|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
في أواسط سبتمبر سنة 404 م. وصل الركب إلى كوكوزة حيث استقبل العظيم يوحنا بكل وقارٍ وتكريمٍ إذ كان أسقفها أذلفيوس على جانب من القداسة والتقوى. فاستراحت نفس البطريرك المنفي هناك حيث وجد الهدوء والراحة، كما وجد في شعبها الفقير غنى الروح. حدثنا الأب البطريرك في رسائله عن المدينة وموقعها ومناخها وظروفها، ووصف لنا مشاعره وأحاسيسه في دقة بالغة، وكتب لنا عن أمراضه وأتعابه كما سجل لنا كرازته وأعماله الرعوية. فمدينة كوكوزة Cucusus على حد تعبيره [يُخَيَّل لي إني قد بلغت أقصى حدود المسكونة"، تقع بين سلسلتين من الجبال، خالية من الأماكن العامة والأسواق التي تنبت الحياة الاجتماعية، وتربطها بالعالم الخارجي(30).] دخل الأب منفاه الأخير منهك القوى، إذ يقول: "كنت في غاية التعب بعد رحلة شاقة استمرت سبعين يومًا لا تتصوري معي سموك مقدار ما قاسيناه! لقد امتلأنا خوفًا من الآشوريين، وأصابتني حمى شديدة، وأخيرًا بلغنا كوكوزة أكثر أماكن العالم انعزالًا"(31). مع عزلة المدينة وأتعابه الجسدية، شعر القديس بجوٍ من الراحة النفسية، فقد دخل المدينة حيث يستطيع أن يتحصن إلى حد ما من الآشوريين الذين كان يتعرض لهجومهم في الطريق القفر، كما استراحت نفسه من عداوة الأسقف لهجومهم في الطريق القفر، كما استراحت نفسه من عداوة الأسقف أتريبيوس ورهبانه، هذا وقد استقر في موضع يقدر أن يجد شيئًا من الاستجمام لجسده الهزيل. إنه يقول: [لقد بلغنا كوكوزة في أحسن حال، وجدنا مدينة بغير متاعب ولا مضايقات، وعشنا في راحة تامة، ليس من يشتمنا ولا يسيء إلينا(32).] [تمثل كوكوزة العزلة بعينها، لكن هذه العزلة أهون عندي من الأعداء والمتاعب. لذلك أقول إني بلغت هذه العزلة كمن يصل إلى الميناء!(33)] لقد اعتبر نفسه في راحة خلال أسابيعه الأولى مع أنه لم يكن حرًا يذهب حيث يشاء(34). لقد وجد في حاكم أرمينيا حبًا واهتمامًا كما يظهر من رسالته إلى الأسقف قرياقوص، إذ يقول له [إن سيدي سوباتير Sopater حاكم أرمينيا، التي أنا سجين فيها، يعاملني كأبٍ، بل يخدمني أكثر من أب. وإذ أبحث عن طريقة بها أعبر عن شكري له أجد الفرصة سانحة في محبتك لي، وذلك أن له ابنًا يعيش منذ فترة طويلة في مدينتك لإتمام تعليمه. فأرجوك أن تسرع برؤيته وتظهر له خدمتك، بهذا تدفع عني ديوني لأبيه، وتكون نافعًا لي. أعطه أن يلتصق بالحكام وبعائلتك وبكل الذين يقدرون أن يجعلوه مرحًا في غربته، فيكون كمن في وطنه. بهذا تلزم الحاكم -في شخص ابنه- المملوء حنانًا وسموًا أن يكون ميناء يلجأ إليه كل المحتاجين(35).] العزلة تعلن حبه! لقد شعر القديس يوحنا باليُتم في كوكوزة -إن صح لنا هذا التعبير- فقد حرم من رعيته التي تمثل أحشاءه الداخلية وكل حياته، بل امتصت كل مشاعره وأحاسيسه. كان جسده وقلبه ولسانه وقلمه وكل طاقته وتصرفاته تتفجر حبًا! على العكس مما اتهمه به أعداؤه أنه كان متكبرًا محبا للعزلة عن الناس! في كوكوزة كان يشتاق لو زاره إخوته وأحباؤه، لكن البلد بعيد والطريق مملوء أخطارًا والجو رديء للغاية. لهذا كان كثيرًا ما يعلن لهم شوقه أن يراهم ويسمعهم، لكنه كان يعود يشدد عليهم إلا يخاطروا بالحضور إليه. ولم تكن لديه إلا وسيلة الرسائل يبعث بها وينتظر ردها، ولو أن البريد كان بطيئًا وكثيرًا ما كان السعاة يرجعون بها بسبب الخوف من اللصوص. تستطيع أن تلمس مشاعر الحب المرهفة للبطريرك المتألم في كلمته التي وجهها إلى الدوق ثيؤدوسيوس: [إنك لم تكف عن تقبيل رسائلي، أما أنا فقد قبَّلت كاتب الرسالة. حوطتُ بيدي حول عنقه، وقبَّلت رأسه الغالية عليَّ. أية تعزية لي، فإنه لم تصلني رسالتك، بل (كأنني) رأيتك بجواري، تحيا معي!(36)] لقد رأينا في أكثر إسهاب كتاباته لشماسته أولمبياس المتفجرة برائحة الحب الروحي الحقيقي! كان يهتم بكل صغيرة وكبيرة في حياة الناس. إنه يحبهم! فيكتب إلى الطبيب Hymnetus يوصيه بالأسقف سيليكوس Seleucus قائلًا: [لقد عرفت طبيعة مرض سيدي الموقر، فحاول أن تهدئ آلامه، مستخدمًا فنَّك في إبرائه من ضعفه، هذا الفن الذي طالما أنقذ من الغرق كثيرين تعرضوا لعنف هذه الأمواج(37).] لم تقف رسائله عند حدود العلاقات الشخصية، لكنه كان مهتمًا بأمور الخدمة، يتعرف على أخبارها بواسطة الزائرين(38)، ويكتب مشجعًا ومعزيًا وناصحًا وموبخًا أيضًا. فيكتب إلى فالانتين أن يسند دومتيان المسئول عن خدمة العذارى والأرامل الفقيرات، قائلًا له: [ألجأ إليك كمن يلجأ إلى الميناء، لكي تنقذهن من غرق الجوع. أتوسل إليك بشدة أن تسندهم. أنت تعرف أن لي هبات عندك، لقد تركتها كي تقدمها للفقراء(39).] يكتب إلى الكاهن ثاوفيلس يشجعه على الاهتمام بحياة المؤمنين الروحية ومعاونتهم في الجهاد، وأن يبعث إليه يخبره بأحوالهم حتى يطمئن عليه(40). كما كتب رسائل شديدة إلى الكاهن ثاوفيلس وساكيس مساعده يوبخهما، قائلًا: [من يستطيع أن يبرئكما، بينما قد حُرم البعض ونُفوا وطردوا، ولا تقدمان للشعب الذي حطمته العاصفة معونة وتعليمًا(41).] وأرسل إلى ملخس يعزيه في وفاة ابنته قائلًا له: [تهلل، فإنك قدمت روحها لسيد المسكونة، كما يقدم المزارع الصالح ثمرًا ناضجًا(42).] وكتب إلى الحاكم Paeanius المحب للروحيات يقول له: [لقد وهبتني جناحين، وسببت لي فرحًا عظيمًا، لأنك وأنت تعلن لي عن الأمور المحزنة ذاتها بكلمة تفرض نفسها على كل الأحداث: "مجدًا للرب في كل شيء!" هذه الكلمة تسبب لإبليس جرحًا مميتًا، وتهب لقائلها هدوءًا وسعادة وسط الضيقات(43).] اهتم أيضًا القديس يوحنا -وسط ضيقاته- بالآلام التي تعرضت لها إرساليات الكنيسة في فينيقية، فأرسل إلى الكاهن روفينوس في صيف عام 406م يقول له: [لقد علمت أن النيران قد اشتعلت من جديد في فينيقية، وأن ثورة الوثنيين قد ازدادت، وكثير من الرهبان قد أتوا، لذلك ألزمك أن تسرع ما استطعت لتقف في جبهة القتال، إني أعلم أن مجرد وجودك وحده يجعل الأعداء يهربون، وأن صلواتك وعذوبتك وصبرك وشجاعتك التي هي من صميم حياتك، هذا كله يهدم ثورتهم ويسند أصدقاءك ويسبب أعمالًا صالحة كثيرة. أريد أن أعلم أنك قد وضعت قدميك على حدود فينيقية، حتى يكف عني اضطرابي. إن كان ممكنًا، فلتبعث إليَّ بخطاب في كل فرصة حتى أتتبع مدى ما وصلتم إليه. وإن كنتم قد اقتربتم من الهدف، فإنه في حالة وجود معوقات أجاهد أن أتغلب عليها. فإني أبعث بعشرة آلاف أسألهم أن يعاونوك... حتى لو كانوا في القسطنطينية. إن كنت تعتقد بضرورة إرسال إخوة، أطلب مني هذا. أما عن رفات القديسين الشهداء فاطمئن، فقد أسرعت وأرسلت إلى سيدي الكاهن الكلي التقوى Geronce وسيدي أتريوس الكلي الورع أسقف أرابيسوس اللذين لديهما رفات حقيقية، وسيسلمونها لك بعد قليل في فينيقية. لا تهمل شيئًا إذن، فإنك ترى غيرتي التي أظهرها لك. أسرع لكي تقدر أن تنتهي من بناء الكنائس التي ينقصها السقف، قبل حلول فترة الشتاء(44).] هكذا أعلن اهتمامه بالخدمة وتشجيع الآلاف لمساندة المضطهدين بفينيقية، مشجعًا الكاهن روفينوس على بناء الكنائس والاستعداد للاحتفال برفات الشهداء. بعث أيضًا رسالة رائعة للمراسلين المضطهدين يقول: [إلى الكهنة الرهبان بفينيقية، الذين يعلمون الوثنيين. لا يترك القباطنة السفينة وهي تغرق، ولا الأطباء المرضى وهم في خطر. لماذا أقول لكم ذلك حتى لا تنسحبوا من فينيقية بسبب الاضطرابات التي قامت فيها! فإنه كلما ازدادت الاضطرابات وكثرت المشاكل ارتفعت الأمواج بقسوة، التزمتم بالاستمرار ومضاعفة مجهوداتكم مع ثباتكم وسهركم وغيرتكم، لكي لا يهدم أحد بناءكم الجميل ويفسد زرعكم. اذكروا التعب الذي تحتملونه والألم الذي تتعرضون له والصلاح الذي تكمِّلونه، وغلبتكم على الكثير من العادات الوثنية التي نلتموها بنعمة الله، وتحسن الموقف في فينيقية، فإن هذا كله يُزيد من مكافآتكم وأكاليلكم. في القريب العاجل يحل الله كل المشاكل ويكافئكم على صبركم. اثبتوا إذن، وتمموا عملكم. لا ينقصكم شيء، فقد أعطيت الأوامر أن يقدموا لكم الملابس اللازمة والأحذية والمئونات وكل ما يحتاجه إخوتكم. إن كنت وأنا وسط برية كوكوزة أرى نفسي غارقًا في هذه التجربة المُرة، أهتم بإرساليتكم إلى هذه الدرجة، فكم بالأحرى يكون اهتمامكم أنتم وقد أخذتم كل ما تحتاجون إليه بوفرة، فإنه يليق بكم أن تبذلوا كل ما في وسعكم. استحلفكم إلا تجعلوا أحدًا يبث فيكم الخوف. فإن الأسباب كثيرة التي تجعلنا نترجى موقفًا أفضل، كما ستعرفكم رسائل سيدي الكاهن الكلي التقوى قنسطس... أرسلت إليكم يوحنا ليسند روحكم. لقد قمت بواجبي وشجعتكم بكلمتي ونصائحي، وسهرت لكي لا ينقصكم شيء... فإنه لم يعد شيء ما يوبخني إن كنتم تتركون أنفسكم للكذابين والمنافقين عوض الإنصات إليَّ(45).] في اختصار كتب القديس الكثير، وكانت كتاباته تحمل فيضًا من الحب مع التزام بالمسئولية تجاه الكنيسة وخدامها وأولادها، حكام وأساقفة وكهنة وشمامسة وشماسات ورهبان وعلمانيين، لأجل الدخول بكل أحدٍ إلى حياة "الشركة العملية العميقة مع المسيح يسوع". أخيرًا، فإن رسالته إلى البيدوس تكشف لنا المجهود الشاق الذي تحمله القديس في كتابة كل رسالة، إذ يعتذر له عن عدم رده على رسائله لوجوده في مكان أشبه بسجنَ، بل أكثر منه قسوة، مع ندرة الأشخاص الموثوق فيهم لحمل رسائله، هذا بجانب مرضه الذي يهدده، فقد كان ملقيًا على الفراش طول الشتاء... إنه يقول له: [هذا هو سر سكوت قلمي لا قلبي... فإني وإن كنت في برية بعيدة أكثر من هذه التي أنا أعيش فيها، فإن ذكراكم تظل محفورة في ذهني(46).] ولكي نتلمس ذلك نتعرض -ولو قليلًا- لما احتمله القديس من آلام في كوكوزة، كما توحيه إلينا رسائله. في السنة الأولى تألم القديس كثيرًا بسبب قسوة الجو التي لم يعتد عليها في وطنه، فشتاء كوكوزة قارس البرودة، وصيفها شديد الحرارة، وكلاهما ضارين بصحته المرهفة، إذ يقول: "إن شدة الحر في أثرها عليَّ لا تقل حدة عن شدة البرد(47)." ففي ربيع سنة 405م سجل لنا في رسالته إلى أولمبياس شماسته ظروفه القاسية التي يعيش فيها، قائلًا: [إذ أُنقذت من أبواب الموت نفسه أكتب هذه الرسالة إلى السيدة الحصيفة، وأنا سعيد جدًا للِّقاء مع خادمك... فإن الشتاء كان أشد من القسوة، فجلب عليَّ عاصفة من المتاعب الداخلية تقلقك كثيرًا. ففي الشهرين الماضيين لم أكن أفضل من ميت، بل بالأحرى أردأ! إن كل ما كان لي من حياة هو القدر الذي فيه أشعر بالأهوال المحيطة بي. كان النهار والفجر والقمر كل هذه هي ليلة واحدة بالنسبة لي، إذ أقضي كل وقتي ملازمًا الفراش تمامًا، وبالرغم من كل الوسائل التي استخدمتها بغير حدودٍ لم أستطيع أن أزيل آثار البرد المميتة. فإذ احتفظت بالنار مشتعلة احتملت الكثير جدًا من الدخان الكئيب، وبقيت محبوسًا في حجرة واحدة، ملتحفًا بأكبر قدر من الأغطية، لا أجسر أن أضع قدمي خارجًا... لقد تحملت آلامًا مُرّة: قيء مستمر يلازمه صداع دائم، فقدان للمزاج، أرق بغير انقطاعٍ! هكذا اجتزت بحر آلامي المظلم المتسع بتعبٍ، لكنني لا أريد أن أذكر لك مآسي كي لا أحزنك، فإني قد شُفيت الآن من هذا كله. لقد اقترب الربيع وحدث تغير طفيف في الجو، لذلك انتهت أتعابي تلقائيًا(48).] هذا عن متاعب البرد القاسي، لكن تزداد بالأكثر آلامه بسبب هجوم الآشوريين، إذ يقول: [كنت أنتقل من مكان إلى آخر في قمة فصل الشتاء. فقد كنا تارة نسكن في المدن، وأخرى في المخابئ أو الغابات خوفًا من الآشوريين. كنا قبلًا في آمان فتركنا الأماكن المقفرة، واتجهنا إلى أربيسوس Arbissos، لأنها أكثر حصانة من غيرها، إلا أن الحياة فيها ثقيلة، أقسى من حياة السجن، فإن الآشوريين دائمًا يهددوننا... والطاعون متفشِّ بين الناس، نخشاه لأن المكان ضيق والازدحام شديد. لقد مرضت في الصيف بسبب هروبي في الشتاء، لكنه قد زال الكثير وبقيَ القليل(49).] مرة أخرى إذ تشتد عواصف الآشوريين حتى يلتجئوا للأماكن المحصنة يقول: [ما أكثر الآلام في أرمينيا؟ لقد هبت العاصفة فحطمت كل شيء! أينما توجهت لا ترى عينك إلا ينابيع الدماء، وأشلاء الجثث، والمنازل مهدمة والمدن محطمة!] وإذ جاء الشتاء التالي كان الجو أفضل، أو ربما يكون القديس يوحنا قد تعود على الجو الجديد والظروف القاسية التي يعيشها، إذ يقول في خريف عام 407م: [لم يغلبني سوء أحوال الجو، ولا قفر الإقليم، ولا ندرة المئونة، ولا عدم وجود مرافقين، ولا عدم مهارة الأطباء، ولا الحرمان من الحمام، ولا الحبس في حجرة واحدة كما في سجن، ولا عدم إمكانية الحركة التي اعتدت عليها على الدوام بسبب الحاجة، ولا استخدم النار وخروج الدخان ولا الخوف من اللصوص ولا حالة الحصار المستمر، ولا شيء من مثل ذلك، بل على العكس إني في صحة أفضل مما كنت عليه في أي موضع(50).] [إنني في صحة جيدة وطمأنينة كاملة، حتى اندهش الأرمن كيف يمكن لإنسانٍ ضعيف مثلي يشبه نسيج العنكبوت أن يحتمل البرد القارس، ويعيش بسهولة، مع أن الذين اعتادوا على العيش هنا يحتملون قسوة الشتاء بصعوبةٍ.] أخيرًا، نختم حديثنًا عن هذه الفترة بأنها فترة آلام عاشها القديس لكي يكتب لنا في رسائله ومقالاته "خبرة حية" لحياة الألم، وتلامس حقيقي مع "عناية الله" وسط الضيق... فسجل لنا: 1. كثيرًا من الرسائل التي تحمل طابع مقالات عن الألم وعناية الله بنا وسط الآلام. 2. مقالة عن "لا يستطيع أحد أن يؤذي إنسانًا إن لم يوذِ الإنسان نفسه". 3. مقالة عن "عناية الله". في هذه المقالات نلمس تحولًا جديدًا في حياة القديس، إذ صار يكتب بإسهاب عن "حبيبه أيوب"، حتى أن بعض كتاباته إذ يذكر اسمه ينسى الموضوع ويكتب عن أيوب في استطالة، ليعود فيعتذر أنه لا يستطيع أن يخلع نفسه عن "حبيبه أيوب"! إن كان لم ينسَ صداقته مع القديس بولس، إذ شرب منه روح الكرازة والحب، فإنه داخل في صداقة قوية مع رجل الآلام أيوب خلال ممارسته للألم! أرسل القديس يوحنا -قبل نفيه الثاني- إلى ثلاثة أساقفة: أسقف روما، وأسقف ميلان، وأسقف أكويلية، رسائل ثلاث تحمل نصًا واحدًا، دون أن يخص أسقف روما شيئًا دون الأسقفين. وكان رد أسقف روما يحمل تشجيعًا على احتمال الألم مع محاولة السعي لعقد مجمع مسكوني عام لبحث القضية. لم يكن ممكنًا لأسقف روما أن يتخذ قرارًا منفردًا، ولا حتى بالاتفاق مع أساقفة الغرب وحدهم، ولا حتى بعقد مجمع مسكوني بأمر إمبراطور الغرب هوناريوس وحده، إنما كل ما كان يقدر أن يفعله أنه عقد مجمعًا محليًا برئاسته -بلا شك- لا للبت في قضية بطريرك القسطنطينية، فإن هذا ليس من اختصاصه، إنما للتشاور وتدارس ما يمكن عمله، وفعلًا رأوا أن يطلبوا من إمبراطور الغرب أن يرسل إلى أخيه إمبراطور الشرق لكي يسمح بعقد مجمع مسكوني يضم أساقفة من الشرق والغرب لدراسة هذه المشكلة. وإذ استصوب الإمبراطور ذلك أرسل وفدًا من أساقفة وكاهنين وشماس، يحملون رسالة من هناريوس يترجى أركاديوس الموافقة على ذلك الطلب. لكن ما أن دخلوا حدود الإمبراطورية الشرقية حتى اعتبر أركاديوس هذا تدخلًا في أمور الشرق، فألقى القبض عليهم وأساء معاملتهم وردهم إلى الغرب. وهنا وقف كل عمل يمكن للكنيسة الغربية أن تقوم به! هذا هو موقف الكنيسة الغربية، وقبل أن نتحدث عن موقف كنيسة إنطاكية نود أن نسجل بكل فخرٍ واعتزازٍ أن تلميذه "القديس نيل السينائي" بعث برسالتين إلى الإمبراطور أركاديوس يعاتبه بشدة على الظلم الحادث في مملكته. جاء في الرسالة الأولى: [كيف تقدر أن تترجى خلاص القسطنطينية من الزلازل المستمرة والصواعق، مادامت الجرائم ترتكب بلا عدد في قسوة تفوق القانون؟ لقد تجرأتم ونفيتم عمود الكنيسة، ضياء الحق، بوق المسيح، الطوباوي يوحنا الأسقف! كيف تستطيع أن تطلب منى الصلاة عن المدينة المحطمة بسبب غضب الله، فتعيش كل يومٍ تحت تهديد نيران السماء، بينما تلتهمني حمى اليأس، وأفكاري مضطربة وتفكيري محطم بسبب أحداث بيزنطة التي تخالف كل القوانين؟(51)] وفي رسالته الثانية يتعرض للإمبراطور مباشرة، قائلًا: [لقد نفيَت يوحنا، أكثر أنوار العالم إشراقًا، أسقف بيزنطة، نفيته ظلمًا بضعفك الشديد، متأثرًا بإصرار الأساقفة الذين لم يكن لهم التفكير الحق، فحرمت الكنيسة الجامعة من تعاليمه التي بلا لوم! لتعاقبك السماء!(52)] نعود إلى كنيسة إنطاكية، فقد كان موقفها مؤلمًا، لقد بلغ الأسقف فلافيان من العمر ما يقرب من المائة عام، فكان الأساقفة المضادون ليوحنا يدبرون المكائد مثل أساقفة جبالة وحلب وعكة وطرسوس. وفي عام 404م رقد فلافيان، فهرع الأساقفة إلى رسامة بورفيروس ضد إرادة الشعب. ولما قاومه الشعب صدر قرار إمبراطوري يوجب الاعتراف بأرساكيوس أسقفًا للقسطنطينية وثاؤفيلس للإسكندرية وبروفيروس لإنطاكية مع استبعاد غير الخاضعين لهم. وفى عام 405م توفى أرساكيوس، فترجى الأرثوذكس عودة راعيهم يوحنا من النفي إلى القسطنطينية، لكن سفريان ومن حوله خشوا من ضغط الشعب على أركاديوس، خاصة وأن أوفدوكسيا قد ماتت، فأسرعوا بإقامة أتيكوس Atticus السبسطي أسقفًا على القسطنطينية. فأبى بعض الأساقفة الاشتراك معه وتنحى عنه الشعب. فلكي يقطع المتآمرون خط الرجعة عليهم سعوا لدى الإمبراطور ليصدر أمر بنقله من كوكوزة إلى بيتوس على الساحل الشرقي من البحر الأسود، وقد أمر الجند بالإسراع في التنفيذ. وقد وعدوا الجند بمكافأة إن اتخذوا التدابير اللازمة لموته في الطريق، حتى يتخلص الإمبراطور من قيام أية ثورة تطالب بعودته. انطلق الركب في أواسط يونيو 407م، وكانوا يسيرون به في شدة الحر حتى اعترته حمى شديدة، ومع ذلك لم يسمحوا له بالراحة. وإذ رأوا قوته قد خارت تمامًا، نزلوا إلى كنيسة صغيرة في كومانة Comana، دفن فيها الشهيد الأسقف باسيليكس، فقضى البطريرك المتألم ليلته فيها، حيث ظهر له الشهيد يقول له: "تشدد وتقو يا أخي يوحنا، فإننا غدًا نكون سويًا! وكان قد سبق فظهر لكاهن الكنيسة قبيل مجيء البطريرك يقول له: أعدد كل شيء لأخي يوحنا." وإذ لاح الصباح طلب يوحنا من الجند إمهاله حتى الظهيرة، فلم يقبلوا وألزموه بالسفر فورًا. ولم يطل بهم السير إذ رأوه قد أشرف على الانتقال، فعادوا به إلى الكنيسة سريعًا. وإذ دخلها القديس يوحنا لبس ثوبًا أبيض، وتناول الأسرار المقدسة، ونطق عبارته المفضلة دائمًا: [ليكن الله مباركًا في كل شيء! آمين.] قال هذا وأغلق الذهبي الفم فمه، وأسلم روحه في يديّ الله في 14 سبتمبر سنة 407م. بعد حوالي واحد وثلاثين عامًا من نياحته، في 27 يناير من السنة السادسة عشر من تولي ثيؤدوسيوس الصغير الحكم (438 م.) أرسل الإمبراطور جماعة لنقل جسده من كومانا إلى القسطنطينية. ولما بلغوا خلقيدونية خرجت أفواج الشعب تستقبل راعيها الذي استشهد بدون سفك دم، باذلًا حياته عنهم، واحتفلوا به احتفالًا مهيبًا، وحملوه إلى كنيسة الرسل، حيث خرَّ الإمبراطور أمامه في انسحاقٍ شديدٍ والدموعٍ تنفجر من عينيه، طالبًا الغفران عن نفسه وعن والديه أركاديوس وأفدوكسيا! |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
القديس يوحنا ذهبي الفم وآلامه في كوكوزة |
القديس يوحنا ذهبي الفم القيام به إلى كوكوزة |
نفي القديس يوحنا ذهبي الفم |
القديس يوحنا ذهبي الفم |
القديس يوحنا ذهبي الفم |