الهيكل إنما يدرك حقيقة نفسه أنه ليس عريس الكنيسة الحقيقي بل صديق العريس وخادمه.
أخذ القديس أمبروسيوس ذات الرأي عن العلامة الإسكندري أوريجين فقال: [لم يكن موسى العريس لذلك قيل له: "اخلع حذاءك من رجليك" حتى يترك المكان لربه. ولا يشوع بن نون كان العريس لذا قيل له؟ "اخلع نعلك من رجلك" (يش 5: 16)، لئلاَّ بسبب تشابهه مع الاسم (يسوع) يظن في نفسه أنه يسوع المسيح عريس الكنيسة. ليس أحد هو العريس إلاَّ السيِّد المسيح الذي وحده قال عنه يوحنا: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 29). لذا خلع هؤلاء أحذيتهم من أرجلهم، أما حذاء السيِّد المسيح فلا يمكن أن يُحل إذ قال القدِّيس يوحنا: "لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه" (يو 1: 27)(67)].
د. ربط القديس غريغوريوس أسقف نيصص بين خلع الحذاء الجلدي وثوبيّ الجلد اللذين لبسهما آدم وحواء (تك 3: 21) بعد سقوطهما في العصيان، إذ يقول: [يعلمنا هذا النور(الذي للعُلِّيقة) أنه يليق بنا أن نقف أمام النور الحقيقي. لكن الأقدام التي بها أحذية لا تقدر أن ترتفع إلى العلو الذي من خلاله ترى الحق. لهذا يلزمنا أن نخلع عن قدمي النفس الغطاء الجلدي الأرضي الميت، الذي وُضع حول طبيعتنا في البداية حين تعرينا بسبب عصياننا للإرادة الإلهية. بهذا تكون لنا معرفة الحق التي تعلن عن ذاتها لنا، فنتحقق كمال المعرفة للأمور الموجودة (الحق)، بتطهير أفكارنا عن الأمور غير الموجودة (غير الحق أو الشر)(68)]. وقد احتل تعليم القديس غريغوريوس عن "ثوبي الجلد" مركزًا هامًا في كتاباته، فيقول مثلًا: [الختان يعني خلع الجلد الميت الذي لبسناه حين طُردنا من الحياة الفائقة الطبيعة بعد عصياننا(69)]. لذا فالعمودية في نظره هي خلع هذا الثوب الجلدي المحيط بطبيعتنا، أي خلع أعمال الإنسان القديم، هذا الذي يعلن عن موتنا وشهواتنا التي دخلت إلينا بعدما كنا على صورة الله(70).




3. دعوة موسى:

من خلال العُلِّيقة الملتهبة نارًا دُعيَ موسى وهو واقف حافي القدمين ليتسلم خدمة شعب الله، وهنا نلاحظ:
أ. تطلع موسى النبي إلى العُلِّيقة وإذا كلها أشواك، لكن النار الإلهية ملتهبة خلالها دون أن تحترق... لعله رأى في ذلك عمل الله الناري الذي يستخدمنا بكل ما فينا من أشواك، يلهب قلوبنا ويعمل بنا بالرغم من كل ضعفاتنا. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [لماذا نيأس، إن الله يتحدث في البشر، هذا الذي تكلم في العُلِّيقة المملوءة أشواكًا؟! إنه لم يحتقر العُلِّيقة! إنه يضيء في أشواكي!(71)].








حقًا إن المتحدث نار آكلة (إش 10: 7)، والدعوة صدرت عن النار الإلهية، لكنها لا تؤذي موسى بل تسنده وتلهبه...


كما فعل الروح القدوس الناري في التلاميذ، الذي أحرق ضعفاتهم وأعطاهم قوة للحياة الجديدة الكارزة (مت 3: 11، أع 2).
ب. إذ دعى الله موسى النبي لم يحدثه عن مؤهلاته للخدمة وإمكانياته البشرية بل حدثه عن نفسه، الإمكانيات الإلهية المقدمة له، قائلًا له: "أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب" [6]. وكانت هذه الكلمات تخرج بسلطان وقوة نارية حتى "غطَّى موسى وجهه لأنه خاف" [7]. تحدث أيضًا عن قيامه هو بالخلاص، فقد رأى وسمع وعلِم مذلة شعبه، لذا فهو ينزل لإنقاذهم...
أما سرّ قوة موسى النبي فهو "إني أكون معك" [12]. وهو ذات الوعد الذي يعطيه لجميع أنبيائه ورسله وكل العاملين في كرمه. فيقول ليشوع بن نون: "كما كنت مع موسى أكون معك. لا أهملك ولا أتركك" (يش 1: 5)، ويؤكد لإرميا النبي "لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 16)، ويقول لتلاميذه: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20).




4. اعتذار موسى:

أراد موسى أن يعتذر عن الخدمة قائلًا: "من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أُخرج بني إسرائيل من مصر؟!" [11].
طبيعة موسى الضعيفة بالرغم من كونه من رجال الإيمان جعلته يتردد في قبول الدعوة، وربما كان ذلك من آثار فشله الأول حين خرج إلى الخدمة متكلًا على ذراعه البشري. فما كان له أن يقول: "من أنا؟!" بعد أن عرف أن الله نفسه هو الذي يرسله وهو الذي ينزل ليخلص.








أصر موسى على إعفائه أكثر من مرة، تارة يضع أسئلة واعتراضات، كأن يقول: "فإذا قالوا ما اسمه، فماذا أقول لهم" [13]، والرب يُجيبه، وأخرى يقول: "ولكن ها هم لا يُصدقونني" (4: 1). فيعطيه الرب إمكانية عمل آيات ومعجزات... إلخ.، وثالثة يعترض بسبب ضعفه الشخصي قائلًا: "أنا ثقيل الفم واللسان" (4: 10). والله يؤكد له أنه هو خالق الفم واللسان "اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به" (4: 12). إذ لا يجد أي حجة يقول: "استمع أيها السيِّد، أرسل بيد من ترسل" (4: 13)، حتى حميَ غضب الله (4: 14) فأعطاه هرون شريكًا معه في الخدمة.
هكذا إذ يدعونا الله للخدمة لا يتركنا نستعفي بل يقدم لنا إجابات عملية لكل تساؤلاتنا، ويسند كل ضعف فينا، ويكمل كل نقص في إمكانياتنا، فهو الراعي الخفي لقطيعه المقدس.





5. اسم الله:


عرف موسى أن الذي يحدثه هو الله، فسأله عن اسمه "فقال الله لموسى أهيه الذي أهيه، وقال هكذا قل لبني إسرائيل أهيه أرسلني إليكم... إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق إله يعقوب أرسلني إليكم" [14، 15].
حملت إجابة الله لموسى شقين:
أولًا: "أن الله غير مُدرَك وفوق كل تسمية" أهيه أي أنا هو".
ثانيًا: أنه الله المنتسب للبشرية، مُنتسب لخاصته الأحباء "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب".
أولًا: أهيه الذي أهيه AHIAH:







يرى فيلون اليهودي الإسكندري أن هذا الاسم "أهيه" يكشف عن جانبين في الله: أولًا أنه هو الكائن وحده الذي بجواره يكون الكل كأنه غير موجود. ثانيًا أنه ليس اسم يقدر أن يعبَّر عنه. في هذا يقول: [أخبرهم أولًا إني أنا هو الكائن حتى يعرفوا الفارق بين من هو كائن وما هو ليس بموجود. كما قدم لهم الدرس الآخر أنه لا يمكن لاسم ما أن يُستخدم ليليق بي أنا الذي إليه وحده ينسب الوجود(72)].
ويرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة تعني أنه إذا قورنت كل الأمور الزمنية بالله تصير "باطلًا"(73) أو "لا شيء"، وأنها تعلن عن الله بكونه الوجود الأول والسامي غير المتغير(74).
هذه العبارة تُظهر الله أنه حاضر على الدوام، ليس فيه ماضٍ انتهى ولا مستقبل منتظر، لكنه فوق الزمن "حاضر دائم"... في هذا الحاضر الدائم، أو الأبدية الحاضرة "نجد لنا ملجأ، فنهرب إليه من كل تغيرات الزمن ونبقى فيه إلى الأبد"(75).
إن كان الله هو الوجود الدائم، [إذن من يأخذ الاتجاه المضاد لله إنما يسير نحو العدم(76)].
في حديث الأب ميثوديوس عن البتولية وعظمة البر المسيحي يقول: [لا يقدر أحد أن يرى بعينيه عظمة أو شكل أو جمال البرّ ذاته أو الفهم أو السلام، إنما تظهر هذه جميعها كاملة وواضحة في ذاك الذي قال أن اسمه "أنا هو"(77)].
ثانيًا: إله آبائكم:

قول الله لموسى: "إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" [15]. وتكرارها ثلاث مرات في هذا اللقاء بين الله وأول قائد للشعب [6، 15، 16] سحب قلب آباء الكنيسة، فقد رأى القديس إكليمنضس الإسكندري علامة الصداقة الإلهية الإنسانية فمع أن الله هو إله العالم كله، إله السمائيين والأرضيين، لكنه ينسب نفسه للأخصاء أصدقائه. إنه لا يود أن يكون سيِّدًا بل صديقًا فنراه يكلم موسى وجهًا لوجه كما يُكلم الصديق صاحبه (خر 33: 11)، ويطلب منه "قف عندي هناك" (34: 2). ويقول القدِّيس أفراهات: [أسماء الله متعددة ومكرمة... أما الاسم الذي تمسك به والذي هو عظيم ومكرم فليس ما يخص بره، إنما ما يخص علاقته بالبشر كخليقته "الخاصة به"(78)]. ويقول القديس أغسطينوس: [برحمته ربط نعمته بالبشر قائلًا: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب"، حتى يُفهم من هذا أن هؤلاء الذين هو إلههم إنما يعيشون معه إلى الأبد. إنه ينطق بهذا حتى يفهم أولاده أنه يلزمهم بقوة الحب أن يعرفوا كيف يطلبون وجهه إلى الأبد، ويدركوا قدر ما يستطيعون هذا الذي هو "أهيه الذي هو أهيه"(79)].
والآن إذ نربط الاسمين معًا "أهيه"، "إله آبائكم" نقول إن الله غير المدرَك ولا متغير، الذي فوق كل حدود الزمن، يقدم ذاته للبشرية ليتعرفوا عليه كإلههم الخاص، المشبع لكل احتياجاتهم. لذا لم يتحدث قط أي نبي عن نفسه كأنه شيء يقتنونه، أما السيِّد المسيح فهو "كلمة الله" الذي جاء يقدم ذاته في أكثر من موضع، قائلًا: "أنا هو"... قدم نفسه الصديق والعريس، والأخ البكر والمخلص، والخبز النازل من السماء والينبوع الحيِّ، والقيامة والباب، والطريق والحق والحياة، وأخيرًا قال "أنا هو الألف والياء" أي مشبع كل حياتنا(80).
وأخيرًا، نلاحظ أن السيِّد المسيح استخدم الاسم الثاني ليؤكد للصدوقيين القيامة، فإن الله إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، إله أحياء وليس إله أموات: (مت 22: 31-32). فإن كان الله هو الحيّ إنما ينسب لنا، واهبًا إيَّانا الحياة لنبقى معه إلى الأبد(81).



6. سرّ الأيام الثلاثة:








أمر الله موسى أن يطلب مع الشيوخ من فرعون قائلين: "الرب إله العبرانيين التقانا، فالآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا" [18].
لقد طلب الرب منهم أن يخرجوا سفر ثلاثة أيام في البرية ويذبحوا للرب، وكان فرعون يطلب من موسى وهرون أن تقدم الذبائح في أرض مصر، لكن موسى أجابه "لا يصلح أن نفعل هكذا... نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا كما يقول لنا" (8: 26، 27). وأخيرًا سمح لهم بالخروج، لكنه كان يقول لهم "لا تذهبوا بعيدًا" (8: 28)، أما موسى فأصر على السفر ثلاثة أيام... لماذا؟
الطريق الذي يخرج فيه الشعب ليقدم لله ذبيحة إنما هو السيِّد المسيح نفسه الذي قام في اليوم الثالث، وخلال قيامته تقبل كل عبادة وتقدمة منا للآب.
للعلامة أوريجانوس أحاديث طويلة عن سرّ الأيام الثلاثة، نقتطف منها العبارات التالية: [يلزمنا أن نخرج من مصر ونترك العالم إن كنا نريد أن نخدمه! لا نتركه جسمانيًا بل نتركه من جهة أفكارنا؛ ليس بالخروج من الطرق العادية الملموسة وإنما بالتحرك الإيماني. اسمعوا ما يقوله القدِّيس يوحنا في هذا الشأن: "يا أولادي لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون" (1 يو 2: 15-16)...
ماذا يقول موسى؟ "نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية نذبح للرب إلهنا" (5: 3). ما هو هذا الطريق الذي يقطعه في ثلاثة أيام للخروج من مصر والذهاب إلى الموضع الذي ينبغي أن نذبح فيه للرب؟ إنه الرب نفسه القائل: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). ينبغي أن نسير في هذا الطريق ثلاثة أيام، لأنك "إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت" (رو 10: 9). هذه هي الأيام الثلاثة التي تقطعها في الطريق لتصل إلى الموضع الذي يُذبح فيه للرب وتُقدم "ذبيحة التسبيح" (مز 49: 14).
هذا هو المعنى السري، أما المعنى السلوكي (الأخلاقي) وهو أهم، فإننا نترك مصر مسيرة ثلاثة أيام حين نكون أنقياء في الجسد والروح، كقول الرسول: "احفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح" (1 تي 6: 14). إننا نترك مصر مسيرة ثلاثة أيام حين نفصل عقلنا وطبيعتنا وإحساساتنا عن أمور هذه الحياة لنلتصق بوصايا الله. نترك مصر ثلاثة أيام حين تتنقى أفعالنا وكلماتنا وأفكارنا، إذ توجد ثلاث فرص للخطية (خلال العمل والكلام والفكر)(82)].
يُريد إبليس (فرعون) ألاَّ نبتعد كثيرًا، فلا نسير ثلاثة أيام (8: 28)... لأن عمل عدو الخير هو حرماننا من التمتع بقوة قيامة السيِّد المسيح في داخلنا. هذا من جانب، ومن جانب آخر ألاَّ نسير في الرب ثلاثة أيام، أي لا نتنقى في أفعالنا وكلماتنا وأفكارنا، إنما يريد أن يكون له موضع فينا إن لم يكن بالعمل فبالكلام، وإن لم يكن باللسان فبالفكر. وعلى حد تعبير العلامة أوريجانوس: [يريد أن يضمن أنهم يخطئوا إن لم يكن بالفعل فليكن بالقول وإلاِّ فعلى الأقل بفكرهم. إنه لا يريدهم أن يبتعدوا عنه ثلاثة أيام كاملة. يريد أن يرى له فينا ولو يوم واحد على الأقل، إذ له في بعض الأشخاص يومان وفي الآخرين له الأيام الثلاثة كلها. لكن طوبى لمن ينفصل عنه الأيام الثلاثة بأكملها، ولا يكون له فيه يوم واحد(83)].

بخروجنا ثلاثة أيام ندخل إلى معرفة "القيامة" فتستنير بصيرتنا الداخلية بنور المعرفة الحقيقية. فإن كان فرعون يمثل إبليس "رئيس ظلمة هذا العالم" (أف 6: 12)، فإنه لا يُريدك أن تخرج من دائرة الظلمة إلى نور المعرفة. إنما يُريدك أن تبقى في ظلمة القبر ولا تنعم بنور القيامة. لذا نجده في حديثه مع موسى يعترف بعدم معرفته أي بظلمته قائلًا: "لا أعرف الرب" (5: 2).
خبرة الأيام الثلاثة أي القيامة مع السيِّد المسيح اختبرها قبلًا إبراهيم أب الآباء، هذا الذي خرج من بيته ثلاثة أيام وعندئذ رأى العلامة فقدّم ابنه ذبيحة حب لله (تك 22: 4)، ما هي هذه العلامة التي خلالها يقدم إبراهيم ابنه الوحيد إسحق إلاَّ علامة قيامة المصلوب، لذا يقول معلمنًا بولس الرسول عنه إنه: "آمن بالله القادر على الإقامة من الأموات" (عب 11: 19). رأى قيامة السيِّد المسيح فقدم ابنه إسحق مؤمنًا أن الله قادر أن يقيمه من الأموات.



7. يدّ الله القوية:


من حين إلى آخر يؤكد الله لموسى قدرته على الخلاص قائلًا: "فأمدّ يديّ وأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها وبعد ذلك يطلقكم" [25].
وفي خروجهم لا يخرجهم فارغين، بل يعطيهم نعمة في أعين الشعب فيُعيروهم أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا [22]... أولًا إشارة إلى قوة الخلاص في حياة المؤمن، ليس فقط نفسه تتقدس، لكنه في خروجه نحو كنعان السماوية يحمل معه غنائم كثيرة، طاقاته الداخلية وعواطفه وأحاسيسه ودوافعه، يصير كل ما في داخله مما كان مكرسًا للشر وعلّة موت له مقدسًا ومباركًا. ومن جهة أخرى إن كان الشعب قد سلبت أُجرتهم وأذلوهم في السخرة وبناء بيوت لهم، فإن الله يعطيهم نعمة في أعينهم لكي يقدموا لهم بإرادتهم هذه الأمور: ذهبًا وفضة وثيابًا(84).
أما غاية هذا العمل الإلهي الخلاصي فهو "أصعدكم... إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا" [17]، يجد الأطفال البسطاء قوتهم، والناضجون الأقوياء غذاءهم. فاللبن والعسل إنما هما إشارة إلى حياة الشبع واللذة الروحية، لهذا كان المعمَّدون في الكنيسة الأولى يشربون أثناء طقس المعمودية لبنًا ويأكلون عسلًا، إذ بالمعمودية صار لهم حق الدخول إلى كنعان السماوية الموعود بها(85).








1. معجزات ثلاث لشعبه:


كما ظهر الله لموسى خلال العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا يعلن له سرّ الخلاص خلال التجسد الإلهي والميلاد البتولي والألم، كان لا بد أن يمنح موسى إمكانية تقديم بعض المعجزات التي تحمل ظلًا لهذا السرّ أي الخلاص، خلال التجسد الإلهي والصليب. لقد وهبه ثلاث معجزات يمارسها أمام شعبه، ليس لمجرد إظهار قوة فائقة للطبيعة، وإنما تعلن عمل الله الفائق نحو الإنسان. هذه المعجزات هي: تحويل العصا إلى حية، وجعل يده اليمنى برصاء، تحويل الماء إلى دم.






أولًا: تحويل العصا إلى حية:

سأل الله موسى: ما هذه التي في يدك؟ فقال: "عصا" [2].
ألم يعلم الله ما بيد موسى، فلماذا سأله هكذا...؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفمقائلًا: [حتى عندما يراها حيَّة لا ينسى أنها هي التي كانت عصا، متذكرًا كلماته هو عنها فيتحير بسبب هذا الحدث(86)]. هذه هي طريقة الله في تعامله معنا كأن يسأل عن لعازر قائلًا: "أين وضعتموه؟" (يو 11: 34)، حتى متى أقامه يشهد اليهود أنفسهم أنه أقامه من القبر.
لقد أمر الرب موسى أن يُلقي عصاه، التي دُعيت فيما بعد عصا الله [20] على الأرض، فتصير حية تبتلع كل حيات المصريين. الله الكلمة هو عصا الله وقوته الذي نزل على الأرض من أجلنا، "هذا الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا" (2 كو 5: 21)، لكي يقتل كل خطايانا؛ أي حملت المعجزة ظلالًا لسريّ التجسد والصليب.
يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [ليت تحويل العصا إلى حيَّة لا يقلق محبِّي المسيح، إن كنا نتقبل التعليم الخاص بالتجسد خلال حيَّة غير لائقة، فإن الحق نفسه لم يرفض هذه المقارنة، إذ يقول: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا يُرفع ابن الإنسان" (تك 3: 14). فالتعليم واضح، لأنه إن كان والد الخطية دعاه الكتاب المقدس "حية"، فالمولود من الحية بالتأكيد هو حية، إذن فالخطية هي مرادف مشترك مع الذي يلدها. يشهد النطق الرسولي بأن الرب قد صار خطية لأجلنا، إذ لبس (شبه) طبيعتنا الخاطئة (2 كو 5: 21).






ينطبق هذا الرمز بحق على الرب، لأنه إن كانت الخطية هي حية، والرب صار خطية، إذن النتيجة المنطقية واضحة للجميع. بكونه صار خطية صار أيضًا حية، هذه التي ليست إلاَّ أنها خطية. من أجلنا صار حيَّة لكي يلتهم حيَّات المصريين التي أوجدها السحرة ويقتلها(87)].
أيضًا يقول القديس أغسطينوس: [إلى أي شيء أغرت الحية الإنسان؟ إلى الموت (تك 3: 1). لذلك فإن الموت جاء عن الحية... إذن فالعصا التي صارت حيَّة هي المسيح الذي دخل إلى الموت...(88)].
وتحدث أيضًا القدِّيس إيرينئوس(89) والقديس كيرلس الإسكندري(90) عن هذه العصا المتحولة إلى حية كرمز للتجسد الإلهي، والقدِّيس يوستين(91) والقديس أمبروسيوس(92) كرمز للصليب. أما العلامة ترتليان(93) والقديس أمبروسيوس(94) أيضًا فرأيا فيها رمزًا للقيامة، إذ يقول الأخير هل الذي جعل من العصا حيَّة ألاَّ يقدر بإرادته الإلهية أن يعيد العظام، وتعود الحياة للموتى مرة أخرى؟!
ويعلق القديس أغسطينوس على خوف موسى من العصا المتحولة إلى حيَّة وهروبه منها قائلًا: [ما هذا أيها الإخوة إلاَّ ما نعرف أنه حدث في الإنجيل؟! فقد مات المسيح فخاف التلاميذ وهربوا(95)]. كما قارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين خوف موسى هنا وخوف التلاميذ عندما رأوا السيِّد ماشيًا على البحر (مت 14: 25-26)، فالإنسان يخاف ويرتعب عندما يدرك قوة العمل الإلهي(96).
العصا تُشير أيضًا إلى الإيمان، إذ يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [بهذه العصا - كلمة الإيمان - التي في يده، تغلَّب على حيَّات المصريين(97)]. إيماننا بكلمة الله المتجسد المصلوب، وإن كان في نظر اليونانيين جهالة وعند اليهود عثرة، لكنه ابتلع حكمة العالم وفلسفاته البشرية، مقدمًا شفاءً حقيقيًا لجراحات الإنسان. وكما يقول القدِّيس بولس الرسول: "لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة، استحسن الله أن يخلِّص المؤمنين بجهالة الكرازة... لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس" (1 كو 1: 21، 25).






ويتحدث القديس أمبروسيوس عن قوة الإيمان الشافي خلال هذه الحية قائلًا: [هذا يعني أن الكلمة صار جسدًا ليُبيد سمّ الحيات القاتلة، لغفران الخطايا. لأن العصا تُمثل الكلمة. هذا حق، أنه عصا ملوكي صاحب سلطان ومجيد في حكمة. صارت العصا حية، لأن ابن الله المولود من الآب صار ابن الإنسان مولودًا من امرأة، ورُفع كالحية على الصليب، وسكب الدواء الشافي لجراحات الإنسان، كقول الرب نفسه: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا يرفع ابن الإنسان" (يو 3: 14)(98)].
أخيرًا، فإن عودة الحية إلى عصا مرة أخرى إنما تُشير إلى السيِّد المسيح الصاعد إلى السموات، إلى أمجاده بعدما مزق الصك الذي كان علينا، ليُقيمنا معه ويجلسنا معه في السمويات، شركاء معه في المجد، نستقر في حضن أبيه ببره.


ثانيا: يده اليمنى البرصاء:

يقول القديس أمبروسيوس(99) إن يد الله الآب اليمنى أو يمين الآب إنما هو الابن الجالس عن يمينه، أي قوة الآب، هذا الذي في حضنه. لقد نزل إلينا حاملًا خطايانا (البرص يشير إلى الخطية) ليغسلنا ويُقدسنا، ثم يعود بنا إلى حضن أبيه أصحاء بلا خطية. وكأن هذه الآية إنما تؤكد الآية السابقة.
يرى القديس جيروم في هذا المعجزة إعلانًا عن موت السيِّد المسيح بالجسد إذ صارت يده بيضاء، وقيامته إذ عادت يده إلى ما كانت عليه(100).






ويرى القديس أغسطينوس في قول المرتل: "لماذا ترُد يدك ويمينك؟ أخرجها من وسط حضنك. افنِ، والله ملكي منذ القدم فاعل الخلاص في وسط الأرض" (مز 74)، يرى إنها صرخات موجهة لله الآب حيث يطلب أن يرسل ابنه الوحيد "يمينه" الذي في وسط حضنه، ليفنِ الشر مقدمًا الخلاص في وسط كل الأمم. يقول القدِّيس: [لقد أُصيب اليهود بالعمى فلم يعرفوا السيِّد المسيح كمخلص حتى يكمِّل خلاص الأمم(101)].
ثالثًا: تحويل الماء إلى دم:

جاءت هذه المعجزة لتثبيت المعجزتين السابقتين، فإنه لا خلاص لنا إلاَّ خلال دم السيِّد المسيح، الذي يقدس مياه قلبنا الباردة.



2. أنا ثقيل الفم واللسان:


اعتذر موسى النبي عن الخدمة قائلًا: "استمع أيها السيِّد. لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان. فقال له الرب: "من صنع للإنسان فمًا أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرًا أو أعمى، أما هو أنا الرب؟! فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به" [10-13].
متى شعر موسى أنه ثقيل الفم واللسان؟ حين كان في القصر ابنًا للأميرة ابنة فرعون، يتدرب بكل حكمة المصريين كان يشعر أنه قادر على الكلام، أما الآن إذ صار في حضرة الرب نفسه شعر أنه ثقيل الفم واللسان! وكما يقول العلامة أوريجانوس: [أثناء إقامته في مصر عندما تعلم بكل حكمة المصريين (أع 7: 22) لم يكن موسى ثقيل الفم واللسان، إذ كان يستخدم البلاغة حين يتحدث عن نفسه. كان في عيني المصريين الصوت المجلجل وصاحب البلاغة التي لا تُقارن. غير أنه إذ سمع صوت الله والوصايا الإلهية شعر أنه أخرس، وذلك حينما بدأ يدرك الكلمة الحقيقي الذي كان عند الله في البدء (يو 1:1). لتسهيل ذلك استخدم التشبيه التالي: أمام الحيوانات غير العاقلة يبدو الإنسان عاقلًا حتى وإن كان غير مثقف وغير متعلم فيظهر أنه بليغ، لأنه ليس للحيوانات صوت ولا عقل. لكنه إذا قورن بعلماء وأصحاب بلاغة يتكلمون بكل أنواع الكلام فيظهر عقيمًا وأخرس. هكذا حينما تتأمل كلمة الله ذاته وترفع عينيك نحو الحكمة الإلهية ذاتها، فإنه مهما كان عملك وحكمتك فستعترف أمام الله أنك كالحيوان الأخرس، بل وأكثر منه. هذا هو الشعور الذي انتاب داود الطوباوي نفسه حين قارن نفسه في ميدان الحكمة الإلهية فتال "أنا بليد ولا أعرف، صرت كبهيم عندك" (مز 22: 27). هذا ما قصده موسى أعظم الأنبياء بقوله "أنا ثقيل الفم واللسان" لا أقدر على الكلام. بالمقارنة مع الله الكلمة يصير الناس جميعًا ليس فقط بلا بلاغة بل وخرس(102)].






بالوقوف أمام الله أكتشف موسى النبي ثقل فمه ولسانه، انسحق في داخله معتذرًا عن الخدمة فتأهل بالأكثر لكي يملأ الله فمه ليخدم. وقد تحدث الآباء كثيرًا عن اتضاع موسى.
يقول القديس إكليمنضس الروماني: [دُعيَ موسى أمينًا في كل بيت الله (عد 12: 7؛ عب 3: 2)... مع أنه نال كرامة عظيمة هكذا لكنه لم يستخدم أسلوب العظمة، وإنما حين سمع القول الإلهي من العُلِّيقة قال: "من أنا حتى أذهب؟ أنا ثقيل الفم واللسان" (خر 3: 11، 4: 10)، كما يقول: "أنا ليس إلاَّ دخان زق"(103)].
كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [جيد لك أن تتراجع عن الله إلى حين (في دعوته لك للخدمة) كما فعل قديمًا موسى العظيم (خر 4: 10)، وإرميا (إر 1: 6)، بعد ذلك تجري في الحال إليه كما فعل هرون (خر 4: 27)، وإشعياء (إش 1: 6)، لكنه يلزمنا أن ننفذ الأمرين بروح الخضوع، ننفذ الأمر الأول بشعور الحاجة إلى القوة، وننفذ الأمر الثاني بسبب قدرة ذاك الذي دعانا(104)...].
يقول أيضًا: [هرون كان مشتاقًا (للخدمة) أما موسى فقاوم. إشعياء خضع للحال أما إرميا فكان خائفًا بسبب صغر سنه ولم يجسر أن يتنبأ، حتى يتقبل من الله وعدًا وقوة تفوق سنه(105)].
ويقول أيضًا العلامة أوريجانوس: [إذ بلغ (موسى) عمق الفهم الذي هو "معرفته لنفسه"... كافأته النعمة بمواهب عظيمة كهذه: "أنا أكون معك وأعلمك ما تتكلم به" [22]. طوبى للذين يفتح الله أفواههم ليتكلموا! إنه يفتح أفواه الأنبياء ويملأها من بلاغته كما قيل هنا... وكما قال الله بفم داود: "إفغر فاك وأنا أملأه" (مز 81: 11)، وبنفس المعنى يقول القديس بولس الرسول: "إنه يعطي لي كلامًا عند افتتاح فمي" (أف 6: 9). إذن الله هو الذي يفتح فم الذين ينطقون بالكلمات الإلهية(106)].
لم ينفتح فم موسى وحده ليتكلم الله فيه، وإنما أيضًا انفتح فم أخيه هرون، هذا الذي التقى مع موسى عند جبل الله [27]. وكأن كل من يريد أن ينفتح فمه ويتمتع بكلمات الرب والمعرفة الإلهية يلزمه أن يلتقي بموسى (الناموس) روحيًا عل جبل الله أي داخل الكنيسة المقدسة الإلهية. في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [صعد بطرس ويعقوب ويوحنا على جبل الله ليتأهلوا لرؤية يسوع متجليًا ومعه موسى وإيليا في المجد. وأنت أيضًا إن كنت لا تصعد على جبل الله وتتقابل مع موسى، أي إن كنت لا ترتفع إلى الفهم الروحي للناموس، إن كنت لا تبلغ قمة الإدراك الروحي فلن يفتح الرب فمك. أما إن توقفت عند المعنى الحرفي البغيض، وتختلط بالسرد التاريخي لتفاصيل الأحداث اليهودية فإنك لن تلحق بموسى على جبل الله، ولا يفتح الله فاك ولا يعلمك ما تقوله(107)].
الله لا يفتح فقط أفواهنا ليملأها بكلماته وإنما يفتح أيضًا عيوننا لتستنير بالروح القدس وترى الأمجاد الإلهية، ويفتح الآذان لتسمع صوته الإلهي بغير عناد، ويفتح حواسنا وطاقاتنا الداخلية لكي تُبتلع بالكامل في الإلهيات. يقول العلامة أوريجانوس: [كما يفتح الله أفواه القديسين كذلك يفتح آذانهم ليسمعوا الكلمات الإلهية. يشهد بذلك إشعياء النبي القائل: "السيِّد الرب فتح لي أذنًا وأنا لم أعاند" (إش 50: 5)... كذلك يفتح الرب الأعين كما فتح عيني هاجر لتبصر بئر المياه الحية، وكما قال إليشع النبي: "يا رب افتح عينيه فيبصر، ففتح الرب عينيّ الغلام فابصر، وإذا الجبل مملوء خيلًا ومركبات نار حول إليشع" (2 مل 6: 15)... إذن يفتح الله الفم والأذنين والعينين حتى نتكلم ونسمع ونبصر الأمور الإلهية(108)].
وكما يفتح أولاد الله حواسهم وأعماقهم ليتقبلوا عمل الله فيهم، هكذا يفتح أيضًا أولاد إبليس حواسهم وأعماقهم لأبيهم ليتقبلوا عمله فيه ولحسابه. يقول العلامة أوريجانوس: [أُنظر، ماذا كُتب عن يهوذا؟ "دخله شيطان" (لو 22: 4). لقد فتح فمه ليتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم بعدما أخذ الفضة(109)].
ربما يتساءل أحد: من الذي يفتح فمنا؟ هل نحن نفتحه والله يملأه، أم هو الذي يفتحه وهو الذي يملأه؟ في رد القديس أغسطينوس على رسالتين للبيلاجيين يقول: [مع أننا بدون معونته لا نقدر أن نفعل شيئًا، فلا نقدر أن نفتح أفواهنا، لكننا نفتحها بمعونته مع قيامنا بدور من جانبنا، لكن الله هو الذي يملأه دون أن يكون لنا دور في ذلك(110)].



3. هرون كسند لموسى:








بالرغم من كل تأكيدات الله لموسى أنه هو الذي يعمل فيه، وهو ملتزم بإنجاح طريقه، لكن موسى عاد ليقول: "استمع أيها السيِّد.
أرسل بيد من ترسل". حقًا ما أتعب القلب البشري حين يتعب! لقد حمي غضب الله [14]، فخسر موسى إنفراده بالرسالة، وقدم له الله شريكًا، حقًا إن الشركة في الخدمة جميلة ومبهجة فقد أرسل الرب تلاميذه اثنين اثنين، لكن ما حدث مع موسى كان ثمرة ضعفه وإصراره على الهروب من المسئولية.
على أي الأحوال، حوَّل الله حتى هذا الضعف للخير، إذ صار هرون سندًا لموسى، ورمزًا للملاك الحارس. فكما كان لموسى ملاك شرير (فرعون الذي يمثل إبليس) يقاومه، كان له أيضًا الملاك الحارس كأخ له، هرون الذي صار كاهنًا يشفع في الشعب ويسند موسى في خدمته. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [هناك تعليم يستمد قوته من تقليد الآباء القائل بأن الله لم يهمل طبيعتنا بعد سقوطها في الخطية بل سندها بعنايته. فمن ناحية أقام ملاكًا يحمل طبيعة غير فاسدة يسند حياة الإنسان، ومن الناحية الأخرى أقام أيضًا المفسد الذي هو شيطان شرير وقاتل يُقاوم طبيعة الإنسان. هكذا يجد الإنسان نفسه بين هذين الاثنين اللذين يحملان غرضين متناقضين ففي مقدوره أن يغلِّب أحدهما على الآخر. الملاك الصالح بتعقله يكشف عن فوائد الفضيلة ليملأ بالرجاء السالكين باستقامة، أما خصمه فيبرز الملذات الملموسة التي لا تعطي رجاءً في الخيرات العتيدة... فإن انسحب إنسان من الذين يغرونه نحو الشر، مستخدمًا عقله ومرتدًا نحو الحياة الفضلى معطيًا للشر ظهره، ومنطلقًا نحو الرجاء في الخيرات كمن ينظر في مرآة، مثل هذا تنطبع على نفسه النقية صور وانطباعات الفضيلة التي يعلنها الله له. مثل هذا يقدم له أخوه (هرون) عونًا ويرافقه، لأن الملاك الذي بطريقه ما هو إلاَّ أخ للنفس العاقلة المتزنة يظهر له ويقف معه عندما يقترب من فرعون(111)].
هرون أيضًا يُشير إلى العمل الكهنوتي التعبُدي، التصاقه بموسى إنما يرمز إلى التحام الوصية بالعبادة للعمل بروح الرب من أجل خلاص العالم. فالكرازة تقوم على إعلان الوصية أو الكلمة الإلهية بروح العبادة التقوية.









4. ترك مديان:


إذ أمر الله موسى أن يرجع إلى مصر ليُخرج الشعب قال له: "أنظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك، واصنعها قدام فرعون. ولكنني أُشدد قلبه حتى لا يطلق الشعب" [21]. هكذا سبق فأعلن الله له الإمكانيات التي وهبه إيَّاها وأيضًا بالتجارب التي تُحيط به حتى لا يخور في طريق الجهاد. هذا ما فعله السيِّد المسيح معنا، أكد لنا "ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33)، وفي نفس الوقت قال: "ها أنا أرسلكم كحملان في وسط ذئاب" (مت 10: 16).
هل يُشدد الله القلب؟ يظهر من قول الكتاب (8: 32) أن فرعرن يُقسي قلبه بكمال حرية إرادته، أما هنا فيقول الرب أنه يُقسي قلب فرعون، بهذا نعرف أن الله بحكمه العادل يترك فرعون لينفذ إرادته الحرة التي هي قساوة القلب ولا يمنعه حتى يتمجد فيه، وحسب كلمات الرسول "أسلمه الله إلى شهوات قلبه وإلى ذهنه المرفوض" (راجع رو 1: 24، 28).



5. ختان ابن موسى:


يبدو أن زوجة موسى الغريبة الجنس، صفُّورة ابنة يثرون، خافت على ابنها من الختان، وقد خضع موسى النبي لرأيها... هكذا حتى العمالقة في حياتهم الروحية يتعرضون لضعفات قد تدفع بهم إلى هلاكهم تمامًا.
كان لزامًا على موسى أن ينطلق بزوجته من مديان ليعمل في كرم الرب، وكان لزامًا عليه أن يختن الابن ثمرة اتحاده بهذه الزوجة. هذه صورة حيّة للكنيسة التي لم تحتقر الزوجة غريبة الجنس، فلم تقف في عداوة مع الفلسفات، لكنها احتضنتها والتزمت أن تنطلق بها من بيت أبيها وتختتن ثمرة إتحادها معها، فتُنزع عنها نقائصها وتطرد ما فيها من أخطاء حتى لا يهلك المؤمنون. في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [المرأة الغريبة تتبعه، إذ هناك بعض الأمور في التعليم الزمني لا نحتقرها، إذ تهدف إلى إنجاب الفضيلة. حقًا قد تصير الفلسفة الأخلاقية والطبيعية في وقت ما رفيقًا وصديقًا وملازمًا للحياة العلوية بشرط ألاَّ يدخل ثمرة الاتحاد معها شيء دنس غريب(112)]. كما يقول: [إذ كان ابنه لم يُختتن بعد، أي لم يُنزع عنه بالكامل كل ما هو ضار ودنس أرعبهما الملاك الذي التقى بهما، لكن زوجته هدأت الملاك بتقديم ابنها طاهرًا، إذ نزعت عنه العلامة الخاصة بالغرباء (الغرلة) تمامًا(113)].






وقد أخذ القديس غريغوريوس هذا الفكر عن العلامة أوريجانوس السكندري الذي رأى في الزواج بالغريبات رمزًا لاستخدام الفلسفة(114).



6. بدء العمل:


التقى موسى وهرون أي الوصية الإلهية مع العبادة الورعة الكهنوتية، وتلاقيا مع جميع الشيوخ، الذين خضعوا لعمل الله وكلماته، أما الشعب فإذ سمعوا "خروا وسجدوا" [27]. إنها صورة حيَّة لخضوع كل طاقات النفس والجسد للعمل الإلهي خلال قبول كلمة الله والعبادة.
حقًا ما أحوجنا أن نعمل في القلب، كرّم الله المقدس، خلال كلمة الله وبروح تعبدي ليُصير القلب كله مقدسًا للرب، خاضعًا له!


رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
أهمية العمل الفردي | إعداد المؤمن للخدمة
لا إعداد للخدمة بدون الصوم والاختلاء
هرون كان مشتاقًا (للخدمة) أما موسى فقاوم
إعداد موسى لخدمة الله
دعوة موسى للخدمة


الساعة الآن 04:44 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024