معجزة التّضحية

[walaa farouk]

من معجزات والدة الإله في دير ينبوع الحياة في "لونغوفاردا" في اليونان، برئاسة القدّيس "فيلوثيوس زرفاكوس".

في 14 أيّار 1944، رست سفينة في المدخل البحريّ خلف مدينة "ليفادي"
. ترجّل بعض الجنود وذهبوا إلى قرية "تسيبيدو" حيث قاموا باختطاف 7 جنود ألمانيّين بينما كانوا نياماً،
وقتلوا اثنين منهم وجرحوا مفوّض المطار، وقطعوا الأسلاك. في الصّباح، أمسك الألمان شابّاً يدعى "ن.ستيلا" في المطار، وإذ اشتبهوا أنّه عميل، قاموا بإعدامه معلّقين إيّاه على إحدى القمم العالية حتّى تُرى جثّته من كلّ القرى المجاورة لبثّ الرّعب في قلوب السكّان. طلب المفوّض العسكري،
"غرافونبيرايبيرغ"، أن يقدّم المسؤولين عن مناطق "باروس" و"أنتيباروس" 125 شابّاً ليتمّ إعدامهم في يوم محدّد.
ذهب كلّ مسؤولي القرى وكهنة الرّعايا مع رئيس دير "لونغوفاردا"، الأب "فيلوثيوس زرفاكوس"، إلى بلدة "تسيبيدو" إلى بيت الطّبيب المُحسن "إفستراتيوس أليبرانتي". التقوا هناك وقرّروا الذّهاب إلى الضّابط معاً ليسألوه تغيير قراره، ليتحوّل حزن الجزر العظيم إلى فرح وبهجة لا توصفان. لكنّهم عَلِموا أنّ المفوّض سبق أن أعلن أنّه لن يقبل بوساطة أحد، وأنّ قراره لا عودة عنه. تكوّن الوفد من رّئيس الدير الاب"فيلوثيوس زرفاكوس"، والطّبيب "أليبرانتي"، والسيّد "إيمانويل كافالي"، رئيس مجموعة "أرخيلوغوس"، ومضوا إلى الملازم "زاس"، قائد الحامية، ليتوسّط لأجلهم لدى المفوّض. لكنّه قال لهم: "لقد سبق أن طلبتُ من المفوّض ألّا يقتل الرّجال الأبرياء لكنّه هدّدني بشدّة ونهاني عن ذكر ذلك ثانية أمامه، وأنّ كلّ من يجترىء أن يكون وسيطاً سوف يناله عقاب شديد ليكون عبرة لمن يعتبر". وأضاف قائلاً: "الشّيء الوحيد الّذي أنصحكم بأن تقوموا به هو أن يوجّّه رئيس الدّير دعوة للمفوّض لزيارة الدّير ليستضيفه بشكل خاصّ، ويذكر أمامه موضوع قتل الأبرياء. وأضاف الملازم "زاس": "من الممكن أن يقبل المفوّض الوساطة لأنّه سبق لي أن أخبرتُه أشياء عديدة جيّدة عن الدّير وكان يصغي إليّ بسرور".
لم يضيّع رئيس الدّير الوقت، فقام بدعوة المفوّض، على الفور، لزيارة الدّير. وما إن تلقّى هذا الأخير الدّعوة، حتّى أخبره هاتفيّاً أنّه قادم في اليوم التّالي، 23 تمّوز، مع ستّة موظّفين وجنود.
ونهار الأحد صباحاً، وصل بالسيّارة إلى نقطة تبعد نصف ساعة عن الدّير، وقام بإرسال دواب للدّير. وصلوا حوالي السّاعة الثّامنة صباحاً. في البداية، أعطى المفوّض الانطباع بأنّه عنيف، وقح وقاسِ، لكنّه شيئاً فشيئاً، مع المعاملة الطّيبة واللّطيفة للرّئيس والإخوة، أصبح أكثر هدوءًا وأخذ يتصرّف بلطف.
شارك في صلاة الغروب مع جنوده وموظّفيه ولاحظ الخدم الإلهيّة. في نهاية الخدمة، قام الرّهبان بإنشاد قانون البراكليسي ورُفعت صلاة لأجل خلاص الإخوة المزمع إعدامهم. بعد قانون الابتهال، خرجوا من الكنيسة وتهيّأوا للذّهاب. كان رّئيس الدير يفكّر طوال الوقت في الطّريقة الّتي سوف يسأل بها المفوّض ويقنعه بمنح الحياة لمن حُكم عليهم بالموت.
لكن، يا والدة الإله.!.. يا ملكة الكلّ، يا أمّ الإله.!.. أيّتها الينبوع المفيض الحياة، بمحبّتك اللّامتناهية للبشر ورأفتك.!.. وقبل أن يفتح الرّئيس فاه ليسأل، طلب المفوّض بواسطة مترجم منه أن يسأله خدمة يسديها له. انذهل رّئيس الدير، وللحال تجرّأ وطلب أن يخرج الجنود، وبقي وحيداً مع المفوّض والمترجم.
أوّلاً قام الأب بشكر المفوّض، وبجرأة وجسارة، قال للمترجم: "أودّ في البداية أن يعدني المفوّض أنّه سوف يمنحني سؤلي، وبعد ذلك أُفصح عن مطلبي". أعطى المفوّض الإذن ووعد بتحقيق الطّلب. للحال طلب رّئيس الدير : "أريد منه أن يعفو عن هؤلاء الأبرياء المحكوم عليهم بالموت، لأنّه من الظّلم والإجحاف ألّا يعاقب مقترفو الخطأ بينما يسلّم أبرياء إلى الموت".!.. أجاب المفوّض: "اطلب خدمة أخرى لأنّني لا أقدر أن أقدّم لك هذه: أعلم أنّه ظلم، لكنّ الأمر لا يعود لي، أنا تحت أوامر من هم أعلى منّي، الّتي تقضي في حال قتل أحدٌ ألمانيّاً، أن يُحكم على خمسين يونانيٍّ من المناطق المجاورة للجريمة بالقتل. إن لم أقم يتنفيذ هذه الأوامر، قُتلتُ أنا، لذا اسأل مطلباً آخر".!.. قال له الرّئيس: "بما أنّك وعدتني، عليك أن تبرّ بوعدك".!..
لكنّه إذ لاحظ، بواسطة المترجم، أنّ المفوّض غير مستعدّ للتّنازل، طلب منه رئيس الدير الأب "فيلوثيوس زرفاكوس" أن يقول للمفوّض: "بما أنّه لن يمنحني طلبي، أطلُبُ منه، إذاً، أن يُحصيني مع الّذين حُكم عليهم بالموت وسأعتبر ذلك منه خدمة جليلة".!.. تأثّر المفوّض بكلام الرّئيس، فمدّ يده له مصافحاً وقال:
"إنّي أهبهم لك ، فقط نبّه سكّان الجزر ألّا يتكرّر أمر مماثل وألّا يقوموا بقطع أسلاكنا، لأنّني لن أكون رحوماً معهم".!.. وعده رئيس الدّير بذلك، وغادر المفوّض الدّير بسلام، مسروراً ومتحمّساً.!..
كانت هذه، بلا شكّ، معجزة من سيّدتنا والدة الإله.!.. نعم، لقد قام رئيس الدّير ورهبانه بما يستطيعون فعله بشريّاً، واهتمّوا بالمفوّض وقاموا بمدحه، عملاً بقول الحكيم سليمان، إنّ الوحوش أيضاً تروّض إذا ما امتُدحت، والمفوّض كان يشبه الوحش قلباً وقالباً.
لكنّ سيّدتنا والدة الإله، والدة المسيحيّين الرّوحيّة، أمّ الألم، والإحسان، والرّحمة، والحماية، والرّجاء، والخلاص لكلّ الملتجئين إليها والواضعين رجاءهم عليها، تتحسّس ألم الأمّهات وحزنهنّ، وأقارب وأصدقاء المحكوم عليهم (كانت الجزيرة برمّتها قد شملها حزن عظيم، فمنهم من سيفقد ابنه، أو أخاه، أو قريبه، أو صديقه، أو مواطنه). رأت والدة الإله حزنهم، ودموعهم وتنهدّاتهم. رأت الظّلم وسمعت تضرّعاتهم. سمعت توسّلات الرّهبان الحارّة وخاصّة صلوات رّئيس الدير القديس "فيلوثيوس زرفاكوس" الّذي كونه الأب الرّوحيّ للرّجال المحكومين، حزن أكثر من الجميع للموت الظّالم الّذي سيكون نصيب أبنائه. لذلك، أقبلت والدة الإله ولطّفت قلب الوحش القاسي والمتعطّش للدّماء، وبشفاعاتها لدى ابنها وإلهها منحت الحياة والخلاص لمئة وخمس وعشرين نفساً. لذلك تنشد الكنيسة بحقّ:

"ليس أحد يسارع إليك ويمضي خازياً من قبلك أيّتها البتول النّقيّة أمّ الإله، لكن يطلب نعمة فينال الموهبة بحسب ما يوافق طلبته".

[بشرى النهيسى]

السلام لك يا مريم
شفاعتها معاكم والجميع امين