جميلة أنت يا رفيقتي
4: 1- 7
وصلنا في القصيدة الثانية إلى عاطفة من الانخطاف والسعادة: استسلمت العروس إلى حبّ الحبيب، وكان هو يراقبها نائمة وينتظر ساعة تستيقظ من رقادها. لا يريد من بنات أورشليم أن يوقظنها. هي تنتبه ساعة هي تشاء.
وها نحن الآن في تأمّل في الحبيبة كما في بداية القصيدتين السابقتين. حُملت العروس إلى قمم لبنان، ومن هناك يدعوها العريس إلى أن تنزلق. فاذا كانت العروس في لبنان والعريس يدعوها لتنضمّ إليه، هذا يعني أنهما ليسا معًا، وإلاّ لكانا نعما بالسعادة على هذه القمم المنعزلة والموافقة. وستكون الحركة في هذه القصيدة مسيرة من أجل اللقاء الذي سيتمّ في جنّة العروس.
هو العريس يتكلّم. اختلف عن العروس التي ما زال حبّها يحتاج إلى محن جديدة. إنه سيّد قلبه وسيّد قلب حبيبته. كل شيء يخضع له، ولا شيء يعارض مقاصده حتى الى "نزوات " الظاهرة و"لعبة" حنانه حين يختفي فجأة. فهو يأتي ويظهر. يدخل ساعة يشاء ويختفي ساعة يشاء. وعلى العروس أن تكون هنا خاضعة ومحبّة، مستعدّة لتنفّذ أوامره. ذاك هو وضع النفس المؤمنة مع ربّها.
(آ 1) "جميلة أنت يا رفيقتي، جميلة أنت، عيناك حمامتان ". نقرأ هذه العبارة حرفيًا في 1: 15. هناك من يقرأ "رفيقتي" بمعنى "راعيتي" كما في العبرية (ر ع ي ت ي) فيشير إلى عشتار. ولكن الخطّ الروحي في نش يبعدنا عن مثل هذه الفرضيّة. واعترض آخرون: كيف يمتدح الشاعر جمال العينين من وراء الحجاب؟ وجعلوا "الشعر" وراء الحجاب. ولكن الصعوبة تراوح مكانها.
إن لفظة "ص م ت " التي تعني حجاب قد قرأتها السبعينيّة والبسيطة (شتقا) على أنها "الصمت" كما في العربيّة. في الواقع، نحن أمام الجذر" ص م م " ربط، شدّ. والحجاب هو ما يشدّ على الرأس (في العربية: صمّة). وهو شفّاف بحيث يجعل العريس يستشفّ جعل وجه العروس.
يشبَّه شعر العروس بقطيع من الماعز. هي صورة من حياة الرعاة كما عُرفت في فلسطين (وفي لبنان). والمعز معروف بشعره الأسود. نقرأ "ج ل ش " الذي قد يقابل العربيّة "جلس ". ولكن المعز جالس وهو سيقوم. وعاد آخرون إلى الأراميّة والسريانيّة فتحدّثوا عن اللمعان... في الواقع، ينزل القطيعِ على سفح جبل جلعاد فيعطي هذا الشعور للرائي فيقابله بشعر العروس.
إن أرض جلعاد بالمعنى الحصريّ هي التي يحدّها اليرموك في الشمالي ووادي حسبان في الجنوب. وعبارة "جبل جلعاد" قد تنطبق على كل هذه المنطقة. أما قلب المنطقة الجبليّة فهو جبل عجلون، شمالي يبّوق، حيث كان اللقاء الأخير بين يعقوب ولابان (تك 31: 48- 49). واشتهرت جبال جلعاد بمراعيها كما نقرأ في عد 32: 1، 4؛ إر 50: 19؛ مي 14:7.
(آ 2) ويتواصل تفسير جمال العروس. فبعد الشَعر تأتي الأسنان. فهي تشبه قطيعًا من الغنم. إن الجذر"ق ص ب " يعني قصّ، قطع. وهنا جزّ. هذا هو المعنى في السبعينيّة والبسيطة والشعبيّة. وتخرج الخراف من الاغتسال فتبدو بيضاء سواء تمّ الجزّ أو لم يتمّ. كل سنّ يجد ما يقابله. هكذا تتقدّم الخراف.
(آ 3) وتشبّه شفتا الحبيبة بخيط (ح و ط في العبرية، قلب الواو إلى ياء في العربيّة) قرمزيّ (تك 38: 28، 30 ؛ يش 2: 18، 21) وهو معروف بنحافته ولونه. إن القرمز (ش ن ا، رج في العربية سن أي لمعان) هو في نظر الأقدمين اللون اللامع. ونجد "م د ب ر ي ك " الذي يرتبط بالجذر"د ب ر" تكلّم. نحن هنا أمام أداة الكلام، أمام الفم، أمام ما يخرج من الفم وهو الحديث أو الكلام. نشير هنا إلى 5: 13 مع مقطع مماثل حيث العروس تمتدح الحبيب: بعد أن تقابل شفتيه بالسوسن تعلن أنهما "تقطران عبير المرّ" أي الكلمات العذبة.
"خدّاك فلقتا رمّانة". فالثمرة المستديرة ولون قشرتها يلهمان التشبيه. نجد "ف ل ح " أي شقّ كما في العربيّة، فلق. و"ر ق ه" من "ر ق ق ". كما في العربيّة "رقّ ". نلاحظ في الآراميّة أن "ر م ن ا" يدلّ على الوجه وعلى الرمّان. وتعود إلى ما في آ 1: "من خلال حجابك ". قالت البسيطة: "عنقك، بسبب صمتك، مثل برج داود". وهكذا ربطت هذه الآية مع الآية التالية، وقرأ سماك: يسترها الحجاب، فجعل "م س ت ر" بدل "م ب ع د".
(آ 4) ويشبّه عنق الحبيبة المرتفع والثابت مع برج داود. قد يكون هذا البرج جزءا من التحصينات في صهيون الداوديّة (2 صم 5: 7، 9؛ نح 3: 25- 27)، أو أحد الأبراج الذي ارتبط حسب التقليد باسم داود.
ونقرأ لفظة "ت ل ف ي وت ". أعادها بعضهم إلى "تلّ " (مرتفع) و"فيوت " أي ممرّ ضيّق. ولكن إذا عدنا إلى السريانيّة (إكا) نفهم أننا أمام قلعة. كان الحصن من أجل الدفاع في وجه الأعداء، يراه العدوّ فيخاف. والعروس هي الأمّة التي عادت من المنفى فاستعادت قوّتها وبهاءها على عيون أعدائها.
"ألف ترس علّق عليه ". إن لفظة "م ج ن " (مجنّ في العربيّة) تقودنا إلى حز 27: 10- 11 ورثاء مدينة صور: "الفرس والليديّون والليبيّون كانوا في جيشك، كانوا رجال حربك. وعلّقوا فيك المجنّ والخوذة فأفادوك بهاء. بنو أرواد مع جيشك كانوا على أسوارك من حولك، والأبطال كانوا في بروجك وعلّقوا تروسهم على أسوارك من حولك، فأكملوا جمالك "
إستلهم نش هذا النصّ، وصار مديح صور في قلمه مديح العروس. فالتروس المعلّقة في الأبراج ليست أسلوب حرب أخذت من العدو، ولا زينة كما في 1 مك 4: 57. ولكن المحاربين تخلّصوا منها بعد أن صارت ثقيلة ومزعجة لأن كل خطر زال عن المدينة. وهذا السلاح المعلّق على الأسوار يجعلنا نشعر براحة البلد القويّ وبجمال يتأسّس على الازدهار والقوّة. تلك ستكون أورشليم الجديدة. نقرأ في مز 122: 7: "ليكن السلام في أسوارك والسعادة في قصورك "
ونقرأ "ش ل ط " الذي هو الترس. نحن أمام شيء مسطّح ومستدير. ففي عنق العروس الذي يشبّه بالبرج، يتعلّق عقد من قطع النقود، فيشبه تروسًا معلّقة على الأسوار. أما الجبابرة المذكورون هنا فقد يرتبطون رمزيًا بداود وهو الذي أخذ أورشليم من اليبوسيّين. ولكنهم في الواقع رجال سلاح يسهرون على أورشليم الجديدة ويدرأون عنها كل خطر.
(آ 5) وتُذكر الثديان. قال بعضهم إنهما يشيران إلى الخصب. ولكن لا نجد هذا المعنى في الكتاب المقدّس ما عدا تك 49: 25 (بركات الثديين والرحم) الذي هو شعر قد يعود إلى أبعد من العالم العبريّ. وقال آخرون: قد يكون هنا تلميح إلى قبائل الجنوب والشمال التي عادت الى الوحدة وعاشت في تفاهم تام. قد نكون هنا أمام تطبيق جغرافي. رج 1: 13 (بين ثدييّ موضعه) ومقام الله في هيكله بين قبائل الشمال وقبائل الجنوب. رج أيضاً 6: 4 مع ذكر ترصة وأورشليم. وهكذا يبرز الشاعر جمال الأمّة المشخّصة. تبدو كشخص حيّ.
وعاد الشاعر إلى التشبيه مع السوسن كما سبق له وفعل في 2: 1، 16؛ 6: 2، 3. فالسوسن يعلن في هو 6:14 كما في نش، مجيء عهد الخلاص.
(آ 6) "قبل أن يطع النهار، قبل أن تهرب الظلال" (أي قبل أن ينتهي الليل). عبارة قرأناها في 2: 17 أ. ثم إن هناك تشابهًا بين القسم الثاني من هذه الآية (أمضِ إلى جبل المرّ وإلى تلّ البخور) ونهاية 2: 17، أي بين "جبل المرّ وتل البخور" من جهة وبين "جبال العهد" (جبال باتر). هذا التكرار له معناه، وسوف نعود إليه، وهو وإن غاب من السبعينيّة، حاضر في سريانيّة الهكسبلة (في العواميد الستّة كما رتّبها أوريجانس).
"إ ل ك " أي أذهبُ أنا. صار في البسيطة (ز ل ي) فعل أمر يوجّه إلى العروس: "إذهبي إلى جبل البخور". أتراه يرسلها؟ وقد رأى آخرون في هذا الفعل تحريضاً وتمنيًا: "يا ليتني أذهب "! لا شكّ في أننا أمام قصد اتخذه العريس ولا يتراجع عنه. والتشابه الذي وجدناه بين آ 6 و 2: 17 يفهمنا أن هذا القصد هو جواب على تمنٍّ عبّرت عنه العروس حين قالت للعريس: "عد يا حبيبي وكن كالظبي ". توسّلت إلى الحبيب لكي يعود إلى جبال العهد. فوعدها بأن يذهب إلى هناك.
جبل المرّ هو تلّة البخور كما في 3: 6 (تعبق بالمرّ والبخور). لا نقول مع المدرسة الطبيعانيّة إن النصّ يشير إلى العروس. ولا مع غيرهم بأن الشونميّة هي التي تتكلّم، فتطلب في ليلة عرسها أن تنعزل في جنّة الملك المزروعة بالاشجار الغريبة، لكي تتذوّق السعادة حتى الليل.
يلمّح الشاعر هنا إلى تلّة الهيكل حيث سيعود الله إلى مقامه. ولفظة "م و ر" (أي يمرّ) قد تشير إلى "موريا" حيث بُني الهيكل (2 أخ 3: 1). وعبارة "ج ب ع ت. هـ ل ب ن ه" تدلّ على موضع تنبت فيه أشجار البخور التي جاءت من عرابية (أش 60: 6؛ إر 6: 20)، من الهند، من أفريقيا. ثم إن التوراة لا تعرف استعمالاً ليتورجيًا إلا استعمال البخور، وقد نظّم كتاب الرتب الموسويّ هذا الاستعمال تنظيمًا دقيقًا. إذن، تلّة البخور هي تلة الهيكل. وهكذا يكون الحديث مرة ثانية عن عودة الربّ إلى صهيون. في 2: 17، كان ذلك موضوع تمنِ حارّ من قبل العروس. في 3: 4، جعلت نصب عينيها أن تعيده "بالقوّة" (أمسكه ولا أَرخيه). أما هنا فالتزم هو بنفسه أن يعود قبل أن يطلع الصباح، أي منذ الآن ودون أن ينتظر نهاية الأزمنة.
(آ 7) "جميلة كلّك يا رفيقتي وما فيك عيب ". بعد أن توقّف الحبيب عند التفاصيل، ألقى نظرة شاملة إلى الحبيبة، فعبّر عن شعوره العميق. سنجد عبارة مماثلة في نهاية الصورة التي تقدّمها العروس في 5: 16: "هذا حبيبي، هذا رفيقي، يا بنات أورشليم ".
لفظة "م و م " تعني اللطخة أو العيب الجسدي (لا 22: 20). وفي 2 صم 14: 25 (ابشالوم: ما كان فيه عيب من أسفل قدمه إلى قمّة رأسه) نجد عبارة مشابهة لما نقرأ هنا. وقد تعني اللفظة أيضاً عيبًا أخلاقيًّا. نقرأ مثلاً في تث 32: 5: "وبنوه الذين جعلهم بلا عيب فسدوا". وفي أي 11: 14- 15: "ولو أبعدت يدك عن الإثم... لرفعت وجهًا لا عيب فيه ". وفي 31: 7: "إن حادت خطاي عن الطريق، أو مشى قلبي وراء عينيّ، أو تلطّخت يداي بعيب ".
في مستوى أول، يتحدّث الشاعر عن جمال العروس على مستوى الجسد كما هو الأمر بالنسبة إلى أبشالوم. وفي مستوى ثانٍ ، يتحدّث عن وضع اسرائيل الذي تنقّى في أيّام المنفى. مثل هذا القول يحيلنا إلى أش 40: 2: "طيّبوا قلب أورشليم، بشّروها بنهاية تأديبها وبالعفو عمّا ارتكبت من إثم وبأنها وفت للرب ضفعين جزاء خطاياها".
وهكذا عاد الشاعر هنا إلى ما قاله في آ 1: جميلة أنت. نشير إلى أن بعض الطقوس تطبّق هذه الآية على مريم العذراء التي كانت ممتلئة نعمة، التي حصلت على ملء نعم الله كما يقول القديس لوقا (28:1).
* جميلة أنت يا رفيقتي
لا يريد الملك في نش أن تكون له سيادة إلاّ سيادة الحبّ. وهو كملك الحبّ لا كلام له إلاّ كلام الحبّ. ولا فكر ولا ألفاظ لدى هذا الملك العجيب إلاّ أن ينشد جمال تلك التي يحبّ.
في البداية، لا يتوجّه إعجابه نحو سمة خاصّة. فكل ما فيها عجيب. لهذا، يتأمّل مطوّلاً في هذا الجمال التامّ مع بساطة وحدته. "ما أجملكِ يا حبيبتي، ما أجملك "! كلام يردّده ويردّده. هكذا يبدأ الحبيب دومًا كلامه. هي أول ردّة فعل عنده حين يرى تلك التي يحبّ. "ما أجملك! جميلة أنت ".
ترد هذه العبارة الإعجابيّة تسع مرّات على شفتيه في نش. في القصيدة الأولى: "جميلة أنت يا رفيقتي، جميلة أنت. عيناك حمامتان " (1: 15). وفي القصيدة الثانية: "قومي يا رفيقتي، يا جميلتي تعالي " (8: 10). "فقومي يا رفيقتي، يا جميلتي تعالي " (آ 13). وفي القصيدة الثالثة كما نقرأ الأن في 4: 1، 7. وفي القصيدة الخامسة: "جميلة أنت يا رفيقتي، جميلة مثل ترصة، حسناء مثل أورشليم " (4:6). "جميلة أنت يا حبيبة! ما أحلى دلالك " (7: 7)
كان الربّ قد قال في أش 62: 5: "كسرور العريس بالعروس، يسرّ بك إلهك ". ونقرأ في مز 45: 12: "يشتهي الملك جمالك ". وهذا الجمال هو من الله. هذا ما يقوله حز 16: 14: "ذاع اسمك في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك " (ألبسها الله جماله). وقال أش 60: 19: "والهك نفسه يكون جمالك ".
لهذا تخطأ العروس إن اهتمت بأن تعرف هل هي حقًا محبوبة أم لا، هل هي جديرة بأن تحبّ أم لا. فكل جمالها قد صُنع على صورة الحبيب ومثاله. فيها انطبع وجهه المقدّس منذ اليوم الأول، ويريد أن ينطبع كل يوم بشكل أعمق. هذا ما فهمته تريزيا الطفل يسوع فقالت: "يا وجه يسوع المعبود، يا جمالاً سحر وحده قلبي، تنازل واطبع فيّ مثالك، بحيث لا تستطيع أن تنظر إلى نفسي دون أن تشاهد ذاتك ".
* عيناك حمامتان من وراء حجابك
بدأ الحبيب بنظرة إجماليّة وفريدة إلى هذا الجمال الكامل، فأحسّ بالانخطاف. ولكن بعد ذلك، سيتوقّف عند التفاصيل ولن يتعب. بدأ بالوجه فوجد فيه كل أرض فلسطين بألوانها المتعدّدة: الحمامة البيضاء والمتحرّكة. المعز الأسود على الجبل. قطيع الغنم بعد الاغتسال. ثمار الرمان الأحمر. أبراج المدينة وقلاعها...
وكانت العينان اللتان لم يستطع الحجاب المحيط بالوجه أن يخفّف من سناهما. هذا ما لفت انتباه الحبيب المعجب كل الاعجاب. عينان فيهما التحرّك والحيويّة والبراءة والنعمة، كما طير الحمام. وشعر أسود سواد الابنوس، لا شيء يسيطر عليه. كالمعز النازل من سفح جبل جلعاد إلى البرّية، هكذا يتدلّى شعر الحبيبة.
* أسنانك قطيع مجزوز
ونصل إلى تعارض آخر: بياض الأسنان الساطع. هذا يعني أن العروس تبدو مبتسمة ابتسامة عريضة، علامة السعادة والفرح، لتنكشف جميع أسنانها. والعريس الذي هو راعي غنم، يعرف هو أيضاً أن يبتسم فيردّ على الابتسامة بالابتسامة. ويشبّه أسنان العروس بقطيع من الغنم يسير بنظام. هذا يعني أن أسنان العروس (وفمها) كاملة لا عيب فيها.
هل نجد في هذا التصوير رقّة مبتذلة؟ كلا. فهناك تقليد قديم نجد صداه في غريغوريوس النيصيّ يرى في المعز الأسود النازل من جبل جلعاد الأمم الغريبة عن شعب الله. فالراعي يعقوب لم يُرجعها بعد من جبل جلعاد إلى أرض كنعان، أرض الموعد (رج تك 31: 21-23). وهكذا ينطلق المفسّر من حدث في تاريخ يعقوب العائد إلى أرض فلسطين، فيعطيه معنى روحيًا: يجب أن تعود جميع الشعوب إلى أورشليم التي هي أمّ المؤمنين جميعًا.
وتجاه المعز الذي ينحدر على جبل جلعاد بلا نظام ولا ترتيب، يطلع الغنم "كل واحد وتوأمه" كجيش مرصوص للقتال. هكذا يبدو شعب الله الذي اجتمع وتوحّد بقيادة الروح الصالح الذي يقوده إلى مياه الراحة (مز 23). نحن هنا أمام موضوع يهيّئنا لسرّ المعموديّة. فالربّ يجمع القريبين والبعيدين في رعيّة واحدة تحت إمرة راعٍ واحد هو يسوع المسيح.
وقد نترجم آ 2 كما يلي: تشبه أسنانُ الحبيبة نعاجًا طالعة من الاغتسال. ليس من واحدة تجهض، بل كلها تضع توأمين. وفي سياق نش حيث يبرز بوضوح موضوع الوحدة، نفهم هذه الآية كما يلي: "دُعيت الحبيبة لتكون دومًا أم النعاج التي انقسمت اليوم إلى مجموعتين منذ سنة 931 ق. م.، فصارت مملكتين، مملكة اسرائيل (في الشمال، عاصمتها السامرة) ومملكة يهوذا (في الجنوب) من أم واحدة. ونستطيع أن نواصل تفكيرنا إلى زمن البشارة الانجيليّة حيث يلتقي في الكنيسة الواحدة المسيحيّون الآتون من العالم اليهوديّ وأولئك الآتون من العالم الوثنيّ.
* شفتاك سلك من القرمز
ومع الشفتين نحن أمام لون جديد في وجه العروس. شفتاك مثل "خيط القرمز". كانت العروس في مطلع نش قد رغبت في قبلة من العريس: "ليقبّلني بقبل فمه". وقد تكون نالت جزاءها الآن، فتلوّنت شفتاها بلون شفتي عريسها، الذي سفك دمه من أجلها. هذا ما قاله غريغوريوس النيصي. وقالت كاترينا السيانيّة: "ضعوا شفاهكم على جنب ابن الله، فجرحه فم يرمي نار المحبّة ويسكب الدم الذي يغسل آثامنا".
ترمم الشفتان "فمًا ساحرًا" أو بالأحرى فمًا يسحرنا بكلامه. ذاك ما كان عليه الكاتب الملهم في مز 45: 2: "قلبي يفيض بكلام طيّب ". والعروس تتمتم نشيدًا متواصلاً تمتدح فيه ملكها. إحمرّ خدّاها بسبب هذه النار، فبديا من تحت القماش الرقيق التي تحتجب فيه في يوم العرس، كقطعتي رمّانة. فإذا كانت التفّاحة ثمرة الحبيب، فالرمّانة هي ثمرة الحبيبة (4: 3، 13؛ 6: 7؛ 8: 2). ثمرتان تدلاّن على الحبّ. ثمرتان مستديرتان، وصورة الدائرة تدلّ على الكلّ والكمّال، وهي صورة تنطبق على الحبيب والحبيبة فيتقابل جماله مع جمالها.
* عنقك كبرج داود
وبعد الوجه العجيب الذي هو كلّه خفّة وحركة (الحمامة، المعز، النعاج)، ها هو العنق المضيء بالقوّة، الثابت القويّ، الذي يرتفع متشامخًا مثل برج في المدينة. برج داود هو برج ملكيّ. فالعروس جميلة. وهي قويّة أيضاً، وعريسها يفتخر بقوّتها. قال أش 26: 1: "في ذلك اليوم يُنشد في أرض يهوذا: لنا مدينة حصينة". والعقد اللّماع الذي يُسمع صوته المفرح حول العنق، يبدو وكأنه محارب من المحاربين. وكل هذه "النقود" تبدو في مخيّلة الحبيب المندفع كتروس محاربين حول أسوار المدينة. وُضعت هنا في زمن السلم، ولكنها تفرض الاحترام.
برج قويّ وجميل يتحدّى هجمات الأعداء كما يتحدّى عمل السنين. قال أحد الأناشيد: "ترتفع في برج قويّ يخرج من "مقابر" الزمن ". لهذا رأى آباء الكنيسة في برج داود مجد أورشليم التي تشبّه بها الحبيبة، مريم العذراء، العنق الحقيقيّ في الجسد السريّ، والرابط الرأس بالأعضاء.
ولكن هذا الوجه السحريّ، لا يمنعنا من أن نسمع النغم الأساسيّ الذي هو نغم السلام. فمع أنها مقاتلة ومحاربة، فهي في الوقت عينه مسالمة. ففي قلب الجيوش والمعارك، تنشد نشيد سلام لا يضاهيه نشيد.
وهكذا انتهى رسمُ وجه الحبيبة في صورة النعمة والسلام أكثر منه بالقوّة. وهذا ما اكتشفناه عندما قالت الحبيب: "ثدياك توأما ظبية صغيران يرعيان بين السوسن ". نرى في البداية تلميحًا إلى خصب العروس. قال أوغسطينس: "أمّك هي الكنيسة. وثدياها هما الكتاب المقدس بعهديه. فأرضع حليب كل الأسرار".
ومع صورة الخصب، نجد صورة الوحدة. فالثديان التوأمان يدلاّن على مملكتي الشمالي والجنوب، اللتين وُلدتا من أم واحدة وانقسمتا. وها هما قد اجتمعتا من جديد في مملكة واحدة هي مملكة الملك المسيح. وعلان أخوان من أم واحدة، من ظبية. وهما يرعيان بعد أن تصالحا في مملكة السوسن، على أرض فلسطين.
هنا نتذكّر مثلاً نقرأه في حزقيال: "وكانت إلي كلمة الرب قائلاً: خذ لك عودًا واحدًا واكتب عليه "يهوذا". وخذ عودًا آخر واكتب عليه "يوسف " (أو: اسرائيل)... أقرن الواحد بالآخر حتى يصيرا لك عودًا واحدًا... وقال: هكذا قال السيّد الربّ: هاءنذا آخذ بني اسرائيل من بين الأمم الذين ذهبوا إليهم، وأجمعهم من كل جهة وآتي بهم إلى أرضهم. وأجعلهم أمّة واحدة... وملك واحد يكون ملكًا لجميعهم ولا يكونون من بعدُ أمّتين، ولا ينقسمون من بعد إلى مملكتين أبدًا... وعبدي داود يكون ملكًا عليهم، وراعٍ واحد يكون لجميعهم " (حز 37: 15- 27).
* قبل أن يطلع النهار
كيف يستطيع الحبيب أن يقاوم سحر مثل هذا الجمال، كيف يقبل أي تأخير تجاه رغبته التي لا تستطيع أن تنتظر؟ سيكون عندها منذ هذا المساء، منذ هذه الليلة. قال: "قبل أن يطلع النهار، قبل أن تهرب الظلال ". وهكذا يكون هو الذي يطلب العجلة والسرعة فيستعيد كلمات قالتها له العروس في القصيدة الثانية: "قبل أن يطلع النهار، قبل أن تهرب الظلال، عد يا حبيبي وكن كالظبي " (2: 17)، عُد سريعًا من أجل تجديد العهد.
ويودّ الحبيب من دون تأخّر أن يقيم في قلب تلك التي يحبّ. أن يتّحد جما على "جبل " صهيون، على "تلّة" الهيكل، مقامهما المشترك. فهناك يرتفع بلا انقطاع في قلب المدينة المحبوبة، سحاب البخور والمرّ المرتبطين دومًا بحضور الحبيب (3: 6). قال: "أمضي إلى جبل المرّ، وإلى تلّ البخور". أي عزم في هذه الكلمات! بأية سرعة سيذهب الحبيب إلى أورشليم (رج لو 9: 51) ليكون على هذا الجبل الذي سمّته الحبيبة: "جبل العهد" (17:2)
جبل المرّ هو جبل الهيكل الذي بُني على جبل موريا حيث ذهب ابراهيم ليذبح ابنه اسحق، وحيث يتصاعد المرّ مع البخور. ورأى بعض آباء الكنيسة مثل أوريجانس وغريغوريوس النيصيّ في هذه الكلمات (أمضي إلى جبل المرّ...) نداء لملاقاة الرب في موته الذي يرمز إليه المرّ في يو 19: 39. وقال فرنسيس السالسي: "جبل الجلجلة هو جبل الحبيبين " لكي نشارك في لاهوته (الذي يرمز إليه البخور). "فمن المستحيل أن أعيش معه دون أن أتحوّل بمرّ الموت إلى لاهوت البخور".
قالت العريس: أمضي... أنا ماضٍ... بدأت... فلتعجّل العروس من جهتها لتكون في "الساعة" المحدّدة للّقاء. لتنتزع نفسها من كل ما يمكن أن يعوقها، ولتنطق هي أيضاً إلى جبل باتر، إلى جبل اللقاء "على الجلجلة".
* جميلة كلّك يا رفيقتي
نحن هنا أمام تضمين مع آ 1 كما في 2: 10 و2: 13 (يا جميلتي تعالي). بعد أن توقّف الحبيب عند تفاصيل جمال العروس، ألقى في النهاية نظرة إجماليّة. في النهاية، هو لا يستطيع أن يقول شيئًا آخر عن تلك التي يحبّ سوى أنها جميلة، كلها جميلة، لا عيب فيها. لا تحفّظ على جمالها. هي بلا عيب في المحبّة وهذا بشكل غير محدود.
هنا نفهم أن الكنيسة انطلقت من التقليد وطبّقت هذه الآية على مريم العذراء، حبيبة الله، لأنها تليق بها بشكل فريد. ويجب أن لا ننسى حين نتكلّم عن حبيبة نش ملاحظة أحد الآباء: "ما يقال بشكل عام عن الكنيسة يقال بشكل فريد، عن مريم العذراء (بشكل مميّز)، وبشكل خاص عن النفس البشريّة (يطبّق على كل واحد منا).
لقد وصل العريس إلى قمّة الغبطة. فانتظر ساعة اللقاء، ساعة الأعراس. لهذا نادى عروسه: "تعالي معي من لبنان ".