منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 16 - 02 - 2022, 01:59 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,274,632

سلطة يسوع وتسكين العاصفة

سلطة يسوع وتسكين العاصفة


النص الإنجيلي (مرقس 4: 35-41)

35 وقالَ لَهم في ذلكَ اليومِ نفسِه عندَ المساء ((لِنَعبُرْ إِلى الشَّاطِئِ المُقابِل)). 36 فتَركوا الجَمعَ وساروا به وهُو في السَّفينة، وكانَ معَهُ سُفُنٌ أُخرى. 37 فعَصَفَتْ رِيحٌ شَديدة وأَخَذَتِ الأَمواجُ تَندَفِعُ على السَّفينة حتَّى كادَت تَمتَلِئ. 38 وكانَ هُو في مُؤخَّرِها نائماً على الوِسادَة، فأَيقَظوه وقالوا له: ((يا مُعَلِّم، أَما تُبالي أَنَّنا نَهلِك؟)) 39 فاَستَيقَظَ وزَجَرَ الرِّيحَ وقالَ لِلبَحْر: ((اُسْكُتْ! اِخَرسْ!)) فسكنَتِ الرِّيحُ وحدَثَ هُدوءٌ تَامّ 40 ثُمَّ قالَ لَهم ((ما لَكم خائفينَ هذا الخَوف؟ أَإِلى الآنَ لا إِيمانَ لَكم؟)) 41 فخافوا خَوفاً شَديداً وقالَ بَعضُهُم لِبَعْض: ((مَن تُرى هذا حتَّى تُطيعَه الرِّيحُ والبحر؟)).

مقدمة

بعد تعليم التلاميذ بالأمثال، يصف مرقس الانجيلي كيف كان يسوع يصطحبهم بمعزل عن حضور الجمع من اجل ان يكشف لهم عن قدرته وهويته من خلال معجزة تهدئة العاصفة، وهي إحدى معجزات يسوع التي وردت في الأناجيل الإزائية (متى 8: 23-27، مرقس 4: 35-41، ولوقا 8: 22-25)، وكأن يسوع سمح بالعاصفة ليمتحن مدى ثقة التلاميذ وإيمانهم به، من بعد ما أمضوا ما يُقارب السنتين برفقته وبقربه. والمعجزة هي مثال أدبي لصراع المسيح مع الطبيعة، صراع بين قوتين متناقضتين: العاصفة والهدوء. نواجه العواصف، ولكن حضور يسوع يعطينا الطمأنينة. وتؤيد هذه المعجزة رسالة يسوع وتُثبت كيانه انه ليس فقط ابن الانسان، انما هو ايضا ابن الله الذي له سلطان على الطبيعة وعناصر الكون، إنه سيد تاريخ العالم. ان قوة ملكوت الله لا تظهر في تعليم يسوع فحسب، انما في أعماله ايضا(مرقس 4: 35-41). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

أولاً: تحليل وقائع النص الإنجيلي (مرقس 4: 35-41)

35 وقالَ لَهم في ذلكَ اليومِ نفسِه عندَ المساء لِنَعبُرْ إِلى الشَّاطِئِ المُقابل

تشير عبارة "ذلكَ اليومِ نفسِه عندَ المساء" الى مساء يوم الوعظ بالأمثال (4: 1-34) وبعد ما سأله البعض ان يؤذن لهم بأتباعهم إياه (متى 8: 8: 22)، حيثكان يسوع يعلّم " بِجانِبِ البَحْر، فازدَحَمَ علَيه جَمعٌ كثيرٌ جِدّاً، حَتَّى إِنَّه رَكِبَ سَفينَةً في البَحرِ وجَلَسَ فيها، والجَمعُ كُلُّه قائِمٌ في البَرِّ على ساحِلِ البَحْر" (مرقس 4: 1)؛ اما عبارة "المساء" فتشير الى المساء من بعد الغروب، لان كان عند اليهود مساءان: الأول العصر، والثاني من بعد الغروب. أمَّا عبارة "لِنَعبُرْ" فتشيرالى عبور البحيرة من الغرب الى الشرق دلالة على إتباع التلاميذ ليسوع والتزامهم معه. وغاية يسوع من العبور هي الاستراحة. أمَّا عبارة "الشاطئ المقابل" باليونانية πέραν (معناها العَبر، الجهة المقابلة) فتشير الى الشاطئ الشرقي من بحيرة طبرية حيث يقيم الوثنيون في ناحية الجراسيين (مرقس 5: 1)، حيث كان يسوع وتلاميذه على الشاطئ الغربي قرب كفرناحوم (متى 3: 19)؛ والبحيرة صغيرة نسبيا. يبلغ طولها حوالي 21 كم، وأمَّا عرضها 13 كم، ويبلغ عمقها 49 مترا تقريبا وهي تقع على انخفاض 210م عن سطح البحر الأبيض المتوسط وبانخفاض 183 م عن الأرض المحيطة بها. وقرَّر يسوع ان يعبُرَ البحيرة من الغرب الى الشرق، إمَّا لصرف الجموع كما جاء في انجيل متى "ورأى يسوعُ جُموعاً كَثيرَةً حَولَه. فأَمَرَ بِالعُبورِ إِلى الشَّاطِئِ المُقابِل "(متى 8: 18)، وإمَّا لفتح مجال جديد لخدمته عند الوثنيين، او ربما للغرضين كليهما او من اجل ان يكشف لتلاميذه قدرته بمعزل عن حضور الجمع. إنّ هذه المبادرِة تدلّ على إرادة يسوع في حمل الخلاص إلى الشعوب كلها، وإن انحصر نشاطه موقتًا في الجليل.

36 فتَركوا الجَمعَ وساروا به وهُو في السَّفينة، وكانَ معَهُ سُفُنٌ أُخرى

تشير عبارة "السَّفينة" الى قارب للصيد، وكان هذا القارب من الاتساع بحيث يحمل يسوع وتلاميذه الاثني عشر، وكان يسير بقوة المجاديف والأشرعة، ولكن عندما تهب عاصفة، كان لا بدَّ من إنزال الأشرعة لحفظها من التمزق، وليسهل التحكم في القارب. ولا شك أن العبرانيين استعملوا سفن الصيد على بحر الجليل منذ زمن طويل. وقد كتب يوسيفوس فلافيوس المؤرخ اليهودي، انه كان يوجد على سطح البحيرة أكثر من (330) قارب للصيد في وقت واحد. وقد تمَّ اكتشاف قارب روماني عام 1986 ويعود تاريخه الى أيام المسيح على الجهة الشمالية الغربية قرب كيبوتس جنوسار في شاطي بحيرة طبرية، وبلغ طوله 8:27م وعرضه نحو2:3م وارتفاعه 1:3م وكان يُستخدم إمَّا لنقل البضائع او الركاب من مكان لآخر. وهو معروض الآن في متحف كيبوتس جنوسار. ويرى مرقس الإنجيلي السفينة والخطر يهُدِّدها. وترمز السفينة هنا الى الكنيسة الذاهبة الى العالم الوثني والتي تقذف بها أمواج البحر، ولكن حضور يسوع الفادي يخلّصها ويمنع غرقها. أمَّا عبارة "تَركوا الجَمعَ" فتشير الى انفصال التلاميذ عن الجمع ليقدّم لهم يسوع تعليما خاصاً بهم. أمَّا عبارة "كانَ معَهُ سُفُنٌ أُخرى" فتشير الى رغبة الجموع في سماع تعليم يسوع ومشاهدة معجزاته التي حملتهم على الازدحام عليه براً وبحرا.

37 فعَصَفَتْ رِيحٌ شَديدة وأَخَذَتِ الأَمواجُ تَندَفِعُ على السَّفينة حتَّى كادَت تَمتَلِئ

تشير عبارة "عَصَفَتْ رِيحٌ شَديدة" الى إحدى العواصف والزوابع المفاجئة غير متوقعة التي كانت تهبُّ مراراً على بحيرة طبرية بسبب الرياح الآتية من البحر المتوسط، والرياح الآتية من الصحراء السورية وجبال الجولان مما يُعرِّض المسافرين بالبحيرة للخطر. هذا بالإضافة لوقوع مستوى سطح البحيرة على عمق 213 متر تحت سطح البحر والأرض المحيطة بها عالية، لذلك فهي عرضة لاضطرابات عظيمة. ويُمثّل الريح من خارج البحر المصائب الخارجية التي تنقضُّ على الإنسان، ومنها القُوى الطبيعية المهلكة للأجساد. ويعلق البابا فرنسيس "إنّ العاصفة تكشف ضعفنا وتُظهر تلك الضّمانات الزّائفة الّتي بنينا عليها برامجنا ومشاريعنا وعاداتنا وأولوياتنا"(عظة 30/3/202). وأمَّا عبارة "أَخَذَتِ الأَمواجُ تَندَفِعُ على السَّفينة" فتشير الى ارتفاع الأمواج عالية، وقد تصل احيانا الى ستة أمتار حيث فاجأت هذه العاصفة التلاميذ وأصبحوا في خطر عظيم. وتبدو الامواج قوية تهاجم السفينة ومعها الرياح لمنع السفينة من الذهاب الى الشاطئ المقابل للعالم الوثني. وتُمثَّل الأمواج من داخل البحر التجارب الداخلية التي تثور في نفس الإنسان، وهي القوى الشيطانية المهلكة للنفوس، ويُمثل اضطراب البحر في نظر القدماء القوة الشيطانية، حيث أن الكنيسة شبيهه كسفينة وسط أمواج هذا العالم، وهي تعاني من التجارب والضيقات، وبالرغم ذلك تبقى الكنيسة ثابتة ولن تتزعزع لأن يسوع موجود في داخلها. اما عبارة "حتَّى كادَت تَمتَلِئ" فتشير الى تلك الأمواج العالية التي ارتفعت فوق السفينة ومالت عليها حتى كادت تمتلئ من الماء وتغرق، إذ تلاعب البحر الهائج بالسفينة وكسرت الأمواج دفتها ومزَّق الريح شراعها؛ ويعلق الكاتب مايكل كين على أن بحيرة طبريا كانت معروفة بعواصفها المفاجئة والشرسة" 26Keene, Michael (2002), St Mark's Gospel and the Christian Faith,.

38 وكانَ هُو في مُؤخَّرِها نائماً على الوِسادَة، فأَيقَظوه وقالوا له: يا مُعَلِّم، أَما تُبالي أَنَّنا نَهلِك؟

تشير عبارة "هُو في مُؤخَّرِها نائماً" الى رؤية شاهد عيان ليسوع نائم رغم الأمواج والرياح الهائجة، لأنَّ التعب غلبه بعد نهارٍ مرهقٍ من الوعظ لجمهور كبير (4: 1-34)؛ ولم يُذكر يسوع أنه نام إلا في هذا الحادث، ويدل النوم على طبيعة يسوع البشرية وإثبات لكمال بشريته. أما بالنظر إلى طبيعته الإلهية فلم يزل كلام المرنم صادقاً "لَا يَنْعَسُ وَلَا يَنَامُ" (مزمور 121:4). فكان يسوع كابن الانسان بحاجة الى النوم كما كان محتاجا للطعام. وتعلق القديسة تيريزا الطفل يسوع "كان الرّب يسوع نائمًا كالعادة في قاربي الصغير؛ آه، أرى جيدًا أن النفوس نادرًا ما تسمح له بالنوم بسلام فيها. لقد تعب الرّب يسوع من تحمّل الأعباء ومحاولاته للتقرّب، وأخذ يسارع للاستفادة من الراحة التي أقدّمها له" (مخطوطة السّيرة الذّاتيّة). ويرى بعض آباء الكنيسة في نوم يسوع في السفينة اشارة الى موته ولكنه سوف يستيقظ، يقوم، فيُبعد الخطر عن جماعته المؤمنة؛ ويدل نوم المسيح في الدرجة الثانية الى زمن غياب يسوع عن حياة الكنيسة بعد صعوده الى السماء. أمَّا عبارة "الوِسادَة،" فتشير الى مقعد خشبي او جلدي يجلس عليه من يُجذف، وقد استعمله يسوع ليسند رأسه، او هي مخدة من مخدَّات السفينة توضع غالبا في المؤخرة. أمَّا عبارة "فأَيقَظوه" فتشير الى حاجة يسوع ان يوقظه التلاميذ، لا ليقوم وحده، حتى بعد الموت، سيكون هناك من يوقظه ويُقيمه؛ ويعلق العلامة أوريجانوس "يا تلاميذ الله الحقيقيّين، كيف تخشون الخطر وأنتم بصحبة الربّ مخلّصكم؟ كيف تخشون الموت وأنتم بصحبة مَن هو الحياة بذاته؟ أنتم توقظون الخالق الموجود بينكم كما لو أنّه لا يستطيع تهدئة الأمواج وإسكات العاصفة حتّى وإن كان نائمًا!". رسالتنا هي أن نوقظ مسيحنا الذي في داخلنا، فهو وحده قادر أن يأمر فيُحدث فينا السلام والطمأنينة والهدوء والنصر. وهل سنوقظ يسوع ليهدّئ عواصف قلوبنا وأوطاننا؟ أمَّا عبارة "يا مُعَلِّم" في الأصل اليوناني διδάσκαλος فتشير الى من له موهبة خاصة من أجل التعليم والفقاهة انطلاقًا من نصوص الكتب وتأكيدات الإيمان. ويدل اللقب هنا على سلطة يسوع التعليمية وإيمان التلاميذ بها. أمَّا عبارة "أمَّا تُبالي أَنَّنا نَهلِك؟ فتشير الى معاتبة التلاميذ ليسوع كأنه لا يُبالي بهم او تشير الى ضعف ايمانهم وعدم ثقتهم به في الخطر (متى 8: 25) وتلمح هذه المعاتبة الى صدى تشبه شكوى صاحب المزامير "إِلامَ يا رَبُّ؟ أعلى الدَّوامِ تَتَوارى؟" (مزمور 89: 47). وكما ان يسوع في السفينة لم يمنع من هبوب العاصفة، كذلك وجود يسوع في حياتنا وفي الكنيسة لا يمنع التجارب لكنه يحفظنا منها. ويعلق الاديب والشاعر الفرنسي الشهير بول كلوديل "لم يأت الله لإلغاء معاناتنا؛ حتى أنّه لم يأت لتفسيرها؛ بل إنّه أتى ليملأها بحضوره". الرب مع تلاميذه وهم في حمايته. والحاجة تُجبٍر على الصلاة. في كثير من الأحيان؛ وسط الظروف الصعبة، ووسط الألم والضيق نأتي إلى الرب بعتاب وملامة ونسأله، أين أنت يا رب من كل هذا؟ لماذا تسمح بكل هذا الضيق؟ ليس لنا او للتلاميذ حق ان نقول لمعلمهم انه لا يهتم بهنا لعدم انقاذنا حالا. ويُعلق الأب هانس بوتمان اليسوعيّ "يا للاتهام الصعب لهذا الإله المحبّ والراعي الصالح الذي يهتمّ بخرافه، حيث أنّ الأجير "لا يُبالي" (يوحنا 10: 14). ينام الأجير على وسادة في حين أنّ الذئب يبدّد الخراف وتهدّد الأمواج والعاصفة التلاميذ." وقال غيرهم من التلاميذ بحسب انجيل لوقا "يا مُعَلِّم! يا مُعَلِّم! لَقَد هَلَكْنا (لوقا 8: 24)، دلالة على خوف التلاميذ وضياعهم وهلاكهم وتضرعهم ليس من السهل علينا أن نؤمن بانتصار يسوع على الموت. إنّنا نشعر بالهلاك؛ لكنّنا نعلم أنّه حاضر، حتى ولو يبدو لنا أنّه نائم. قد يبطئ يسوع بمساعدتنا في وقت الضيق كأنه نائم، ولكنه لا بدَّ ان يُنجِّينا أخيرا (مرقس 6: 48). أن وجود يسوع في السفينة لا ينزع عن التلاميذ التجارب إنما يحفظهم منها. لنطلب نعمة الثبات في الإيمان، سيّما عند عدم "الشعور" بحضور الله في شدائدنا وتجاربنا. لندعو يسوع إلى قوارب حياتنا، ولنسلّمه مخاوفنا حتى يتغلّب عليها. وسوف نختبر أننا، مثل التلاميذ، لن نغرق إذا كان هو على متنها. ألم يقل الله على لسان النبي أشعيا: "لا تَخَفْ فإِنِّي معَكَ ولا تَتَلَفَّتْ فَأَنا إِلهُكَ" (أشعيا 41: 10)، وألم يقل يسوع "لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغير" (لوقا 12: 32)، "وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" (لوقا 28:20) وفي مكان آخر قال: "ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم؟" (يوحنا 16: 33).

39 فاَستَيقَظَ وزَجَرَ الرِّيحَ وقالَ لِلبَحْر: اُسْكُتْ! اِخَرسْ! فسكنَتِ الرِّيحُ وحدَثَ هُدوءٌ تَامّ

تشير عبارة "فاَستَيقَظَ" الى قيام يسوع الذي "يَجمعُ مِياهَ البِحارِ وكأنّها سَدّ ويَجعَلُ الغِمارَ في أحْواض"(مزمور 33: 7)، القائل: جَعَلتُ الرَّملَ حَدّاً لِلبَحْر حاجِزاً أَبَدِيّاً لا يَتَعَدَّاه فأَمواجُه تَلتَطِمُ ولا طاقةَ لَها تَهدِرُ ولا تَتَعَدَّاه" (إرميا 5: 22). أمَّا عبارة "زَجَرَ" في الأصلاليوناني ἐπετίμησεν (معناها انتهر) فتشير الىتصرّف يسوع حيث يُكلم الريح كأنها شخص حي، ويتكلم يسوع هنا كالمُعزِّم، فكما يأمر الريح كذلك يأمر الروح النجس الذي اخرجه من الرجل في كفرناحوم "اِخْرَسْ" مستخدما نفس الفعل ἐπετίμησεν (مرقس 1: 25)، حيث كان الناس قديما يعتقدون أنّ الأرواح النجسة تعمل بنفس القوّة في الطبيعة لخلق العواصف المُخرّبة وغيرها من الظواهر الّتي تعمل على الإضرار بنفس الإنسان وحياته. واستعمل يسوع نفس الفعلἐπετίμησεν زجر، لما عالج الحُمَّى التي انتابت حماة بطرس (مرقس 4: 39). إلا أنه يستهدف هنا قوى الطبيعة. الرب هو السيد في الطبيعة المخلوقة كما هو السيد في كنيسته، كما ورد في سفر المزامير "يَسكُنُ عَجيجَ البِحار وهَديرَ الأَمواجِ وصَخَبَ الشُّعوب"(مزمور 65: 8). ومن هذا المنطلق، يقاوم الرب الشر الذي يرمز اليه اضطراب البحر، حيث يكتشف التلاميذ سلطته وقدرته الإلهية. أمَّا عبارة "بحر" فتشير الى بحيرة طبرية، وهو مأوى قوى الشر والشدة ويُهدد بإغراق السفينة أمَّا عبارة "اُسْكُتْ!" فتشير الى فرض يسوع الصمت على اضطراب البحر الذي يُمثل قوى الشر. يخاطب يسوع البحر والريح مانهما من عبيده مجبوران على الخضوع له. أمَّا عبارة "اِخَرسْ!" في الأصل اليوناني πεφίμωσο من فعل φιμόω (معناها اسكت) تشير الى نفس الكلمة التي استعملها يسوع الى الرجُلٌ الذي فيهِ رُوحٌ نَجِس قائلا "اِخْرَسْ!" باليونانية Φιμώθητι من φιμόω. وهذا يوحي بان هناك هجوم شيطان قهره يسوع بكلمته كما فعل مع الروح النجس في مجمع كفرناحوم (مرقس 1: 25). فكانت المجابهة العلنية بين يسوع والشيطان. اظهر يسوع أنه الله حقّاً حيث لا يُهدِّي اضطراب البحر والرياح إلاَّ الله. وهي تدل على قدرته الخارقة، ولكن لم يحنْ وقت كشف معناها بوجه نهائي (مرقس 1: 44). أخضع يسوع العاصفة بمجرد كلمته، لأنه هو ما جاء في المزامير "بقوته يَسكُنُ عَجيجَ البِحار وهَديرَ الأَمواجِ وصَخَبَ الشُّعوب" (مزمور 65: 8). امَّا عبارة "فسكنَتِ الرِّيحُ وحدَثَ هُدوءٌ تَامّ" فلا تشير الى القوّة الإِلهيّة التي تجاوبت مع صلاة يسوع، بل الى قوّة يسوع نفسها التي حرّكها خوف التلاميذ وسكتت الأمواج وسكتت الريح وصار هدوء عظيم. ولم يكن هذا الهدوء طبيعياً، لأن قانون الأمواج لن يزول تدريجياً بعد زوال الريح، فكانت هذه معجزة مزدوجة. وفي هذا الصدد يترنَّم صاحب المزامير "َصَرَخوا إِلى الرَّبِّ في ضيقِهم فأَخرَجَهم مِن شَدائِدِهم حوَلَ الزَّوبَعَةَ إِلى سَكينة فسَكَتَتِ الأَمْواج (مزمور 107: 28-29). سكون الأمواج مع سكون الريح يدل على ان ذلك الهدوء كان معجزة لا عرضا، وان يسوع هو رب الطبيعة، وانه إله تام. وكما سلمت قديماً من الطوفان الهائل سفينة نوح التي كانت تُقلُّ ثمانية أشخاص، عائلة نوح (التكوين 7: 7)، كذلك سلمت سفينة الرسل التي تُقلُّ اثني عشر رسولا. يظهر يسوع هنا بسلطانه على الطبيعة كما يملك سلطانًا مباشرًا على المرض ويطرد الشياطين ويغفر الخطايا. يُريد مرقس أن يخبرنا أن يسوع هو الله وأن لديه سلطانًا على كل شيء كما جاء في ترنيمة صاحب المزامير "مَن مِثلك أيها الرّب إِله القوات؟ مُتَسَلِّطٌ أَنتَ على طُغْيانِ البِحار وأَنتَ تُسَكِّنُ أَمْواجَها عِندَ اْرتفاعِها" (مزمور 89: 9-10).

40 ثُمَّ قالَ لَهم "ما لَكم خائفينَ هذا الخَوف؟ أَإِلى الآنَ لا إِيمانَ لَكم؟

عبارة "ما لَكم خائفينَ" في الأصلاليوناني δειλοί (معناها جبناء) تشير الى خوف التلاميذ أمام الموت الذي يقترب منهم بسبب العاصفة والامواج. هذا أمر عاديّ، وهو يدلّ على أننا بشر (يونان 1: 7). فقام يسوع بتوبيخ التلاميذ لخوفهم بعد ان سكن العاصفة. وُيعلق العلامة أوريجانوس "ممّ تخافون يا قليلي الإيمان؟ أنتم تعلمون أنّ قدرتي عظيمة في اليبس، فلِمَ لا تكون عظيمة أيضًا في البحر؟ إن كنتم تؤمنون بأنّني أنا الله وخالق كلّ شيء، لِمَ لا تؤمنون بأنّ لي سلطة على كلّ ما خلقت؟ ". فالخوف هو النتيجة لضعف المبادئ السماوية في العقل البشري. لنلجأ إلى الربّ وإلى الربّ وحده في مثل هذه الظروف (مزمور 107: 28-30). أمَّا عبارة "الخوف" فتشير الى اضطراب القلب وحركته وفزعه من مكروه يناله. ونجد هذه الكلمة في تعليم بولس الرسول يقابل بين الإِنسان الذي يتصرّف تجاه الخطر وكأنَّ الله غير موجود، وبين روح القوّة والمحبة والفطنة" فإِنَّ اللهَ لم يُعطِنا رُوحَ الخَوف δειλία، بل رُوحَ القُوَّةِ والمَحبَّةِ والفِطنَة" (2طيموتاوس 1: 7). الخوف هو طاقة مدمرة وسببه عدم الإيمان أو بتعبير آخر "عدم الثقة في المسيح" لو آمنوا لما خافوا. الخوف والإيمان طرفان متعارضان. مَن يتحلى بالإيمان يملك الثقة أيضًا ولا يتقوقع على نفسه، وامَّا الذي يعيش بالخوف فيُسبِّب لنفسه الشلل والتقوقع على الذات. رغم ان التلاميذ شهدوا معجزات كثيرة، لكنهم خافوا من العاصفة، لأنها كانت تنذر بهلاكهم جميعاً حيث أدركوا كصيادين متمرسين مدى خطورتها. وتملَّك الخوف التلاميذ أمام قوة يسوع الخارقة للطبيعة التي لم يسبق ان شاهدوها في معلمهم من قبل. إذ ان الخوف يبدّل الامور ونظرتنا اليها. أمَّا عبارة "إِيمانَ" في الأصل اليوناني πίστις فتشير الى الأمان والصلابة والاستقرار، وفي اللغة العبرية בטח توحى بالأمن والثقة بيسوع وبالقدرة الإلهية التي تعمل بواسطته. والثقة تتجه نحو شخص "أمين"، وتلزم الإنسان بكليته؛ ومن جهة أخرى، ويوحي الايمان بمسعى العقل الذي تتيح له كلمة أو بعض العلامات، بلوغ الحقائق الَّتي لا تُرى (عبرانيين 11: 1). ويتركز الإيمان في يسوع وفي مجده الإلهي. ولذا ينبغي أن نؤمن بيسوع (يوحنا 4: 39، 6: 35). أمَّا عبارة "ما بالكم لا إيمان لكم؟" فتشير أن توبيخ يسوع وعتابه لتلاميذه لعدم إيمانهم به وبقدرته الإلهية التي تعمل عن يده. ويُعلق القديس يوحنا بوسكو"في قلبِ المِحَن الكبيرة تمسك بالإيمانَ،َ فالإِيمانُ يَصنعُ المُعجِزات". اما الخوف فيعاكس الايمان. فلو آمن التلاميذ لما خافوا. ويعلق القديس يوحنا بوسكو "إن كانت لَكَ شجاعةُ الإيمان وقناعات راسِخة فما من شيءٍ في العالَمِ يُخيفُكَ". لكن التلاميذ لم يدركوا ان يسوع يستطيع ان يتحكم في قوى الطبيعة كونه ابن الله. لقد عاش التلاميذ مع يسوع، ولكنهم لم يقدِّروه حق قدره، ولم يدركوا ان قدرته يمكن ان تُخلصهم من مأزقهم. وهنا يُبيّن كيف ان التلاميذ الذين يتبعون يسوع معرّضون لعدم الايمان عندما يدعون الهموم والخوف تستولي عليهم (متى 8: 26). فالتلميذ" القليل الايمان" لا يحيا بالنور الذي يأتيه من إيمانه. ويعلق البابا فرنسيس "يا ربّ، إنّك توجّه لنا دعوة إلى الإيمان. لا أن نؤمن بوجودك، بل أن نأتي إليك ونثق بك" (عظة 30/3/202). أمَّا عبارة "إِيمانَ" فتشير الى هنا الى الايمان بيسوع وبالقدرة الإلهية التي تعمل عن يده. ومهما كانت العواصف امامنا، فثمة خياران: إما ان نقلق ونخاف ونظن ان يسوع لم يعد يبالي وأننا تحت رحمة رياح العاصفة، وإمَّا ان نقاوم الخوف واضعين ثقتنا في يسوع كونه سيد على الكل، وضابط تاريخ العالم. فهو لن يسمح للسفينة أن تغرق لسبب بسيط، إذ هو بداخلها. إذاً لنصرخ للمسيح دون أن نفقد إيماننا، ودون أن نشك ولو للحظة أن السفينة ستغرق، وإلاّ سنسمع توبيخ المسيح ما لَكم خائفينَ هذا الخَوف؟ أَإِلى الآنَ لا إِيمانَ لَكم؟

41 فخافوا خَوفاً شَديداً وقالَ بَعضُهُم لِبَعْض: مَن تُرى هذا حتَّى تُطيعَه الرِّيحُ والبحر؟

تشير عبارة "خافوا خَوفاً شَديداً" الى ازدياد خوف التلاميذ من قوة المسيح الفائقة التي لم يشاهدوا مثلها من قبل، فخافوا بدلاً من أن يفرحوا ويطمئنوا؛ إنه خوف الانسان او رهبة الانسان تجاه الله، هذا الخوف الذي اثاره يسوع من خلال المعجزة، لكن حضور المسيح بين التلاميذ لا يمنع من وقوع الخطر والتجربة، لكن مع ذلك يجب ان يطمئنُّوا، لان المسيح بحضوره معهم يدفع عنهم كل خطر حقيقي؛ أمَّا عبارة "مَن تُرى هذا حتَّى تُطيعَه الرِّيحُ" فتشير الى اكتشاف التلاميذ في المسيح قوّة تسيطر على البحر الهائج، رمز القوى المعارضة لله، ولكنَّهم ظلّوا على مستوى التساؤل: من هذا إذن؟ إنه احساس التلاميذ بحضور ابن الله وقدرته؛ انها شهادة بلاهوت المسيح. وهذا يُشبه هتاف او إعلان قائد المئة الذي أورده مرقس في نهاية انجيله إذ قال " كان هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً!"(مرقس 15: 39)، حيث ان السيطرة على البحر هي من خصائص سلطان الله، كما جاء في ترنيم صاحب المزامير "مُتَسَلِّطٌ أَنتَ على طُغْيانِ البِحار وأَنتَ تُسَكِّنُ أَمْواجَها عِندَ اْرتفاعِها" (مزمور89: 10)؛ وهذا يعني ان يسوع له سلطان الله. ويُعلق القديس أوغسطينوس بقوله "استطاع الناس ان يشكُّوا بقدرته، لا بضعفه". حيث أن في ضعفه كابن الانسان تظهر قوته كابن الله. بهذه الخبرة صار لنا أن نحمل المسيح فينا، فنحمل عمله وسلطانه، لا لننتهر البحر والريح، وإنما لنحيا فوق رياح العالم ونغلب عواصف التجارب وكل مخاوفها. ويعلق القديس ايرونيموس إميلياني "إِذا أَنتم بقِيتُم ثابتينَ في الإِيمانِ أَمامَ التَّجارِب، سوفَ يَمنحُكُم الرَّبُّ سلامًا وراحةً إلى حينٍ في هذا الدَّهْرِ، وإِلى الأَبَدِ في العالَمِ الآخَر". لذلك علينا ألاَّ نسأل بل أن نضع ثقتنا في يسوع. وبعد أن نكتشف من هو يسوع نسير معه في سرّ الثقة الكاملة بالله. إنَّ الرب في وسطنا يعطينا ذات الرسالة المطمئنة: "أَنا هو: لا تَخافوا! (يوحنا 6: 20) "تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم " (يوحنا 16: 33).


ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 4: 35-41)

بعد دراسة وتحليل وقائع النص الانجيلي (مرقس 4: 35-41) نستنتج ان رواية معجزة تسكين العاصفة تتمحور حول سلطة يسوع الإلهية. ومن هنا نشدد على نقطتين سلطة يسوع وموقفه من السلطة البشرية وسلطة الكنيسة وموقفها من السلطة البشرية.

1. سلطة يسوع وموقفه من السلطة البشرية

كان يسوع في حياته على الارض صاحب سلطة (ἐξουσία) فريدة في نوعها: فهو يعظ مثل من له سلطان (متى 7: 29). وله سلطة غفران الخطايا (متى 9: 6-8)، وهو سيّد السبت (مرقس 2: 28). وله سلطان على عناصر الطبيعة (مرقس 4: 41). فرواية تسكين العاصفة تكشف قدرة يسوع الذي له سلطان على الخليقة، مما تُؤيد رسالته وتُثبت هويته انه ليس فقط ابن الانسان، انما هو ابن الله ايضا. فالسيطرة على البحر تعتبر من خصائص سلطان الله، كما يقول صاحب المزامير" لَه البَحرُ وهو صَنَعَه" (مزامير 95: 5)، وهذا يعني ان يسوع له سلطان الله، وله سلطان على المرض (متى 8: 8 -9). وللمسيح السيطرة على الشياطين (متى 12: 28). ويشمل سلطانه حتى الأمور السياسية. لكن سلطته ذات طابع روحي محض ولا يتباهى بهذا السلطان أمام الناس. وفي هذا المجال، تقلّد يسوع سلطانه من الله، ورفض أن يستمدّ سلطانه من إبليس (لوقا 4: 5-7). لا يمكن فهم سلطان يسوع على كل الخَلْق إلا بعد الفصح عندما يترك لنا يسوع علامة يونان النبي ويُرينا بها أن الموت يخضع لسيطرته.

وبينما يستغل رؤساء هذا العالم ما لهم من سلطة للسيطرة على الآخرين، كان يسوع يقف بين خاصته موقف من يخدم (لوقا 22: 25-27). هو ربّ ومعلم (يوحنا 13: 13)، أتى ليخدم وليبذل نفسه (مرقس 10: 42-44)؛ ولأنه اتخذ صورة العبد، سوف تجثو له كلّ ركبة في النهاية (فيلبي 2: 5-11). لذلك فإنه بعد قيامته، سوف يستطيع أن يقول لخاصته، إنه " إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض" (متى 28: 18).

وأمَّا موقفه تجاه السلطات الدينية فهو مختلف، حيث أصرّ يسوع أمام السلطات اليهودية على أنه ابن الانسان (متى 26: 63-64)، وهذ اللقب منح له سلطاناً تشهد به الكتب المقدسة (دانيال 7: 14).

تميَّز موقف يسوع تجاه السلطة السياسية بمرونة أكبر. فهو يعترف بسلطة قيصر (متى 22: 21)، ولكن هذا الامر لا يجعله يتغاضى عن الظلم الواقع من ممثلي السلطة "تَعلَمونَ أَنَّ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتسلَّطونَ علَيها" (متى 20: 25). وعندما مّثِل أمام بيلاطس، لم يشكّك في سلطته التي اعترف بأصلها الإلهي، وإنما كشف ظلم سلطة قيصر الذي يذهب هو ضحيته كما صرّح أمام الحاكم بيلاطس "لو لم تُعطَ السُّلطانَ مِن عَلُ، لَما كانَ لَكَ علَيَّ مِن سُلْطان، ولِذلِكَ فالَّذي أَسلَمَني إِلَيكَ علَيه خَطيئَةٌ كبيرة " (يوحنا 19: 11)، وأقرّ لنفسه بمملكة ليست من هذا العالم (يوحنا 18: 36).

ويسوع على استعداد لمعونتنا متى سألناه العون، فيجب الا نستبعده عن اي مجال من مجالات حياتنا الدينية والسياسية والاجتماعية (مزمور 107: 23-30). بالإيمان ينفتح الانسان على "قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن" (رومة 1: 16)، وبالإيمان يستطيع الانسان ان يصل الى "معرفة المسيح وقوة قيامته والشركة في آلامه" (فيلبي 3: 9-10). فالمسيح هو قدرة الله (1 قورنتس 1: 18) اننا نؤمن بالله، خالق السماء والارض، وسيد الكون، ونؤمن بالابن الوحيد الذي قام ودشّن عالما جديداً فلَه المَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور. آمين. (رؤيا 1: 5-6).

2. سلطة الكنيسة وموقفها من السلطة البشرية

سلطة الكنيسة مستمدة من سلطة المسيح. وعندما أوفد يسوع تلاميذه للرسالة، فوّض لهم سلطانه الخاصّ " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ " (لوقا 10: 16)، وعهد إليهم بسلطانه (مرقس 3: 14 -15). وقد اعطى يسوع للكنيسة رسالة سلام وسط العواصف في وقت الاضطهاد كما تروي لنا قصة تسكين العاصفة (مرقس 4: 35: 35-41)، كان التلاميذ في طريق الطاعة، ولكن الطاعة ليست حرزا من الشدائد، فالأخطار تحيط بالكنيسة حتى بينما هي تنفذ أوامر معلمها يسوع المسيح، ولكن ليس من داعٍ ٍ للخوف والفزع. كان على التلاميذ ان يعرفوه الآن معرفة تمكنهم من ان يتكلوا عليه وان يؤمنوا بانه المسيح الذي لا يمكن ان يهلكهم في العاصفة ولا يمكن ان يدعهم يهلكون لأنهم أطاعوه" ما لَكم خائفينَ هذا الخَوف؟ أَإِلى الآنَ لا إِيمانَ لَكم؟" (مرقس 4: 40).

اوضَح يسوع لتلاميذه أن السلطة هي خدمة "لِيَكُنِ الأَكبَرُ فيكم كأَنَّه الأَصغَر، والمُتَرَئِّسُ كأَنَّه الخادم. (لوقا 22: 26). وفعلاً نرى الرسل يحرصون قبل كلّ شيء على خدمة المسيح والناس كما جاء في سيرة بولس الرسول "واللهُ شاهِدٌ أَيضًا كَيفَ عامَلْناكم، أَنتُمُ المُؤمِنين، مُعامَلَةً بارَّةً عادِلَة لا يَنالُها لَوم"(1 تسالونيقي 2: 10). ومع كون هذه السلطة تمارس بطريقة منظورة، إلا أنها تظلّ مع ذلك روحية في طبيعتها. فهي تقتصر على إدارة شؤون الكنيسة.

وظهر موقف الكنيسة من السلطات في مواجهة الجماعة المسيحية الاولى، المؤتمنة على سلطة يسوع، للسلطات الدينية والسياسية. نظر الرسل الى السلطات اليهودية الدينية باحترام، لأنها تحمل طابعا دينياً يستمدّ أصله من وضع إلهي طالما لا تقاوم المسيح مباشرة، كما جاء في قول بولس الرسول في المجلس اليهودي "فقَد كُتِب: "رَئيسُ شَعْبِكَ لا تَقُلْ فيه سوءًا"(أعمال 23: 5). ولكن قد تحمّلت السلطات اليهودية مسؤولية خطيرة في إنكارها المسيح وطلبت إهلاكه كما جاء في اقوال بطرس الرسول: "إِنَّ إِلهَ إِبراهيمَ وإِسحقَ ويَعْقوب، إِلهَ آبائِنا، قد مَجَّدَ عَبدَه يسوع الَّذي أَسلَمتُموه أَنتمُ وأَنكَرتُموه أَمامَ بيلاطُس، وكانَ قد عَزَمَ على تَخلِيَةِ سَبيلِه، ولكِنَّكم أَنكَرتُمُ القُدُّوسَ البارّ والتَمَستُمُ العَفْوَ عن قاتِل، فقَتَلتُم سيِّدَ الحَياة" (أعمال 3: 13-15). وتزيد مسؤولية السلطات الدينية خطورة بمقاومتها لكرازة الإنجيل، لذلك لا يُبالي الرسل بنواهيهم، معتبرين أن طاعة الله أولى من طاعة الناس كما أجاب بطرس والرسل أعضاء مجلس اليهود:"الله أَحَقُّ بِالطَّاعَةِ مِنَ النَّاس" (أعمال 5: 29).

وتثير علاقة الكنيسة مع السلطة المدنية مشكلة مختلفة. حيث أن بولس الرسول جاهر بولاء تام إزاء الإمبراطورية الرومانية، وطالب بحقه كمواطن روماني (أعمال 16: 37)، ورفع دعواه إلى قيصر طلباً للعدل (أعمال 25: 12). وأعلن أن كل سلطان آتٍ من الله الذي يولّيه الى الحاكم من أجل الخير العام. فالخضوع للسلطات المدنية واجب من واجبات الضمير. لأنّ أصحابها أقيموا خدّاماً للعدالة الإلهية كما جاء في كلام بولس الرسول" لِيَخضَعْ كُلُّ امرِئٍ لِلسُّلُطاتِ الَّتي بأَيدِيها الأَمْر، فلا سُلْطَةَ إِلاَّ مِن عِندِ اللّه...فإِنَّها في خِدمَةِ اللّهِ في سَبيلِ خَيرِكَ" (رومة 13: 1-4)، ونجد نفس التعليم في رسالة بطرس الأولى "إِخضَعوا لِكُلِّ نِظامٍ بَشَرِيٍّ مِن أَجْلِ الرَّبّ: لِلمَلِكِ على أَنَّه السُّلْطانُ الأَكَبَر، وللِحُكَّامِ على أَنَّ لَهمُ التَّفويضَ مِنه أَن يُعاقِبوا فاعِلَ الشَّرّ وُيثْنوا على فاعِلِ الخَير"(1 بطرس 2: 13-14). وطلب بولس الرسول الصلاة من أجل أصحاب السلطة، لذا ينبغي إقامة الصلوات من أجل الملوك وسائر القائمين على السلطة (1 طيموتاوس2: 2).

وهذا ما يفرض خضوع السلطات المدنية نفسها لشريعة الله، ولكن لا نجد أي نص يطالب من سلطات الكنيسة الروحية بسلطان مباشر على الشؤون السياسية. إلا أنه بعكس ذلك، إذا حدث أنّ السلطة السياسية تمرّدت بدورها على الله وعلى مسيحه، فإنّ الصوت النبوي يعلن إدانتها وسقوطها. هذا ما أعلنته الرؤيا بخصوص نيرون ودوميتيان إمبراطوري روما (رؤيا 18: 1-20). ففي الحكم الشمولي الذي يدّعي لنفسه أنه تجسد للسلطان الإلهي، لا يصبح السلطان السياسي إلا مسخاً شيطانياً لا يستطيع أي مؤمن أن يحني رأسه أمامه.وطالما كانت الكنيسة على الأرض فهناك عواصف فالعالم مضطرب. لكن لنطمئن فالمسيح داخلنا فلن نغرق.

الخلاصة

يعرض مرقس في انجيله مجموعة عجائب لم يجترحها امام الجمع، بل امام التلاميذ فقط من اجل توعيتهم. وإحدى هذه المعجزات هي معجزة تسكين العاصفة التي يرويها مرقس امام التلاميذ في ثلاثة مشاهد: المشهد الأوّل: الخوف على السفينة من ان تغمرها الأمواج وتتعرض للغرق وفي المقابل نام يسوع نوم العميق في مؤخرة السفينة (مرقس 4: 37-38). وفي المشهد الثاني: ضياع هؤلاء الصيّادين المحترفين الذين يوقظون يسوع ليضعوه إلى وضعهم المأساوي. وتجاه هذا، عظمة وجلال المعلّم الواقف بوجِّه الريح والأمواج. يأمرها بسلطانه فيتمّ الهدوء فجأة على البحيرة الثائرة (مرقس 4: 38 – 39). المشهد الثالث: يُركّز الانتباه على التلاميذ وردّة الفعل لديهم حيث انهم عبّروا عن خوفهم أمام ظهور هذه القدرة على عناصر الطبيعة: البحر والامواج (مرقس 4: 41).

وهدف معجزة تسكين العاصفة تدعونا الى الاعتراف اولا أن يسوع له سلطة الهية على قوات الطبيعة، فهو فوق العاصفة التي جعلت اولئك الصيادين المدرَّبين يفزعون، كما ترينا ايضا طبيعته البشرية انه بحاجة للنوم كما أنه بحاجة للطعام، واخيرا تبيّن لنا الرواية رسالة الكنيسة وسط العواصف في وقت الاضطهاد حيث ان الأخطار تحيط بالكنيسة، ولكن ليس هناك ما يدعو للخوف. كان على التلاميذ ان يعرف يسوع ويتكلوا عليه يسوع ويؤمنوا بانه المسيح الذي لا يمكن ان يَهلك في العاصفة، ولا يُمكن ان يدعهم يهلكون لأنهم اطاعوه. انه صاحب السلطة.
لمعجزة تسكين العاصفة عبرة كبيرة لنا: في هذه الأيام وفي هذه المنطقة وخاصة في بلادنا لا بل في العالم بأسره نمرُّ بنفس الخبرة: نعيش أوضاعاً صعبة: عاصفة، رياح شديدة وأمواج متلاطمة من كل حدبٍ وصوب، حيث أصبح من السهل علينا ان نظن ان الله لم يعدْ يضبط الامور، نعتقد بأن ليس لنا معين ولا مجيب بل نعتقد أحيانا بأنه غائب عن سفينتنا وأحيانا نائم فيها وكأنه لا يهمه أمرنا وأننا تحت رحمة رياح العاصفة. وتدعونا المعجزة ألا نخشى من الفوضى والعنف إذا كان لدينا إيمان، فلا ضرر لنا.

سار يسوع معنا عشرين قرنا وما زلنا مثل التلاميذ لا ندرك ان قدرته كفيلة بمعالجة الازمات في حياتنا؛ إذ انه سيد على الكون ويضبط تاريخ العالم وفي يده مصيرنا. لنتأمل العواصف في حياتنا، والموقف التي تُسبب لنا خوفا وقلقا شديدين، ومهما كان الصعاب امامنا، فثمة اختياران: ان نقلق ونظن ان يسوع لم يعد يبالي، او ان نقاوم الخوف واضعين ثقتنا فيه. وكما سكّن يسوع العاصفة يمكنه ان يسكّن أي عاصفة تواجهنا. فكيف نخاف والرب معنا! لنؤمن أنّ نهاية الليل وشيكة: "قد تناهى الليل واقترب اليوم" (رومة 13: 12). سيستيقظ إبن الله ويكون بالقرب منّا كي يسكّن امواج بحرنا الهائج للعبور إلى الشاطئ المقابل"، ومواجهة الآفاق الجديدة لنفهم هوية معلمنا وسلطانه. إنَّ الله قادرٌ أن يُسكِّن كلَّ عاصفة، إن أعلنّا له إيماننا وثقتنا به. معونتنا باسم الرب!

ولنتذكّر إن وقعنا في غمار التجارب، أنّ العبور إلى الشاطئ الآخر ليس ممكنًا بدون معاناة تجربة الأمواج والرياح المعاكسة. وعندما نرى أنفسنا مُحاطين بأمور عديدة وشاقّة، ونكون متعبين من العبور الذي طال أمده، لنفكّر في أنّ سفينتنا هي وسط البحر، وأنّ هذه الأمواج تهدف إلى "كسر سفينة الإيمان" (1طيموتاوس1: 19). لنؤمن أنّ نهاية الليل وشيكة: "قد تناهى الليل واقترب اليوم" (رومة13: 12). سيستيقظ ابن الله ويكون بالقرب منّا كي يسكّن امواج البحر.

دعاء

أيها الآب السماوي، نطلب اليك باسم يسوع، أن تمدَّ يدك إلينا كي لا نغرق بل نثبت في الايمان. وأعطنا القوّة اللازمة في كلّ ما يعترضنا، وفي كلّ الأخطار، وفي كلّ المحن، فنشعر بحضورك الدائم معنا، فتبدَّدت مخاوفنا؛ وتهدّى قلوبنا ويقوّي إيماننا؛ كما جاء في ترنيمة صاحب المزامير " أَللهُ في وَسَطِها فلَن تَتزعزَع أَللهُ عِندَ اْنبِثاقِ الصُّبحِ يَنصُرُها" (مزمور 46: 6).


قصة وعبرة: الصديق عند الضيق

ذات مرّة رأى رجل حلماً. حلم أنّه يسير على الشاطئ مع الربّ. وعبر السماء كانت تومض مشاهد من حياته. وفي كلّ مشهد كان يُلاحظ مجموعتين من آثار أقدام على الرمال؛ إحدى المجموعتين تخصّه، والأخرى تخصّ الربّ. وعندما ومضى المشهد الأخير من حياته أمامه، نظر إلى الخلف على آثار الأقدام في الرمال.

ولاحظ أنّه في أوقات عديدة على امتداد مسار الحياة كان هناك مجموعة واحدة من آثار الأقدام فقط. ولاحظ أن هذا كان يحدث في أدنى وأتعس الأوقات في حياته. وهذا ما أزعجه ودفعه إلى أن يسأل الربّ عنها. "يا ربّ، لقد قلت أنه عندما أكون قد قرّرت اتّباعك، فإنّك سوف تسير معي عبر كلّ الطريق. غير أنّني لاحظت أنّه خلال أكثر الأوقات اضطراباً في حياتي، كان هناك مجموعة واحدة من آثار الأقدام فقط. لا أفهم لماذا كنت تتركني عندما كنت في أشدّ الحاجة إليك. فأجابه الربّ، يا ابني الغالي، أنا أحبّك ولن أتركك أبداً. خلال أوقات الشدائد والآلام، عندما كنت ترى مجموعة واحدة من آثار الأقدام، كنت حينها أحملك بين ذراعيّ". أنّ يسوع المسيح ربنا لا يزال معنا حتى عندما لا نشعر بحضوره.



الأب لويس حزبون - فلسطين




رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
يسوع سلامى فى وسط العاصفة
يسوع يهدئ العاصفة
هدَّأ يسوع العاصفة
يسوع يهدىّء العاصفة
يسوع يهدئ العاصفة


الساعة الآن 04:50 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024