كلمات البابا شنودة - لتعزيتة فى نياحة البابا كيرلس السادس
كلمة نيافة الأنبا شنودة - أسقف التعليم فى الإجتماع الإسبوعى بالكاتدرائية الجديدة بالأنبا رويس - الجمعة 12 مارس 1971 م
فى الواقع لم أحضر هذا اليوم لألقى عليكم عظة إنما لأعزيكم فى نياحة أبينا الطوباوى المكرم الأنبا كيرلس السادس
ليس أمراً هيناً على الكنيسة أن تفقد الأب الأكبر لها الذى تسميه الكنيسة بألقاب عديدة فنقول فيها أنه أب الاباء .. وراعى الرعاة .. ورئيس الالكهنة .. ورئيس الأساقفة ,, ورئيس المجمع المقدس .. وخليفة الرب ونائبة على الأرض .. وثالث عشر الرسل .. وليس هيناً أن تودع الكنيسة شخصاً كبيراً من هذاالنوع فى صمت وهدوء البابا فى الكنيسة هو أكبر شخصية تذكرة فى صلواتها فى رفع بخور عشية وباكر والقداس والألحان الكنسية والتسابيح بل حتى أثناء تقديس الأسرار الإلهية عند تقديم الحمل , فى كل وقت البابا يشغل الكنيسة وتنشغل به طالبة من الرب له حياة مديدة وأزمنة سالمة هادئة وأن يحفظة لنا , هذا من ناحية الشعب وتذكار الكنيسة له .
أما من ناحية البابا كيرلس بالذات فقد كانت له فى الكنيسة مكانة خاصة , بدأ حياته الرهبانية كراهب صادق الرهبنة ترهب وهو صغير ثم عكف على الوحدة , ثم سكن فى مغارة قرب دير البراموس وأنا زرتها بنفسى , ثم أنتقل إلى طاحونة قرب مصر القديمة وتعبد فيها سنوات طويلة ثم توحد فى كنيسة خاصة به بناها بنفسه وأشرف على الفعلة بنفسه وعاش فيها متوحداً حتى أن السنوات الطويلة من سنة 1944 م إلى 1959 م لا أذكر أنه خرج من ذلك المكان إلا لكى يعمل عملية جراحية فى وقت ما حتى لقب بالقمص مينا المتوحد , وفى وحدته كان رجل صلاة ربما حوالى 35 عاماً من الزمان كان يقيم قداساً كل يوم , لم ينقطع يوما ما عن القداسات طول هذه المدة , وكانت صلواته تخجل الناس , رجل كبير فى السن فوق الستين أو قارب السبعين يصحو كل يوم حوالى الساعة الرابعة صباحاً ليصلى , كانت الكنيسة جزء من حياته , وكانت القداسات تجرى فى عروقة مثل دمه تماما وكانت التسابيح والصلوات شيئاً طبيعياً بالنسبة له ولم يكن يجد غضاضة فى أن يقف مع احد المرتلين يرابعة التسبحة , وكان يتعجب إذا وجد كاهناً يصلى من الخولاجى حتى أن جميع صلوات القسمة وهى عديدة كان يحفظها تماماً .
لعله درس كبير لنا فى المواظبة على القداسات والتبكير للكنيسة والإلتصاق بها وحفظ الصلوات والتسابيح والألحان والمدائح , وله فى الرهبنة صلات ودروس وتجارب كثيرة , له صلة بدير البراموس العامر حيث ترهب هناك , وله صلة بدير السريان العامر حيث أرسل كثير من ابناءه ليتعبدوا به , له صلة بدير مار مينا الذى عمره وترهب بأسمه ولقد ترك فى نفسه أثراً كبيراً يعطينا فكرة عن كيف أننا أسمينا أولادنا بأسماء القديسين تتعلق نفوسهم به وبأعمالهم , وقد أهتم بدير مار مينا كثيراً قبل أن يصير خليفة لمار مرقس الرسول , وكان يريد من مصلحة الآثار أن تترك له هذا المكان ألثرى ليبنى فيه ولو قلاية بسيطة , وأشترى خمسين فداناً وبنى كنيسة ومغارة وقلالى للرهبان وسوراً كبيراً يحيط بها وبيتاً للضيافة أو الخلوة , وكان يحب دير مار مينا ويسافر إليه ويقضى فيه شهوراً طويلة وكان يود لو أنه أيضاً دفن فيه , كان يحب الهدوء والبعد عن الضوضاء , ومشاكل القاهرة ومن حبه لهذا الدير كان يود لو بنيت مذابح فى كل كنيسة بإسم مار مينا , ورسم أحد المطارنة بأسم مار مينا وتلميذه الخاص باسم الراهب مينا وعمر ذلك الدير , ولأول مرة نجد راهباً يحمل إسم مار مينا , وكان يعيد فى كل سنة فى عيده , ويفرح بالذين يشتركون فيه , وإستطاع أن يجعل إسمه محفوراً فى قلوب أبناء هذا الجيل .
لا أدرى عندما تصعد روحه ليلتقى به فى ألبدية كيف سيكون لقاؤهما ؟ لهذا اقول لكم أنكم سميتم أبناءكم باسماء القديسين لتركت فى نفوسهم آثار كبيرة مثلما أحب البابا كيرلس إسمه القديم " الراهب مينا" وإلتصق به كثيراً.
كان البابا محباً للتعمير والبناء فقد بنيت فى عصره فى القاهرة أكثر من 31 كنيسة وفى الإسكندرية 9 كنائس إن كنيسة المستشفى القبطى بالقاهرة وبالإسكندرية تعتبر مبدأ عظيماً , لا يوجد أحوج إلى التناول والصلوات من المرضى وذويهم , وليت هذا المبدأ يعمم فى بلادنا المريض يكون قريباً جداً إلى الرب ومستعداً للتوبة أكثر من أى إنسان آخر , لذلك عندما أتكلم عن هذا الأمر إنما تعجبنى الفكرة فى حد ذاتها حتى لو كانت هذه الكنيسة غرفة أو قاعة صغيرة , يكفى المذبح والكاهن داخل المستشفى , وأعجبنى وجود كنيسة فى كلية البنات القبطية , شئ جميل أن توجد كنيسة فى مدرسة لكى يبدأ الطلبة اليوم الدراسى بالصلاة , ويشعرون بأنهم فى رحاب الكنيسة والواقع أنها إمتداد لأفكار آبائنا القدامى , فالكنيسة والمدرسة يغذيان الروح والعقل معاً , وأعجبنى أيضاً أن توجد كنيسة فى قاعة مثل قاعة إبراهيم لوقا بمصر الجديدة لماذا لا توجد كنيسة فى كل مستشفى ومدرسة وقاعة ؟
وأيضاً جميل أن توجد فى بيت مدارس الأحد وفى جمعية الإخلاص , كل هذه الأمور تظهر أن الكنائس ليست مجرد أبنية إنما لها أهداف روحية , وجميل أيضاً أن توجد فى اماكن مهجورة مثل حى القصيرين أو الزاوية الحمراء , ناس مجهولين لا يجدون أحداً يزورهم , وكان كثيرون من طلبة الإكليريكية يذهبون إليها للخدمة والوعظ وكنيسة الساحل وأرض الشركة .
هذه المحبة للتعمير لم تشمل الكنائس فقط إنما الآثار فقد كون لجنة للبحث عن كنيسة أتريب ولها وضع كبير فى تاريخ الكنيسة والنبوات المقبلة , وهذا الموضوع طويل , وقد تعاونت هذه اللجنة مع البعثة الهولندية هناك , ولا ننسى أنه تمت فى عهده أبنية الكلية الإكليريكية مثل مبنى كلية اللاهوت سنة 62 م ومبنى الداخلية للطلبة المجاور لها , وأيضاً معهد ديدموس للعرفاء , وإن كان ازيل حالياً لبناء الكاتدرائية , وكان محباً للتعمير حتى نياحته , ففى نفس اليوم الذى تنيح فيه بدأ تعمير مقبرة البطاركة التى تحت المذبح مباشرة وكان أول بطرك يدفن فيها .
ومحبته للتعمير لم تكن فقط للأبنية المادية إنما للبناء الروحى أيضاً ففى عهده وصل نشاط الكنيسة لأماكن بعيدة ما كنا نظن أنه يصل إليها , فأصبح لنا كاهناً فى كندا القس ماركوس إلياس فى تورنتو , والقس رفائيل يونان بمنتريال وكلاهما من أساتذة الكلية ألإكليريكية ثم رسم القس مينا لبيب لسدنى وآخر لملبورن بأستراليا , ثم رسم القس غبريال أمين للولايات المتحدة وأرسل إليها القسيسين بيشوى كامل وتادرس يعقوب وكان يشرع فى رسامة آخرين لإنجلترا وأوربا , وإهتم أيضاً بالكرازة فى أفريقيا , وأرسل لها مقدمات كثيرة من قبل وأرسل أولاً القس مكاريوس (الأنبا اثناسيوس حالياً) والقمص شنودة السريانى والقمص باخوم المحرقى (الأنبا أغريغوريوس حالياً) وكاهن كنيسة الزمالك , وأنطونيوس السريانى , وأرسل بعثات من العلمانيين .. الدكتور زاهر رياض وغيره من أساتذة الكلية للإتفاق على إقامة معهد كرازى بالقاهرة فى كرتسا واخرج هذا المركز مجموعة من الكارزين يكرزون حالياً بالسودان ويعمدون كثيرين بإسم المسيح إلى يومنا هذا , كان إهتمامه كبيراً بأفريقيا والكويت أيضاً حيث أرسل إليها القمص ميخائيل المحرقى (أنبا مكسيموس حاليا) والقمص تيموثاوس المقارى الذى ما زال هناك.
وإهتم أيضاً بالكنيسة فى أثيوبيا وصدقونى إن العلاقات مع الكنيسة فى أثيوبيا كانت تتركز كثيراً على المحبة ألكبيرة القائمة بين قداسته وجلالة الإمبراطور هيلاسيلاسى وكانت هذه المحبة هى السور الكبير الذى يحفظ العلاقة بين الكنيستين , ومن أول سيامته وهو يهتم بها , ففى يوليو عام 1962 م رسم جاثليق أثيوبيا أبونا باسيليوس (ولقب أبونا بأنب عندنا يطلق على رؤسائهم) , وزار بنفسه أثيوبيا وكان الإمبراطور قد زاره أثناء سيامة الجاثليق وقلده وشاح سليمان الأكبر , وقلد كثيراً من الآباء قلائد وأوسمة , وبمجرد وصول قداسته أثيوبيا عام 1965 م وكان مريضاً طلب البدء بإقامة القداس بكاتدرائية الثالوث الأقدس , وسنة 1962 م زار كثير من مقاطعات , وزار دير القديس تكلا هيمانوت رئيس الرهبنة الحبشية وغيره من ألماكن , وإشترك فى الإحتفال الثلاثينى بتنصيب الإمبراطور , وسنة 1965 م رأس مجلس الكنائس الأرثوذكسية الشرقية هناك , وإستقبل بحفاوة كبيرة وتنازل له الإمبراطور عن قصره ليقيم به أثناء الزيارة وكانا أسداه طليقين , وعندى فى قلايتى الخاصة صورة لقداسة البابا وهو يداعب أحد هذه الأسود , وكان جلالة الإمبراطور يقول لقداسته أننى أننى مستعد أن ابنى لك هنا قصراً لتزورنى كل عام , وعندما كان يقدم الهدايا للآباء المجتمعين بالمجلس كان ينسبها إلى قداسته لا إلى شخصه بإعتباره صاحب المكان , وكان يستقبله إستقبال الملوك وتطلق له المدافع 21 طلقة , وألأثيوبيين يحبون خليفة مار مرقس ويسمون كنيستهم الكنيسة القبطية , وكانت لفتة جميلة أن يزور أثيوبيا مرتين , وكان جلالة الإمبراطور بمجرد وصوله إلى القاهرة يزروه ويأخذ بركته .
ولم يقتصر ألمر على هذه العلاقات بأفريقيا وأمريكا وأستراليا وآسيا وإنما أيضاً كان له إتجاه فى العلاقات المسكونية العامة , وقد زاره فى مصر كثير من رؤساء الكنائس العالمية مع انه لم يزر أحد منهم , زاره البطريرك اثيناغورس رئيس الكنيسة اليونانية , وبطريرك موسكو ألكسيس , ومكاريوس أسقف قبرص , وبطريرك بلغاريا ورومانيا وفنلندا , ومن الكنائس الشقيقة بطريرك الأرمن , ومار أغنوطيوس يعقوب بطريرك السريان ورؤساء البروتستانت والمسئولين فى مجلس الكنائس العالمى وكثيراً من كرادلة الكاثوليك منهم رئيس أساقفة فينا , ولقد وجدنا هذا افرتباط الكبير مع كنائس العالم ظاهراً فى حفل مار مرقس الرسول وحفل بناء هذه الكاتدرائية حيث تبرعت كثير من الكنائس بمستلزماتها , ولا ننسى من كان يوفدهم فى بعثات لحضور المؤتمرات الكنسية العالمية ومن أوفدهم لحضور إجتماعات مجمع الفاتيكان الثانى لسنوات طويلة .
ولا ننسى الجهود الجبارة التى قام بها من الناحية الوطنية مما جعله موضع ثقة وثناء الرؤساء , كان الرئيس جمال عبد الناصر يحبه محبة خاصة ويكرمه إكراماً كبيراً ويثق به وبوطنيته , والرئيس أنور السادات تكلم عنه كلاماً فى منتهى الجمال وأشاد بمثاليته فى الوطنية وقال عنه : كنت أعز هذا الرجل إعزازاً خاصاً وقال إنه : "بلدياتى" وقال إنه كان رجلاً محباً واعياً بكل ما يحيط بالبلد من احداث ولا يفتأ أن يوجه الأقباط فى نصرة وطنهم , وتحركت الدولة كلها أثناء مرضه .. رءيس الدولة والمسئولون فى الإتحاد الإشتراكى (الحزب الحاكم) والوزراء جميعهم .
وكان لقداسته إلى جوار هذا كله صفاته الفاضلة فى حياته الخاصة , وكان رجلاً يتميز إلى جوار الحزم وقوة الشخصية بالبساطة وكان رجلاً لطيفاً , وكانت له أبتسامة رقيقة جميلة تؤثر فى كل من يزوره وكان يتبسط كثيراً مع الناس , ولعله أول بابا فى جيله يفتح بابه على مصراعيه لكل صغير وكبير رجلاً كان أو أمرأة .
أتذكر منظراً مؤثراً فى سنة 1959 م , وكنت فى ذلك الحين سكرتيراً له , وكان يصلى صلاة عشية وبينما كان يصرف الشعب وجدت رجلاً بسيطاًَ أمسك يده بقوة وشدها بعنف ووضعها على صدره وقال بإيمان عجيب : " أنا عيان إرشمنى هنا "
كان كل صاحب مشكلة يذهب إليه ويدعو لكل واحد ويتكلم مع كل واحد وفى أيام الإمتحانات كان الطلبة بالألاف يأتون إليه يطلبون صلواته وهو يدعو ويصلى للكل , وكان مجهوداً جباراً لا يستطيع من فى سنه أن يحتمل مثله .
ولعله بسببه كان هذا المرض الأخير .. رحمه الرب , وكان رجلاً صامتاً يسمع كثيراً أكثر مما يتكلم وكان فى صلواته كثير البكاء , كثير من الناس الذين لهم قوة شخصية تكون دموعهم عزيزة أما هو فكان البكاء قريباً منه , وكانت له ذاكرة فى منتهى القوة يحفظ الأحداث القديمة ويحفظ أسماء لا حصر لها ويكلم الناس بروح مرحة , وكان رجلاً كنسياً وطقسياً وشعبياً وملازماً للكنيسة , كانت فيه صفات عديدة رحمة الرب رحمة واسعة .