الاهتمامات
آ25. فلهذا أقول: لكم لا تهتمُّوا لنفسِكم بما تأكلون ولا بما تشربون، ولا لأجسادِكم بما تلبسون. أليستِ النفسُ أفضلَ من المأكل والجسدُ أفضلَ من الملبس؟ النسخة اللاتينيَّة الدارجة لا توجد فيها العبارة "ولا بما تشربون". وقال "لنفسكم" مع أنَّ النفس لا تحتاج المأكل والمشرب، لأنَّها وإن لم تحتجْ ذلك لذاتها فتحتاجه لتقيم بالجسد المتَّحدة به وفي النفس إحساس الطعم واللذَّة إلخ. أو أنَّ النفس هنا بمعنى الحياة كما قال مار أغوسطينوس*. وقوله "لا تهتمُّوا"، هو بموجب قوَّة اللفظة اليونانيَّة، بمعنى لا تفتكروا بمشقَّة واهتمام مضغط إذ لم َينهَ المسيح هنا عن الاهتمام والاعتناء بتحصيل المعاش بل ينهى: عن الاهتمام المفرط والتعبُّد لذلك بنوع ما، كما تقدَّم من قوله: لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال؛ وعن الاهتمام مع عدم الثقة بالله. ومعنى قوله "أليست النفس أفضل من المأكل" إلخ؟ هو كأنَّه يقول: إنَّ الله لم يجعلكم تهتمُّون بالحياة والجسم اللذين هما أشرف كثيرًا من المأكل والملبس بل هو خلقهما ويحفظهما كلَّ وقت. فإذًا هو يهتمُّ أيضًا بما هو ضروريّ للقيام بهما. كذا فسَّر إيرونيموس* وفم الذهب* وأغوسطينوس*. وهذا هو البرهان الأوَّل من البراهين المنوَّه عنها آنفًا، وهو ممَّا علا إلى ما سفل أي من خلْق الله النفسَ والجسدَ وحفظهما إلى إعالتهما.
آ26. تأمَّلوا بطيرِ السماء التي لا تزرعُ ولا تحصُدُ ولا تخزُنُ في الأهراء وأبوكم السماويّ يُقيتُها. ألستم بالحريّ أفضل منها؟ هذا هو البرهان الثاني لعدم الاهتمام المفرط بالمأكل والمشرب والملبس وهو ممّا سفل إلى ما علا. فكأنَّه يقول: إذا كانت الطيور التي تطير في الجوّ (وروى لو 12: 24 فراخ الغربان) التي هي دنيئة وحقيرة، يهتمُّ بها الله، فكم بالأحرى يهتمُّ بكم أنتم الأفضل منها لديه لأنَّكم أبناؤه وهو أبوكم، ولأنَّكم مخلوقون على صورته ومثاله، ومفتدون بدم المسيح، ويمكنكم أن تهتمُّوا بنفوسكم بنوع ما بواسطة الحصاد والشغل؟ فهل ترتابون مع ذلك كلِّه بأنَّه يهتمُّ بكم؟
آ27. مَنْ منكم إذْ يَهتمُّ فيمكنُه أنْ يَزيدَ على قامتِه ذراعًا واحدة؟ هذا هو البرهان الثالث. وروى لو 12: 26: فإن كنتم لا تستطيعون صغيرة فكيف تهتمُّون بالباقي؟ فكأنَّه يقول: إذا كان لا طائل لاهتمامكم بأن تزيدوا على قامتكم ذراعًا واحدة، فكيف تهتمُّون وتتحمَّلون المشقَّة بالباقي الذي يفوق استطاعتكم كثيرًا؟ مثلاً أن تمدُّوا حياتكم أزيد من الحدِّ الذي رسمه الله، وأن تكسبوا كمِّيّات وفيرة من الأموال لهذه الغاية؟ كذا فسَّر أوتيميوس* وفرنسيس لوقا*. وقال ملدوناتوس*: ذكر الذراع لا لأنَّه لا يوجد مقياس آخر أقلّ منه، بل لأنَّه أحد المقاييس الصغيرة، والعادة أن يكون الكلام في هذه الأمور بمقتضى فهم العامَّة لا بالدقَّة. فمن قال: لا درهم لي، ليشير إلى أنَّه لا يملك شيئًا من الدراهم، لا يذكر الدرهم لأنَّه أقلُّ المعاملة، بل لأنَّه من أصنافها الصغيرة. فكذا قوله ذراعًا واحدة يراد أنَّه لا أحد يقدر أن يزيد على قامته شيئًا.
آ28. فلماذا تهتمُّون باللباس؟ تأمَّلوا بزهور الحقل كيف تربو ولا تتعب ولا تغزل.
آ29. أقولُ لكم إنَّ سليمان في كلِّ مجدِه لم يلبسْ كواحدة منها.
آ30. فإن كان زهرُ الحقل الذي يوجدُ اليومَ وغدًا يُطرحُ في تنُّور النار يُلبسُه اللهُ هكذا، فكم أنتم أحرى لذلك يا قليلي الإيمان؟ هذا هو البرهان الرابع. فكأنَّه يقول: إذا كان الزهر الذي ينبت في الحقول والبساتين يُلبسه الله دون أن يهتمَّ ويتعب جمالاً هذا عظم مقداره، حتّى لم يمكن لسليمان أن يلبس نظيره مع كلِّ كنوزه وحكمته، فإنَّ الصناعة يمكنها التشبُّه بالطبيعة لا مساواتها، ومع أنَّ هذه الزهور تكون اليوم زهرًا وغدًا تجفُّ وتُحرق بالنار، فهل يهملكم أنتم الأفضل والأشرف من الزهر كثيرًا، وأنتم الذين هم أولاده وورثة مجده إلى الأبد؟ لا لَعمري. فإذًا عدم ثقتكم بعناية الله هي الينبوع والعلَّة لمشقَّتكم بهذه الاهتمامات، ولهذا دعاهم قليلي الإيمان.
آ31. فلا تهتمُّوا وتقولوا ماذا نأكلُ وماذا نشربُ وماذا نلبس.
آ32. فهذه كلُّها تطلبُها أممُ العالم. هذا هو البرهان الخامس. فكأنَّه يقول: إنَّ الاهتمام المفرط بالمأكل والمشرب والملبس هو وثنيّ لا مسيحيّ، فيليق بالوثنيّين الذين يجهلون الله وعنايته لا بالمسيحيّين الذين يعتقدون الأمرين. وأبوكم السماويّ يعلمُ أنَّك تحتاجون هذا كلَّه. وهذا هو البرهان السادس. فكأنَّه يقول: لا تهتمُّوا باحتياجات أجسادكم لأنَّ الله يعرفها ويراها لأنَّه إله، ويعتني بها لأنَّه يحبُّكم، ويهتمُّ بكم لأنَّكم أولاده، ويمكنه فعل ذلك لأنَّه في السماء وقادر على كلِّ شيء.
آ33. اطلبوا أوَّلاً، أي قبل كلِّ شيء، لا بالزمان بل بالرتبة، كما قال مار أغوسطينوس*، وبكلِّ رغبة واهتمام، ملكوتَ الله. أي أن يملك الله عليكم بنعمته، وبرَّه، أي برَّ الله، ويراد به الوسائط المبلِّغة إلى ملكوت الله أي النعمة والفضائل والأعمال الصالحة. ومتى كان هذا المُلك الغنيّ بجميع الكنوز لكم، فأيُّ شيء يعوزكم؟ وهذا كلُّه، أي كلُّ ما هو ضروريّ لحياتكم، تزدادونه من الله بمنزلة أجرة كاملة، محفوظ لكم في السماء.
آ34. لا تهتمُّوا للغد. هذا هو البرهان السابع. كأنَّه يقول: لماذا تفرِّطون من الآن الاهتمام الغير الضروريّ بالأمور، التي بمقتضى إنذار العقل المستقيم تتعلَّق بالزمان العتيد وبالعلل والظروف المستقبلة، فأيُّ اضطرار إلى تحمُّلكم مشقَّة كهذه قبل وقتها؟ وهذا يكون عبثًا، لأنَّ الغد يهتمُّ بشأنه ويكفي كلَّ يوم شرُّه، أي الانزعاج والمشقَّة التي تحدث عنه. فالعبرانيّون كانوا يدعون كلَّ ما هو مفرح ومفرِّج خيرًا، وكلَّ ما هو مزعج ومكرب شرًّا. فإذًا المسيح يعلِّم ترك الاهتمامات الباطلة لأجل التفرُّغ أوَّلاً لخدمته ولما هو ضروريّ لكلِّ إنسان نظرًا إلى حاله ودعوته. ويريد أن نسلِّم نجاحَ اهتمامنا وثمرته لحنوِّ الله وعنايته الأكيدة، التي تدبِّر كلَّ شيء وتُعدُّه لخيرنا وخلاصنا. كذا فسَّر فم الذهب* وإيرونيموس* وأغوسطينوس*، ولا ينهى عن الاهتمام والاستحضارات اللازمة للمعيشة. فقد مدح يوسف لأنَّه خزَّن غلاّت مصر (تك 41: 35).